يُروى أنه كان هناك رجلان من أهل الله في طريق سفرٍ من بلدة لأخرى، وفي الطريق مرّا بنهرٍ، ووجدا على ضفته امرأة تنتظر بمفردها في وقتٍ متأخر، وتبدو عليها ملامح الحزن والأسى، فسألاها: يا أختاه هل تحتاجين شيئًا نقدّمه لك؟ فقالت: أريد العبور للضفة الأخرى، لأعود لأولادي ولكنني تأخرت وأخاف الغرق، فسارع أحد الرجلين إليها وحنى ظهره وقال لها اركبي، فامتطت المرأةُ ظهرَه وعبرَ بها إلى الضفة الأخرى من النهر، وبعدها أنزلها وألقى عليها السلام، ثم انطلق مع صاحبه إلى وجهتهما. وبعد مسيرة يومين من السفر، قال له صاحبه: هناك سؤال يؤرقني طوال سفرنا، فهل لي أن أسألك إياه، فأشار إليه بالموافقة. فسأله: كيف لك وأنت شيخ عالم فاضل أن تمس امرأة لا تحل لك، بل وتحملها على ظهرك وتشعر بحرارة صدرها على ظهرك، وتحتّك أبدانكما أحدهما بالآخر، أليس هذا حرام؟ فأجابه صاحبه مبتسماً: والله يا صاحبي، لقد تركت أنا المرأة على ضفة النهر الأخرى قبل يومين، ولكن يبدو أنك لم تتركها طوال اليومين حتى هذه اللحظة!
تجسّد هذه القصة على بساطتها ووجازتها الفارق بين نمطين من أنماط التدين ينشغل أحدهما بالصورة، وينشغل الآخر بالإنسان ومبناه ويحاول مساعدته وانتشاله من الوقوع في ضيق النصوصية والتفسيرات الحرفية للدين، التي أضرت أهل الدين وانعكس ضررها وإزعاجها على الآخرين، ويُعرف من يُفعّلون هذه المعاني الإنسانية بالصّوفية، ويوصف أسلوب حياتهم وتدينهم بالتصوف، وفي هذا المقال بعض خواطر عن معنى التصوف والصوفية.
1-
كتب أحد المتصوفة المسلمين في الهند يومًا تعريفًا للتصوف اختصره في كلمة واحدة، التصوف هو الحرية. يظفر الباحث عن تعريف للتصوف بمئات الكلمات الموضّحة لهذا اللون من ألوان التدين، وكل كلمة تشير إلى معنى خاص بقائلها، سواء تحدثت عن السلوك الذي يتحلى به الصوفي، أو نظرته للعالم وطموحه للولوج إلى عالم آخر، لكنني أرى أن الحرية تعريف مناسب للتصوف، فالمريد الحقّ لهذا اللون من السلوك والفهم للدين حرّ من أسر الأفهام السابقة، لا يدخل بتحيّزٍ مسبق، ولا يحاكم ولا ينشغل بغير نفسه وبنائها، يرى نفسه مفقودًا من قبل ويبحث عمن يوجده.
2-
التصوّف المنقذ من الضلال والكاشف عن أحوال النفس يخبرنا بذلك أحد المتصوفة الكبار بعد محاكمته لنفسه ومعارفه السابقة، ترك كلّ شيء وتخلّى عن معارفه، وبحث من جديد لكن هذه المرة بحث في نفسه وروحه المريمية حتى يولد عيساه، بحث عن شيء مفقود، عن كنز خفيّ يمكن أن يرحل من أجله إلى بغداد أو مصر أو الهند لكن الإشارة تأتيه أن كنزك في داخلك فيُلقى على قلبه نور، يرى بعده ما كان محاطًا به وشُغل عنه بالقيل والقال والدليل والمدلول.
3-
التصوفُ يقظةُ قلبٍ وانتباه، يقرأ المسلمُ كلَّ يوم في صلواته (اهدنا الصراط المستقيم) بعضنا ينتبه للمنطوق والمطلوب، وبعضنا يردد دون أن يلمسه المعنى الكامن خلف الأحرف، الصّوفيُّ يطلبُ الطريقَ المستقيمَ طوال الوقت، حتى إذا تمّ له ذلك ووجد شيخًا مربيًا اتبع (طريقته)
وسار على نهجه تكون رحلته الحقيقية قد بدأت ومضى يخطو خطواته الأولى في طريق لطالما طلبه ووجد أن فيه نجاته.
4-
التّصوفُ هو النورُ السرمديُّ الذي تنبت بذرته الأولى من بواطن الأديان لتعلو بالإنسان فوق كل المذاهب والأديان.. ليتصل بما تقصده الأديان اتصالاً خاليًا من كلٍّ غرضٍ وطلبٍ، في تماهٍ روحيٍّ لا يمكن وصفه ولا يمكن تقليده أو جعله مثالا أو وراثة.. شأنه شأن النبوة في الاجتهاد والكفاح والاصطفاء إلا أنه لا يبحث عن سعادة أمة بل على تحقيق فرد!
الصوفي من إذا كان النهارُ لا يحتاجُ إلى شمس، وإذا كان الليلُ لا يحتاجُ إلى قمرٍ أو كواكب سيّارة. فالتصوف هو العدمُ الذي لا يحتاجُ إلى وجودٍ.
5-
تفيد القواعدُ في تنظيمِ العلاقاتِ بين أهلِ القيامِ والقعودِ والحركةِ والانفعالات، أما عند أهل القلوب فلا قواعد تجوز ولا تجب ولا يُكره ولا يُستحبُّ.. كل هذه الأحكام تغيب بميلاد علاقة من قلب صادق حيّ وتسقط عن النفس الكُلفة في آداء العبادات، يتحرك الصوفيُّ بربه من ربّه إلى ربّه.
6-
التّصوفُ طريقةٌ لفهم الدّين، كما أن علم الفقه طريقةٌ للفهم والأداء الصحيح للعبادات والمعاملات، وكما أن علم التفسير والتأويل للنصوص المقدسة طريقةٌ لتدبر معاني القرآن والحديث، وكما أن علم أصول الدين يعرفنا على العقائد والمنطق وغير ذلك، فمن خلال التصوف نتعرّف على أسلوب مختلف لفهم الدين.. ينشغلُ طالبُ الفقهِ بالأحكام، وينشغل الصوفي بأسرار العبادات.
ينشغل طالبُ العقائد بالفرق والملل والنحل والدفاع عن الإسلام، ويمد الصوفي بساط (لا إله إلاّ الله) ليشمل عالم الكائنات فلا يرى غير الله.
إن الصوفية لا تُلغي المصدر الخارجي للديانة، بل تحافظ عليه باحثة عن شيء أعمق، لتكتشف جانبًا جوّانيًا قد أُهمل، ويمكن أن نضرب مثالاً على ذلك برؤية الصوفية للقرآن، فإذا فتحنا أحد التفاسير الصوفية للقرآن، وليكن البحر المديد وهو لصوفي من المغرب اسمه ابن عجيبة سنرى أنه يقوم بتفسير الآية وتأويلها تبعًا للقواعد المعروفة في اللغة العربية، وكما جرت عادة المفسرين من قبله يهتم أحيانًا بسبب نزول الآية ويذكر أحيانًا بعض الأحاديث النبوية لكي يفسّر معنى من المعاني، ويذكر أن أحد العلماء السابقين قال في معنى الآية كذا وكذا، إنه يثبت المعاني السابقة ولا يلغيها، لكنه عبر الذوق والتجربة الصوفية يضيف معنى آخرا يكون كإشارة صوفية لشيء خفي، بين العبارة والإشارة رحلة الصوفي وسعيه نحو العالم الأسمى.
7-
الصوفيُّ يتمثّل بالنبي ويقتدي به، ويتدبّر سيرته ويحاول أن يكون مثله، أصحابُ النبي في بداية الإسلام فعلوا ذلك، حتى قال عنهم النبي –كما يُنسب إليه-: أصحابي كالنجوم .. وأصبح جمهور المؤمنين يرددون أن الصحابة كواكب بأيّهم اهتديتم اقتديم، فيمكن للمسلم أن يختار أي كوكب شاء ليقتدي به ..
كما اقتدوا هم من قبل بالنبي، فقد كان وِرد أحد المسلمين قديمًا الانشغال بالقصص والحكايات وتلاوة التوراة والإنجيل والقران كل واحدٍ منهم في ليلة وظلّ مواظبًا على ذلك حتى الممات، وتترجم المرويات مدى التزامه بورده فأغلب المرويات المنسوبة إليه: (ورد في التوراة كذا) أو (كان من بني إسرائيل كذا) أو (قال المسيح عليه السلام).
ووِرْدُ أحدهم كان العناية بنصوص الوحي، فكان يسجّل كل دقيقة من دقائقه حتى حواشي المؤمنين على نص الوحي سجّلها، وكان من الإخلاص في التسجيل بحيث ظنّ من أتى بعده أن (القرآن- قرآنان) لا قرآنًا واحدًا.
وورد أحدهم كان جمع كل لفظة أو كلمة ينطق بها الصادقُ الأمين، حتى أن مسلمة اليوم لا يزالون في شغل به هل كان لا يشبع ويملأ بطنه مقابل ذلك ؟! وهل أكثر من المرويات؟! وهل دسّ المدسوسات والحمية تعلو عند كل فريق منهم لأجل شخصه ولِما رواه من أقوال.. ولا إنتاج لهم إلا الصراخ وإعلان النفير! وورد أحدهم كان التجارة الدائمة وتحويل التراب إلى ذهب! وورد أحدهم كان العزلة والانفراد بعيدًا عن صخب أمثاله ممن استحقوا وصف (الأصحاب) ولا يدركه غيرهم!
وورد أحدهم كان قتال المنكرين!
وورد أحدهم كان البهرج وبناء الممالك!
وورد أحدهم كان إطعام الطعام والسقاية!
وورد أحدهم كان البكاء! كلٌّ قد علِم صلاته وتسبيحه !
فالوِرْدُ بالنسبة لي سواء كان للصوفي أو غيره من جمهور المتدينين هو أمرٌ واظب عليه، ورأى في المواظبة عليه تربية له وبناء وتجدد للحياة، وله الحق وحده دون غيره أن يجدد في طريقة فعله كما يشاء، فهو كوسائل التربية مرهونة بعصرها، فمن يحفظ القرآن اليوم لم يعد يكتب على لوح الصفيح أو الحديد أو الخشب بفرشاة الحبر، فقد تجددت الدنيا من حوله.
8- الصوفيةُ كلمةٌ جديدة؟ ربما صحّ ذلك إن بحثنا عن استخدامها في عصر الإسلام الأول، وإن كنا قد رأينا كلَّ المبادئ والأفكار الصوفية مجسّدة في حياة السابقين، فالبحث عن الحقيقة يمكن أن نقرأ عنه في سيرة سلمان الفارسي أو عبد الله بن سلام من صحابة النبي، والسعي في خدمة الآخرين والإحساس بمعاناتهم يمكن أن نراه في سلوك أبي ذر الغفاري، والتبتل ومحاسبة النفس وترويضها نراه عند كثيرين منهم، نسمع اليوم كلمة التصوف على لسان المنكر والمؤيد ويوصف بالصوفي ملايين من الناس دون أن نجد وجودًا موضوعيًا لها بقدر هذا الصخب، إذ الصوفي الحقّ أندر من الكبريت الأحمر، ولعل سيرة الرومي وشمس تبريزي والشعرانيّ والخوّاص خيرُ دليل على هذا.
9- الصوفيُّ كادحٌ إلى ربّه كدحًا فملاقيه، يؤمن بأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، كما قال النبي – في مروية شهيرة عند الصوفية- ذات يومٍ لأحد من أصحابه بعد أن عاد من حربه مع المشركين: (رجعنا من الجهاد الأصغر ، إلى الجهاد الأكبر). هذا هو الجهاد الذي نحتاجه اليوم في وقت تتصاعد فيه موجات العنف، ويشاهد الناس الدمار والاقتتال كل لحظة شرقًا وغربًا، فمن أراد بنفسه والآخرين خيرًا انتبه لجهاد نفسه وطوّر ما لديه وتعهد بذرته الإنسانية بالعناية والصقل حتى يظهر في دنيانا ما يساهم في نشر الجمال والحقّ.
* عن بوابة الحضارات:
بوابة الحضارات | الكاشف عن أحوال النفس.. في معنى التصوف والصوفية
تجسّد هذه القصة على بساطتها ووجازتها الفارق بين نمطين من أنماط التدين ينشغل أحدهما بالصورة، وينشغل الآخر بالإنسان ومبناه ويحاول مساعدته وانتشاله من الوقوع في ضيق النصوصية والتفسيرات الحرفية للدين، التي أضرت أهل الدين وانعكس ضررها وإزعاجها على الآخرين، ويُعرف من يُفعّلون هذه المعاني الإنسانية بالصّوفية، ويوصف أسلوب حياتهم وتدينهم بالتصوف، وفي هذا المقال بعض خواطر عن معنى التصوف والصوفية.
1-
كتب أحد المتصوفة المسلمين في الهند يومًا تعريفًا للتصوف اختصره في كلمة واحدة، التصوف هو الحرية. يظفر الباحث عن تعريف للتصوف بمئات الكلمات الموضّحة لهذا اللون من ألوان التدين، وكل كلمة تشير إلى معنى خاص بقائلها، سواء تحدثت عن السلوك الذي يتحلى به الصوفي، أو نظرته للعالم وطموحه للولوج إلى عالم آخر، لكنني أرى أن الحرية تعريف مناسب للتصوف، فالمريد الحقّ لهذا اللون من السلوك والفهم للدين حرّ من أسر الأفهام السابقة، لا يدخل بتحيّزٍ مسبق، ولا يحاكم ولا ينشغل بغير نفسه وبنائها، يرى نفسه مفقودًا من قبل ويبحث عمن يوجده.
2-
التصوّف المنقذ من الضلال والكاشف عن أحوال النفس يخبرنا بذلك أحد المتصوفة الكبار بعد محاكمته لنفسه ومعارفه السابقة، ترك كلّ شيء وتخلّى عن معارفه، وبحث من جديد لكن هذه المرة بحث في نفسه وروحه المريمية حتى يولد عيساه، بحث عن شيء مفقود، عن كنز خفيّ يمكن أن يرحل من أجله إلى بغداد أو مصر أو الهند لكن الإشارة تأتيه أن كنزك في داخلك فيُلقى على قلبه نور، يرى بعده ما كان محاطًا به وشُغل عنه بالقيل والقال والدليل والمدلول.
3-
التصوفُ يقظةُ قلبٍ وانتباه، يقرأ المسلمُ كلَّ يوم في صلواته (اهدنا الصراط المستقيم) بعضنا ينتبه للمنطوق والمطلوب، وبعضنا يردد دون أن يلمسه المعنى الكامن خلف الأحرف، الصّوفيُّ يطلبُ الطريقَ المستقيمَ طوال الوقت، حتى إذا تمّ له ذلك ووجد شيخًا مربيًا اتبع (طريقته)
وسار على نهجه تكون رحلته الحقيقية قد بدأت ومضى يخطو خطواته الأولى في طريق لطالما طلبه ووجد أن فيه نجاته.
4-
التّصوفُ هو النورُ السرمديُّ الذي تنبت بذرته الأولى من بواطن الأديان لتعلو بالإنسان فوق كل المذاهب والأديان.. ليتصل بما تقصده الأديان اتصالاً خاليًا من كلٍّ غرضٍ وطلبٍ، في تماهٍ روحيٍّ لا يمكن وصفه ولا يمكن تقليده أو جعله مثالا أو وراثة.. شأنه شأن النبوة في الاجتهاد والكفاح والاصطفاء إلا أنه لا يبحث عن سعادة أمة بل على تحقيق فرد!
الصوفي من إذا كان النهارُ لا يحتاجُ إلى شمس، وإذا كان الليلُ لا يحتاجُ إلى قمرٍ أو كواكب سيّارة. فالتصوف هو العدمُ الذي لا يحتاجُ إلى وجودٍ.
5-
تفيد القواعدُ في تنظيمِ العلاقاتِ بين أهلِ القيامِ والقعودِ والحركةِ والانفعالات، أما عند أهل القلوب فلا قواعد تجوز ولا تجب ولا يُكره ولا يُستحبُّ.. كل هذه الأحكام تغيب بميلاد علاقة من قلب صادق حيّ وتسقط عن النفس الكُلفة في آداء العبادات، يتحرك الصوفيُّ بربه من ربّه إلى ربّه.
6-
التّصوفُ طريقةٌ لفهم الدّين، كما أن علم الفقه طريقةٌ للفهم والأداء الصحيح للعبادات والمعاملات، وكما أن علم التفسير والتأويل للنصوص المقدسة طريقةٌ لتدبر معاني القرآن والحديث، وكما أن علم أصول الدين يعرفنا على العقائد والمنطق وغير ذلك، فمن خلال التصوف نتعرّف على أسلوب مختلف لفهم الدين.. ينشغلُ طالبُ الفقهِ بالأحكام، وينشغل الصوفي بأسرار العبادات.
ينشغل طالبُ العقائد بالفرق والملل والنحل والدفاع عن الإسلام، ويمد الصوفي بساط (لا إله إلاّ الله) ليشمل عالم الكائنات فلا يرى غير الله.
إن الصوفية لا تُلغي المصدر الخارجي للديانة، بل تحافظ عليه باحثة عن شيء أعمق، لتكتشف جانبًا جوّانيًا قد أُهمل، ويمكن أن نضرب مثالاً على ذلك برؤية الصوفية للقرآن، فإذا فتحنا أحد التفاسير الصوفية للقرآن، وليكن البحر المديد وهو لصوفي من المغرب اسمه ابن عجيبة سنرى أنه يقوم بتفسير الآية وتأويلها تبعًا للقواعد المعروفة في اللغة العربية، وكما جرت عادة المفسرين من قبله يهتم أحيانًا بسبب نزول الآية ويذكر أحيانًا بعض الأحاديث النبوية لكي يفسّر معنى من المعاني، ويذكر أن أحد العلماء السابقين قال في معنى الآية كذا وكذا، إنه يثبت المعاني السابقة ولا يلغيها، لكنه عبر الذوق والتجربة الصوفية يضيف معنى آخرا يكون كإشارة صوفية لشيء خفي، بين العبارة والإشارة رحلة الصوفي وسعيه نحو العالم الأسمى.
7-
الصوفيُّ يتمثّل بالنبي ويقتدي به، ويتدبّر سيرته ويحاول أن يكون مثله، أصحابُ النبي في بداية الإسلام فعلوا ذلك، حتى قال عنهم النبي –كما يُنسب إليه-: أصحابي كالنجوم .. وأصبح جمهور المؤمنين يرددون أن الصحابة كواكب بأيّهم اهتديتم اقتديم، فيمكن للمسلم أن يختار أي كوكب شاء ليقتدي به ..
كما اقتدوا هم من قبل بالنبي، فقد كان وِرد أحد المسلمين قديمًا الانشغال بالقصص والحكايات وتلاوة التوراة والإنجيل والقران كل واحدٍ منهم في ليلة وظلّ مواظبًا على ذلك حتى الممات، وتترجم المرويات مدى التزامه بورده فأغلب المرويات المنسوبة إليه: (ورد في التوراة كذا) أو (كان من بني إسرائيل كذا) أو (قال المسيح عليه السلام).
ووِرْدُ أحدهم كان العناية بنصوص الوحي، فكان يسجّل كل دقيقة من دقائقه حتى حواشي المؤمنين على نص الوحي سجّلها، وكان من الإخلاص في التسجيل بحيث ظنّ من أتى بعده أن (القرآن- قرآنان) لا قرآنًا واحدًا.
وورد أحدهم كان جمع كل لفظة أو كلمة ينطق بها الصادقُ الأمين، حتى أن مسلمة اليوم لا يزالون في شغل به هل كان لا يشبع ويملأ بطنه مقابل ذلك ؟! وهل أكثر من المرويات؟! وهل دسّ المدسوسات والحمية تعلو عند كل فريق منهم لأجل شخصه ولِما رواه من أقوال.. ولا إنتاج لهم إلا الصراخ وإعلان النفير! وورد أحدهم كان التجارة الدائمة وتحويل التراب إلى ذهب! وورد أحدهم كان العزلة والانفراد بعيدًا عن صخب أمثاله ممن استحقوا وصف (الأصحاب) ولا يدركه غيرهم!
وورد أحدهم كان قتال المنكرين!
وورد أحدهم كان البهرج وبناء الممالك!
وورد أحدهم كان إطعام الطعام والسقاية!
وورد أحدهم كان البكاء! كلٌّ قد علِم صلاته وتسبيحه !
فالوِرْدُ بالنسبة لي سواء كان للصوفي أو غيره من جمهور المتدينين هو أمرٌ واظب عليه، ورأى في المواظبة عليه تربية له وبناء وتجدد للحياة، وله الحق وحده دون غيره أن يجدد في طريقة فعله كما يشاء، فهو كوسائل التربية مرهونة بعصرها، فمن يحفظ القرآن اليوم لم يعد يكتب على لوح الصفيح أو الحديد أو الخشب بفرشاة الحبر، فقد تجددت الدنيا من حوله.
8- الصوفيةُ كلمةٌ جديدة؟ ربما صحّ ذلك إن بحثنا عن استخدامها في عصر الإسلام الأول، وإن كنا قد رأينا كلَّ المبادئ والأفكار الصوفية مجسّدة في حياة السابقين، فالبحث عن الحقيقة يمكن أن نقرأ عنه في سيرة سلمان الفارسي أو عبد الله بن سلام من صحابة النبي، والسعي في خدمة الآخرين والإحساس بمعاناتهم يمكن أن نراه في سلوك أبي ذر الغفاري، والتبتل ومحاسبة النفس وترويضها نراه عند كثيرين منهم، نسمع اليوم كلمة التصوف على لسان المنكر والمؤيد ويوصف بالصوفي ملايين من الناس دون أن نجد وجودًا موضوعيًا لها بقدر هذا الصخب، إذ الصوفي الحقّ أندر من الكبريت الأحمر، ولعل سيرة الرومي وشمس تبريزي والشعرانيّ والخوّاص خيرُ دليل على هذا.
9- الصوفيُّ كادحٌ إلى ربّه كدحًا فملاقيه، يؤمن بأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، كما قال النبي – في مروية شهيرة عند الصوفية- ذات يومٍ لأحد من أصحابه بعد أن عاد من حربه مع المشركين: (رجعنا من الجهاد الأصغر ، إلى الجهاد الأكبر). هذا هو الجهاد الذي نحتاجه اليوم في وقت تتصاعد فيه موجات العنف، ويشاهد الناس الدمار والاقتتال كل لحظة شرقًا وغربًا، فمن أراد بنفسه والآخرين خيرًا انتبه لجهاد نفسه وطوّر ما لديه وتعهد بذرته الإنسانية بالعناية والصقل حتى يظهر في دنيانا ما يساهم في نشر الجمال والحقّ.
* عن بوابة الحضارات:
بوابة الحضارات | الكاشف عن أحوال النفس.. في معنى التصوف والصوفية