كذب الذين اتهموه بالبحث عن الحقيقة. هو لا يهمه أن يعرف تلك الحقيقة في شيء. إنه فقط يبحث عن شيء من الفرح الممكن حتى يكون كالناس جميعا، كما يقول دائما. وجهه شاحب. و"شرارة" الحمّى ما تزال على حالها عالقة به، تفعل في جسده النحيل فعل الموج في الصخور. أحيانا تنخفض حرارتها إلى أدناها، فيبدو شخصا طبيعيا. وأحيانا أخرى يشعر بها كفوهة فرن في جسده، ليجد نفسه يتصرف كالمجنون. شعره أشعث طويل ومتدفق على شكل أحبال ملفوفة جافة، ملقى بفوضى على كتفيه العريضين، كما لو كان شعر مجذوب تائه أو أبله طائش، غير مهتم بمظهره ولا بما يجري حوله. لحيته غريبة الشكل والمعنى. تبدو كثيفة وممزوجة بشاربه الغزير كشارب نيتشه. لحيته لا تشبه لحية بلادن.. ولا لحية ماركس.. هي لحية عجيبة ومن نوع فريد. لم يسبق له أن قصها أو حتى شذبها منذ طلت شعيراتها الصغرى في ذقنه المقعر حين كنا معا ندرس في ثانوية عبد الله بن ياسين. من رآه يظنه قسّا أو من ثوار أفغانستان. يغلب لون الشيب في لحيته الطويلة على لونها الأسود الذي يخترقها طولا وعرضا. لحية مثيرة بالفعل لشغب الدهشة والسؤال. لا أعلم كيف سارع إليه لون الشيب في لحيته بهذه الصورة العجيبة، مع أننا في نفس العمر تقريبا. لقد تسببت له تلك اللحية الغريبة في شكلها ولونها ونوعها في الكثير من المضايقات مع شيخ الدوار والسلطة المحلية، وكذلك في العديد من المشاكل مع أقرب الناس إليه. منهم زوجته نفسها التي طلقت منه بسبب تلك اللحية اللعينة المعلقة من "ذقن عتروس غير مكتمل". هكذا كانت تسخر منه وتنتقده زوجته ضاحكة ليتخلص من لحيته. لكنه، لما أصرّ الرجل على الإبقاء بلحيته كما هي، وفشلت الزوجة في إقناعه بتغيير طبعه وموقفه المتشدد، طلبت منه الانفصال النهائي والعيش بعيدا عنه. هي من بادرت بذلك. رغم أنهما لم يمض على زواجهما سوى أشهر معدودة. كان ذلك منذ لحظة شبابه الأول عندما كان يعمل كحارس ليلي في محطة وقود، وأيضا كنتيجة لتفكير أهله بأن الزواج سيخفف من عزلته القصوى، وسيجعله قويا مندمجا بشكل أفضل في محيطه الاجتماعي كما كان سابقا قبل مرضه. لكن العكس هو الذي حصل.
لقد تعمقت طبائعه الغريبة، وازدادت درجة الحمّى في رأسه وانحرفت سلوكيات جسده. لقد بات بوجمعة شخصا مختلفا تماما. يانعا، متوترا، كهلا، يشعر بالوقت يمر بسرعة، وهو في الأربعين من عمره، غير أنه يبدو كما لو هو في عمر الستين أو أكثر. لهذا، فضل الرجل، دون سابق إنذار، أن يترك الأرض التي رأى فيها النور ويرحل بعيدا إلى قرية صغيرة في قمة الجبل المقابل لقريته. أو على الأصح، هرب إليها صاعدا إلى الجبل، يحمل معه أفكاره الغريبة، وخاصة مرضه بالحمّى التي تعاوده بين الفينة والأخرى. لم ينفع معه طبيب ولا مشعوذ ولا فقيه. هجر أرضه الطيبة "الدريوش"، لأنه لم يعد لديه فيها ما يغذي هويته المشروخة، ولا ما يثير شغفه وبقاءه بين مبانيها الشاهقة، وأزقتها الموصدة في وجهه، والتي أصبحت تعجّ بالعربات اليدوية والمتنقلة بالخضر والفواكه "المسمومة"، حسب تعبيره. لقد باتت تلك الأزقة المنفية وراء حجاب زيف الإنسان وقسوة الزمن، توجعه في داخله الحي.. توجع حواسه ونفسه وجسده عندما يمر منها. كان يطيل الدوران والجولان في الشوارع دون أن يتعرف إلى الوجوه المحيطة به. إنه يحس فيها كما لو كان شخصا غريبا في دواره، وبين جدران دروبه الضيقة التي قضى فيها أحلى أيام طفولته المبكرة. لهذا، كان دوما مشتاقا للرحيل، ميالا إلى العزلة القصوى، حزينا وقلقا وحائرا. كان لابد إذن أن يترك هذه الأرض التي خربوها، ليبحث له عن شيء من الفرح الجميل خارج أسوارها المفترضة، فرح يراه حلا مناسبا لوضعه النفسي المتأزم، ربما قد يعيد إليه نوعا من التوازن الجسدي والنفسي، وبصيصا من الأمل في غد مشرق يجعله يشعر بحريته المفتقدة، وهويته الجريحة، ووجوده الطبيعي كشخص يجب أن يكون سعيدا على هذه الأرض. هكذا يفكر بوجمعة.
قيل لي إنه عندما وصل إلى الجبل، اعتزل بنفسه وبمعية أناه المنهارة في كوخ حقير وبسيط، وجده جاهزا، بعيدا عن أعين الناس في مقبرة أو شبه مقبرة، في قمة الجبل.. وهي على كل حال، مقبرة واسعة وهادئة، احتضنته بذراعيها القويتين الدافئتين في وقت تخلص منه الجميع، وكان فيها محتاجا إلى حضن مكان يحتضنه.. حتى وإن كانت هذه المقبرة بلا أسوار ولا أبواب ولا أقفال، ومحاطة بالكلاب الضالة، وبذئاب براري الجبل المفترسة. لكنها كانت مقبرة مفتوحة للجميع، مفتوحة حتى في وجه الحيوان الودود، وتوجد على بساط الأرض الجبلية المعشوشبة بنبات الشيح، والمزروعة بعشرات من أشجار اللوز الكثيفة. هواؤها منعش. تطل على فراغ فجّ هائل بمعية زرقة فضاء السماء الرحبة واللامحدودة. ربما لهذه الأسباب ولغيرها اختار بوجمعة هذه المقبرة لتكون مقرا جبليا لإقامته الأبدية، وكذلك بدلا عن قريته التي شعر فيها بضيق فظيع، وبأنفاسه تختنق وتضعف وتنقطع بين الفينة والأخرى كأنفاس غريق في يمّ عميق. أما حين تأتيه لعنة الحمّى فحدث بلا حرج. إنه لا يعرف حينذاك رأسه من قدميه.
احتفظ بوجمعة لنفسه في كوخه الجبلي بنافذة واحدة فقط، نافذة كثقب عشوائي في الجدران المقابل لطلعة الشمس. وقام بإغلاق النافذتين الأخريين، ليدخل منها نور شمس الصباح، ويطل منها هو عند كل غروبها في المساء الموالي على العالم الجبلي الفسيح المحيط به.
لقد اختار الرجل أن يعتزل في مقبرة مهمشة كالعديد من مقابر فقراء الدنيا، لدفن الموتى في حفر ضيقة تتسع لقامات بشرية، ثم تهمل إلى يوم الدين. حرفة حفار القبور هي أعظم حرفة في العالم. تجربة تجعلك قريبا من رائحة التراب، بل قريبا جدا من الخيط الرفيع الموجود بين الحياة والموت. إنها المفارقة العجيبة القائمة بين حب البقاء والخوف من العدم. لكن، هكذا يحضر النسيان. الوصفة الرائعة التي تجعل الإنسان ينسى ( يفكر بوجمعة ) "موتاه الذين كانوا في حياتهم أقرب إليهم من ظلالهم، بمجرد دفنهم ووضع جثامينهم المعطرة والملفوفة داخل اللون الأبيض تحت التراب المبلل بالماء ؟ لتوضع الأشواك اليابسة فوق قبر الميت، بعد أن يثبتوا عليه صخرتين كبيرتين متقابلتين على طول قامته. هكذا هي حال قبور البسطاء في كل أمكنة العالم: توضع الصخرة الأولى على موقع الرأس، والصخرة الثانية عند القدمين. وبين الرأس والقدمين مساحات طويلة من ألم الفراق الموجع الذي لن تشفيه كل أدوية الدنيا..". هنا يكمن شبح الفرح الذي يبحث عنه بوجمعة، حيث توجد حقيقته موزعة بين أرضه في القرية الحبيبة التي أنجبته، وفضاء قرية بديلة أخرى في قمة الجبل المعزول عن العالم، حيث امتهن مختارا حرفة حفار قبورها بصدر رحب.. إلا أن أرضه الآن تحولت بقدرة قادر، وفي لمح البصر، إلى آلة جهنمية متوحشة تلتهم الحياة الجميلة التهاما.
لكن السي بوجمعة كما أصبح يسمى، فجأة اختار هذه المرة ودون المرات الأخرى وبعد تفكير عميق، أن يستجيب لنداء الشوق الأكبر، ويعود إلى دواره "الدريوش"..، أرضه الأم دون منازع، بعد سنوات طويلة من الانقطاع والغياب الاختياري الموجع. هو في الحقيقة لا أعرف هل هو غياب اختياري أم تغييب اضطراري ..؟ عاد الرجل بعد أن ملّ من حفر القبور بفأسه الصدأة، وسئم من فعل دفن جثامين الموتى الذي لا يتوقف. لقد اقتنع بوجمعة بعد سنوات منفاه في الجبل، أنه لا ثمّة فرق كبير بين الجثامين النائمة تحت التراب في قبور قمة جبل "أيت بوعيش"، وقامات الجثامين المتحركة كالدمى فوق التراب في الشوارع الواسعة لمدينة "الدريوش". سلّم على أهالي القرية الذين عرفوه طيبا، وعاشروه حكيما ومتعاونا طيلة مدة عشر سنوات التي قضاها بينهم داخل مقبرة القرية. تقبّل هداياهم بصدر رحب: حليب الماعز الطازج الذي يعجبه شربه مع الثمر المحلي، وقنينة زيت الزيتون وخبز أحرش، وحبات اللوز العاري من القشور الذي يحبه حتى النخاع. وضع الكل في كيس مخيط وعقده عقدتين، وحمله على ظهره، ثم ودع الجميع هابطا الأدراج الحجرية لجبل "أيت بوعيش" كالفارس نحو مدينته. هو ذا اليوم إذن يستجيب بوجمعة لقوة سؤال الزمن القاسي، ويعود قويا إلى مكان كان إلى وقت قريب، وهو في قمة الجبل، مهجورا في ذاكرته الموشومة بالعلامات الخضراء..، علامات الحمّى القديمة وخيباته الغائرة في الزمن الغابر، وها هي ذي الآن قد أشرقت فيه كطلعة الشمس في زمن حياة وقته الحالي. بات الرجل مقتنعا أن ذاكرة الإنسان لا تشيخ أبدا، مهما تعرضت لمختلف أنواع الإنهاك واكتساح أتربة التلف الغادرة. ربما لو لم يعد إلى أرضه في الوقت المناسب، لتحولت ذاكرته إلى ورم موبوء خبيث. ولتمّ دفنه في مقبرة جبل "أيت بوعيش" مع موتى القرية التي أحسنت استضافته حين نبذته حجارة أرضه. لهذا، فمهما حاولوا سابقا، وحتى حاليا، أن يفرضوا عليه أن ينسى، بإبعاده الرمزي عن أرضه، فهم لم يفلحوا، ولن يفلحوا في ذلك أبدا. هل هناك في الحياة من ينسى وشم أرضه التي أنجبته وكانت السبب في وجوده؟ حتى الحيوان الذي يعتبره بوجمعة الأصل الطبيعي للإنسان الذي كرمه الله، يظل متمسكا بالأمكنة الأولى لوجوده إلى آخر أنفاسه. تأكد الآن بالفعل أنه يملك حقيقة ذاكرة حية، وليس قطعة غيار داخل رأس مركبة في جسد مترهل، كما قال له فقيه الدوار ذات يوم، حين كان يتعثر في حفظ الآيات القرآنية، وصفحة اللوح الخشبي اللعين يرتعش بين يديه القصيرتين، وهو ما يزال طفلا صغيرا يخطو خطواته الأولى في دنيا الحياة. هل الغريب هو من لا هوية له ؟ فلمَ إذن كان مصرّا على أنه إنسان غريب الأطوار وبدون هوية.. ؟ هكذا يتساءل بوجمعة وهو في طريقه إلى ما تبقى من معالم دواره "الدريوش" الذي تغير كثيرا. الدوار الذي أصبح بمثابة أمكنة عطشى، يلتف بجسدها البض أخطبوط المدينة الذي ما فتئ ينمو ويكبر، حسب تعبيره.
إن انفصاله الحالي عن المقبرة، بعد أن كان جزءا منها سابقا، ووطد علاقاته مع سكان القرية الجبلية، ثم عودته المفاجئة إلى موقع بعض وشوم دوار "الدريوش"، مسقط رأسه، هو دليل قاطع على أنه إنسان حيّ وصاحب حق وهوية متجذرة.. وما ضاع حق يطلبه صاحبه. إذن، قد يكون المرء غريبا، لكن هذا لا يعني أنه فقد هويته التي لا يمكن أن تفتقد إلا بمعنى واحد، هو عندما يجن المرء ويدخل إلى عوالم حياة الجنون اللامتناهي.. في هذه الحالة الموت أرحم له من البقاء.
يبدو لون وجهه وكفيه أقرب إلى لون الغروب. أو بالأصح، لون مزيج بين شيء من الغروب المسائي وطينة الأرض المبللة بماء المطر في أول الصباح. قد يكون وجهه وجه رجل بدوي وصل على توه من رحلة طويلة قادته إلى "مدينة المسخ والفساد والفضائح بالجملة"، كما يسميها الآن. هل ندم لأنه عاد ؟ "ربما ثمّة أسباب خفية دفعتني لترك الجبل، لأحط رحالي في قلب مدينة بدون قلب". هكذا بات يفكر ويتساءل وينظر بوجمعة إلى المدينة التي كانت قريته في الزمن الأخضر الحي في ذاكرته، وأصبحت في الزمن المصطنع الحالي مكانا بلا وجه وبلا هوية تذكر. كيف تحولت الأشياء والأحياء بسرعة ملفتة، ودارت عجلة الزمن بكل هذه الوتيرة السريعة العجيبة في أرضه.. تلك السرعة التي فاقت حتى خياله ؟
كان بوجمعة يمشي بجسد قوي، وقامته النحيلة كنخلة حامل، ينظر إلى العمارات الشفافة الشاهقة، وإلى المتاجر الأنيقة المصطفة بنظرات بريئة حينا ومشككة فيما يرى ويسمع، في أحيان كثيرة. يتأمل ويفكر شاردا وحذرا كأنما يبحث عن شيء أو عن أحد يريد أن يسأله. أمضى الرجل النهار كله يمشي تحت أشعة الشمس الحارقة، كما لو كان غريبا وليس ابن أرض المدينة الأصيل. كان يرى، ولا يرى. كما لو يحمل في وجهه عيونا ليست عيونه، عيونا غريبة عن جسده. فالجدران لم تعد جدرانا طينية كما تركها. وأشجار الكليبتوس الخضراء التي كانت تحتضن أوكار طير الحجل والنورس في كل جنبات أمكنة الدوار اختفت نهائيا، وحلت محلها البنايات المدرعة الشاهقة، وأوراش البناء الجديدة. لماذا كل هذا العنف في حق أرض بريئة ؟ لماذا كل هذا التبدل والتغير الذي لا جدوى منه ؟ كان بوجمعة ينصت لشيء يتكلم في داخله كأنه جزء منه. شعر بشرارة حرارة الحمّى تعاوده وتسري في شرايين جسده. كلما تحرك الرجل أماما، كلما ارتفعت حرارة الضجيج صداعا في رأسه المثقلة بهمّ هذا التحول المفاجئ الذي وجد نفسه مضطرا للخوض فيه، والخضوع له. رغم أنه يشعر في قرارة نفسه أنه إنسان حرّ، كالشجر والطير تماما، يرفض كل أشكال الخضوع والحصار المدجن، وهبوطه من مقبرة القرية الصغيرة في قمة جبل "أيت بوعيش" وكيسه على كتفه كان مجرد هبوط من اختياره الفردي، وليس رد فعل لإحساسه باغتراب من نوع معين كما قيل عنه. لقد كان مرتاحا في الجبل حتى وإن كان غير سعيد فيه. ربما قد يكون إحساسه المتكرر بلعنة الذنب في الأيام الأخيرة، هو الذي سرع تفكيره السلبي والجدي أيضا في أخذ القرار النهائي للعودة إلى موقع دوار "الدريوش"، إلى أرضه الأم. لا يريد إذا قدر الله ومات أن يدفن في مقبرة الجبل التي حرسها لسنوات من كلاب وذئاب الجبل، وهرب إليها من مشاكل قريته في وقت من الأوقات !!
كانت الحمّى حين تهاجم جسده تبدأ بتلافيف جمجمته وسطح رأسه، وتنتهي عند حد قدميه. رأسه ذات الشكل الغريب كحالته تماما. كان الأطفال في صغره ينادونه بذي الرأسين. فعلا يبدو الرجل كما لو كان يحمل على كتفيه رأسا بتلين صغيرين. بسبب هذه الرأس المركبة التي خلق بها.. والتي تشبه رأس تنين، كان ذكيا، وبارعا في استيعاب مادة الرياضيات، حسب شهادة زملاءه في الابتدائي والاعدادي والثانوي. لكن لا أحد في الدوار يعلم، قبيل اجتيازه اختبار البكالوريا بأيام قليلة، كيف خرج بوجمعة، التلميذ المجد، ذات مساء شتائي، من بيته البسيط بين صفائح شجر الصبار الأخضر، مجردا من جميع ملابسه الداخلية والخارجية. فأخذ يصرخ ويضحك ويهلوس قبل أن يتدخل أبناء الجيران من الناس الذين يعرفونه، ليقودوه بصعوبة ملفوفا بأغطية، ومحمولا على الأكتاف إلى دار أهله. بعد تلك الواقعة الفاجعة الأليمة، كما صارت تسمى حتى بعد هجره المفاجئ لدواره، قيل أن بوجمعة سكنته جنية شقراء شريرة. هذا ما صرح به فقيه الدوار. فلم يعد بوجمعة إلى مقاعد الدراسة بعد ذلك اليوم. فالتزم الصمت والبيت لشهور عديدة، وأحيانا كان يستضيف تلاميذ دوار "الدريوش"، وراء أسوار الدار وبين شجر الصبار الكثيف، يساعدهم على حل وإنجاز التمارين الصعبة في مادتي الرياضيات والفيزياء. كان يمكّنهم مجانا من الحلول المناسبة بطريقة سهلة وبسيطة. لهذا كان يحبه الجميع في دوار "الدريوش" وحتى في الدواوير المجاورة..
هنا يتوقف بوجمعة قليلا. ما زالت نظراته زائغة تائهة، وملامح وجهه صلبة ولينة، وتجاعيد جبينه تمتد وتنقبض. من يراه في أول وهلة يظنه مبتسما في وجهه. ومن يدقق فيه نظره يتأكد من حيرته وحزنه العميق. "هو حزن الأرض الطيبة التي غدرت بها السماء. لمَ كل هذا التشويه والتزييف.. وكل هذا الهراء .. والخراء .. والزبالة البيضاء في وجه قريتي الحبيبة التي لم تكن في حاجة إلى أقنعتهم الكاذبة ؟". هكذا يفكر الرجل وهو في الشارع العام، لا يدري إلى أين سيمضي، ولا إلى أين ستقوده قدماه الصلبتان. لم يختر بوجمعة الجلوس على الكرسي الحديدي الظليل تحت العمود الكهربائي، رغم أن الكرسي كان فارغا إلا من امرأة متشردة وابنها الرضيع في حضنها الوسخ الدافئ. اقتعدت المرأة الفقيرة الأرض بدل الجلوس على الكرسي. كانت مهملة الهيئة والهندام وتأكل بشراهة كبيرة شيئا كالطعام على فراش بلاستيكي ممزق. اختار بوجمعة الجلوس بطريقته المعهودة على الدرج الثالث الأنيق لوكالة أسفار مغلقة الأبواب. كانت الشمس تميل نحو الغروب. هبوب ريح خفيفة. تعالى صوت مؤذن في السماء "الله أكبر". قدم بوجمعة كعادته يده اليسرى إلى الأرض قبل أن يجلس بكامل جسده. ثم قال "باسم الله الأحد". "اليوم يوم الجمعة، وقطّاع طرق هذه المدينة الماكرة ولصوصها الوقحين الواقعيين والمفترضين والمتحكمين في كل شيء، مازالوا أحرارا بين شوارعها وأزقتها الجريحة، يصولون ويجولون فيها كما خططوا وشاءوا منذ القدم.. إنهم الآن في عطلة سعيدة مفتوحة ومستمرة إلى أبد الآبدين. قطاع الطرق الجدد. يمارسون الكريساج بالقوانين وهم غائبون يمرحون في عوالهم المريحة. الشعب يخدم ويكد ثم ينام ويشخر..، وهم أبالسة الأوغاد أحرار يكدسون الأموال في البنوك.. ويدّعون أنهم يفكرون ويحكمون بمكارم الأخلاق ومبادئ السياسة التي يفهمونها كما يريدون، وليس كما يريد الشعب". هكذا فكر بوجمعة في واقع مدينة متروكة لقدرها بين أنياب الآلات الضخمة والوحوش الآدمية تدبر مصيرها بنفسها.
شعر بالحمّى تمتد من جديد في جسده النحيل، ثم تصعد عائدة تدريجيا إلى رأسه التي صارت ثقيلة كصخرة سيزيف. هو المسافر إلى الهنا غريبا.. كما كان غريبا في قمة الجبل. دائما كان وما يزال يسبح في أدغال الخيال المر، حتى قبل أن يهجر قريته في قوة شبابه والتي باتت الآن حقيقة خضراء في ذاكرته. كان يومئذ يرى ويلاحظ ويستنتج أفكارا وأشياء تبدو للناس من حوله ساذجة وغريبة، بل لا يمكن أن يراها وينطق بها سوى إنسان به مسّ من الجنون الحاد. هكذا كان يوصف حين يبدي برأيه الجريء في قضية من قضايا الناس، وهو بين الجماعة في مسجد دواره "الدريوش" قبل مرضه المفاجئ. أحس أن الجميع كان ينافقه ويشفق عليه. لكنه كان يرفض نفاقهم ويلعن شفقتهم. اقتنع الرجل، ذات ليلة، ثم قرر الرحيل، فتركهم حيث وجدهم الآن معتقلين داخل شرنقة ما يسمى بالمدينة، حسب رأيه.
واصل بوجمعة طريقه بجسد يرتعش في خضم أخاديد التيه، والشمس الموءودة يخفق اشتعالها فوق رأسه. وبعد لحظات سيحل الظلام الذي يمقته ويقاومه طيلة حياته. أخذ ينظر بعينين ضائعتين إلى ازدحام العربات والسيارات، وإلى قامات عمارات الإسمنت والآلات البشرية. يتساءل: "أين هي الأشجار والحقول الخضراء ومجاري الماء الدافئة والطيور التي تركتها تملأ فضاءات أرضي وسماء قريتي ؟".
هناك من المارين من يذهب ويمشي مسرعا. وهناك من يجيء ويتحرك ببطء. وثمة أشخاص آخرين قاعدين أو نائمين. لا حركة في أجسادهم الملقاة كالقمامة على رصيف الشارع العام، بين صولات الذباب والنظرات الحزينة للنباشين والكلاب الضالة في المدينة.
وقف فجأة، وبطريقة أثارت انتباه المارة، وخاصة المرأة التي تقعد على الأرض قرب الكرسي المعدني رفقة ولدها الرضيع الذي استيقظ، ونظر مباشرة إلى حيث يوجد بوجمعة الغارق في تفكيره وشروده. أخذ الطفل الخائف يبكي بقوة كما لو لسعته نحلة جائعة. وقف الرجل بسرعة. توجه ناحية المرأة المنشغلة بإسكات طفلها. اقترب منها بوجمعة. منحها الكيس وما بداخله، بعد أن أخرج علبة الحليب قائلا وهي بين يديه: "هذا غذاء جيد لطفلك الرضيع. ربما سيجعله يشبع ثم يسكت" . أخذت منه الحليب، وعينيها في عينيه شاكرة له موقفه النبيل. فغاب الرجل في الازدحام الشديد بين الأجساد المتحركة والعربات اليدوية المتسارعة، وصرخات "الفرّاشة" وماسحي الأحذية دون أن يلتفت إلى ورائه، واضعا كفيه معا على رأسه الكبيرة. كان صوت محتلي الشارع العام ببضائعهم "الفاسدة" يصله متقطعا، ثم خافتا حتى انقطع نهائيا. قد يكون بوجمعة اتجه صوب ناحية البحر وغروب الشمس في أقصاه، حيث بات لونها، في أفق المدينة المنشغلة بأحوالها الصحية والمريضة، غامق الاحمرار المتدفق كشلال صغير، تخترقه في وسطه سواعد تحليق سرب طير النوارس المهاجرة .
لقد تعمقت طبائعه الغريبة، وازدادت درجة الحمّى في رأسه وانحرفت سلوكيات جسده. لقد بات بوجمعة شخصا مختلفا تماما. يانعا، متوترا، كهلا، يشعر بالوقت يمر بسرعة، وهو في الأربعين من عمره، غير أنه يبدو كما لو هو في عمر الستين أو أكثر. لهذا، فضل الرجل، دون سابق إنذار، أن يترك الأرض التي رأى فيها النور ويرحل بعيدا إلى قرية صغيرة في قمة الجبل المقابل لقريته. أو على الأصح، هرب إليها صاعدا إلى الجبل، يحمل معه أفكاره الغريبة، وخاصة مرضه بالحمّى التي تعاوده بين الفينة والأخرى. لم ينفع معه طبيب ولا مشعوذ ولا فقيه. هجر أرضه الطيبة "الدريوش"، لأنه لم يعد لديه فيها ما يغذي هويته المشروخة، ولا ما يثير شغفه وبقاءه بين مبانيها الشاهقة، وأزقتها الموصدة في وجهه، والتي أصبحت تعجّ بالعربات اليدوية والمتنقلة بالخضر والفواكه "المسمومة"، حسب تعبيره. لقد باتت تلك الأزقة المنفية وراء حجاب زيف الإنسان وقسوة الزمن، توجعه في داخله الحي.. توجع حواسه ونفسه وجسده عندما يمر منها. كان يطيل الدوران والجولان في الشوارع دون أن يتعرف إلى الوجوه المحيطة به. إنه يحس فيها كما لو كان شخصا غريبا في دواره، وبين جدران دروبه الضيقة التي قضى فيها أحلى أيام طفولته المبكرة. لهذا، كان دوما مشتاقا للرحيل، ميالا إلى العزلة القصوى، حزينا وقلقا وحائرا. كان لابد إذن أن يترك هذه الأرض التي خربوها، ليبحث له عن شيء من الفرح الجميل خارج أسوارها المفترضة، فرح يراه حلا مناسبا لوضعه النفسي المتأزم، ربما قد يعيد إليه نوعا من التوازن الجسدي والنفسي، وبصيصا من الأمل في غد مشرق يجعله يشعر بحريته المفتقدة، وهويته الجريحة، ووجوده الطبيعي كشخص يجب أن يكون سعيدا على هذه الأرض. هكذا يفكر بوجمعة.
قيل لي إنه عندما وصل إلى الجبل، اعتزل بنفسه وبمعية أناه المنهارة في كوخ حقير وبسيط، وجده جاهزا، بعيدا عن أعين الناس في مقبرة أو شبه مقبرة، في قمة الجبل.. وهي على كل حال، مقبرة واسعة وهادئة، احتضنته بذراعيها القويتين الدافئتين في وقت تخلص منه الجميع، وكان فيها محتاجا إلى حضن مكان يحتضنه.. حتى وإن كانت هذه المقبرة بلا أسوار ولا أبواب ولا أقفال، ومحاطة بالكلاب الضالة، وبذئاب براري الجبل المفترسة. لكنها كانت مقبرة مفتوحة للجميع، مفتوحة حتى في وجه الحيوان الودود، وتوجد على بساط الأرض الجبلية المعشوشبة بنبات الشيح، والمزروعة بعشرات من أشجار اللوز الكثيفة. هواؤها منعش. تطل على فراغ فجّ هائل بمعية زرقة فضاء السماء الرحبة واللامحدودة. ربما لهذه الأسباب ولغيرها اختار بوجمعة هذه المقبرة لتكون مقرا جبليا لإقامته الأبدية، وكذلك بدلا عن قريته التي شعر فيها بضيق فظيع، وبأنفاسه تختنق وتضعف وتنقطع بين الفينة والأخرى كأنفاس غريق في يمّ عميق. أما حين تأتيه لعنة الحمّى فحدث بلا حرج. إنه لا يعرف حينذاك رأسه من قدميه.
احتفظ بوجمعة لنفسه في كوخه الجبلي بنافذة واحدة فقط، نافذة كثقب عشوائي في الجدران المقابل لطلعة الشمس. وقام بإغلاق النافذتين الأخريين، ليدخل منها نور شمس الصباح، ويطل منها هو عند كل غروبها في المساء الموالي على العالم الجبلي الفسيح المحيط به.
لقد اختار الرجل أن يعتزل في مقبرة مهمشة كالعديد من مقابر فقراء الدنيا، لدفن الموتى في حفر ضيقة تتسع لقامات بشرية، ثم تهمل إلى يوم الدين. حرفة حفار القبور هي أعظم حرفة في العالم. تجربة تجعلك قريبا من رائحة التراب، بل قريبا جدا من الخيط الرفيع الموجود بين الحياة والموت. إنها المفارقة العجيبة القائمة بين حب البقاء والخوف من العدم. لكن، هكذا يحضر النسيان. الوصفة الرائعة التي تجعل الإنسان ينسى ( يفكر بوجمعة ) "موتاه الذين كانوا في حياتهم أقرب إليهم من ظلالهم، بمجرد دفنهم ووضع جثامينهم المعطرة والملفوفة داخل اللون الأبيض تحت التراب المبلل بالماء ؟ لتوضع الأشواك اليابسة فوق قبر الميت، بعد أن يثبتوا عليه صخرتين كبيرتين متقابلتين على طول قامته. هكذا هي حال قبور البسطاء في كل أمكنة العالم: توضع الصخرة الأولى على موقع الرأس، والصخرة الثانية عند القدمين. وبين الرأس والقدمين مساحات طويلة من ألم الفراق الموجع الذي لن تشفيه كل أدوية الدنيا..". هنا يكمن شبح الفرح الذي يبحث عنه بوجمعة، حيث توجد حقيقته موزعة بين أرضه في القرية الحبيبة التي أنجبته، وفضاء قرية بديلة أخرى في قمة الجبل المعزول عن العالم، حيث امتهن مختارا حرفة حفار قبورها بصدر رحب.. إلا أن أرضه الآن تحولت بقدرة قادر، وفي لمح البصر، إلى آلة جهنمية متوحشة تلتهم الحياة الجميلة التهاما.
لكن السي بوجمعة كما أصبح يسمى، فجأة اختار هذه المرة ودون المرات الأخرى وبعد تفكير عميق، أن يستجيب لنداء الشوق الأكبر، ويعود إلى دواره "الدريوش"..، أرضه الأم دون منازع، بعد سنوات طويلة من الانقطاع والغياب الاختياري الموجع. هو في الحقيقة لا أعرف هل هو غياب اختياري أم تغييب اضطراري ..؟ عاد الرجل بعد أن ملّ من حفر القبور بفأسه الصدأة، وسئم من فعل دفن جثامين الموتى الذي لا يتوقف. لقد اقتنع بوجمعة بعد سنوات منفاه في الجبل، أنه لا ثمّة فرق كبير بين الجثامين النائمة تحت التراب في قبور قمة جبل "أيت بوعيش"، وقامات الجثامين المتحركة كالدمى فوق التراب في الشوارع الواسعة لمدينة "الدريوش". سلّم على أهالي القرية الذين عرفوه طيبا، وعاشروه حكيما ومتعاونا طيلة مدة عشر سنوات التي قضاها بينهم داخل مقبرة القرية. تقبّل هداياهم بصدر رحب: حليب الماعز الطازج الذي يعجبه شربه مع الثمر المحلي، وقنينة زيت الزيتون وخبز أحرش، وحبات اللوز العاري من القشور الذي يحبه حتى النخاع. وضع الكل في كيس مخيط وعقده عقدتين، وحمله على ظهره، ثم ودع الجميع هابطا الأدراج الحجرية لجبل "أيت بوعيش" كالفارس نحو مدينته. هو ذا اليوم إذن يستجيب بوجمعة لقوة سؤال الزمن القاسي، ويعود قويا إلى مكان كان إلى وقت قريب، وهو في قمة الجبل، مهجورا في ذاكرته الموشومة بالعلامات الخضراء..، علامات الحمّى القديمة وخيباته الغائرة في الزمن الغابر، وها هي ذي الآن قد أشرقت فيه كطلعة الشمس في زمن حياة وقته الحالي. بات الرجل مقتنعا أن ذاكرة الإنسان لا تشيخ أبدا، مهما تعرضت لمختلف أنواع الإنهاك واكتساح أتربة التلف الغادرة. ربما لو لم يعد إلى أرضه في الوقت المناسب، لتحولت ذاكرته إلى ورم موبوء خبيث. ولتمّ دفنه في مقبرة جبل "أيت بوعيش" مع موتى القرية التي أحسنت استضافته حين نبذته حجارة أرضه. لهذا، فمهما حاولوا سابقا، وحتى حاليا، أن يفرضوا عليه أن ينسى، بإبعاده الرمزي عن أرضه، فهم لم يفلحوا، ولن يفلحوا في ذلك أبدا. هل هناك في الحياة من ينسى وشم أرضه التي أنجبته وكانت السبب في وجوده؟ حتى الحيوان الذي يعتبره بوجمعة الأصل الطبيعي للإنسان الذي كرمه الله، يظل متمسكا بالأمكنة الأولى لوجوده إلى آخر أنفاسه. تأكد الآن بالفعل أنه يملك حقيقة ذاكرة حية، وليس قطعة غيار داخل رأس مركبة في جسد مترهل، كما قال له فقيه الدوار ذات يوم، حين كان يتعثر في حفظ الآيات القرآنية، وصفحة اللوح الخشبي اللعين يرتعش بين يديه القصيرتين، وهو ما يزال طفلا صغيرا يخطو خطواته الأولى في دنيا الحياة. هل الغريب هو من لا هوية له ؟ فلمَ إذن كان مصرّا على أنه إنسان غريب الأطوار وبدون هوية.. ؟ هكذا يتساءل بوجمعة وهو في طريقه إلى ما تبقى من معالم دواره "الدريوش" الذي تغير كثيرا. الدوار الذي أصبح بمثابة أمكنة عطشى، يلتف بجسدها البض أخطبوط المدينة الذي ما فتئ ينمو ويكبر، حسب تعبيره.
إن انفصاله الحالي عن المقبرة، بعد أن كان جزءا منها سابقا، ووطد علاقاته مع سكان القرية الجبلية، ثم عودته المفاجئة إلى موقع بعض وشوم دوار "الدريوش"، مسقط رأسه، هو دليل قاطع على أنه إنسان حيّ وصاحب حق وهوية متجذرة.. وما ضاع حق يطلبه صاحبه. إذن، قد يكون المرء غريبا، لكن هذا لا يعني أنه فقد هويته التي لا يمكن أن تفتقد إلا بمعنى واحد، هو عندما يجن المرء ويدخل إلى عوالم حياة الجنون اللامتناهي.. في هذه الحالة الموت أرحم له من البقاء.
يبدو لون وجهه وكفيه أقرب إلى لون الغروب. أو بالأصح، لون مزيج بين شيء من الغروب المسائي وطينة الأرض المبللة بماء المطر في أول الصباح. قد يكون وجهه وجه رجل بدوي وصل على توه من رحلة طويلة قادته إلى "مدينة المسخ والفساد والفضائح بالجملة"، كما يسميها الآن. هل ندم لأنه عاد ؟ "ربما ثمّة أسباب خفية دفعتني لترك الجبل، لأحط رحالي في قلب مدينة بدون قلب". هكذا بات يفكر ويتساءل وينظر بوجمعة إلى المدينة التي كانت قريته في الزمن الأخضر الحي في ذاكرته، وأصبحت في الزمن المصطنع الحالي مكانا بلا وجه وبلا هوية تذكر. كيف تحولت الأشياء والأحياء بسرعة ملفتة، ودارت عجلة الزمن بكل هذه الوتيرة السريعة العجيبة في أرضه.. تلك السرعة التي فاقت حتى خياله ؟
كان بوجمعة يمشي بجسد قوي، وقامته النحيلة كنخلة حامل، ينظر إلى العمارات الشفافة الشاهقة، وإلى المتاجر الأنيقة المصطفة بنظرات بريئة حينا ومشككة فيما يرى ويسمع، في أحيان كثيرة. يتأمل ويفكر شاردا وحذرا كأنما يبحث عن شيء أو عن أحد يريد أن يسأله. أمضى الرجل النهار كله يمشي تحت أشعة الشمس الحارقة، كما لو كان غريبا وليس ابن أرض المدينة الأصيل. كان يرى، ولا يرى. كما لو يحمل في وجهه عيونا ليست عيونه، عيونا غريبة عن جسده. فالجدران لم تعد جدرانا طينية كما تركها. وأشجار الكليبتوس الخضراء التي كانت تحتضن أوكار طير الحجل والنورس في كل جنبات أمكنة الدوار اختفت نهائيا، وحلت محلها البنايات المدرعة الشاهقة، وأوراش البناء الجديدة. لماذا كل هذا العنف في حق أرض بريئة ؟ لماذا كل هذا التبدل والتغير الذي لا جدوى منه ؟ كان بوجمعة ينصت لشيء يتكلم في داخله كأنه جزء منه. شعر بشرارة حرارة الحمّى تعاوده وتسري في شرايين جسده. كلما تحرك الرجل أماما، كلما ارتفعت حرارة الضجيج صداعا في رأسه المثقلة بهمّ هذا التحول المفاجئ الذي وجد نفسه مضطرا للخوض فيه، والخضوع له. رغم أنه يشعر في قرارة نفسه أنه إنسان حرّ، كالشجر والطير تماما، يرفض كل أشكال الخضوع والحصار المدجن، وهبوطه من مقبرة القرية الصغيرة في قمة جبل "أيت بوعيش" وكيسه على كتفه كان مجرد هبوط من اختياره الفردي، وليس رد فعل لإحساسه باغتراب من نوع معين كما قيل عنه. لقد كان مرتاحا في الجبل حتى وإن كان غير سعيد فيه. ربما قد يكون إحساسه المتكرر بلعنة الذنب في الأيام الأخيرة، هو الذي سرع تفكيره السلبي والجدي أيضا في أخذ القرار النهائي للعودة إلى موقع دوار "الدريوش"، إلى أرضه الأم. لا يريد إذا قدر الله ومات أن يدفن في مقبرة الجبل التي حرسها لسنوات من كلاب وذئاب الجبل، وهرب إليها من مشاكل قريته في وقت من الأوقات !!
كانت الحمّى حين تهاجم جسده تبدأ بتلافيف جمجمته وسطح رأسه، وتنتهي عند حد قدميه. رأسه ذات الشكل الغريب كحالته تماما. كان الأطفال في صغره ينادونه بذي الرأسين. فعلا يبدو الرجل كما لو كان يحمل على كتفيه رأسا بتلين صغيرين. بسبب هذه الرأس المركبة التي خلق بها.. والتي تشبه رأس تنين، كان ذكيا، وبارعا في استيعاب مادة الرياضيات، حسب شهادة زملاءه في الابتدائي والاعدادي والثانوي. لكن لا أحد في الدوار يعلم، قبيل اجتيازه اختبار البكالوريا بأيام قليلة، كيف خرج بوجمعة، التلميذ المجد، ذات مساء شتائي، من بيته البسيط بين صفائح شجر الصبار الأخضر، مجردا من جميع ملابسه الداخلية والخارجية. فأخذ يصرخ ويضحك ويهلوس قبل أن يتدخل أبناء الجيران من الناس الذين يعرفونه، ليقودوه بصعوبة ملفوفا بأغطية، ومحمولا على الأكتاف إلى دار أهله. بعد تلك الواقعة الفاجعة الأليمة، كما صارت تسمى حتى بعد هجره المفاجئ لدواره، قيل أن بوجمعة سكنته جنية شقراء شريرة. هذا ما صرح به فقيه الدوار. فلم يعد بوجمعة إلى مقاعد الدراسة بعد ذلك اليوم. فالتزم الصمت والبيت لشهور عديدة، وأحيانا كان يستضيف تلاميذ دوار "الدريوش"، وراء أسوار الدار وبين شجر الصبار الكثيف، يساعدهم على حل وإنجاز التمارين الصعبة في مادتي الرياضيات والفيزياء. كان يمكّنهم مجانا من الحلول المناسبة بطريقة سهلة وبسيطة. لهذا كان يحبه الجميع في دوار "الدريوش" وحتى في الدواوير المجاورة..
هنا يتوقف بوجمعة قليلا. ما زالت نظراته زائغة تائهة، وملامح وجهه صلبة ولينة، وتجاعيد جبينه تمتد وتنقبض. من يراه في أول وهلة يظنه مبتسما في وجهه. ومن يدقق فيه نظره يتأكد من حيرته وحزنه العميق. "هو حزن الأرض الطيبة التي غدرت بها السماء. لمَ كل هذا التشويه والتزييف.. وكل هذا الهراء .. والخراء .. والزبالة البيضاء في وجه قريتي الحبيبة التي لم تكن في حاجة إلى أقنعتهم الكاذبة ؟". هكذا يفكر الرجل وهو في الشارع العام، لا يدري إلى أين سيمضي، ولا إلى أين ستقوده قدماه الصلبتان. لم يختر بوجمعة الجلوس على الكرسي الحديدي الظليل تحت العمود الكهربائي، رغم أن الكرسي كان فارغا إلا من امرأة متشردة وابنها الرضيع في حضنها الوسخ الدافئ. اقتعدت المرأة الفقيرة الأرض بدل الجلوس على الكرسي. كانت مهملة الهيئة والهندام وتأكل بشراهة كبيرة شيئا كالطعام على فراش بلاستيكي ممزق. اختار بوجمعة الجلوس بطريقته المعهودة على الدرج الثالث الأنيق لوكالة أسفار مغلقة الأبواب. كانت الشمس تميل نحو الغروب. هبوب ريح خفيفة. تعالى صوت مؤذن في السماء "الله أكبر". قدم بوجمعة كعادته يده اليسرى إلى الأرض قبل أن يجلس بكامل جسده. ثم قال "باسم الله الأحد". "اليوم يوم الجمعة، وقطّاع طرق هذه المدينة الماكرة ولصوصها الوقحين الواقعيين والمفترضين والمتحكمين في كل شيء، مازالوا أحرارا بين شوارعها وأزقتها الجريحة، يصولون ويجولون فيها كما خططوا وشاءوا منذ القدم.. إنهم الآن في عطلة سعيدة مفتوحة ومستمرة إلى أبد الآبدين. قطاع الطرق الجدد. يمارسون الكريساج بالقوانين وهم غائبون يمرحون في عوالهم المريحة. الشعب يخدم ويكد ثم ينام ويشخر..، وهم أبالسة الأوغاد أحرار يكدسون الأموال في البنوك.. ويدّعون أنهم يفكرون ويحكمون بمكارم الأخلاق ومبادئ السياسة التي يفهمونها كما يريدون، وليس كما يريد الشعب". هكذا فكر بوجمعة في واقع مدينة متروكة لقدرها بين أنياب الآلات الضخمة والوحوش الآدمية تدبر مصيرها بنفسها.
شعر بالحمّى تمتد من جديد في جسده النحيل، ثم تصعد عائدة تدريجيا إلى رأسه التي صارت ثقيلة كصخرة سيزيف. هو المسافر إلى الهنا غريبا.. كما كان غريبا في قمة الجبل. دائما كان وما يزال يسبح في أدغال الخيال المر، حتى قبل أن يهجر قريته في قوة شبابه والتي باتت الآن حقيقة خضراء في ذاكرته. كان يومئذ يرى ويلاحظ ويستنتج أفكارا وأشياء تبدو للناس من حوله ساذجة وغريبة، بل لا يمكن أن يراها وينطق بها سوى إنسان به مسّ من الجنون الحاد. هكذا كان يوصف حين يبدي برأيه الجريء في قضية من قضايا الناس، وهو بين الجماعة في مسجد دواره "الدريوش" قبل مرضه المفاجئ. أحس أن الجميع كان ينافقه ويشفق عليه. لكنه كان يرفض نفاقهم ويلعن شفقتهم. اقتنع الرجل، ذات ليلة، ثم قرر الرحيل، فتركهم حيث وجدهم الآن معتقلين داخل شرنقة ما يسمى بالمدينة، حسب رأيه.
واصل بوجمعة طريقه بجسد يرتعش في خضم أخاديد التيه، والشمس الموءودة يخفق اشتعالها فوق رأسه. وبعد لحظات سيحل الظلام الذي يمقته ويقاومه طيلة حياته. أخذ ينظر بعينين ضائعتين إلى ازدحام العربات والسيارات، وإلى قامات عمارات الإسمنت والآلات البشرية. يتساءل: "أين هي الأشجار والحقول الخضراء ومجاري الماء الدافئة والطيور التي تركتها تملأ فضاءات أرضي وسماء قريتي ؟".
هناك من المارين من يذهب ويمشي مسرعا. وهناك من يجيء ويتحرك ببطء. وثمة أشخاص آخرين قاعدين أو نائمين. لا حركة في أجسادهم الملقاة كالقمامة على رصيف الشارع العام، بين صولات الذباب والنظرات الحزينة للنباشين والكلاب الضالة في المدينة.
وقف فجأة، وبطريقة أثارت انتباه المارة، وخاصة المرأة التي تقعد على الأرض قرب الكرسي المعدني رفقة ولدها الرضيع الذي استيقظ، ونظر مباشرة إلى حيث يوجد بوجمعة الغارق في تفكيره وشروده. أخذ الطفل الخائف يبكي بقوة كما لو لسعته نحلة جائعة. وقف الرجل بسرعة. توجه ناحية المرأة المنشغلة بإسكات طفلها. اقترب منها بوجمعة. منحها الكيس وما بداخله، بعد أن أخرج علبة الحليب قائلا وهي بين يديه: "هذا غذاء جيد لطفلك الرضيع. ربما سيجعله يشبع ثم يسكت" . أخذت منه الحليب، وعينيها في عينيه شاكرة له موقفه النبيل. فغاب الرجل في الازدحام الشديد بين الأجساد المتحركة والعربات اليدوية المتسارعة، وصرخات "الفرّاشة" وماسحي الأحذية دون أن يلتفت إلى ورائه، واضعا كفيه معا على رأسه الكبيرة. كان صوت محتلي الشارع العام ببضائعهم "الفاسدة" يصله متقطعا، ثم خافتا حتى انقطع نهائيا. قد يكون بوجمعة اتجه صوب ناحية البحر وغروب الشمس في أقصاه، حيث بات لونها، في أفق المدينة المنشغلة بأحوالها الصحية والمريضة، غامق الاحمرار المتدفق كشلال صغير، تخترقه في وسطه سواعد تحليق سرب طير النوارس المهاجرة .