سمعت صوت هاتفى الخليوي ،التقطه واجبت :
ـ الو
ـ الو
ـالسيدة ...................
ـ نعم
ـ لديك مواعيد مع الطبيب الساعة الثامنة مساءاليوم.
ـ شكرا
لا مزيد من التفاصيل ،التوتر المحموم يلعب بالسويعات القلائل التى تفصلنا عن المساء ...النهار يمضى ثقيلا مثقلا بالهموم والشكوك ،الامل والرجاء .
حل المساء ،الساعة تشير الى السابعة ،انطلقت بسيارتى لا ألوى على شئ ،وكل ما ابتغى بعض الأمل والكثير من الدعوات . ضغطت على ذر المذياع توقفت مؤشراته عند اذاعه البي بي سى ،اسمع دقات ساعة (البيج بن) ،سرى صوت عقاربها فى نفسي... فجاوبت دقات قلبي هتافها ،اختلطا معاً وكونا سمفونية ،كنت وحدى استمع لها . السيارة تسرع وتسرع والسمفونية فى اذنى تتغير نوتاتها وتتبدل مع كل دقيقة تمضى .
وصلت ،فدلفت الى المكان المحدد حيث الحقيقة والشك عدوان يلتقيان ويتعاركان ولايمكن ان يستسلما ابدا .قابلت وجوه كثيرة ،كلها تحمل اسراراً وآلاماً ، تحكيها تفاصيل وجوههم التى أتعبها الترقب وأضناها المرض .
بعد إنتظار دقائق ،جاءت الممرضة ، لتخبرينى أني ساقابل الطبيب بعد لحظات ، السمفونية الغريبة بدأت من جديد ،وهذه المره أحسست أن كل الذين يحيطون بى يستمعون لها ،بل ويترنمون على ايقاعها ، ووحدى انا أستمع بقلق وخوف .
اللحظات مضت ، أتت الممرضة وقادتنى الى غرفة الطبيب .وكم كان بارد الأعصاب عند مقابلتى ، بعد مقدمة لم اكن احفل بها ،ولم تزيد جمرى الا إتقاداً ولهيباً ،جاء الخبراليقين :
بعد إجراء الفحوصات اللازمة تبين لنا انكِ مصابة بمرض السرطان .
شئ ما اخمد الجمر المتقد داخلى ،ربما برود وهدوء الطبيب ، وهو يلقى الخبر .
سالت بصوت مبحوح ،كم تبقى من الزمن ؟؟
ـ سته اشهر ...
بعد حسابات بسيطة تبين لى ان الموعد سيكون في سبتمبر .
*********
خرجت من الغرفة ، وتركت الطبيب خلفى يوصينى بنصائح كثيرة لم اكترث لها ،فلا جدوى من الجدال . ركبت سيارتى، ولا اعرف وجهه محددة اقصدها ،والارض على اتساعها بدت لى كرقعة شطرنج صغيرة لاتسعنى لاتجول عليها . وانا مذهولة اخذت اٌقلب الشهور فى رأسي ، يوليو يسبقه يونيو يلحقهم اغسطس وسبتمبر قادمٌ قادم لا محال ،شعور الدهشة والحزن وقله الحيلة تملكانى.. فألجما الجسد الهذيل من الإنهيار .
مضى شريط حياتى وأمنياتى حلواً مراً بذاكرتى ، تذكرت يوم ولادة ابنتى (غالية) ، كانت معجزة انتظرنها لسنوات .وتذكرت فاجعة وفاة والدها ، عندما انبئونى بالخبر،تخدرت اطرافى ،ولم افق من صدمتى لشهور ،وقتها فكرت بالموت الذى زارنا فى دارنا، واخذ معه اجمل سنوات العمر ،وكم شعرت بالوحدة حينها وخفت من المسؤولية ،ولكن وجود (غالية ) ،كان يزيل اى غصه فى حلقى تكورها لى مصاعب الحياة . والان ماذا ستفعل (غالية) من دونى ؟كيف ستواجه عثرات الحياة وآلامها ؟الى من أدعها ؟إلى دنيا تتجهمها ام غريب قد يرهقه طلب الاهتمام بها ؟ عند ذلك الحد من التفكير استسلمت لبكاء حار ، و احسست انى اغرق فى بحر من الأحزان ،تتقاذفنى فيه امواج من اليأس والقلق ،شبح الموت يسيطرعليَ ،ولا قارب للنجاة لأطفو عليه ،سكن الليل فسكنت نفسي معه ،رحت أسبح بتفكيرى ،مقاومه تيار الأحزان ،ولكن مد اليأس وجذر الأمل اخذا يتلقفانى ، تارة أشك أن الطبيب قد اخطأ فى تشخيص حالتى وتارة اخرى أرى جسدى الضامر ووجهى المتعب فاعلم ان الشك بات يقينا، لا جدوى من الامل .
********
رجعت الى منزلى ،استلقيت على فراشي ،احسست لبرهه براحه عمت جسدى المنهك من المرض والهم والتفكير ،ولكن جيوش الهم بجحافلها التى كانت تعسكر فى عقلى اخذت تزحف وتزحف ،فأفزعت اى شعور للسكينة كان يمكن أن يخفف من مصيبتى ،تلك الليلة لم أنم ،استسلمت لمعركة دارت رحاها بعقلى ،كان فيها المنتصر الوحيد هو الحزن والخوف .
صوت اذان الفجر ،تسرب الى مسامعى جميلاً رائعاً ،يدعونى ان اذكر الله ،اجبت من فورى وتوضأت ،وفى اللحظة التى تذكرت فيها الله ،بدأ جرس الآيات القرآنية يطوف بعقلى ،" امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض االه مع الله قليلا ماتذكرون "، "الابذكر الله تطمئن القلوب " ، " واسجد واقترب " . خلعت نعلى وخلعته معهما الدنيا الزائفة التى لفظتنى ،واخذت اردد اسم الله القدير ـ الله اكبر الله اكبر ـ مسلمة القلب ، دامعه العينين ،ساجدة البدن ، وكم وجدت من سكينة واطمئنان ،وما أعظمه من رب ،ادعوه بقلبٍ سقيم ،فيجيبنى برحمةٍ شاملةٍ .
**********
أخذت الايام تتناقص تباعاً، وحيدتى (غالية) كانت تركض تلهو و تلعب ،احياناً تنتبه لعلامات المرض البادية على تسأل : إن كنت بخير ؟ اؤكد لها أنى بصحةٍ وعافية ،تكتفى بإبتسامةٍ بريئةٍ ترتسمُ على مُحياها ثم ما تلبث تركض لتلهوَ وتلعبُ مرةً أخرى ..
فى إحدى ايام شهر يونيو ،والجو خانقٌ وحار ، كانت صفحةُ السماء ملبدةً بالغيوم ،البرق يخطف الأنظار ،الرعدُ بدويه يعدُ بالكثير ، (غالية) تتوسد ذراعى ،تدفن وجهها الصغير فى صدرى كلما سمعت دوى الرعد ثم تخرجه مرة اخرى عندما تطمئن ، عندها كنا نتجاذب أطراف الحديث ،فكانت تضحك ،تتثاءب، وتفزع .... لا أعرف كيف قادنا الحديثُ لمناقشةِ فكرة الموت !! حاولت أن أتهرب وأراوغ ،ولكنها ألحت ،عندها قلت لها : أن الحياة رحلةٌ جميلة تنتهى عندما يأذن الله و ان ارواح الموتى تجتمع فى السماء ، وتنظر لأهل الارض تسلم عليهم وتعرفُ أخبارهم ، سألتني إن كان أباها يسلمُ علينا ويعرف أخبارنا؟ أجبتها : بألتاكيد ... وعندما أحسست أن كذبى لاقى قبولأً في نفسها ،أمعنت فى الكذب ،أخبرتها أن صوت الرعد والبرق ماهو الا سلامُ اهل السماء لأهل الارض ،وبما أنه يوجد فرد من أسرتنا فى السماء فيجب أن نستقبلهم بترحاب وفرح ،لا داعى للخوف لانهم يغضبون ويحزنون . سألتنى عدة اسأله عن الله ؟ وعن الروح ؟ ثم استسلمت لنوم عميق .
**************
فى صبيحة إحدى الايام التى تلت حوارنا سألتنى (غالية ) دون مقدمات :إن كان أهل السماء يعرفون أخبارنا ويسلمون علينا فكيف لنا ان نعرف أخبارهم ونسلم عليهم ؟ حينها لم اعرف كيف أجيبها ،واكتفيت بالصمت . وفى مساء نفس اليوم بعد تفكير عميق ، اهتديت لإجابة قلت لها: أنهم يتركون رسائل ،سألتنى :لماذا لم يترك والدها رسائل ؟ قلت لها : أنها كانت صغيرة جداً ولاتجيد القراءة لذلك أوصانى أن أسلم عليها وأبلغها بأشواقه وحبه لها . منذ ذلك اليوم أصبح همى الشاغل ان أكتب لها رسائل ،ولكننى لم اكن اُجيد الكتابة ،ولا أعرف كيف لي أن اُخاطب عقلها .ورغمَ ذلك أخذت اُحاول واُحاول الى
أن خرجت هذه الكلمات منى ...
عزيزتى (غالية) ..........
أعلم انكِ تسألين عشرات الأسئلة عن رحيلى ؟ هل تذكرين اليوم الذى تحاورنا فيه عن الموت ؟ وقلت لك أن الحياة رحلةً جميلةً تنتهى عندما يأذن الله !!! وهاهى رحلتى قد أنتهت ، روحى تُحلق فى السماء ، تتفقد أخبارك وتسلم عليك ، وانا هنا اراكي فى كل لحظة عندما تسيقظين تأكلين، تدرسين ، تنامين ..... كونى فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية ) ..................
كم إشتقت إليك ، أعرف أن الاسئلة تدور بخلدك ،و لا تجدين إجابات لها ؟وكم يؤرقك ذلك ، يوماً ما ستجدين إجابات شافية .. لعلك تتسألين إن كنت قد تألمت لحظةَ رحيلي ؟لأنك سألتنى نفس السؤال عندما أدركت ان اباك قد رحل ؟ عندها لم اجبك ،لأننى لم اكن اعلم ،والآن اؤكد لكى اننى لم اتالم اطلاقاً حتى وخذه الابرة التى كنا نخافها سوياً لم تكن تألمنى ، وقد يكون منبع ألمي أننى قد تركتك وحيدة ،ولكننى عندما أرى ضحكتك التى تشبه شقشقة العاصفير عند الصباح الباكر ،تختفى آلامي جميعها ........كونى فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية) ......................
كنت تحبين دائماً أن أسرد لك قصة يوم ميلادك ولماذا أسميناك (غالية) ، كم كنت تفرحين عندما أحكيها لك ، وها انا أسردها لك وأعلم أنكِ تبتسمين عندما تقرأين كلماتى هذه ،لا أود أن تفارق الابتسامة وجهك المضئ . كان الجو بارد جداً ،وكنا نتوقع مقدمك فى اى لحظة ، بعد انتظار يوم بأكمله فى المشفى ،خرجتى إلينا ،ففرحنا بك كثيراً ، أخذنا نبحث إليك عن اسم لمدة طويلة جداً ، حتى خفنا ان تكبرى دون أسم ، واخيراً اخترنا لك اسم (غالية ) لانك كنت أغلى ما نملك ................ ومازلت فكونى فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية) ......................
قد تلوميننى على هذا الفراق ،وقد تلومين الكون بكل نواميسه ، أريدك أن تعلمى أن فراقنا لم يكن صدفة ،انه وفق لخطة ،أحكمها الخالق عندما أختار لنا هذا المصير . وان كنت تشعرين بالخوف والوحدة الآن ،فأعلمى أن كل الظروف خلقت للتتغير ؟ فالليل مهما طال سيأتى الفجر ..................... فكونى فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية) ......................
أعلم أن كثير من الهموم و الاحزان قد تمكنت من قلبك ،فهى لاتفرق بين الكبير والصغير ، كنت أود أن أقبض على يدك الصغيرة ونتسكع فى الطرقات ،أعلمك كل ماتعملت ،أحاورك ،أناقشك وأنصحك ...، والآن اترك هذه المهمة للحياة فهى معلمة قديرة ،تعلمى منها ....... وكونى فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية) ......................
عندما تقرأين رسالتى هذه ،أعلم أنك أصبحت فتاة كبيرة ، وتعلمتي الكثير والمثير من الحياة ، وقد تتذكرين القليل من ملامح وجهى ،والكثير من أقوالى التى تركتها لك حبر على ورق ، وقد تلومينى أننى كذبت عليك ،بشأن البرق والرعد،وزيارات أهل السماء لأهل الارض ، انا لم أقصد سوى أن أزيل الخوف والوحدة اللذان يعيشان بداخلك . ................ أنت فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية) ......................
قديما سالتنى عن( الله) ؟لم أعرف كيف اجيبك ، كنت صغيرة جداً لتفهمين ، ولم أكن أملك الكلمات حينها لاشرح ليك .( الله) موجود فى كل مكان وزمان ،هو نور السموات والارض ،لاتدركه الابصار وهو يدرك كل شئ ، الجئي اليه فى كل كبيرة وصغيرة ،واسأليه أن يحفظ قلبك ويملأه بحبه سبحانه ،اذكرى الله واقرئ قرآنه ................. أنت فتاة مطيعة .
كتبت العديد من الرسائل لحبيبتى (غالية ) ، واخذت اتأهب لسبتمبر . سبتمبر الوحش الذى كنت أخافه وأرهبه ،سقطت أسنانه وروضته نفسي . .................((هزبراً أغلباً لاقى هزبراً)) .
* قصة فائزة بجائزة الطيب صالح للشباب (مركز عبد الكريم مرغني)
الدورة السابعة .
ـ الو
ـ الو
ـالسيدة ...................
ـ نعم
ـ لديك مواعيد مع الطبيب الساعة الثامنة مساءاليوم.
ـ شكرا
لا مزيد من التفاصيل ،التوتر المحموم يلعب بالسويعات القلائل التى تفصلنا عن المساء ...النهار يمضى ثقيلا مثقلا بالهموم والشكوك ،الامل والرجاء .
حل المساء ،الساعة تشير الى السابعة ،انطلقت بسيارتى لا ألوى على شئ ،وكل ما ابتغى بعض الأمل والكثير من الدعوات . ضغطت على ذر المذياع توقفت مؤشراته عند اذاعه البي بي سى ،اسمع دقات ساعة (البيج بن) ،سرى صوت عقاربها فى نفسي... فجاوبت دقات قلبي هتافها ،اختلطا معاً وكونا سمفونية ،كنت وحدى استمع لها . السيارة تسرع وتسرع والسمفونية فى اذنى تتغير نوتاتها وتتبدل مع كل دقيقة تمضى .
وصلت ،فدلفت الى المكان المحدد حيث الحقيقة والشك عدوان يلتقيان ويتعاركان ولايمكن ان يستسلما ابدا .قابلت وجوه كثيرة ،كلها تحمل اسراراً وآلاماً ، تحكيها تفاصيل وجوههم التى أتعبها الترقب وأضناها المرض .
بعد إنتظار دقائق ،جاءت الممرضة ، لتخبرينى أني ساقابل الطبيب بعد لحظات ، السمفونية الغريبة بدأت من جديد ،وهذه المره أحسست أن كل الذين يحيطون بى يستمعون لها ،بل ويترنمون على ايقاعها ، ووحدى انا أستمع بقلق وخوف .
اللحظات مضت ، أتت الممرضة وقادتنى الى غرفة الطبيب .وكم كان بارد الأعصاب عند مقابلتى ، بعد مقدمة لم اكن احفل بها ،ولم تزيد جمرى الا إتقاداً ولهيباً ،جاء الخبراليقين :
بعد إجراء الفحوصات اللازمة تبين لنا انكِ مصابة بمرض السرطان .
شئ ما اخمد الجمر المتقد داخلى ،ربما برود وهدوء الطبيب ، وهو يلقى الخبر .
سالت بصوت مبحوح ،كم تبقى من الزمن ؟؟
ـ سته اشهر ...
بعد حسابات بسيطة تبين لى ان الموعد سيكون في سبتمبر .
*********
خرجت من الغرفة ، وتركت الطبيب خلفى يوصينى بنصائح كثيرة لم اكترث لها ،فلا جدوى من الجدال . ركبت سيارتى، ولا اعرف وجهه محددة اقصدها ،والارض على اتساعها بدت لى كرقعة شطرنج صغيرة لاتسعنى لاتجول عليها . وانا مذهولة اخذت اٌقلب الشهور فى رأسي ، يوليو يسبقه يونيو يلحقهم اغسطس وسبتمبر قادمٌ قادم لا محال ،شعور الدهشة والحزن وقله الحيلة تملكانى.. فألجما الجسد الهذيل من الإنهيار .
مضى شريط حياتى وأمنياتى حلواً مراً بذاكرتى ، تذكرت يوم ولادة ابنتى (غالية) ، كانت معجزة انتظرنها لسنوات .وتذكرت فاجعة وفاة والدها ، عندما انبئونى بالخبر،تخدرت اطرافى ،ولم افق من صدمتى لشهور ،وقتها فكرت بالموت الذى زارنا فى دارنا، واخذ معه اجمل سنوات العمر ،وكم شعرت بالوحدة حينها وخفت من المسؤولية ،ولكن وجود (غالية ) ،كان يزيل اى غصه فى حلقى تكورها لى مصاعب الحياة . والان ماذا ستفعل (غالية) من دونى ؟كيف ستواجه عثرات الحياة وآلامها ؟الى من أدعها ؟إلى دنيا تتجهمها ام غريب قد يرهقه طلب الاهتمام بها ؟ عند ذلك الحد من التفكير استسلمت لبكاء حار ، و احسست انى اغرق فى بحر من الأحزان ،تتقاذفنى فيه امواج من اليأس والقلق ،شبح الموت يسيطرعليَ ،ولا قارب للنجاة لأطفو عليه ،سكن الليل فسكنت نفسي معه ،رحت أسبح بتفكيرى ،مقاومه تيار الأحزان ،ولكن مد اليأس وجذر الأمل اخذا يتلقفانى ، تارة أشك أن الطبيب قد اخطأ فى تشخيص حالتى وتارة اخرى أرى جسدى الضامر ووجهى المتعب فاعلم ان الشك بات يقينا، لا جدوى من الامل .
********
رجعت الى منزلى ،استلقيت على فراشي ،احسست لبرهه براحه عمت جسدى المنهك من المرض والهم والتفكير ،ولكن جيوش الهم بجحافلها التى كانت تعسكر فى عقلى اخذت تزحف وتزحف ،فأفزعت اى شعور للسكينة كان يمكن أن يخفف من مصيبتى ،تلك الليلة لم أنم ،استسلمت لمعركة دارت رحاها بعقلى ،كان فيها المنتصر الوحيد هو الحزن والخوف .
صوت اذان الفجر ،تسرب الى مسامعى جميلاً رائعاً ،يدعونى ان اذكر الله ،اجبت من فورى وتوضأت ،وفى اللحظة التى تذكرت فيها الله ،بدأ جرس الآيات القرآنية يطوف بعقلى ،" امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض االه مع الله قليلا ماتذكرون "، "الابذكر الله تطمئن القلوب " ، " واسجد واقترب " . خلعت نعلى وخلعته معهما الدنيا الزائفة التى لفظتنى ،واخذت اردد اسم الله القدير ـ الله اكبر الله اكبر ـ مسلمة القلب ، دامعه العينين ،ساجدة البدن ، وكم وجدت من سكينة واطمئنان ،وما أعظمه من رب ،ادعوه بقلبٍ سقيم ،فيجيبنى برحمةٍ شاملةٍ .
**********
أخذت الايام تتناقص تباعاً، وحيدتى (غالية) كانت تركض تلهو و تلعب ،احياناً تنتبه لعلامات المرض البادية على تسأل : إن كنت بخير ؟ اؤكد لها أنى بصحةٍ وعافية ،تكتفى بإبتسامةٍ بريئةٍ ترتسمُ على مُحياها ثم ما تلبث تركض لتلهوَ وتلعبُ مرةً أخرى ..
فى إحدى ايام شهر يونيو ،والجو خانقٌ وحار ، كانت صفحةُ السماء ملبدةً بالغيوم ،البرق يخطف الأنظار ،الرعدُ بدويه يعدُ بالكثير ، (غالية) تتوسد ذراعى ،تدفن وجهها الصغير فى صدرى كلما سمعت دوى الرعد ثم تخرجه مرة اخرى عندما تطمئن ، عندها كنا نتجاذب أطراف الحديث ،فكانت تضحك ،تتثاءب، وتفزع .... لا أعرف كيف قادنا الحديثُ لمناقشةِ فكرة الموت !! حاولت أن أتهرب وأراوغ ،ولكنها ألحت ،عندها قلت لها : أن الحياة رحلةٌ جميلة تنتهى عندما يأذن الله و ان ارواح الموتى تجتمع فى السماء ، وتنظر لأهل الارض تسلم عليهم وتعرفُ أخبارهم ، سألتني إن كان أباها يسلمُ علينا ويعرف أخبارنا؟ أجبتها : بألتاكيد ... وعندما أحسست أن كذبى لاقى قبولأً في نفسها ،أمعنت فى الكذب ،أخبرتها أن صوت الرعد والبرق ماهو الا سلامُ اهل السماء لأهل الارض ،وبما أنه يوجد فرد من أسرتنا فى السماء فيجب أن نستقبلهم بترحاب وفرح ،لا داعى للخوف لانهم يغضبون ويحزنون . سألتنى عدة اسأله عن الله ؟ وعن الروح ؟ ثم استسلمت لنوم عميق .
**************
فى صبيحة إحدى الايام التى تلت حوارنا سألتنى (غالية ) دون مقدمات :إن كان أهل السماء يعرفون أخبارنا ويسلمون علينا فكيف لنا ان نعرف أخبارهم ونسلم عليهم ؟ حينها لم اعرف كيف أجيبها ،واكتفيت بالصمت . وفى مساء نفس اليوم بعد تفكير عميق ، اهتديت لإجابة قلت لها: أنهم يتركون رسائل ،سألتنى :لماذا لم يترك والدها رسائل ؟ قلت لها : أنها كانت صغيرة جداً ولاتجيد القراءة لذلك أوصانى أن أسلم عليها وأبلغها بأشواقه وحبه لها . منذ ذلك اليوم أصبح همى الشاغل ان أكتب لها رسائل ،ولكننى لم اكن اُجيد الكتابة ،ولا أعرف كيف لي أن اُخاطب عقلها .ورغمَ ذلك أخذت اُحاول واُحاول الى
أن خرجت هذه الكلمات منى ...
عزيزتى (غالية) ..........
أعلم انكِ تسألين عشرات الأسئلة عن رحيلى ؟ هل تذكرين اليوم الذى تحاورنا فيه عن الموت ؟ وقلت لك أن الحياة رحلةً جميلةً تنتهى عندما يأذن الله !!! وهاهى رحلتى قد أنتهت ، روحى تُحلق فى السماء ، تتفقد أخبارك وتسلم عليك ، وانا هنا اراكي فى كل لحظة عندما تسيقظين تأكلين، تدرسين ، تنامين ..... كونى فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية ) ..................
كم إشتقت إليك ، أعرف أن الاسئلة تدور بخلدك ،و لا تجدين إجابات لها ؟وكم يؤرقك ذلك ، يوماً ما ستجدين إجابات شافية .. لعلك تتسألين إن كنت قد تألمت لحظةَ رحيلي ؟لأنك سألتنى نفس السؤال عندما أدركت ان اباك قد رحل ؟ عندها لم اجبك ،لأننى لم اكن اعلم ،والآن اؤكد لكى اننى لم اتالم اطلاقاً حتى وخذه الابرة التى كنا نخافها سوياً لم تكن تألمنى ، وقد يكون منبع ألمي أننى قد تركتك وحيدة ،ولكننى عندما أرى ضحكتك التى تشبه شقشقة العاصفير عند الصباح الباكر ،تختفى آلامي جميعها ........كونى فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية) ......................
كنت تحبين دائماً أن أسرد لك قصة يوم ميلادك ولماذا أسميناك (غالية) ، كم كنت تفرحين عندما أحكيها لك ، وها انا أسردها لك وأعلم أنكِ تبتسمين عندما تقرأين كلماتى هذه ،لا أود أن تفارق الابتسامة وجهك المضئ . كان الجو بارد جداً ،وكنا نتوقع مقدمك فى اى لحظة ، بعد انتظار يوم بأكمله فى المشفى ،خرجتى إلينا ،ففرحنا بك كثيراً ، أخذنا نبحث إليك عن اسم لمدة طويلة جداً ، حتى خفنا ان تكبرى دون أسم ، واخيراً اخترنا لك اسم (غالية ) لانك كنت أغلى ما نملك ................ ومازلت فكونى فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية) ......................
قد تلوميننى على هذا الفراق ،وقد تلومين الكون بكل نواميسه ، أريدك أن تعلمى أن فراقنا لم يكن صدفة ،انه وفق لخطة ،أحكمها الخالق عندما أختار لنا هذا المصير . وان كنت تشعرين بالخوف والوحدة الآن ،فأعلمى أن كل الظروف خلقت للتتغير ؟ فالليل مهما طال سيأتى الفجر ..................... فكونى فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية) ......................
أعلم أن كثير من الهموم و الاحزان قد تمكنت من قلبك ،فهى لاتفرق بين الكبير والصغير ، كنت أود أن أقبض على يدك الصغيرة ونتسكع فى الطرقات ،أعلمك كل ماتعملت ،أحاورك ،أناقشك وأنصحك ...، والآن اترك هذه المهمة للحياة فهى معلمة قديرة ،تعلمى منها ....... وكونى فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية) ......................
عندما تقرأين رسالتى هذه ،أعلم أنك أصبحت فتاة كبيرة ، وتعلمتي الكثير والمثير من الحياة ، وقد تتذكرين القليل من ملامح وجهى ،والكثير من أقوالى التى تركتها لك حبر على ورق ، وقد تلومينى أننى كذبت عليك ،بشأن البرق والرعد،وزيارات أهل السماء لأهل الارض ، انا لم أقصد سوى أن أزيل الخوف والوحدة اللذان يعيشان بداخلك . ................ أنت فتاة مطيعة .
عزيزتى (غالية) ......................
قديما سالتنى عن( الله) ؟لم أعرف كيف اجيبك ، كنت صغيرة جداً لتفهمين ، ولم أكن أملك الكلمات حينها لاشرح ليك .( الله) موجود فى كل مكان وزمان ،هو نور السموات والارض ،لاتدركه الابصار وهو يدرك كل شئ ، الجئي اليه فى كل كبيرة وصغيرة ،واسأليه أن يحفظ قلبك ويملأه بحبه سبحانه ،اذكرى الله واقرئ قرآنه ................. أنت فتاة مطيعة .
كتبت العديد من الرسائل لحبيبتى (غالية ) ، واخذت اتأهب لسبتمبر . سبتمبر الوحش الذى كنت أخافه وأرهبه ،سقطت أسنانه وروضته نفسي . .................((هزبراً أغلباً لاقى هزبراً)) .
* قصة فائزة بجائزة الطيب صالح للشباب (مركز عبد الكريم مرغني)
الدورة السابعة .