هناك مسألة أصطلح على تسميتها ب"المسألة الجنسية " في كتابات إبراهيم درغوثي وتناولها النقاد في بحوثهم في مرات عديدة كما جلبت انتباه القراء المختصين والعاديين، ذلك أن المحظور الجنسي يكاد يظهر في أغلب ما كتبت من قصص وروايات منذ نصي القصصي الأول " النخل يموت واقفا "حتى الجزء الثاني من سيرتي الروائية " القرد الأوتوماتكي ". ولكنني أريد أن أوضح لمتقبلي كتاباتي السردية أنني لا أكتب روايات بورنوغرافية رخيصة، ولا روايات تهيّج المشاعر وتحرّك السواكن وتضرب على وتر الغرائز البهيمية لدى هذا الكائن البشري المسكون بالشهوة ، وإنما أكتب نصوصا قد يستدعي بناؤها الفني ومعمارها اللغوي توظيف الجنس للتحريك والدفع بالأحداث إلى أقصاها. حينها لا أرهب الاقتراب من هذا المحظور ولا أدعو شخصياتي الورقية معلقة بين السماء والأرض وإنما أجعلها تمشي على اليابسة وتستمتع بالحياة وأشبع نهمها الجنسي إلى أن تبلغ " الأورقازم " .
إن في كثير من بقاع العالم المتخلف يعيش المبدع ازدواجية في شخصيته تصل في أحيان كثيرة إلى حدود المرض . ذلك أنه معرّض في حياته العامة والخاصة إلى ضغوط تفوق حدود التصور . فهو مطالب حين يكتب أن يرى البشر ملائكة كما صورتها الذاكرة الشعبة بلا أعضاء تناسلية لا يقربها الدنس من بين يديها ولا من خلفها، ولكن هذا المبدع إذا قرر أن يفتح عينيه ليرى الأشياء على حقيقتها بدون رتوش ولا زينة ، يجلد بسياط من نار ويرجم بحجارة من سجيل وتتآكله النيران من كل جانب وتتكاثر عليه الأعداء ويقل نصيره . فملامسة الخطاب الجنسي مثلا وخلخلة المنظومة الأخلاقية السائدة والتعبير الجريء عن الحياة الداخلية للإنسان وتسمية الأشياء بأسمائها بدون خجل المنافقين وتحدي النظم الأخلاقية السائدة منذ زمن الرق والإقطاع واستعمال القاموس البذيء والكلام العدواني واستفزاز القارئ المحتمل للأثر المكتوب – أيا كان هذا القارئ – رجلا أو امرأة ، كهلا أو شابا ، شيخا أو مراهقا، متدينا أو عربيدا ، في تونس أو على ضفاف بحر العرب ، الآن أو بعد مئات السنين . يحتاج كل هذا إلى كثير من الشجاعة والصبر على الأذى والسكوت على هجمات الطهرانيين ، فليس من السهل الاقتراب من ذائقة المتلقي الجنسية ومحاولة خلخلة مسلمات سكتت عنها الذاكرة الجماعية لشعب من الشعوب حتى صارت من المقدسات التي لا يمكن ملامستها إلا بعد التطهر من رجس الشيطان.
وقد اعترضتني بعد صدور روايتي " شبابيك منتصف الليل " نماذج تستحق العرض والتشريح لما في ذلك من دلالات على جميع المستويات :
فرددت عليه بأن من يكتب نصوصي ما هو إبراهيم الكاتب وإنما هو إبراهيم السارد وإنه في كثير من الأحيان يتمرد على الكاتب حتى تصبح سلطاتي عليه تكاد لا تذكر، ودعوته إلى قراءة بعضا من قصتي القصيرة " الجدار العالي " التي شرحت فيها هذا الموضوع بإطالة جميلة وقد صدرت ضمن مجموعتي القصصية " منازل الكلام ":
" هنا أرجو أن أعود بكم إلى بضع سنين خلت يعني بداية تسعينات القرن الماضي . أيامها كنت (أحبو الكلمات ) على رأي الشاعر الكبير منور صمادح فقد طلبت من سارد روايتي الدراويش يعودون إلى المنفى أن يعفيني من مواصلة الكتابة لأنني لا أصلح لهذا الفن ولأنني مجرد كاتب هاو لا يتقن أساليب السرد وفنون القتال العصرية . ( أنظروا الفرق بين الأمس واليوم ، مسكنة واستعطاف يقابلها تعال ونرجسية ، وعين الشمس كما هو معروف للقاصي والداني لا يمكن أن تغطيها ثقوب الغربال ) . وبالمناسبة فإن تصرف القارئ الذي تنبأت قبل قليل بأنه سيرمي بالمجلة التي بها قصتي عرض الحائط يصبح منطقيا لأن الكاتب الذي يتعامل معه كاتب دعي بشهادته عن نفسه الأمارة بالسوء ، خرج من جلده وصار يظن أنه وحيد زمانه وقطب أركان دولة الأدب . ( يا دين السماء وين ماشي بينا هالمجنون )
وبما أنني واع بهذا الأمر فسأظل أمشي بحذر في هذه السبيل الوعرة المزروعة بالألغام ( أولا باش ما ناكلش راسي ونضحك على روحي الخلق ، وثانيا باش انكذب إدعاءات الذين في قلوبهم مرض عافانا وعافاكم الله من شر الأمراض الظاهرة والمختبئة في ريش الطير وفي قعر البير ) .
وتوه هاو الصحيح . سأقص عليكم أجمل القصص ( أنا كاتب هذا النص : إبراهيم بن الرحومين محمد بن خليفة الدرغوثي السدادي من جهة وابن محبوبة بنت أحمد بن صالح ( مشو أحمد بن صالح صاحب الوزارات المتعددة زمن المجاهد الأكبر الجبيب بورقيبة الله إيجيرنا منو ومن تعاضدو . جدي من أمي أحمد بن صالح بن جلول لكريزي الجريدي ) وسيتناوب معي القص تابعي وراوي حكاياتي السارد المحترم الذي سأسميه إبراهيم الكاتب ، فأنا أعرف هذا الشخص الذي بدأ سارد هذا النص في الحديث عنه في الأسطر الأولى من القصة معرفة شخصية ولكنني ( عامل روحي مانيش داري ) حتى أترك له حرية تخريج القصة على هواه . ولكنني، مع ذلك لن أترك له الحرية كاملة بل سأظل وراءه كظله أراقب حديثه مراقبة صارمة ( تحت حس مس ) . سأسكن تحت لسانه يا سادتي الكرام ولن أترك له فرصة اللعب بكم. هكذا قررت ولن أتراجع في قراري أبدا ولو تقاول عني النقاد ووصفوا هذه الكتابة بالفجاجة والتسطح...." ( انتهى الشاهد ).
إنها إشكالية حقيقية يصعب على المتلقي أن يصدقها، فكيف له أن يثق بالكاتب وهو يجزم أن ما يضعه بين يدي القارئ ليس من عندياته وأنه إنتاج رجل آخر يسكنه تقديره " هو " في أقصى الحالات يملي عليه الكاتب ما يريد التعبير عنه فيكتب هو على هواه بالزيادة والنقصان ليصبح النص في آخر الأمر إنتاجا لهذا السارد الورقي المتحكم بصاحب الإنتاج أي أن الكاتب هو المنتج بالفعل بينما السارد هو المنتج بالقوة وبين الفعل والقوة تكون صناعة الإبداع في كل أشكاله القصصية والروائية والشعرية ( لعل شكل شياطين الشعر الذي عرفه العرب عند كبار شعرائهم منذ العصر " الجاهلي " ظاهرة تمثل لهذا السارد الخفي الذي يسكن المبدع ويصنع إبداعه ).
هو ذاك الشيطان الذي يتلبّسني عندما أشرع في الكتابة فأهرب إلى الهدوء المطلق ولا أطيق التشويش على هذا الكائن الذي يصاحبني زمن الكتابة ( لذلك أختار في العادة لكتاباتي الروائية خاصة شهر رمضان ) فأتنصّت إلى وشوشات هذا الشيطان الماكر وهو يتلاعب بي حتى تتملكني الحمى ويصيبني الإجهاد ولا أخرج من تلك الحالة إلا وأنا أعاني معاناة الوضع مع طنين ودوار في الرأس يظلّ يلازمني مدة من الزمن.
وبين الخيال والواقع، والحقيقة وما يشبّه لنا نظل في دوامة الإبداع كائنات تصبو إلى الكمال وهي تبدع أدبها في عملية تخييل تحول وقائع الحياة اليومية إلى أدب يتمثّله الكاتب ويصرّح به سارد نصه لجمهور القراء ، وبين هذا وذاك يضيع المتقبّل القلِق بين الموجود والمنشود أما القارئ العجول فسوف يستمتع بالنص دون أن يعنيه صاحبه الحقيقي.
وهنا يحضرني السؤال الحارق : هل في مقدور المبدع حين يقترب من المحظورات عامة والمحظور الجنسي خاصة في مجتمع عربي محافظ أو يدعي ذلك أن يكتب على هواه بدون قيد أو شرط باعتبار أن الأديب ليس رجل وعظ وإرشاد يقوّم المعوّج في الشارع العام ويدعو للمعروف وينهي على المنكر؟
فالأدب حسب ظني واعتقادي أكبر من هذا بكثير لأنه منظومة فكرية، فلسفية سياسية ، اديولوجية يعبّر من خلالها الكاتب عن الوعي الجمعي لأمة من الأمم .
وإذا كانت الأخلاق متغيّرة ( فما هو مقبول في مجتمع من المجتمعات يكون ممجوجا لدى مجتمعات أخرى وما هو جميل ومرغوب فيه في أمة من الأمم يعتبر عند أمة أخرى قمة البربرية والتخلف ) فإن الأدب يعبّر عن ثوابت لا تتحول لأن حرية التعبير هي هي منذ أن وجد الإنسان على الأرض.
إن الأدب والدين والأخلاق حقول معرفيّة يختلف كل واحد منها عن الآخر حد التنافر في بعض الأحيان، فالأديب ليس عالم دين ولا رجل أخلاق إلا إذا أردنا أن نحول الإبداع إلى دروس في التربية وهذا مما لا يستقيم مع النص الإبداعي . لأن الإبداع من الفن والفن حرية أولا وحرية أخيرا . لكل هذا يقع الأديب في بعض الأحيان في المحظورات إذا لامس الجنس مثلا لأننا لا نفرق حتى هذه الساعة عند الحكم على الأديب بين ما هو إبداعي وهو ما يعبر عن وجهة نظر الشخصيات التي خلقها الكاتب ، وهي شخصيات من ورق . وبين موقف الأديب الحقيقي ، أي صاحب هذا النص الذي قد يختلف في أحيان كثيرة مع شخصياته.
فنحن حتى هذه الساعة مازلنا نعيش تحت سطوة الماضي ولم نقرأ تراثنا الثقافي قراءة علمية تتعدد فيها الرؤى وتختلف فيها المواقف حتى التنافر في بعض الأحيان كما هو الشأن في أوروبا منذ عصر الأنوار ( مع ديدرو ومنتسكيو وبقية الفلاسة الذين قرأوا تراث أوروبا المسيحي قراءة عقلانية تليق برجال علم وأدب). ولذلك عندما يقترب الكاتب من موضوع إشكالي لا يحوز على إجماع الأمة يضع يده على قلبه لأن السكين التي حاولت ذبح نجيب محفوظ ما زالت جاهزة للذبح والرصاصة التي قتلت فرج فودة مازالت في فوهة المسدس حتى أصبحت ملامسة المحظور لعنة تصيب المبدع لتظل تبعاتها تلاحقه مدى العمر .
***
إن المبدع العربي في العموم يعاني من رقابتين: واحدة ذاتية والأخرى عامة ظلتا تحاصران إبداعه منذ أن بدأ يخط بالقلم . فكلنا يعرف ما عاناه الشعراء الذين كتبوا ما سمي بالشعر الإباحي ( أبو نواس مثلا في العصور القديمة ونزار قباني في العصر الحديث) حيث اعتبروا فساقا ومجانا وكفرة، وما لاقته الكتابات النثرية الخارجة عن المعلوم من الكتابة من تعتيم وتقبيح، والقائمة طويلة ظلت تكبر على مدى القرون والأزمان العربية لا فرق بين الزمن الذي ازدهر فيه هذا الأدب في الشرق أو في بلاد المغرب وخاصة في الأندلس أو الأزمان اللاحقة حتى عصر النهضة العربية. فقد ظل الرقيب حاضرا في الذهن وفي المجتمع ومواضيع حساسة كالجنس يستحيل الاقتراب منها حتى لا تحترق الأصابع بنيران رجال الدين أو القيمين على أخلاق القبيلة.
وبلغ السيل الزبى في نهايات القرن العشرين عندما تحول الخلاف مع المثقفين والأدباء من المحاورة والمداورة إلى وضع الرقابة على الكتاب والكاتب ( وليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر مثلا ) والتهديد بقتل المبدعين .
إن هذا الترهيب الكبير للمبدع العربي كان له وقع سيء على ذاته التي ما عاد في مقدورها أن تكتب على هواها وبكل حرية ما يدور في الخلد، فصار الكتاب ( إلا القليل القليل منهم ) يحاسب نفسه بنفسه ويراقب قلمه قبل إن يخط على الورقة ما يرغب في كتابته حتى لا يقع تحت طائلة القانون فيتعرض إبداعه للحجز والمنع من التداول أو حتى للمحــاكمة والسجن ( وقد تعرض عدد من المبدعين التونسيين والعرب للمساءلة القضائية والسجن خلال السنوات الماضية: قضية حسن بن عثمان مثلا بعد اصداره لمجموعته القصصية " عباس يفقد الصواب" ومنع روايتي " شبابيك منصف الليل " من التداول ). أو تحت طائلة عنف من سيحكم عليك على الحساب حتى يقرأ الكتاب.
ومع ذلك يظل للحرية باب سيظل المبدعون يطرقون عليه ليلا نهارا حتى انبلاج فجر جديد تسود فيه القيم الجميلة التي ظل الإنسان العربي يحلم بها منذ أن خط حرفه الأول على رمل الصحراء الحارقة.
إنني أتساءل ، ونحن نعيش نهاية هذا القرن الذي غزت إنجازاته العلمية : كالبارابول والفيديو والأنترنيت كثيرا من البيوت إن كان في الإمكان تغطية السماء بواق يمنع عنا بث الأقمار الصناعية ويحمينا من القنوات الفضائية التي ترجم الأرض على مدار الساعة بأفلام البرنو والجنس الرخيص .
فماذا تساوي الآن رواية يوظف فيها المبدع الجنس لبناء أحداث قصته وسبر أغوار نفوس أبطاله والكشف عن احباطاتهم ومعاناتهم و أمراضهم وفشلهم و ... ( تطبع في ألف نسخة يركن معظمها في داخل المخازن ) مقابل ما نتلقى كل ليلة من بث بالألوان الطبيعية وعلى المكشوف من أفلام خليعة ، ودون حسيب ولا رقيب .
إن المقارنة لن تكون في صالح الأديب ولو كان الكتاب " مدار الجدي " أو " الخبز الحافي " أو ... " شبابيك منتصف الليل " .
إبراهيم درغوثي / تونس
إن في كثير من بقاع العالم المتخلف يعيش المبدع ازدواجية في شخصيته تصل في أحيان كثيرة إلى حدود المرض . ذلك أنه معرّض في حياته العامة والخاصة إلى ضغوط تفوق حدود التصور . فهو مطالب حين يكتب أن يرى البشر ملائكة كما صورتها الذاكرة الشعبة بلا أعضاء تناسلية لا يقربها الدنس من بين يديها ولا من خلفها، ولكن هذا المبدع إذا قرر أن يفتح عينيه ليرى الأشياء على حقيقتها بدون رتوش ولا زينة ، يجلد بسياط من نار ويرجم بحجارة من سجيل وتتآكله النيران من كل جانب وتتكاثر عليه الأعداء ويقل نصيره . فملامسة الخطاب الجنسي مثلا وخلخلة المنظومة الأخلاقية السائدة والتعبير الجريء عن الحياة الداخلية للإنسان وتسمية الأشياء بأسمائها بدون خجل المنافقين وتحدي النظم الأخلاقية السائدة منذ زمن الرق والإقطاع واستعمال القاموس البذيء والكلام العدواني واستفزاز القارئ المحتمل للأثر المكتوب – أيا كان هذا القارئ – رجلا أو امرأة ، كهلا أو شابا ، شيخا أو مراهقا، متدينا أو عربيدا ، في تونس أو على ضفاف بحر العرب ، الآن أو بعد مئات السنين . يحتاج كل هذا إلى كثير من الشجاعة والصبر على الأذى والسكوت على هجمات الطهرانيين ، فليس من السهل الاقتراب من ذائقة المتلقي الجنسية ومحاولة خلخلة مسلمات سكتت عنها الذاكرة الجماعية لشعب من الشعوب حتى صارت من المقدسات التي لا يمكن ملامستها إلا بعد التطهر من رجس الشيطان.
وقد اعترضتني بعد صدور روايتي " شبابيك منتصف الليل " نماذج تستحق العرض والتشريح لما في ذلك من دلالات على جميع المستويات :
- النموذج الأول : مثقف يدرّس الأدب الحديث في الجامعة التونسية ولا يقرأ هذه الرواية إلا بعد أن يغلق أبواب مكتبه بسبعة مفاتيح حتى لا يقبض عليه أطفاله بالجرم المشهود .
- النموذج الثاني : ناقد يقسم بالطلاق ثلاثا وتحريم أم أولاده إن هو وضع هذه الرواية الملعونة على رف مكتبته – خوفا من العدوى – ربما .
- النموذج الثالث : يتهمني بأنني أكتب للغرب حتى تتم ترجمة كتبي إلى اللغات الحية ، فأكسب من وراء طبعها في فرنسا وربما في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا آلاف الفرنكات والدولارات والماركات ...
- النموذج الرابع : يتهمني بالعمالة للإمبريالية والصهيونية العالمية .
- وخامس يصرح لخلانه بأنني مفسد في الأرض ومقوض للأخلاق الحميدة والسنن النبيلة التي يجب أن نربي عليها الناشئة .
- ويصل السيل الزبى ، حين يستعدي " مثقفون " الرقابة على هذه الرواية فتأمر بجمعها من على رفوف المكتبات العمومية وبركنها في الأرشيف . كل هذا وأكثر ، لأنني استعملت في هذه الرواية – كما في أعمالي الأخرى – بعض الأسماء لأعضاء يمتلكها كل البشر . ويسرد عليك أصغر طفل من أطفال الروضة مرادفات لها تفوق الحصر . واستعملت بعض الحكايات التي وردت في الموسوعات العربية القديمة ك " الأغاني " و " الحيوان " و " الروض العاطر" و " تحفة العروس " و " نزهة الألباب " و " كتاب القيان " لتذكير قارئ اليوم بهذه الكنوز وحثه على العودة إليها والنظر فيما جاء فيها وتدبرها .
فرددت عليه بأن من يكتب نصوصي ما هو إبراهيم الكاتب وإنما هو إبراهيم السارد وإنه في كثير من الأحيان يتمرد على الكاتب حتى تصبح سلطاتي عليه تكاد لا تذكر، ودعوته إلى قراءة بعضا من قصتي القصيرة " الجدار العالي " التي شرحت فيها هذا الموضوع بإطالة جميلة وقد صدرت ضمن مجموعتي القصصية " منازل الكلام ":
" هنا أرجو أن أعود بكم إلى بضع سنين خلت يعني بداية تسعينات القرن الماضي . أيامها كنت (أحبو الكلمات ) على رأي الشاعر الكبير منور صمادح فقد طلبت من سارد روايتي الدراويش يعودون إلى المنفى أن يعفيني من مواصلة الكتابة لأنني لا أصلح لهذا الفن ولأنني مجرد كاتب هاو لا يتقن أساليب السرد وفنون القتال العصرية . ( أنظروا الفرق بين الأمس واليوم ، مسكنة واستعطاف يقابلها تعال ونرجسية ، وعين الشمس كما هو معروف للقاصي والداني لا يمكن أن تغطيها ثقوب الغربال ) . وبالمناسبة فإن تصرف القارئ الذي تنبأت قبل قليل بأنه سيرمي بالمجلة التي بها قصتي عرض الحائط يصبح منطقيا لأن الكاتب الذي يتعامل معه كاتب دعي بشهادته عن نفسه الأمارة بالسوء ، خرج من جلده وصار يظن أنه وحيد زمانه وقطب أركان دولة الأدب . ( يا دين السماء وين ماشي بينا هالمجنون )
وبما أنني واع بهذا الأمر فسأظل أمشي بحذر في هذه السبيل الوعرة المزروعة بالألغام ( أولا باش ما ناكلش راسي ونضحك على روحي الخلق ، وثانيا باش انكذب إدعاءات الذين في قلوبهم مرض عافانا وعافاكم الله من شر الأمراض الظاهرة والمختبئة في ريش الطير وفي قعر البير ) .
وتوه هاو الصحيح . سأقص عليكم أجمل القصص ( أنا كاتب هذا النص : إبراهيم بن الرحومين محمد بن خليفة الدرغوثي السدادي من جهة وابن محبوبة بنت أحمد بن صالح ( مشو أحمد بن صالح صاحب الوزارات المتعددة زمن المجاهد الأكبر الجبيب بورقيبة الله إيجيرنا منو ومن تعاضدو . جدي من أمي أحمد بن صالح بن جلول لكريزي الجريدي ) وسيتناوب معي القص تابعي وراوي حكاياتي السارد المحترم الذي سأسميه إبراهيم الكاتب ، فأنا أعرف هذا الشخص الذي بدأ سارد هذا النص في الحديث عنه في الأسطر الأولى من القصة معرفة شخصية ولكنني ( عامل روحي مانيش داري ) حتى أترك له حرية تخريج القصة على هواه . ولكنني، مع ذلك لن أترك له الحرية كاملة بل سأظل وراءه كظله أراقب حديثه مراقبة صارمة ( تحت حس مس ) . سأسكن تحت لسانه يا سادتي الكرام ولن أترك له فرصة اللعب بكم. هكذا قررت ولن أتراجع في قراري أبدا ولو تقاول عني النقاد ووصفوا هذه الكتابة بالفجاجة والتسطح...." ( انتهى الشاهد ).
إنها إشكالية حقيقية يصعب على المتلقي أن يصدقها، فكيف له أن يثق بالكاتب وهو يجزم أن ما يضعه بين يدي القارئ ليس من عندياته وأنه إنتاج رجل آخر يسكنه تقديره " هو " في أقصى الحالات يملي عليه الكاتب ما يريد التعبير عنه فيكتب هو على هواه بالزيادة والنقصان ليصبح النص في آخر الأمر إنتاجا لهذا السارد الورقي المتحكم بصاحب الإنتاج أي أن الكاتب هو المنتج بالفعل بينما السارد هو المنتج بالقوة وبين الفعل والقوة تكون صناعة الإبداع في كل أشكاله القصصية والروائية والشعرية ( لعل شكل شياطين الشعر الذي عرفه العرب عند كبار شعرائهم منذ العصر " الجاهلي " ظاهرة تمثل لهذا السارد الخفي الذي يسكن المبدع ويصنع إبداعه ).
هو ذاك الشيطان الذي يتلبّسني عندما أشرع في الكتابة فأهرب إلى الهدوء المطلق ولا أطيق التشويش على هذا الكائن الذي يصاحبني زمن الكتابة ( لذلك أختار في العادة لكتاباتي الروائية خاصة شهر رمضان ) فأتنصّت إلى وشوشات هذا الشيطان الماكر وهو يتلاعب بي حتى تتملكني الحمى ويصيبني الإجهاد ولا أخرج من تلك الحالة إلا وأنا أعاني معاناة الوضع مع طنين ودوار في الرأس يظلّ يلازمني مدة من الزمن.
وبين الخيال والواقع، والحقيقة وما يشبّه لنا نظل في دوامة الإبداع كائنات تصبو إلى الكمال وهي تبدع أدبها في عملية تخييل تحول وقائع الحياة اليومية إلى أدب يتمثّله الكاتب ويصرّح به سارد نصه لجمهور القراء ، وبين هذا وذاك يضيع المتقبّل القلِق بين الموجود والمنشود أما القارئ العجول فسوف يستمتع بالنص دون أن يعنيه صاحبه الحقيقي.
وهنا يحضرني السؤال الحارق : هل في مقدور المبدع حين يقترب من المحظورات عامة والمحظور الجنسي خاصة في مجتمع عربي محافظ أو يدعي ذلك أن يكتب على هواه بدون قيد أو شرط باعتبار أن الأديب ليس رجل وعظ وإرشاد يقوّم المعوّج في الشارع العام ويدعو للمعروف وينهي على المنكر؟
فالأدب حسب ظني واعتقادي أكبر من هذا بكثير لأنه منظومة فكرية، فلسفية سياسية ، اديولوجية يعبّر من خلالها الكاتب عن الوعي الجمعي لأمة من الأمم .
وإذا كانت الأخلاق متغيّرة ( فما هو مقبول في مجتمع من المجتمعات يكون ممجوجا لدى مجتمعات أخرى وما هو جميل ومرغوب فيه في أمة من الأمم يعتبر عند أمة أخرى قمة البربرية والتخلف ) فإن الأدب يعبّر عن ثوابت لا تتحول لأن حرية التعبير هي هي منذ أن وجد الإنسان على الأرض.
إن الأدب والدين والأخلاق حقول معرفيّة يختلف كل واحد منها عن الآخر حد التنافر في بعض الأحيان، فالأديب ليس عالم دين ولا رجل أخلاق إلا إذا أردنا أن نحول الإبداع إلى دروس في التربية وهذا مما لا يستقيم مع النص الإبداعي . لأن الإبداع من الفن والفن حرية أولا وحرية أخيرا . لكل هذا يقع الأديب في بعض الأحيان في المحظورات إذا لامس الجنس مثلا لأننا لا نفرق حتى هذه الساعة عند الحكم على الأديب بين ما هو إبداعي وهو ما يعبر عن وجهة نظر الشخصيات التي خلقها الكاتب ، وهي شخصيات من ورق . وبين موقف الأديب الحقيقي ، أي صاحب هذا النص الذي قد يختلف في أحيان كثيرة مع شخصياته.
فنحن حتى هذه الساعة مازلنا نعيش تحت سطوة الماضي ولم نقرأ تراثنا الثقافي قراءة علمية تتعدد فيها الرؤى وتختلف فيها المواقف حتى التنافر في بعض الأحيان كما هو الشأن في أوروبا منذ عصر الأنوار ( مع ديدرو ومنتسكيو وبقية الفلاسة الذين قرأوا تراث أوروبا المسيحي قراءة عقلانية تليق برجال علم وأدب). ولذلك عندما يقترب الكاتب من موضوع إشكالي لا يحوز على إجماع الأمة يضع يده على قلبه لأن السكين التي حاولت ذبح نجيب محفوظ ما زالت جاهزة للذبح والرصاصة التي قتلت فرج فودة مازالت في فوهة المسدس حتى أصبحت ملامسة المحظور لعنة تصيب المبدع لتظل تبعاتها تلاحقه مدى العمر .
***
إن المبدع العربي في العموم يعاني من رقابتين: واحدة ذاتية والأخرى عامة ظلتا تحاصران إبداعه منذ أن بدأ يخط بالقلم . فكلنا يعرف ما عاناه الشعراء الذين كتبوا ما سمي بالشعر الإباحي ( أبو نواس مثلا في العصور القديمة ونزار قباني في العصر الحديث) حيث اعتبروا فساقا ومجانا وكفرة، وما لاقته الكتابات النثرية الخارجة عن المعلوم من الكتابة من تعتيم وتقبيح، والقائمة طويلة ظلت تكبر على مدى القرون والأزمان العربية لا فرق بين الزمن الذي ازدهر فيه هذا الأدب في الشرق أو في بلاد المغرب وخاصة في الأندلس أو الأزمان اللاحقة حتى عصر النهضة العربية. فقد ظل الرقيب حاضرا في الذهن وفي المجتمع ومواضيع حساسة كالجنس يستحيل الاقتراب منها حتى لا تحترق الأصابع بنيران رجال الدين أو القيمين على أخلاق القبيلة.
وبلغ السيل الزبى في نهايات القرن العشرين عندما تحول الخلاف مع المثقفين والأدباء من المحاورة والمداورة إلى وضع الرقابة على الكتاب والكاتب ( وليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر مثلا ) والتهديد بقتل المبدعين .
إن هذا الترهيب الكبير للمبدع العربي كان له وقع سيء على ذاته التي ما عاد في مقدورها أن تكتب على هواها وبكل حرية ما يدور في الخلد، فصار الكتاب ( إلا القليل القليل منهم ) يحاسب نفسه بنفسه ويراقب قلمه قبل إن يخط على الورقة ما يرغب في كتابته حتى لا يقع تحت طائلة القانون فيتعرض إبداعه للحجز والمنع من التداول أو حتى للمحــاكمة والسجن ( وقد تعرض عدد من المبدعين التونسيين والعرب للمساءلة القضائية والسجن خلال السنوات الماضية: قضية حسن بن عثمان مثلا بعد اصداره لمجموعته القصصية " عباس يفقد الصواب" ومنع روايتي " شبابيك منصف الليل " من التداول ). أو تحت طائلة عنف من سيحكم عليك على الحساب حتى يقرأ الكتاب.
ومع ذلك يظل للحرية باب سيظل المبدعون يطرقون عليه ليلا نهارا حتى انبلاج فجر جديد تسود فيه القيم الجميلة التي ظل الإنسان العربي يحلم بها منذ أن خط حرفه الأول على رمل الصحراء الحارقة.
إنني أتساءل ، ونحن نعيش نهاية هذا القرن الذي غزت إنجازاته العلمية : كالبارابول والفيديو والأنترنيت كثيرا من البيوت إن كان في الإمكان تغطية السماء بواق يمنع عنا بث الأقمار الصناعية ويحمينا من القنوات الفضائية التي ترجم الأرض على مدار الساعة بأفلام البرنو والجنس الرخيص .
فماذا تساوي الآن رواية يوظف فيها المبدع الجنس لبناء أحداث قصته وسبر أغوار نفوس أبطاله والكشف عن احباطاتهم ومعاناتهم و أمراضهم وفشلهم و ... ( تطبع في ألف نسخة يركن معظمها في داخل المخازن ) مقابل ما نتلقى كل ليلة من بث بالألوان الطبيعية وعلى المكشوف من أفلام خليعة ، ودون حسيب ولا رقيب .
إن المقارنة لن تكون في صالح الأديب ولو كان الكتاب " مدار الجدي " أو " الخبز الحافي " أو ... " شبابيك منتصف الليل " .
إبراهيم درغوثي / تونس