هناك يبدو كل شيء ممعنا
فى القدم، الأرض والماء
والأشجار والناس..
كل شيء هناك..
يبدو عجوزا، حكيما.
بتلك الكلمات بدأ الكاتب الراحل صبرى موسى كتابه "فى البحيرات" وجعلها مقدمة للفصل الخاص ببحيرة "إدكو".
برز الأديب والكاتب الصحفى صبرى موسى "1932-2018" فى القصة والرواية وأدب الرحلات إلى جانب عمله فى الصحافة، وفى "أدب الرحلات" نشر الكاتب صبرى موسى فى مجلة "صباح الخير" تفاصيل رحلته إلى "بحيرة إدكو" فى ستينيات القرن الماضي، ونشرها أيضا فى كتابه "فى البحيرات" عام 1965.
جاء صبرى موسى إلى "بحيرة إدكو" وسرد تفاصيل رحلته بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية مع المصور الصحفى "هبة"، وقد حرص الكاتب صبرى موسى على كتابة حواره مع الأهالى كما هو وبلغتهم العامية ومفرداتها السائدة وقتئذ، فاحتفظ لنا بمجموعة من المفردات العامية الخاصة بالزراعة والصيد التى اندثرت بعض كلماتها الآن من القاموس العامى للأهالي، كما وصف صبرى موسى الأماكن والشوارع وحركة الناس وأساليب زراعة النخيل، والصيد فى البحيرة كل ذلك فى صورة أدبية جميلة وقلم رشيق، وننقل عنه هنا الفصل الخاص "ببحيرة إدكو".
***
الرمال الناعمة.. الملاحات.. بوغاز المعدية..الطريق الساحلى القديم
"غادرنا القاهرة فى قطار آخر الليل إلى الإسكندرية فوصلناها فى الصباح.. وكان علينا أن نجد فندقا لحقائبنا، ثم نبدأ البحث عن طريق للسفر إلى بلدة إدكو لنصل إلى البحيرة المسماة باسمها..
قال لنا بعض التجار: فيه أتوبيس من إسكندرية - رشيد.. هو ده اللى يوصلكم.. ما هى فى السكة..
وقد حملنا هذا الأتوبيس من محطة الإسكندرية فى العاشرة من الصباح، فوصلنا إدكو فى الحادية عشرة والنصف .. أتوبيس إقليمى أزرق، من ذلك النوع الذى يذكرك بموظفى المصالح حينما يبلغون الخامسة والأربعين من العمر، فيفقدون وجاهتهم.. وكانت العلاقة وطيدة بين السائق والكمسارى والركاب.. فليس الركاب سوى مجموعات من المدرسين والحكيمات وباعة الريف وتجار الصيد، ينتظمون فى السفر على هذا الخط فى مواعيد ثابتة، ويثرثرون مع بعضهم البعض بمشاكلهم فيتعارفون..وكان واضحا عندما دخلنا الأتوبيس - هبة وأنا- أننا نبدو غرباء وأن أحدا لا يعرفنا.. وقد تحرك الأتوبيس مغادرا الإسكندرية متجها إلى رشيد.. وكلما أعطى ظهره للبحر غابت عنا رائحته النفاذة.. ثم بدأت الحقول تطالعنا.. وبدأ اللون يتحول من الأصفر إلى الأخضر المزدهر.. وبعد ساعة بدأت الحقول تختفى رويدا رويدا، وبدأ اللون الأصفر يظهر ثانيا مشربا بالبياض.. فأدركت أننا قد درنا دورتنا، وأننا نقترب من البحر من جديد.. ثم بدأت الملاحات تظهر.. تلك المستنقعات التى يحاصرها الرمل، وتسلط عليها الشمس حرارتها فتبخر الماء ويبقى الملح أكواما بيضاء ناصعة، يجمعها الناس بترخيص.. وكانت الزراعة قد اختفت تماما، ولم يبق فى الأرض سوى نخلات شامخة، تقف هنا وهناك، ثم تندفع هاربة من نافذة الأتوبيس حين يعبرها.. وفجأة.. والأتوبيس مندفع بأقصى سرعته، يعبر جسرا. نظرت حولى فوجدت الماء.. من النافذة التى على يساري، رأيت بحرا يمتد حتى الأفق.. ومن النافذة التى على يمينى رأيت بحرا آخر يمتد حتى الأفق.. وكان الأتوبيس يبدو وكأنه يسير على الماء.. وقد استمر ذلك بضع دقائق.. ثم اختفى البحر الذى إلى يساري، وبدأت الرمال تظهر، وعليها بعض الأكواخ ومراكب الصيد والشباك والنخيل.. فاختلط على الأمر وسألت جاري:
- احنا فين الوقت ..؟
- فى المعدية..
- ده البحر المالح..
- واللى كانت على اليمين ..؟
- دى البحيرة .. ما هى دى الفتحة اللى بتوصل البحيرة بالبحر اللى فتنا عليها من شوية..
وأدركت فورا أننا نسير على طريق القوافل الساحلى القديم بين القاهرة والإسكندرية.. وأننا عبرنا داخل هذا الأتوبيس الإقليمى المعاصر، فى ذلك الصباح الربيعي، بمكان تاريخي، طالما عبره التجار والمسافرون من القرن التاسع إلى الآن.. وكلهم وقفوا حائرين هنا، حيث تنفتح البحيرة على البحر ويختلط ماؤهما.. وكانوا جميعا يظنونها جزءا من البحر.
الإدكاوى .. الصياد والمزارع.. وعاشق النخيل
قلت لهبة : ننزل هنا فى المعدية والا نروح إدكو ؟
فتدخل الرجل الجالس فى المقعد المجاور قائلا: خلاص يا فندى .. كلها عشر دقائق وإدكو تبان..
فضحك هبة وقال: خلينا لإدكو بقى عشان خاطر الراجل الطيب ده.
ونظر جارنا إلى هبة فى حذر كأنما يريد أن يستوثق إن كان لا يسخر منه.. ثم ضحك فى صفاء وقبل النكتة.. ويبدو أن مصاحبتنا قد أعجبته..
سألته : بتشتغل فى الصيد..؟
فقال الرجل: من ده على ده..
يعنى صياد ومزارع..
- إزاى ..؟
- يعنى فى وقت الزراعة أدينى بأزرع .. وفى وقت الصيد أدينى بأنزل أصطاد.. ولى أخ مشاركه فى تلات نخلات..
- بتزرع نخل..
- أمال .. أديلى تلاتين سنة عايش مع النخل .. النخل ده أحسن زراعة.. يس عايزة طولة بال فى الأول.. وبعدين هى تشتغل لوحدها..
- يعنى إيه ؟
- شوف يا سيدي، النخل ده أصله شهم .. ما تتحكمش فيه أبدا.. يعنى أى شجرة تموت، لو منعت عنها المية.. النخل ده أبدا .. مايموتش.. يمد جذوره لتحت ويفضل يمدها لغاية ما يجيب لنفسه ميه من تحت الأرض..
- ونفسه حلوة .. يتزرع فى أى أرض.. فى الرملية جايز .. فى المالحة جايز .. فى المية برضه جايز..
- أيام الفيضان كانت المية غرقت الغيطان والجناين..كل الزرع مات، وشجر الجناين مات.. اتخنق كله، إلا النخل، فضل عايش وجاب محصول زين..
قصة حياة النخلة
منطقة الشواطئ المصرية كلها مشهورة بالنخيل.. لقدرة النخلة على اختراق الأرض الملحة، والبحث عن الغذاء تحتها..ولهذا فقد جذبنا الرجل بحديثه عن النخل..كان يتحدث بحماس وحب، عن عمل ظل يقوم به ثلاثين سنة.. عن عمل أصبح هو جزءا منه ومن نظامه ومتاعبه..كان يلوح لنا بيديه الغامقتين الشديدتى الخشونة والكبرياء:
- ياما إيديا الاتنين دول زرعت فسايل، وقطعت سباطات، وياما طلعت نخل بالحزام.. يا سلام لما الواحد يفضل يطلع ويطلع ويطلع لغاية ما يبقى فوق خالص، جنب السما، وكل حاجة.. البيوت والمراكب والناس والحيوان.. كل حاجة يبقى شايفها صغيرة قوى تحته.. مافيش غير البلح.. هو اللى يبقى كبير.
صنع بيننا وبين النخل مودة فسألناه..
- والنخل يتزرع إزاي؟
- له طريقتين..الأولانية من النوى.. النواية اللى بتبقى جوه البلحة دى نجيبها ونزرعها فى الأرض.. ونفضل نسقيها ونسمدها ونراعيها قول سنتين تلاتة أربعة، لغاية ما تكبر وتخرج من الأرض.
الطريقة دى بطلت خالص حدانا هنا فى إدكو.. وتقريبا بتبطل فى كل حتة، عشان بتاخد وقت وشقا..
الطريقة التانية هى اللى معظم بتوع النخل بيشتغلوا بها، اسمها طريقة الخلفة..
فيه نخلة تلاقى طالع جنبها من الأرض فرع خوص أخضر كده أو فرعين لازقين فيها.. دول يبقوا خلفتها.. بناخد الخلفة دى بعيد، ونحفر فى الأرض مترين لغاية ما نوصل للرطوبة ونحطها..ونحبش عليها بالغاب والصفيح عشان الرمل ما يوصلهاش ونسيبها سنتين تلاتة تبقى علو مترين، وراسها تكبر وتخضر.. ننقلها بقى فى أرض عالية ونسيبها سنتين تلاتة كمان تبتدى تطلع بلح..
- كله يطلع بلح..
- لأ.. موش كله.. فيه دكر ونتاية..
النتاية بس هى اللى تطلع.. أول ما تبلغ تتجوز.. وأول ما تتجوز تطلع بلح..
- تتجوز إزاى النخلة يا عم..؟
- تتجوز فى الهوا.. الهوا كده يفضل يروح وييجى بين النخل وبعضه وياخد من الدكر يحط فى النتاية.
- ياخد إيه..
- ياخد الريحة من جمار النخلة الدكر ينقلها للنتاية..
- وفكرك يعنى إنه بيعمل الحكاية دى مع النخل كله من غير ما يغلط..؟
- شوف أما أقول لك.. إذا كان النخل الدكر عدد النخل النتاية تمام.. كله لازم يتجوز.. الهوا يجوزه من غير غلط.. لكن ماهوش دايما العدد بيبقى مساوى بعضه.. والنخلة اللى تفوت عليها السنة ولا تخلفش، نعرف إن الهوا ماطلهاش نروح نجوزها احنا..
- إزاي..؟
- ناخد حتة من جمار الدكر ونحطها فى جمار النتاية.. وضحك العجوز ثم استطرد..
- من يوم ما اكتشفنا الحكاية دى والدكورة معادلهاش عوزة.. فحل واحد بقى يكفى خمسة وعشرين نخلة ويفيض.
- تفضل النخلة تخلف أد إيه يا حاج؟
- طول ما هى عايشة..
-وتعيش أد إيه؟
-ييجى ميت سنة وزيادة..
- وتموت إزاي..؟
-التراب والرمل والريح يفضلوا ياكلوا فى جذعها من تحت لغاية ما يرفع.. ولا عدش يقدر يشيلها.. فتقع..
-يسيبوها..؟
- لأ.. ياخدوها يشقوها.. ويسقفوا بخشبها البيوت ويعملوا منه مراكب..
- مافيش حاجة فى النخلة تترمى أبدا.. الليف يتعمل حبال، والخوص مقاطف، والجريد أقفاص وكراسى وأبواب وغيره.. النخلة مبروكة..
قال هبة "المصور المصاحب للكاتب فى رحلته":
- تعرف يا حاج فيه فى إدكو كام نخلة؟
- فى إدكو.. ما أعرفش.. لكن ديك النهار أنا كنت فى الجمعية التعاونية وسمعت الباشمهندس الزراعى بيقول إن مصر كلها فيها ييجى خمسة مليون ونصف مليون نخلة..
- أنا صدقته.. بيقولوا إنهم عملوا احصاء..
-كان النخل على جانبى الطريق، يجرى هاربا من نافذة الأتوبيس، ولاحظنا أن الطريق يعلو كأنه يصعد تلاً.. وأشار جارنا العجوز إلى زجاج السيارة أمام السائق وقال:
- إدكو هناك أهي..
إدكو..محطة القطار والشوارع والدكاكين
كان النخل على جانبى الطريق، يجرى هاربا من نافذة الأتوبيس، ولاحظنا أن الطريق يعلو كأنه يصعد تلاً.. وأشار جارنا العجوز إلى زجاج السيارة أمام السائق وقال:
- إدكو هناك أهي..
وفعلاً..كانت إدكو قد لاحت، مرتفعة كأنها هضبة.. مرسلة على الطريق لاستقبالنا.. كمية هائلة من شباك الصيد الممدودة على الشاطئ خارج البلدة، والصيادون عاكفون على إصلاحها، وعشرات من الأشرعة والصوارى وقوارب الصيد الرفيعة المنزرفة على الجانبين فى الأحراش، حتى توقف بنا الأتوبيس على المدخل المرتفع لإدكو نفسها..
هذه هى إدكو التى كاد المؤرخون يجمعون على أن يكتبوها "اتكو" سواء منهم العرب أو الإفرنج..
تطوع جارنا الصياد العجوز زارع النخيل بالنزول معنا فى إدكو..
محطة البلدة ليست محطة.. هى مقهى من الأخشاب على أرض غير مستوية، كأنها قمة التل، جدرانها الخارجية تخفيها أقفاص البلح والخبز وبضاعة الباعة الصغار، ومقاعد القش الممتلئة بالرجال الذين لا عمل لهم فى تلك الساعة من النهار.. فلم يكن موسم الصيد قد اشتد بعد.. ومن تلك القمة أخذت الشوارع الترابية الضيقة تنحدر وتصب داخل البلدة.. هى نفسها إدكو المعاصرة، إحدى بلاد القرن العشرين.. لكنها فقيرة المظهر.. بيوتها قديمة وواطئة.. حتى الجديد المرتفع يبدو متهالكًا وقديمًا، يغطيه التراب وتهوم حوله رائحة عطنة مفعمة بالملح واليود..الدكاكين ضيقة وعميقة كأنها كهوف.. وبضاعتها توحى بما يعمله الناس فى هذه البلدة.. الصيد والزراعة..حبال الكتان للمراكب، وخيوط الشباك والفلين والرصاص.. وأدوات النجارة، وأدوات الزراعة..وعشرات الحيوانات الصغيرة والدواب تمرح فى الطرق الضيقة.. ورائحة السمك تغطى كل شيء.. حتى الأرض غير المستوية كانت تبدو كأنها مصنوعة من عظام الأسماك.. ولم تكن البحيرة حتى هذه اللحظة تظهر لنا من أى اتجاه، لكنها كانت قد فرضت على البلدة ظلها وطابعها ورائحتها..بل إنها صنعت لها حياتها الحالية.. وكانت البحيرة اللامرئية تبدو لنا وراء كل الأشياء..
-عايزين مركب ننزل بها البحيرة؟
قال العجوز زارع النخيل: مش كنتو تقولوا واحنا فى المعدية.. بيتى ومركبى هناك وأخويا وأولادي..
قرية المعدية .. البوغاز والبحيرة
وركبنا الأتوبيس القادم من رشيد ليعود بنا إلى قرية المعدية التى عبرناها ونحن قادمون إلى إدكو..وفى الطريق عرفت من صاحبنا زارع النخيل أن البحيرة يمكن دخولها من أى مكان.
فكل قرية على شاطئها، يمكنها أن تصنع لقواربها مدخلاً إلى البحيرة.. لكن مدخل المعدية سيظل أكبر مداخل البحيرة وأشهرها.. لأنه شديد القرب من البوغاز.. الباب الكبير الوحيد الذى تفتحه البحيرة على البحر لتأخذ منه وتعطيه فيختلط ماؤهما..لكم رغبت فى أن أشهد هذا الاختلاط.. أن أتأمل دخول البحر فى البحيرة.. أو دخول البحيرة فى البحر..كيف يكون هذا اللقاء..؟
وتذكرت ذلك الإحساس الخفى الذى راودنى عند مغادرة الأتوبيس فى المعدية ونحن قادمون.. حينما رأيته يعبر بحرين.. لولا أن (هبة) أخذنا إلى إدكو وهو يضحك مع جارنا العجوز الطيب..
ها نحن نعود واللهفة تخامرنى ممزوجة بالنصر، لأن إحساسى قد أنذرنى من قبل بأهمية المكان.
توقف الأتوبيس أمام قرية المعدية ونهض الرجل الطيب مهرولاً وهو يتعجلنا للنزول.. وحينما انطلق الأتوبيس وأخلى مكانه، أخذت أتأمل ما حولي، وخيل لى أننا نزلنا خطأ..كنت واقفًا أما غاب كثيف على شاطئ.. وفى مساحة مغتصبة من هذا الغاب رأيت الماء.. كأنه ترعة ممتدة إلى الداخل فى أعماق الغاب.. وعلى فتحة الترعة بضعة قوارب غريبة الشكل.. طويلة ورفيعة وضيقة.. كأنها إبرة.. كأنها صنعت لتخترق هذا الغاب وتنفذ منه، حينما يعترضها داخل الماء.
وعلى الشط المملح التراب كانت بضعة قوارب أخرى جريحة يداويها بعض الرجال ويملأون ثقوبها بألياف الكتان.. ومساحات هائلة من شباك الصيد البنية اللون، منتشرة على الأرض الرمادية، أما الغاب الأخضر الطالع على الشاطئ من حافة الماء.. ملأنى شعور الغبطة لروعة المنظر، وقدرة المكان على إعطاء الحياة لهذه الألوان الصارخة القتامة.. الأخضر المحروق والبنى المحروق والرمادى الكالح..
لقد كنت أفتقد البحر..
نظرت ناحيته فما وجدته..
سألت زارع النخيل عنه فقال:
ما يبانش من هنا.. لازم تمشيله شوية وراء البلد..
عايز أشوف المعدية نفسها.. البوغاز.
قال الرجل بطيبة: مافيش هناك حاجة تنشاف.. كوبرى والمية من تحته فايته على بعضها.. وكشك بتاع نقطة السواحل.. دلوقت ننزل البحيرة ونتفرج تمام..
كان يتكلم وهو يمشى أمامنا متجهًا ناحية الرجال.. وكان بعضهم فد تعرف عليه فنهض لاستقباله.. ووجدنا أنفسنا وسط مجموعة من الصيادين تصافحنا فى حماس وترحب بنا.
قال العجوز: حدانا ضيوف يا رجال.. عايزين يدخلوا البحيرة.. فغمغم الرجال وهم يرحبون.
وذهب بعضهم لتجهيز القوارب. وهمس أحدهم فى أذن العجوز بشيء.. فبان القلق فى عينيه العميقتين.. سألته: خير..
- بيسأل إذا كان فيه معاكو تصريح من غفر السواحل..
- لأ ما فيش..
- أصل ممنوع حد ينزل البحيرة من غير تصريح..
كان لابد للحصول على هذا التصريح من الذهاب إلى نقطة بوليس عند البوغاز.. وربما احتاج الأمر للذهاب إلى رئاسة المنطقة فى الإسكندرية.. هو إجراء قانونى تجاهلناه دون علم به.. وربما يضيع منا اليوم بسببه..
قلت للرجل إن معنا بطاقتنا الصحفية والشخصية ولا خوف منا..
فأجاب: إن كان علينا مايهمش.. لكن غفر السواحل فى لنشاتهم كتير جوه البحيرة.. يمكن حد منهم يقابلنا جوه، ونقع فى س و ج..
ولا يهمك يا حاج نبقى نتصرف معاهم.
على خيرة الله.. هو انتوا يعنى حاتعملوا إيه جوه.. موش حاتتفرجوا عشان تكتبوا عن الصيادين وأحوالهم..
رحلة صبرى موسى داخل بحيرة إدكو..
كانت الشمس قد استقرت فوق الرؤوس.. ورغم بوادر الشتاء كان الجو جافا، فالهواء مفتوح على الصحراء والبحيرة والبحر، فهو يجيء بخلايا الشمس..وكان الرجال قد أعدوا قاربين.. أنا والعجوز "العجوز الإدكاوي" فى قارب، وهبة "لمصور الصحفي)" وأحد الصيادين فى القارب الآخر..لم تكن لهذه القوارب الرفيعة مجاديف.. على مؤخرتها المدببة يقف رجل ثالث ممسكا بقطعة طويلة مدببة من الخشب القوي.. يدفع بها إلى قاع البحيرة، فينساب القارب على صفحة الماء كأنه بلا وزن..وقف باقى الرجال على الشط يلوحون لنا وأخذت العصى الرفيعة تضرب قاع الماء فتنزلق قواربنا داخل المجرى الرفيع بين أحراش الغاب.
لحظة بعد لحظة أخذ المجرى المائى يتسع حتى وجدنا الغاب ينداح فجأة عن الجانبين.. وتطلع بنا القوارب إلى الفضاء الفسيح، حيث يستقر الماء ويمتد إلى مسافة لا تدرك العين مداها.. هو ماء مسطح، متواضع العمق على التقريب متر واحد، أو متر ونصف على أكثر تقدير، يستطيع الرجل أن يخوضه حتى وسطه، وربما حتى رقبته، لكن القاع خطر وغريب، فهو مليء بالحجارة وجذور الغاب...
- عايزين يا حاج نتفرج على الفتحة المشهورة دى (البوغاز).
- يوه.. ما قلت لك موش حاتشوف حاجة هناك غير كوبرى ومية فايته على بعضها من تحته.
قال الرجل الذى يصاحب هبة فى قاربه:
- برضه لازم يروحوا هناك يا حاج، عشان يشوفوا الخواجة الهولاندى اللى بيصيد التعابين وقاطع رزقنا هناك.
قال الحاج: برضه واجب، على العموم إحنا جعنا، ياللا شوفولنا لقمة ناكاها، ونلف فى البحيرة شوية، وبعدين نطلع على البوغاز.
- نأكل إيه؟
- ناكل سمك، بقى نبقى ماشيين فوقه وهو بيلعب حوالينا كده ولا ناكلوش، ياللا يا ولاد ازعقوا حواليكم خلى الصيادين يبانوا، ناخد لنا منهم سمكتين.
الغداء داخل البحيرة
لم يكن يظهر لنا على صفحة البحيرة شيء، اللهم إلا أدغالا من الغاب متفاوتة الأحجام، منثورة هنا وهناك، وأشباح بعيدة على صفحة الماء، تكاد تكون ملتحمة بالأفق، ورغم هذا رأيت أحد الرجال فى قافلتنا ينادى ببعض الأسماء، مرسلا صوته الممطوط فى الفضاء الرحب فتستجيب له الأشباح المهتزة عند الأفق، وتتحرك متجهة ناحيتنا.. فالصيادون قد دربوا آذانهم على التقاط نغمات الصوت والتمييز بينها، ومن خلال حركة القارب أو طريقة الصيد يمكنهم التعرف على زملائهم. القوارب لا تصنع صوتا وهى تنزلق، الرجل الواقف على مؤخرة القارب يدفع قاع البحيرة بعصاه، فيتحرك القارب مرتفعا بمقدمته على سطح الماء. وفى لحظات كانت قد تجمعت حولنا حلقة من هذه القوارب الرفيعة التى لا يتسع الواحد منها إلا لرجلين على أكثر تقدير. ووقف الصيادون بوجوههم السمراء وسراويلهم الشرقية الواسعة يرحبون بنا، وامتدت إلينا عشرات الأيدى بكميات من الأسماك التى تتلوى فى قاع قواربهم وما تزال حية، أسماك نابضة منتفضة من مختلف الأصناف، نيلية وبحرية وسلالات أخرى بينهما، من كل نوع تحتويه البحيرة، ورفضوا أن يأخذوا منا ثمنا. وكان الرجال قد ربطوا قاربنا بالقارب الآخر الذى يجلس فيه هبة، وأخرج واحد منهم "وابور جاز" من "خُن" القارب وأشعله، ووضع فوقه قطعة مربعة من الصاج، ووضع فوقها السمك.
كانت ساعة الغداء قد حلت، وقد فعلت معظم القوارب مثلنا، وانتشرت فى سماء البحيرة رائحة الشواء.
أروع غداء ممكن أن تمنحه الطبيعة لأبنائها.. لقد دخلنا البحيرة ومعنا الخبز فقط، وكان السمك فى الماء..
عصر ذلك اليوم، والشمس تسحب وراءها أشعتها المبللة بالماء، بين أعواد الغاب الطالع على صفحة البحيرة، كانت قواربنا قد تقاربت والتصقت وكونت حلقة، ونحن داخل هذه الحلقة متربعين فى القوارب الرفيعة الضيقة، نشوى السمك الحى ونأكله، ونلقى إلى الماء بالفضلات.
وكان يحدث أن ينقصنا شيء ما، رغيف خبز، أو بضع حبات من البصل والطماطم أو قليل من الملح.. فيقف واحد من الرجال ويصيح داخل البحيرة على قارب يمر بعيدا، معاك ملح يا فلان.. معايا.. ويضرب الرجل قاع البحيرة بعصاه فينزلق القارب به، وفى بضع دقائق يحضر الملح ويجيء.
فى الفجر يخرج الصياد من بيته مجهزا بكل شيء، الخبز والملح والشاى والسكر والجاز للوابور، ويدخل البحيرة فلا يعود منها إلا فى الغروب، وبعضهم بقضى الليل هناك، ولهم فى الصيد طرق متعددة.
قال الحاج: حانشوف الطرق كلها دلوقت واحنا ماشيين فى البحيرة.
وكنا قد انتهينا من الطعام، ووضع الصيادون الشاى على النار وأشعلوا التمباك والمعسل وراحوا يدخنون.
ومن بعيد كان يأتينا غناء عارم يشكو الهجر واللوعة وتباريح الغرام، ولم يكن واحد من الصيادين يغني، بل كان راديو صوت العرب يشتغل بالبطارية، فى قوارب الرجال، إحدى ظواهر التقدم وتحسن الحال.
وقد طفت على سطح البحيرة حولنا، قشور الأسماء المشوية وعظامها ورءوسها، وبقايا الخبز والبصل، فضلات طعامنا، وقد صعدت من تحت الماء عشرات الأسماك الحية تناوش هذه البقايا وتجذبها نتفا، وتسارع بالاختفاء، ثم تعود، ولعلها قد تعرفت فيها على قريباتها وصاحباتها من الأسماك التى افتقدتها منذ ساعات.
الصيد بالجوابي.. وحرق الهيش داخل بحيرة إدكو
فجأة رأيت سحابة كثيفة من الدخان تغطى الأفق، دخان كثيف، تضيئه من القلب نار حمراء، وتتلوى ألسنته الداكنة على صفحة البحيرة وهى تتصاعد داخلة فى السماء.
فبدأت أسأل..وأجاب الرجال فى هدوء: بيحرقوا الغاب.
- ليه؟
- أبدا.. فيه غاب بينشف من الشمس ويموت.. يقوموا يحرقوه، عشان يطلع بداله جديد..
- وهمه عايزين الجديد ليه؟
- ياه .. فيه ناس كتير عايشة عليه.. يقطعوه ويبيعوه.. له تجار وأسواق.. لكن ده ممنوع.. شركة راكتا أصلها بتاخده تعمله ورق.. وغير كده أسباب تانية..
وراح الحاج يحكى لي.. بعض الناس يستأجرون بقعة من الغاب.. ويقيمون حولها شباكهم.. ويتركونها يوما أو يومين.. ويكون الغاب مليئا بالأسماك، وحين ينوى الخروج تعوقه الشباك، ويسقط فيها، فيجئ الصيادون ويجمعونه. لكن هناك ناس آخرون لا عمل لهم، مجموعة من المطاريد أو المحكوم عليهم أو الهاربين من أحكام، إنهم يتسللون ليلا إلى هذا الغاب ويقيمون فيه، ويسرقون السمك من الشباك، وحينما تتكرر المسألة يجئ الصيادون والغيظ يملأهم ويحرقون الغاب، فيخرج المطاردون من داخله والنار تحاصرهم، وتدور على صفحة الماء معركة دامية.
إن للغاب أسواقا هائلة يباع فيها للفلاحين الذين يستخدمونه فى بناء أكواخهم بعد تغطيته بالجبس، وللمقاولين الذين يصنعونه على هيئة حوائط مبرومة نبنى بها العشش للتصييف.
كنا ننزلق على البحيرة ونتابع الحريق، وقد مد الحاج يده وأخرج من حافة الماء شبكة من السلك أشبه بالقمع، وكانت مليئة بالسمك، اسمها الجوبيا.. ينثرها الصيادون فى أماكن متفرقة من البحيرة، وعلى حوافى الغاب، ويتركونها بضع ساعات، فتمتلئ بالسمك الذى لا يستطيع الخروج.
قلت له: دى طريقة سهلة، موش عايزة مجهود..
قال: فيه طريقة أسهل، هنا فى إدكو فيه ناس بتنزل من البر وتمشى برجليها جوه الميه، وتدوس جامد عشان تسيب حفرة مطرح رجليها فى القاع، تمد لجوه البحيرة شوية، وبعدين ترجع تجمع السمك اللى يكون اتجمع جوه الحفر الصغيرة دي، باديهم!!
بوغاز المعدية والشركة الهولندية
وفجأة حدث ما كنا قد توقعناه.. جرى على سطح البحيرة صوت موتور، ثم ظهر فى الأفق قارب بخارى مندفع ناحيتنا وقال الرجال: خفر السواحل جُم.
فقد رابهم ذلك التجمع فجاءوا وعثروا علينا، فقدمنا لهم أنفسنا، فطلبوا منا اصطحابهم إلى نقطة السواحل عند البوغاز، فقدمنا شكرنا للرجال الذين صاحبونا وركبنا معهم هبة وأنا.
وانطلق بنا القارب البخارى يشق ماء البحيرة، وأنا أتأمل هذا العالم الهادئ الساكن من العشب والماء، وما يجيش تحته من عوالم متباينة وغامضة، وأتساءل: كيف يمكن أن يكون محتاجا إلى قانون؟
قال الشاويش: المخالفات فى البحيرة كتير، خد عنك مثلا: بعض ناس تجيب حزمة غاب أو غصون شجر أو ذرة شامى وتزرعها فى البحيرة وتسيبها ليلة وتاخدها ثانى يوم يكون السمك الصغير الزريعة دخل فيها عشان ياكل، يصطادوه من غير مجهود!
والزريعة تأتى إلى البحيرة بطريقتين، فجميع الأسماك تبحث عن المياه الضحلة الدافئة لتضع بيضها، كل سمكة تضع ملايين من البيضات، ليموت منها ما يموت، وتضمن أن بعضها سيبقى ليحفظ النوع.
وأسماك النيل تضع بيضها فى الترع وفتحات المصارف، فيسوقه الفيضان إلى البحيرة لينمو فيها ويكبر، ويعود إلى النيل إن استطاع.
وأسماك البحر تدخل البحيرة عن طريق البوغاز، وتضع بيضها هناك، وحين ينمو البيض ويصبح سمكا يعود إلى البحر من جديد.
ومهمة رجال السواحل الحفاظ على هذه الزريعة الصغيرة لتنمو وتكبر، فالسمكة الكبيرة خير من الصغيرة لاشك، ولهذا يضعون القانون، ويحتمون أنواعا من الشباك للصيد، تتيح الفرصة لهذه الأسماك الصغيرة أن تنفذ منها، وتعيش فترة أخرى حتى تكبر، ويمكن صيدها فى تلك الحال. لكن بعض الناس لا يدركون هذا، فلا تعنيهم أخلاق الصيد، إنما يعنيهم إشباع حاجتهم العاجلة للطعام.
وأخذ الشاويش يفسر لى سبب ضيق الصيادين بالشركة الهولندية التى أخذت تصريحا لصيد الثعابين من البحيرات، إن هذه الشركة تقيم أقفاصا من الشبكات الحديدية عند فتحات البحيرة على البحر، فتمنع الثعابين من الخروج وتصيدها فى هذه الأقفاص، ولما كانت فتحات هذه الشبكة شديدة الضيق، فهى تحجز فيما تحجزه زريعة السمك التى نما عودها وكانت تنوى الخروج إلى البحر، والصياد الذى يعرف عمله جيدا يهمه أن تخرج هذه الزريعة إلى البحر لأنها ستعود إلى البحيرة بعد شهر أو اثنين كبيرة وضخمة وممتلئة لتضع بيضها، فيصيدها حينذاك..
كان القارب البخارى يمرق على الماء، فلمحنا الأرض تقترب، خط ضيق واه كأنه نوع من الظلال.. ثم بدأت الأرض تظهر، شريط رملى عليه بلدة المعدية التى أخذنا منها قواربنا الأولى.
ثم ظهرت فتحة البوغاز، والجسر الذى عبرناه داخل الأتوبيس.. ثم رأينا البحر ونحن داخل البحيرة.
كان الماء يخرج من البحيرة تحت الجسر ويدخل فى البحر الذى يمتد فسيحا إلى سواحل الشمال الإيطالية وغيرها، حتى يمتزج بالبحر الأسود فيه بالقرب من روسيا.. أى عالم ضيق متشابك ذلك العالم الذى نعيش فيه ويخيل أنه ممتد بلا نهاية.. إن كل الأشياء تذهب وتجئ وتشمخ ستتلاقى فى النهاية على صفحة هذه الكرة الدائرة فى الفضاء، المسماه بالأرض.
* نقلا عن بوابة الحضارات
بوابة الحضارات | رحلة صبرى موسى إلى بحيرة إدكو فى ستينيات القرن الماضي
فى القدم، الأرض والماء
والأشجار والناس..
كل شيء هناك..
يبدو عجوزا، حكيما.
بتلك الكلمات بدأ الكاتب الراحل صبرى موسى كتابه "فى البحيرات" وجعلها مقدمة للفصل الخاص ببحيرة "إدكو".
برز الأديب والكاتب الصحفى صبرى موسى "1932-2018" فى القصة والرواية وأدب الرحلات إلى جانب عمله فى الصحافة، وفى "أدب الرحلات" نشر الكاتب صبرى موسى فى مجلة "صباح الخير" تفاصيل رحلته إلى "بحيرة إدكو" فى ستينيات القرن الماضي، ونشرها أيضا فى كتابه "فى البحيرات" عام 1965.
جاء صبرى موسى إلى "بحيرة إدكو" وسرد تفاصيل رحلته بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية مع المصور الصحفى "هبة"، وقد حرص الكاتب صبرى موسى على كتابة حواره مع الأهالى كما هو وبلغتهم العامية ومفرداتها السائدة وقتئذ، فاحتفظ لنا بمجموعة من المفردات العامية الخاصة بالزراعة والصيد التى اندثرت بعض كلماتها الآن من القاموس العامى للأهالي، كما وصف صبرى موسى الأماكن والشوارع وحركة الناس وأساليب زراعة النخيل، والصيد فى البحيرة كل ذلك فى صورة أدبية جميلة وقلم رشيق، وننقل عنه هنا الفصل الخاص "ببحيرة إدكو".
***
الرمال الناعمة.. الملاحات.. بوغاز المعدية..الطريق الساحلى القديم
"غادرنا القاهرة فى قطار آخر الليل إلى الإسكندرية فوصلناها فى الصباح.. وكان علينا أن نجد فندقا لحقائبنا، ثم نبدأ البحث عن طريق للسفر إلى بلدة إدكو لنصل إلى البحيرة المسماة باسمها..
قال لنا بعض التجار: فيه أتوبيس من إسكندرية - رشيد.. هو ده اللى يوصلكم.. ما هى فى السكة..
وقد حملنا هذا الأتوبيس من محطة الإسكندرية فى العاشرة من الصباح، فوصلنا إدكو فى الحادية عشرة والنصف .. أتوبيس إقليمى أزرق، من ذلك النوع الذى يذكرك بموظفى المصالح حينما يبلغون الخامسة والأربعين من العمر، فيفقدون وجاهتهم.. وكانت العلاقة وطيدة بين السائق والكمسارى والركاب.. فليس الركاب سوى مجموعات من المدرسين والحكيمات وباعة الريف وتجار الصيد، ينتظمون فى السفر على هذا الخط فى مواعيد ثابتة، ويثرثرون مع بعضهم البعض بمشاكلهم فيتعارفون..وكان واضحا عندما دخلنا الأتوبيس - هبة وأنا- أننا نبدو غرباء وأن أحدا لا يعرفنا.. وقد تحرك الأتوبيس مغادرا الإسكندرية متجها إلى رشيد.. وكلما أعطى ظهره للبحر غابت عنا رائحته النفاذة.. ثم بدأت الحقول تطالعنا.. وبدأ اللون يتحول من الأصفر إلى الأخضر المزدهر.. وبعد ساعة بدأت الحقول تختفى رويدا رويدا، وبدأ اللون الأصفر يظهر ثانيا مشربا بالبياض.. فأدركت أننا قد درنا دورتنا، وأننا نقترب من البحر من جديد.. ثم بدأت الملاحات تظهر.. تلك المستنقعات التى يحاصرها الرمل، وتسلط عليها الشمس حرارتها فتبخر الماء ويبقى الملح أكواما بيضاء ناصعة، يجمعها الناس بترخيص.. وكانت الزراعة قد اختفت تماما، ولم يبق فى الأرض سوى نخلات شامخة، تقف هنا وهناك، ثم تندفع هاربة من نافذة الأتوبيس حين يعبرها.. وفجأة.. والأتوبيس مندفع بأقصى سرعته، يعبر جسرا. نظرت حولى فوجدت الماء.. من النافذة التى على يساري، رأيت بحرا يمتد حتى الأفق.. ومن النافذة التى على يمينى رأيت بحرا آخر يمتد حتى الأفق.. وكان الأتوبيس يبدو وكأنه يسير على الماء.. وقد استمر ذلك بضع دقائق.. ثم اختفى البحر الذى إلى يساري، وبدأت الرمال تظهر، وعليها بعض الأكواخ ومراكب الصيد والشباك والنخيل.. فاختلط على الأمر وسألت جاري:
- احنا فين الوقت ..؟
- فى المعدية..
- ده البحر المالح..
- واللى كانت على اليمين ..؟
- دى البحيرة .. ما هى دى الفتحة اللى بتوصل البحيرة بالبحر اللى فتنا عليها من شوية..
وأدركت فورا أننا نسير على طريق القوافل الساحلى القديم بين القاهرة والإسكندرية.. وأننا عبرنا داخل هذا الأتوبيس الإقليمى المعاصر، فى ذلك الصباح الربيعي، بمكان تاريخي، طالما عبره التجار والمسافرون من القرن التاسع إلى الآن.. وكلهم وقفوا حائرين هنا، حيث تنفتح البحيرة على البحر ويختلط ماؤهما.. وكانوا جميعا يظنونها جزءا من البحر.
الإدكاوى .. الصياد والمزارع.. وعاشق النخيل
قلت لهبة : ننزل هنا فى المعدية والا نروح إدكو ؟
فتدخل الرجل الجالس فى المقعد المجاور قائلا: خلاص يا فندى .. كلها عشر دقائق وإدكو تبان..
فضحك هبة وقال: خلينا لإدكو بقى عشان خاطر الراجل الطيب ده.
ونظر جارنا إلى هبة فى حذر كأنما يريد أن يستوثق إن كان لا يسخر منه.. ثم ضحك فى صفاء وقبل النكتة.. ويبدو أن مصاحبتنا قد أعجبته..
سألته : بتشتغل فى الصيد..؟
فقال الرجل: من ده على ده..
يعنى صياد ومزارع..
- إزاى ..؟
- يعنى فى وقت الزراعة أدينى بأزرع .. وفى وقت الصيد أدينى بأنزل أصطاد.. ولى أخ مشاركه فى تلات نخلات..
- بتزرع نخل..
- أمال .. أديلى تلاتين سنة عايش مع النخل .. النخل ده أحسن زراعة.. يس عايزة طولة بال فى الأول.. وبعدين هى تشتغل لوحدها..
- يعنى إيه ؟
- شوف يا سيدي، النخل ده أصله شهم .. ما تتحكمش فيه أبدا.. يعنى أى شجرة تموت، لو منعت عنها المية.. النخل ده أبدا .. مايموتش.. يمد جذوره لتحت ويفضل يمدها لغاية ما يجيب لنفسه ميه من تحت الأرض..
- ونفسه حلوة .. يتزرع فى أى أرض.. فى الرملية جايز .. فى المالحة جايز .. فى المية برضه جايز..
- أيام الفيضان كانت المية غرقت الغيطان والجناين..كل الزرع مات، وشجر الجناين مات.. اتخنق كله، إلا النخل، فضل عايش وجاب محصول زين..
قصة حياة النخلة
منطقة الشواطئ المصرية كلها مشهورة بالنخيل.. لقدرة النخلة على اختراق الأرض الملحة، والبحث عن الغذاء تحتها..ولهذا فقد جذبنا الرجل بحديثه عن النخل..كان يتحدث بحماس وحب، عن عمل ظل يقوم به ثلاثين سنة.. عن عمل أصبح هو جزءا منه ومن نظامه ومتاعبه..كان يلوح لنا بيديه الغامقتين الشديدتى الخشونة والكبرياء:
- ياما إيديا الاتنين دول زرعت فسايل، وقطعت سباطات، وياما طلعت نخل بالحزام.. يا سلام لما الواحد يفضل يطلع ويطلع ويطلع لغاية ما يبقى فوق خالص، جنب السما، وكل حاجة.. البيوت والمراكب والناس والحيوان.. كل حاجة يبقى شايفها صغيرة قوى تحته.. مافيش غير البلح.. هو اللى يبقى كبير.
صنع بيننا وبين النخل مودة فسألناه..
- والنخل يتزرع إزاي؟
- له طريقتين..الأولانية من النوى.. النواية اللى بتبقى جوه البلحة دى نجيبها ونزرعها فى الأرض.. ونفضل نسقيها ونسمدها ونراعيها قول سنتين تلاتة أربعة، لغاية ما تكبر وتخرج من الأرض.
الطريقة دى بطلت خالص حدانا هنا فى إدكو.. وتقريبا بتبطل فى كل حتة، عشان بتاخد وقت وشقا..
الطريقة التانية هى اللى معظم بتوع النخل بيشتغلوا بها، اسمها طريقة الخلفة..
فيه نخلة تلاقى طالع جنبها من الأرض فرع خوص أخضر كده أو فرعين لازقين فيها.. دول يبقوا خلفتها.. بناخد الخلفة دى بعيد، ونحفر فى الأرض مترين لغاية ما نوصل للرطوبة ونحطها..ونحبش عليها بالغاب والصفيح عشان الرمل ما يوصلهاش ونسيبها سنتين تلاتة تبقى علو مترين، وراسها تكبر وتخضر.. ننقلها بقى فى أرض عالية ونسيبها سنتين تلاتة كمان تبتدى تطلع بلح..
- كله يطلع بلح..
- لأ.. موش كله.. فيه دكر ونتاية..
النتاية بس هى اللى تطلع.. أول ما تبلغ تتجوز.. وأول ما تتجوز تطلع بلح..
- تتجوز إزاى النخلة يا عم..؟
- تتجوز فى الهوا.. الهوا كده يفضل يروح وييجى بين النخل وبعضه وياخد من الدكر يحط فى النتاية.
- ياخد إيه..
- ياخد الريحة من جمار النخلة الدكر ينقلها للنتاية..
- وفكرك يعنى إنه بيعمل الحكاية دى مع النخل كله من غير ما يغلط..؟
- شوف أما أقول لك.. إذا كان النخل الدكر عدد النخل النتاية تمام.. كله لازم يتجوز.. الهوا يجوزه من غير غلط.. لكن ماهوش دايما العدد بيبقى مساوى بعضه.. والنخلة اللى تفوت عليها السنة ولا تخلفش، نعرف إن الهوا ماطلهاش نروح نجوزها احنا..
- إزاي..؟
- ناخد حتة من جمار الدكر ونحطها فى جمار النتاية.. وضحك العجوز ثم استطرد..
- من يوم ما اكتشفنا الحكاية دى والدكورة معادلهاش عوزة.. فحل واحد بقى يكفى خمسة وعشرين نخلة ويفيض.
- تفضل النخلة تخلف أد إيه يا حاج؟
- طول ما هى عايشة..
-وتعيش أد إيه؟
-ييجى ميت سنة وزيادة..
- وتموت إزاي..؟
-التراب والرمل والريح يفضلوا ياكلوا فى جذعها من تحت لغاية ما يرفع.. ولا عدش يقدر يشيلها.. فتقع..
-يسيبوها..؟
- لأ.. ياخدوها يشقوها.. ويسقفوا بخشبها البيوت ويعملوا منه مراكب..
- مافيش حاجة فى النخلة تترمى أبدا.. الليف يتعمل حبال، والخوص مقاطف، والجريد أقفاص وكراسى وأبواب وغيره.. النخلة مبروكة..
قال هبة "المصور المصاحب للكاتب فى رحلته":
- تعرف يا حاج فيه فى إدكو كام نخلة؟
- فى إدكو.. ما أعرفش.. لكن ديك النهار أنا كنت فى الجمعية التعاونية وسمعت الباشمهندس الزراعى بيقول إن مصر كلها فيها ييجى خمسة مليون ونصف مليون نخلة..
- أنا صدقته.. بيقولوا إنهم عملوا احصاء..
-كان النخل على جانبى الطريق، يجرى هاربا من نافذة الأتوبيس، ولاحظنا أن الطريق يعلو كأنه يصعد تلاً.. وأشار جارنا العجوز إلى زجاج السيارة أمام السائق وقال:
- إدكو هناك أهي..
إدكو..محطة القطار والشوارع والدكاكين
كان النخل على جانبى الطريق، يجرى هاربا من نافذة الأتوبيس، ولاحظنا أن الطريق يعلو كأنه يصعد تلاً.. وأشار جارنا العجوز إلى زجاج السيارة أمام السائق وقال:
- إدكو هناك أهي..
وفعلاً..كانت إدكو قد لاحت، مرتفعة كأنها هضبة.. مرسلة على الطريق لاستقبالنا.. كمية هائلة من شباك الصيد الممدودة على الشاطئ خارج البلدة، والصيادون عاكفون على إصلاحها، وعشرات من الأشرعة والصوارى وقوارب الصيد الرفيعة المنزرفة على الجانبين فى الأحراش، حتى توقف بنا الأتوبيس على المدخل المرتفع لإدكو نفسها..
هذه هى إدكو التى كاد المؤرخون يجمعون على أن يكتبوها "اتكو" سواء منهم العرب أو الإفرنج..
تطوع جارنا الصياد العجوز زارع النخيل بالنزول معنا فى إدكو..
محطة البلدة ليست محطة.. هى مقهى من الأخشاب على أرض غير مستوية، كأنها قمة التل، جدرانها الخارجية تخفيها أقفاص البلح والخبز وبضاعة الباعة الصغار، ومقاعد القش الممتلئة بالرجال الذين لا عمل لهم فى تلك الساعة من النهار.. فلم يكن موسم الصيد قد اشتد بعد.. ومن تلك القمة أخذت الشوارع الترابية الضيقة تنحدر وتصب داخل البلدة.. هى نفسها إدكو المعاصرة، إحدى بلاد القرن العشرين.. لكنها فقيرة المظهر.. بيوتها قديمة وواطئة.. حتى الجديد المرتفع يبدو متهالكًا وقديمًا، يغطيه التراب وتهوم حوله رائحة عطنة مفعمة بالملح واليود..الدكاكين ضيقة وعميقة كأنها كهوف.. وبضاعتها توحى بما يعمله الناس فى هذه البلدة.. الصيد والزراعة..حبال الكتان للمراكب، وخيوط الشباك والفلين والرصاص.. وأدوات النجارة، وأدوات الزراعة..وعشرات الحيوانات الصغيرة والدواب تمرح فى الطرق الضيقة.. ورائحة السمك تغطى كل شيء.. حتى الأرض غير المستوية كانت تبدو كأنها مصنوعة من عظام الأسماك.. ولم تكن البحيرة حتى هذه اللحظة تظهر لنا من أى اتجاه، لكنها كانت قد فرضت على البلدة ظلها وطابعها ورائحتها..بل إنها صنعت لها حياتها الحالية.. وكانت البحيرة اللامرئية تبدو لنا وراء كل الأشياء..
-عايزين مركب ننزل بها البحيرة؟
قال العجوز زارع النخيل: مش كنتو تقولوا واحنا فى المعدية.. بيتى ومركبى هناك وأخويا وأولادي..
قرية المعدية .. البوغاز والبحيرة
وركبنا الأتوبيس القادم من رشيد ليعود بنا إلى قرية المعدية التى عبرناها ونحن قادمون إلى إدكو..وفى الطريق عرفت من صاحبنا زارع النخيل أن البحيرة يمكن دخولها من أى مكان.
فكل قرية على شاطئها، يمكنها أن تصنع لقواربها مدخلاً إلى البحيرة.. لكن مدخل المعدية سيظل أكبر مداخل البحيرة وأشهرها.. لأنه شديد القرب من البوغاز.. الباب الكبير الوحيد الذى تفتحه البحيرة على البحر لتأخذ منه وتعطيه فيختلط ماؤهما..لكم رغبت فى أن أشهد هذا الاختلاط.. أن أتأمل دخول البحر فى البحيرة.. أو دخول البحيرة فى البحر..كيف يكون هذا اللقاء..؟
وتذكرت ذلك الإحساس الخفى الذى راودنى عند مغادرة الأتوبيس فى المعدية ونحن قادمون.. حينما رأيته يعبر بحرين.. لولا أن (هبة) أخذنا إلى إدكو وهو يضحك مع جارنا العجوز الطيب..
ها نحن نعود واللهفة تخامرنى ممزوجة بالنصر، لأن إحساسى قد أنذرنى من قبل بأهمية المكان.
توقف الأتوبيس أمام قرية المعدية ونهض الرجل الطيب مهرولاً وهو يتعجلنا للنزول.. وحينما انطلق الأتوبيس وأخلى مكانه، أخذت أتأمل ما حولي، وخيل لى أننا نزلنا خطأ..كنت واقفًا أما غاب كثيف على شاطئ.. وفى مساحة مغتصبة من هذا الغاب رأيت الماء.. كأنه ترعة ممتدة إلى الداخل فى أعماق الغاب.. وعلى فتحة الترعة بضعة قوارب غريبة الشكل.. طويلة ورفيعة وضيقة.. كأنها إبرة.. كأنها صنعت لتخترق هذا الغاب وتنفذ منه، حينما يعترضها داخل الماء.
وعلى الشط المملح التراب كانت بضعة قوارب أخرى جريحة يداويها بعض الرجال ويملأون ثقوبها بألياف الكتان.. ومساحات هائلة من شباك الصيد البنية اللون، منتشرة على الأرض الرمادية، أما الغاب الأخضر الطالع على الشاطئ من حافة الماء.. ملأنى شعور الغبطة لروعة المنظر، وقدرة المكان على إعطاء الحياة لهذه الألوان الصارخة القتامة.. الأخضر المحروق والبنى المحروق والرمادى الكالح..
لقد كنت أفتقد البحر..
نظرت ناحيته فما وجدته..
سألت زارع النخيل عنه فقال:
ما يبانش من هنا.. لازم تمشيله شوية وراء البلد..
عايز أشوف المعدية نفسها.. البوغاز.
قال الرجل بطيبة: مافيش هناك حاجة تنشاف.. كوبرى والمية من تحته فايته على بعضها.. وكشك بتاع نقطة السواحل.. دلوقت ننزل البحيرة ونتفرج تمام..
كان يتكلم وهو يمشى أمامنا متجهًا ناحية الرجال.. وكان بعضهم فد تعرف عليه فنهض لاستقباله.. ووجدنا أنفسنا وسط مجموعة من الصيادين تصافحنا فى حماس وترحب بنا.
قال العجوز: حدانا ضيوف يا رجال.. عايزين يدخلوا البحيرة.. فغمغم الرجال وهم يرحبون.
وذهب بعضهم لتجهيز القوارب. وهمس أحدهم فى أذن العجوز بشيء.. فبان القلق فى عينيه العميقتين.. سألته: خير..
- بيسأل إذا كان فيه معاكو تصريح من غفر السواحل..
- لأ ما فيش..
- أصل ممنوع حد ينزل البحيرة من غير تصريح..
كان لابد للحصول على هذا التصريح من الذهاب إلى نقطة بوليس عند البوغاز.. وربما احتاج الأمر للذهاب إلى رئاسة المنطقة فى الإسكندرية.. هو إجراء قانونى تجاهلناه دون علم به.. وربما يضيع منا اليوم بسببه..
قلت للرجل إن معنا بطاقتنا الصحفية والشخصية ولا خوف منا..
فأجاب: إن كان علينا مايهمش.. لكن غفر السواحل فى لنشاتهم كتير جوه البحيرة.. يمكن حد منهم يقابلنا جوه، ونقع فى س و ج..
ولا يهمك يا حاج نبقى نتصرف معاهم.
على خيرة الله.. هو انتوا يعنى حاتعملوا إيه جوه.. موش حاتتفرجوا عشان تكتبوا عن الصيادين وأحوالهم..
رحلة صبرى موسى داخل بحيرة إدكو..
كانت الشمس قد استقرت فوق الرؤوس.. ورغم بوادر الشتاء كان الجو جافا، فالهواء مفتوح على الصحراء والبحيرة والبحر، فهو يجيء بخلايا الشمس..وكان الرجال قد أعدوا قاربين.. أنا والعجوز "العجوز الإدكاوي" فى قارب، وهبة "لمصور الصحفي)" وأحد الصيادين فى القارب الآخر..لم تكن لهذه القوارب الرفيعة مجاديف.. على مؤخرتها المدببة يقف رجل ثالث ممسكا بقطعة طويلة مدببة من الخشب القوي.. يدفع بها إلى قاع البحيرة، فينساب القارب على صفحة الماء كأنه بلا وزن..وقف باقى الرجال على الشط يلوحون لنا وأخذت العصى الرفيعة تضرب قاع الماء فتنزلق قواربنا داخل المجرى الرفيع بين أحراش الغاب.
لحظة بعد لحظة أخذ المجرى المائى يتسع حتى وجدنا الغاب ينداح فجأة عن الجانبين.. وتطلع بنا القوارب إلى الفضاء الفسيح، حيث يستقر الماء ويمتد إلى مسافة لا تدرك العين مداها.. هو ماء مسطح، متواضع العمق على التقريب متر واحد، أو متر ونصف على أكثر تقدير، يستطيع الرجل أن يخوضه حتى وسطه، وربما حتى رقبته، لكن القاع خطر وغريب، فهو مليء بالحجارة وجذور الغاب...
- عايزين يا حاج نتفرج على الفتحة المشهورة دى (البوغاز).
- يوه.. ما قلت لك موش حاتشوف حاجة هناك غير كوبرى ومية فايته على بعضها من تحته.
قال الرجل الذى يصاحب هبة فى قاربه:
- برضه لازم يروحوا هناك يا حاج، عشان يشوفوا الخواجة الهولاندى اللى بيصيد التعابين وقاطع رزقنا هناك.
قال الحاج: برضه واجب، على العموم إحنا جعنا، ياللا شوفولنا لقمة ناكاها، ونلف فى البحيرة شوية، وبعدين نطلع على البوغاز.
- نأكل إيه؟
- ناكل سمك، بقى نبقى ماشيين فوقه وهو بيلعب حوالينا كده ولا ناكلوش، ياللا يا ولاد ازعقوا حواليكم خلى الصيادين يبانوا، ناخد لنا منهم سمكتين.
الغداء داخل البحيرة
لم يكن يظهر لنا على صفحة البحيرة شيء، اللهم إلا أدغالا من الغاب متفاوتة الأحجام، منثورة هنا وهناك، وأشباح بعيدة على صفحة الماء، تكاد تكون ملتحمة بالأفق، ورغم هذا رأيت أحد الرجال فى قافلتنا ينادى ببعض الأسماء، مرسلا صوته الممطوط فى الفضاء الرحب فتستجيب له الأشباح المهتزة عند الأفق، وتتحرك متجهة ناحيتنا.. فالصيادون قد دربوا آذانهم على التقاط نغمات الصوت والتمييز بينها، ومن خلال حركة القارب أو طريقة الصيد يمكنهم التعرف على زملائهم. القوارب لا تصنع صوتا وهى تنزلق، الرجل الواقف على مؤخرة القارب يدفع قاع البحيرة بعصاه، فيتحرك القارب مرتفعا بمقدمته على سطح الماء. وفى لحظات كانت قد تجمعت حولنا حلقة من هذه القوارب الرفيعة التى لا يتسع الواحد منها إلا لرجلين على أكثر تقدير. ووقف الصيادون بوجوههم السمراء وسراويلهم الشرقية الواسعة يرحبون بنا، وامتدت إلينا عشرات الأيدى بكميات من الأسماك التى تتلوى فى قاع قواربهم وما تزال حية، أسماك نابضة منتفضة من مختلف الأصناف، نيلية وبحرية وسلالات أخرى بينهما، من كل نوع تحتويه البحيرة، ورفضوا أن يأخذوا منا ثمنا. وكان الرجال قد ربطوا قاربنا بالقارب الآخر الذى يجلس فيه هبة، وأخرج واحد منهم "وابور جاز" من "خُن" القارب وأشعله، ووضع فوقه قطعة مربعة من الصاج، ووضع فوقها السمك.
كانت ساعة الغداء قد حلت، وقد فعلت معظم القوارب مثلنا، وانتشرت فى سماء البحيرة رائحة الشواء.
أروع غداء ممكن أن تمنحه الطبيعة لأبنائها.. لقد دخلنا البحيرة ومعنا الخبز فقط، وكان السمك فى الماء..
عصر ذلك اليوم، والشمس تسحب وراءها أشعتها المبللة بالماء، بين أعواد الغاب الطالع على صفحة البحيرة، كانت قواربنا قد تقاربت والتصقت وكونت حلقة، ونحن داخل هذه الحلقة متربعين فى القوارب الرفيعة الضيقة، نشوى السمك الحى ونأكله، ونلقى إلى الماء بالفضلات.
وكان يحدث أن ينقصنا شيء ما، رغيف خبز، أو بضع حبات من البصل والطماطم أو قليل من الملح.. فيقف واحد من الرجال ويصيح داخل البحيرة على قارب يمر بعيدا، معاك ملح يا فلان.. معايا.. ويضرب الرجل قاع البحيرة بعصاه فينزلق القارب به، وفى بضع دقائق يحضر الملح ويجيء.
فى الفجر يخرج الصياد من بيته مجهزا بكل شيء، الخبز والملح والشاى والسكر والجاز للوابور، ويدخل البحيرة فلا يعود منها إلا فى الغروب، وبعضهم بقضى الليل هناك، ولهم فى الصيد طرق متعددة.
قال الحاج: حانشوف الطرق كلها دلوقت واحنا ماشيين فى البحيرة.
وكنا قد انتهينا من الطعام، ووضع الصيادون الشاى على النار وأشعلوا التمباك والمعسل وراحوا يدخنون.
ومن بعيد كان يأتينا غناء عارم يشكو الهجر واللوعة وتباريح الغرام، ولم يكن واحد من الصيادين يغني، بل كان راديو صوت العرب يشتغل بالبطارية، فى قوارب الرجال، إحدى ظواهر التقدم وتحسن الحال.
وقد طفت على سطح البحيرة حولنا، قشور الأسماء المشوية وعظامها ورءوسها، وبقايا الخبز والبصل، فضلات طعامنا، وقد صعدت من تحت الماء عشرات الأسماك الحية تناوش هذه البقايا وتجذبها نتفا، وتسارع بالاختفاء، ثم تعود، ولعلها قد تعرفت فيها على قريباتها وصاحباتها من الأسماك التى افتقدتها منذ ساعات.
الصيد بالجوابي.. وحرق الهيش داخل بحيرة إدكو
فجأة رأيت سحابة كثيفة من الدخان تغطى الأفق، دخان كثيف، تضيئه من القلب نار حمراء، وتتلوى ألسنته الداكنة على صفحة البحيرة وهى تتصاعد داخلة فى السماء.
فبدأت أسأل..وأجاب الرجال فى هدوء: بيحرقوا الغاب.
- ليه؟
- أبدا.. فيه غاب بينشف من الشمس ويموت.. يقوموا يحرقوه، عشان يطلع بداله جديد..
- وهمه عايزين الجديد ليه؟
- ياه .. فيه ناس كتير عايشة عليه.. يقطعوه ويبيعوه.. له تجار وأسواق.. لكن ده ممنوع.. شركة راكتا أصلها بتاخده تعمله ورق.. وغير كده أسباب تانية..
وراح الحاج يحكى لي.. بعض الناس يستأجرون بقعة من الغاب.. ويقيمون حولها شباكهم.. ويتركونها يوما أو يومين.. ويكون الغاب مليئا بالأسماك، وحين ينوى الخروج تعوقه الشباك، ويسقط فيها، فيجئ الصيادون ويجمعونه. لكن هناك ناس آخرون لا عمل لهم، مجموعة من المطاريد أو المحكوم عليهم أو الهاربين من أحكام، إنهم يتسللون ليلا إلى هذا الغاب ويقيمون فيه، ويسرقون السمك من الشباك، وحينما تتكرر المسألة يجئ الصيادون والغيظ يملأهم ويحرقون الغاب، فيخرج المطاردون من داخله والنار تحاصرهم، وتدور على صفحة الماء معركة دامية.
إن للغاب أسواقا هائلة يباع فيها للفلاحين الذين يستخدمونه فى بناء أكواخهم بعد تغطيته بالجبس، وللمقاولين الذين يصنعونه على هيئة حوائط مبرومة نبنى بها العشش للتصييف.
كنا ننزلق على البحيرة ونتابع الحريق، وقد مد الحاج يده وأخرج من حافة الماء شبكة من السلك أشبه بالقمع، وكانت مليئة بالسمك، اسمها الجوبيا.. ينثرها الصيادون فى أماكن متفرقة من البحيرة، وعلى حوافى الغاب، ويتركونها بضع ساعات، فتمتلئ بالسمك الذى لا يستطيع الخروج.
قلت له: دى طريقة سهلة، موش عايزة مجهود..
قال: فيه طريقة أسهل، هنا فى إدكو فيه ناس بتنزل من البر وتمشى برجليها جوه الميه، وتدوس جامد عشان تسيب حفرة مطرح رجليها فى القاع، تمد لجوه البحيرة شوية، وبعدين ترجع تجمع السمك اللى يكون اتجمع جوه الحفر الصغيرة دي، باديهم!!
بوغاز المعدية والشركة الهولندية
وفجأة حدث ما كنا قد توقعناه.. جرى على سطح البحيرة صوت موتور، ثم ظهر فى الأفق قارب بخارى مندفع ناحيتنا وقال الرجال: خفر السواحل جُم.
فقد رابهم ذلك التجمع فجاءوا وعثروا علينا، فقدمنا لهم أنفسنا، فطلبوا منا اصطحابهم إلى نقطة السواحل عند البوغاز، فقدمنا شكرنا للرجال الذين صاحبونا وركبنا معهم هبة وأنا.
وانطلق بنا القارب البخارى يشق ماء البحيرة، وأنا أتأمل هذا العالم الهادئ الساكن من العشب والماء، وما يجيش تحته من عوالم متباينة وغامضة، وأتساءل: كيف يمكن أن يكون محتاجا إلى قانون؟
قال الشاويش: المخالفات فى البحيرة كتير، خد عنك مثلا: بعض ناس تجيب حزمة غاب أو غصون شجر أو ذرة شامى وتزرعها فى البحيرة وتسيبها ليلة وتاخدها ثانى يوم يكون السمك الصغير الزريعة دخل فيها عشان ياكل، يصطادوه من غير مجهود!
والزريعة تأتى إلى البحيرة بطريقتين، فجميع الأسماك تبحث عن المياه الضحلة الدافئة لتضع بيضها، كل سمكة تضع ملايين من البيضات، ليموت منها ما يموت، وتضمن أن بعضها سيبقى ليحفظ النوع.
وأسماك النيل تضع بيضها فى الترع وفتحات المصارف، فيسوقه الفيضان إلى البحيرة لينمو فيها ويكبر، ويعود إلى النيل إن استطاع.
وأسماك البحر تدخل البحيرة عن طريق البوغاز، وتضع بيضها هناك، وحين ينمو البيض ويصبح سمكا يعود إلى البحر من جديد.
ومهمة رجال السواحل الحفاظ على هذه الزريعة الصغيرة لتنمو وتكبر، فالسمكة الكبيرة خير من الصغيرة لاشك، ولهذا يضعون القانون، ويحتمون أنواعا من الشباك للصيد، تتيح الفرصة لهذه الأسماك الصغيرة أن تنفذ منها، وتعيش فترة أخرى حتى تكبر، ويمكن صيدها فى تلك الحال. لكن بعض الناس لا يدركون هذا، فلا تعنيهم أخلاق الصيد، إنما يعنيهم إشباع حاجتهم العاجلة للطعام.
وأخذ الشاويش يفسر لى سبب ضيق الصيادين بالشركة الهولندية التى أخذت تصريحا لصيد الثعابين من البحيرات، إن هذه الشركة تقيم أقفاصا من الشبكات الحديدية عند فتحات البحيرة على البحر، فتمنع الثعابين من الخروج وتصيدها فى هذه الأقفاص، ولما كانت فتحات هذه الشبكة شديدة الضيق، فهى تحجز فيما تحجزه زريعة السمك التى نما عودها وكانت تنوى الخروج إلى البحر، والصياد الذى يعرف عمله جيدا يهمه أن تخرج هذه الزريعة إلى البحر لأنها ستعود إلى البحيرة بعد شهر أو اثنين كبيرة وضخمة وممتلئة لتضع بيضها، فيصيدها حينذاك..
كان القارب البخارى يمرق على الماء، فلمحنا الأرض تقترب، خط ضيق واه كأنه نوع من الظلال.. ثم بدأت الأرض تظهر، شريط رملى عليه بلدة المعدية التى أخذنا منها قواربنا الأولى.
ثم ظهرت فتحة البوغاز، والجسر الذى عبرناه داخل الأتوبيس.. ثم رأينا البحر ونحن داخل البحيرة.
كان الماء يخرج من البحيرة تحت الجسر ويدخل فى البحر الذى يمتد فسيحا إلى سواحل الشمال الإيطالية وغيرها، حتى يمتزج بالبحر الأسود فيه بالقرب من روسيا.. أى عالم ضيق متشابك ذلك العالم الذى نعيش فيه ويخيل أنه ممتد بلا نهاية.. إن كل الأشياء تذهب وتجئ وتشمخ ستتلاقى فى النهاية على صفحة هذه الكرة الدائرة فى الفضاء، المسماه بالأرض.
* نقلا عن بوابة الحضارات
بوابة الحضارات | رحلة صبرى موسى إلى بحيرة إدكو فى ستينيات القرن الماضي