خير جليس عبد الفتاح كيليطو - تجربة في القراءة

حتى سنّ الثلاثين كنت لا أترك كتابا حتى أتمّ قراءته، وإذا لم أتم القراءة وفتحت كتابا جديدا كنتُ أشعر كأنّني أقترف إثما فظيعا، فأبادر بالعودة إلى الكتاب الأول. وكان الشعور نفسه ينتابني عندما كنت "أقفز" على بعض الصفحات ( كصفحات الوصف عند "بلزاك" ).
ثمّ تغيّرت الأمور : لم أعد أقرأ كتابا، أقصد : لم أعد أقرأ كتابا من أوّله إلى نهايته، ما عدا في حالات قليلة أذكر منها : الأطروحات التي أناقشها والمؤلّفات التي أدرّسها أو أكتب عنها، والروايات البوليسية طبعا. أبدأ قراءة كتاب وقد تمرّ عدّة سنوات قبل أن تنتهي القراءة. هذا يعني أنّني أقرأ عدّة كتب في وقت واحد، فمثلا اليوم قرأت ( أو تصفّحت ) الكتب التالية :
1 ـ القاموس الخَزَري: وهو كتاب لمؤلف يوغوسلافي ( على ما يبدو ) اسمه "ميلوراد بافيك". والكتاب رواية على شكل قاموس! لأوّل مرّة تصدر رواية بهذا الشكل، مرتّبة حسب التسلسل الأبجدي لأسماء الأشخاص، وللقارئ أن يشرع في القراءة من البداية أو من النهاية أو من الوسط. وهذه الرواية ـ القاموس في نسختين : نسخة ذكورية ( خاصة بالرجال ) ونسخة أنثوية ( خاصة بالنّساء ).
2 ـ مؤامرة المعتوهين ل"جون كنيدي تول" وهي رواية أمريكية صدرت في السنوات الأخيرة، وأعتبرها أعظم عمل روائي أمريكي. أمّا كاتبها فإنّ الحظّ لم يكن حليفه إذ رفض النّاشرون مخطوطته فانتحر. لكنّ أمّه حملت المخطوطة وألحّت على النّاشرين إلى أن قبل أحدهم نشرها. وعندما صدرت الرواية صادفت نجاحا باهرا. وأحرزت على أكبر جائزة أمريكية.
3 ـ الفارس السويدي لكاتب إسمه "ليو بيروز"وهو من معاصري كافكا ومن مدينة براغ وكتب بالألمانية أيضا. وقد بدأ الفرنسيون يكتشفونه ويشيدون بمزاياه ويتساءلون : لماذا اشتهر كافكا ولم يشتهر بيروز ؟ والواقع أنّ الاهتمام شبه المفرط بكافكا جعل النّاس لا يلتفتون إلى من عاصره من الكتّاب.
4 ـ "الحياة، طريقة استعمال" للكاتب الفرنسي "جورج بيريك"، وهي رواية تصف عمارة باريسية وتسرد سيرة الأشخاص الذين قطنوا فيها. ويمكن اعتبارها من أحسن ما كتبه الفرنسيون في هذا القرن. والكتاب يحمل عنوانا فرعيا. روايات، أي أنّنا أمام رواية تتضمّن عدّة روايات. ثمّ إنّ الكتاب يشتمل في نهايته على جدول لأسماء الأشخاص ، فلا بأس أن يطّلع القارئ عليه كما يطّلع على القاموس.
5 ـ الأوديسا : فتحت الكتاب لأبحث عن الجملة الآتية : ( يوجّه هوميروس قوله إلى ربّة الشّعر ): "احك هذه المغامرات وابدئي من حيث شئت". وعبثا بحثت في الكتاب عن الجملة التي يقول فيها هوميروس ما معناه : "إنّ الآلهة تسلّط المصائب على البشر حتى يتسنّى للأجيال القادمة أن تصوغ منها أناشيد".
6 ـ رسالة البصائر في المصائرورسالة في الصبابة والوجد لجمال الغيطاني, لم أجد اليوم المزاج اللاّزم لقراءة الكتاب الثاني ( لابدّ أن أعود إليه )، ولكنّ الكتاب الأول أعجبني كثيرا وأعتبره في مستوى "الزيني بركات".
7 ـ قاموي روبير، للبحث عن مدلول كلمة incurie وهي كلمة صادفتها منذ عشرات السنين ولم ينسنّ لي إلاّ اليوم أن أحيط بمعناها. كما بحثت في قاموس فرنسي ـ عربي عن مقابل لكلمة harceler.
صفحات من هنا وصفحات من هناك ... بهذه المناسبة أتذكّر أنّ الشاعر "فاليري" دعا إلى كتابة تاريخ للأدب لا يرد فيبه فيه ذكر للمؤلّفين! وقد أضيف : لا يرد فيه ذكر للمؤلّفات... "

( الملحق الثقافي لجريدة "الاتحاد الاشتراكي"، 22 أيريل 1989 )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى