"بالنسبة لك أنت سيكون أحسن !!
سيكون أحسن بالنسبة لك أنت
إذا رجعت إلى بلدك
إني أعرف أنك تغير حبيباتك كل يوم
وتقبل أي مفتاح
لأنك مثل قفل خشبي قديم"
الشاعرة "مريريدة نايت عتيق" أو "مريريدة تنظامت"
لماذا يخيل إلي دائما ويهجس بي أن ما يجمع الشاعر الفرنسي الرومانسي "روني أولوج" والشاعرة المغربية "مريريدة نايت عتيق" رابطة واعدة ينصهر فيها الحب والشعر.. ثم أتساءل، أيمكن أن تكون هناك اهتمامات وانشغالات أخرى؟ََ!
لكن شاعرا فرنسيا مشبع برومانطيقية تليدة وركام من الأدبيات تغذي مخيلته عن سحر وفتنة "الشرق" دفعته دفعا لزيارة هذه الأجواء المتماوجة بالبخور واللذة، يسعى أن يلتقي في أحد أكثر الأسواق هامشية وانزواء بامرأة تنظم الشعر وتنشده؛ امرأة شاعرة وجميلة كأنها منفلتة من إحدى لوحات "دولاكروى"، امرأة تطلق ضفائرها المجدولة كشلال أسود، وتنشد الشعر في سوق من الرجال، امرأة تحمل وجها أمازيغيا مفجوعا..
مهلا! مهلا!! إنها بالنسبة إليه مسألة أنتربولوجية أولا وأخيرا..
ألم يترجم الشاعر قصائد "مريريدة نايت عتيق" إلى فرنسيته في ديوان أطلق عليه عنوانا اثنوغرافيا فاضحا: "LES Chans. Berbères "
لنتخيل بداية ما
امرأة ذات هروب غامض من إحدى القرى المنسية بجبال الأطلس الكبير. قرية يخترقها وادي "تساوت" العظيم. امرأة شاعرة تتخذ من سوق" أزيـــلال" ملاذا ومنبرا تعتليه لإلقاء الشعر، اكترت إحدى الغرف الواطئة في حي "تقــات" أكثر الأحياء لعنة ولذة في تاريخ أزيلال، حي تسيل على حجارته جداول من المني الممزوج بالغائط والدم!! حي صامد ومصر على اقتراف الحب وتعليمه وتعميمه رغم محاولات وأشكال الإبادة والمحو المتكررة التي تستهدفه..
هل كانت الشاعرة "مريريدة" إحداهن؟!! - هذا ما روته ألسن منشارية – أم أن ماضيها الغامض وسفورها أمام الرجال ووقاحتها وهي تنظم شعرا عن الحب وجراحاته.. بل تقطن "تقات" دور المومسات، وذلك أدعى للوصم والدمغ.
كما أهجس، "مريريدة تنظامت" لم تكن امرأة عادية، بل هي صاحبة روح حرة تأبى وتتمرد على كل الأصفاد والسلاسل وتهزؤ من كل القيم التي تنال من كرامتها وحريتها، هي شاعرة يهدر بداخلها وادي تساوت، عشقها الأول، تحمله معها أينما حلت وارتحلت، شاعرة بريئة دائما تتذكر براءتها الأولى على ضفاف تساوت، وأسى طفولتها وشبابها الأول الشقي. نعم الشقاء، هذا السخام القاتم الاكسيري الفذ الذي يعجن العناصر الأولى للأرواح الجبارة، يبريها ويعلمها فن تسلق الهاويات من هاوية إلى أخرى أعمق. قيعان مترسبة بالمذلات والهوان والحقارة، لتصعد نحو الأعلى إلى القمم العالية حيث البواشق والنسور الأطلسية الحرة والأبية والهواء الصافي النقي.
أتصور أن الشاعرة عندما انتقلت من فضاء إلى آخر، رغم ما يخلفه هذا الانتقال من أوجاع، كانت تمارس الرحيل ك "حدث" وليس مجرد "فعل". الرحيل بكل انزياحاته الثرة والكثيرة، أقلها شأنا، انزياح المكان.. لنغوص شيئا في هذه الذاكرة المنسية، ولنحاول أن نتقمص دور "مريريدة" ونرتدي جلدها وأعصابها..
أتخيل دائما أن وجه أمها المضروب بالوشم، والدموع تجرف رمالا من الكحل تم تهطل مطرا أسود آخر ما رأته الشاعرة وهي تهاجر وترحل..
وبإحساس ذلك الكائن النحيل الساكن في كل شاعر وبتلك الرهافة إلى حدودها القصوى المرعبة، أحست الشاعرة أن أمها تبكي بصدق وحرقة، لا للمصير المنحوس وسعد ابنتها الخائب، بل لأن مكانة ابنتها اليتيمة والمطلقة، ذابت وتلاشت من قلبها تماما وحل محلها حبها لزوجها وأطفالهما..إحساس أدركته الشاعرة فبل أن تدركه الأم فجأة وهي تتلقف دموعها السوداء، بقوة انتاب مريريدة، لأنه كان يغرز مخالبه في قلبها دون رحمة ويدميه...
في رحيلها المتعدد بصيغة مفردة، لم تحمل معها إلا جسدها الفضي الفوار، تخفيه ب"حنديرة"(*) حليبية وبقجة حقيرة وفي عيونها الكبيرة كان وادي تساوت يتهادى ويتدفق ..
وصلت إلى أزيلال سالمة!!
قطعت كل هذه المساقة الطويلة والوعرة والخطيرة.
تخيلوا طريقا جبلية غابوية موحشة في ثلاثينيات القرن الماضي تعج بالجوعى والمجاذيب والحمقى، يخترقها المتمردون واللصوص والأفاقون، أرهبهم جميعا "بوتزدايين". أخطر لص في المنطقة كلها محترف في الأسلاب وسرقة الأبقار والأغنام، مسلح دائما ببندقية "سيسبو" الألمانية، ذاعت شهرته، شهرة ملعونة سطت على كل القلوب وأرجفتها.
وصلت إلى أزيلال ونوع من الفرح يغمرها. كأنها ولدت من جديد، تخلصت من قيود تكبلها. إنها قد تحررت، أليس الرحيل غصن يانع باخضرار دائم في شجرة الحرية، عبور من ضفة إلى أخرى، تجاوز وانبثاق مغاير، مختلف، كيفما كانت طبيعة هذه الضفة وأنّى وجدت...
كانت أزيلال بلدة صغيرة مكشوفة ومنهارة أمام قبضات متجمدة من الصقيع تهب من الجبل الأبيض. بلدة تطوقها البيادر من كل الجهات، وواد "أليلي" الأقرب إلى جدول كبير منه إلى نهر، المجنح بسيقان الدفلى كتنين يحرسها ويصد عنها الغوائل المنحدرة من غابة البلوط.
عند العريفة "تالحوت" من زاوية "أيت إسحاق" كانت البداية.
تالحوت جدع سنديانة ضخم محزوز، تسكنه روح نخاس، عنكبوت عملاقة تنام مع البنات تمتص رحيقهن وتمص دماءهن. لكنها أمام مريريدة يخنقها العي وتشحب تماما؛ غرفة معزولة لوحدها، وحريتها. انطلاقة بويهيمية، موحلة لكنها حرة، حرة، وحرة...
تلك هي بداية مريريدة كما تهجس بها ذاكرتي الأدبية، لا كما يريد "روني أولوج" مجرد ترنيمات نشيدية بدائية مطمورة يكتشفها. أو كما أرادوها أن تكون أولئك الذين يعهرونها، يسمونها بوسم العهر كي يدوسوا عليها بعدها يرتاحوا..
مريريدة نايت عتيق أو مريريدة تنظامت، نبتة تساوتية خضراء، يجري في نسغها الماء والدم والقصيد، وتمتلئ حروقها بزفير الحرية. نعم أقدامها في "تقات" مع الباطرونات والمومسات وفي سوق أزيلال مع التجار والبهائم والخونة والفقهاء المهووسون بالكنوز والمهربون واللصوص والمتسولون.. والبسطاء من الناس، لكن رأسها عاليا في القمم الجبارة مع النسور الأطلسية...
سيكون أحسن بالنسبة لك أنت
إذا رجعت إلى بلدك
إني أعرف أنك تغير حبيباتك كل يوم
وتقبل أي مفتاح
لأنك مثل قفل خشبي قديم"
الشاعرة "مريريدة نايت عتيق" أو "مريريدة تنظامت"
لماذا يخيل إلي دائما ويهجس بي أن ما يجمع الشاعر الفرنسي الرومانسي "روني أولوج" والشاعرة المغربية "مريريدة نايت عتيق" رابطة واعدة ينصهر فيها الحب والشعر.. ثم أتساءل، أيمكن أن تكون هناك اهتمامات وانشغالات أخرى؟ََ!
لكن شاعرا فرنسيا مشبع برومانطيقية تليدة وركام من الأدبيات تغذي مخيلته عن سحر وفتنة "الشرق" دفعته دفعا لزيارة هذه الأجواء المتماوجة بالبخور واللذة، يسعى أن يلتقي في أحد أكثر الأسواق هامشية وانزواء بامرأة تنظم الشعر وتنشده؛ امرأة شاعرة وجميلة كأنها منفلتة من إحدى لوحات "دولاكروى"، امرأة تطلق ضفائرها المجدولة كشلال أسود، وتنشد الشعر في سوق من الرجال، امرأة تحمل وجها أمازيغيا مفجوعا..
مهلا! مهلا!! إنها بالنسبة إليه مسألة أنتربولوجية أولا وأخيرا..
ألم يترجم الشاعر قصائد "مريريدة نايت عتيق" إلى فرنسيته في ديوان أطلق عليه عنوانا اثنوغرافيا فاضحا: "LES Chans. Berbères "
لنتخيل بداية ما
امرأة ذات هروب غامض من إحدى القرى المنسية بجبال الأطلس الكبير. قرية يخترقها وادي "تساوت" العظيم. امرأة شاعرة تتخذ من سوق" أزيـــلال" ملاذا ومنبرا تعتليه لإلقاء الشعر، اكترت إحدى الغرف الواطئة في حي "تقــات" أكثر الأحياء لعنة ولذة في تاريخ أزيلال، حي تسيل على حجارته جداول من المني الممزوج بالغائط والدم!! حي صامد ومصر على اقتراف الحب وتعليمه وتعميمه رغم محاولات وأشكال الإبادة والمحو المتكررة التي تستهدفه..
هل كانت الشاعرة "مريريدة" إحداهن؟!! - هذا ما روته ألسن منشارية – أم أن ماضيها الغامض وسفورها أمام الرجال ووقاحتها وهي تنظم شعرا عن الحب وجراحاته.. بل تقطن "تقات" دور المومسات، وذلك أدعى للوصم والدمغ.
كما أهجس، "مريريدة تنظامت" لم تكن امرأة عادية، بل هي صاحبة روح حرة تأبى وتتمرد على كل الأصفاد والسلاسل وتهزؤ من كل القيم التي تنال من كرامتها وحريتها، هي شاعرة يهدر بداخلها وادي تساوت، عشقها الأول، تحمله معها أينما حلت وارتحلت، شاعرة بريئة دائما تتذكر براءتها الأولى على ضفاف تساوت، وأسى طفولتها وشبابها الأول الشقي. نعم الشقاء، هذا السخام القاتم الاكسيري الفذ الذي يعجن العناصر الأولى للأرواح الجبارة، يبريها ويعلمها فن تسلق الهاويات من هاوية إلى أخرى أعمق. قيعان مترسبة بالمذلات والهوان والحقارة، لتصعد نحو الأعلى إلى القمم العالية حيث البواشق والنسور الأطلسية الحرة والأبية والهواء الصافي النقي.
أتصور أن الشاعرة عندما انتقلت من فضاء إلى آخر، رغم ما يخلفه هذا الانتقال من أوجاع، كانت تمارس الرحيل ك "حدث" وليس مجرد "فعل". الرحيل بكل انزياحاته الثرة والكثيرة، أقلها شأنا، انزياح المكان.. لنغوص شيئا في هذه الذاكرة المنسية، ولنحاول أن نتقمص دور "مريريدة" ونرتدي جلدها وأعصابها..
أتخيل دائما أن وجه أمها المضروب بالوشم، والدموع تجرف رمالا من الكحل تم تهطل مطرا أسود آخر ما رأته الشاعرة وهي تهاجر وترحل..
وبإحساس ذلك الكائن النحيل الساكن في كل شاعر وبتلك الرهافة إلى حدودها القصوى المرعبة، أحست الشاعرة أن أمها تبكي بصدق وحرقة، لا للمصير المنحوس وسعد ابنتها الخائب، بل لأن مكانة ابنتها اليتيمة والمطلقة، ذابت وتلاشت من قلبها تماما وحل محلها حبها لزوجها وأطفالهما..إحساس أدركته الشاعرة فبل أن تدركه الأم فجأة وهي تتلقف دموعها السوداء، بقوة انتاب مريريدة، لأنه كان يغرز مخالبه في قلبها دون رحمة ويدميه...
في رحيلها المتعدد بصيغة مفردة، لم تحمل معها إلا جسدها الفضي الفوار، تخفيه ب"حنديرة"(*) حليبية وبقجة حقيرة وفي عيونها الكبيرة كان وادي تساوت يتهادى ويتدفق ..
وصلت إلى أزيلال سالمة!!
قطعت كل هذه المساقة الطويلة والوعرة والخطيرة.
تخيلوا طريقا جبلية غابوية موحشة في ثلاثينيات القرن الماضي تعج بالجوعى والمجاذيب والحمقى، يخترقها المتمردون واللصوص والأفاقون، أرهبهم جميعا "بوتزدايين". أخطر لص في المنطقة كلها محترف في الأسلاب وسرقة الأبقار والأغنام، مسلح دائما ببندقية "سيسبو" الألمانية، ذاعت شهرته، شهرة ملعونة سطت على كل القلوب وأرجفتها.
وصلت إلى أزيلال ونوع من الفرح يغمرها. كأنها ولدت من جديد، تخلصت من قيود تكبلها. إنها قد تحررت، أليس الرحيل غصن يانع باخضرار دائم في شجرة الحرية، عبور من ضفة إلى أخرى، تجاوز وانبثاق مغاير، مختلف، كيفما كانت طبيعة هذه الضفة وأنّى وجدت...
كانت أزيلال بلدة صغيرة مكشوفة ومنهارة أمام قبضات متجمدة من الصقيع تهب من الجبل الأبيض. بلدة تطوقها البيادر من كل الجهات، وواد "أليلي" الأقرب إلى جدول كبير منه إلى نهر، المجنح بسيقان الدفلى كتنين يحرسها ويصد عنها الغوائل المنحدرة من غابة البلوط.
عند العريفة "تالحوت" من زاوية "أيت إسحاق" كانت البداية.
تالحوت جدع سنديانة ضخم محزوز، تسكنه روح نخاس، عنكبوت عملاقة تنام مع البنات تمتص رحيقهن وتمص دماءهن. لكنها أمام مريريدة يخنقها العي وتشحب تماما؛ غرفة معزولة لوحدها، وحريتها. انطلاقة بويهيمية، موحلة لكنها حرة، حرة، وحرة...
تلك هي بداية مريريدة كما تهجس بها ذاكرتي الأدبية، لا كما يريد "روني أولوج" مجرد ترنيمات نشيدية بدائية مطمورة يكتشفها. أو كما أرادوها أن تكون أولئك الذين يعهرونها، يسمونها بوسم العهر كي يدوسوا عليها بعدها يرتاحوا..
مريريدة نايت عتيق أو مريريدة تنظامت، نبتة تساوتية خضراء، يجري في نسغها الماء والدم والقصيد، وتمتلئ حروقها بزفير الحرية. نعم أقدامها في "تقات" مع الباطرونات والمومسات وفي سوق أزيلال مع التجار والبهائم والخونة والفقهاء المهووسون بالكنوز والمهربون واللصوص والمتسولون.. والبسطاء من الناس، لكن رأسها عاليا في القمم الجبارة مع النسور الأطلسية...