عندما اقترب الملك فيليب من سرير فيلاديلفيا الملكي، حيث سيلقي ملكته الباكر لأول مرة على السرير المعظم لتصبح ملكة الأمة الإغريقية، كانت منطرحة على ظهرها وقد أقفلت عينيها، منتظرة أميرها ليلبس خاتمها غير الملموس، بأفعوانه المشهر سيفه، الذي استقام وقد سالت من فوهة قمته الرطبة لتوها قطرات عسل أبيض. أحست فيلاديلفيا بشفاه لوزية. لكنها رأت وهي ما تزال مغمضة العينين قناع شبح الإله آمون، كما لو أنه هو الذي سيزرع بذرته في رحمها.
يبدو أن الإله آمون قد استخدم إيروس لكي يرسل بسهمه بذرته تلك، إيرس هذا هو نفسه الذي كان مرتهناً لفيليب حين سلطه على أهالي طيبة من أزواج العشاق المائة والخمسين، فبث فيهم الغيرة، والعداوة، وهكذا أفناهم فيليب في معركة بين العشاق الألداء، ينحر بعضهم البعض بسبب الحقد غير المبرر. لهذا استحق فيليب أن يغزوه الإله آمون في عش زوجيته لكي ينام مع فيلادليفيا، فتلد له\ ما “لهما” الإسكندر، رداً على فعلته مع آهالي طيبة المغرر بهم، وانتقاماً لهم.
ارتعاش جسد فيليب أيقظ فيلاديلفيا، فسحبها من ذلك الحلم السريع، وأبعدها عن الهواجس التي سكنتها للحظات، وهكذا انقلب فيليب على جهته الثانية لينام مثل رجل الثلج جامد، بعد زيارته لكهف دافئ أفرغ فيه كل تمنياته في أن يكون له وريثه من أول ليلة.
لقد زرعت بذرتي في رحمك لكي تلدي لي وريثاً بعد تسعة أشهر من الآن: قالها شبح آمون وهو يهم بالاختفاء.
انتظر، انتظر: همست فيلاديلفيا. لكن الشبح كان قد اختفى.
أين أنت؟ ومن تكون: قالت الملكة.
كانت قد تأخرت كثيراً، وقد شعرت بأنها سوف تمرّ في محنة معقدة، تشغل مستقبلها، بعواقب وضعتها في أسئلة محيرة، أوقعهتا في حيرة وقلق ليلاً، ونهاراً طوال تسعة أشهر الحمل، مما جعل الملك فيليب الحريص على وريث عرشه يتحسّب لكل طارئ، ويشك في أي أمر ينتاب ملكته الشابة المعظمة.
وفي أول يوم بعد أن ولدت فلاديلفيا بكرها الصبي، وفد كاهن من معبد نبع الصبي المجنّح، ليصل إلى قلعة الملك فيليب عبر جبل الأولمبس إلى مقدونية؛ قدمه الوزير الأعلى الخضر لجلالة ملك مقدونية، وقد حمل الكاهن دعوات، ومباركة الإله آمون وتمنياته؛ مع هدية مفخمة قدمها لجلالة الملك فيليب المعظم. هذه هدية قدسيّة من الإله آمون لعزيز القلب المولد ألكسندر: قال الكاهن.
أجاب الملك فيليب: كيف لكم معرفة اسم ابننا المولود بكراً، ونحن لم نبح باسمه لأي مخلوق.
تلقيتُ معاليك شفرة قبل تسعة شهور من يوم مولد الأمير، وأنا أتعبد في محراب معبد الرجل المجنّح، عند نبع ماء الحياة الأولي، الذي يتفرع عنه أنهار الحياة الأربعة: سيحون، وجيحون، ودجلة والفرات: أجاب بكل خضوع الكاهن.
بقلب واجف، وشكّ دفين، ومن غير أية علامة للوجل، أو تردد قال الملك فيليب: جيد أن تعلمنا، ونشكر العناية الإلهية على اهتمامها بنا.
مناولاً الملك فيليب صندوق ألماسي قال الكاهن بكل اهتمام، وجدية: في هذا الصندوق قليل من ماء النبع، فيه هدية من الإله آمون. وأضاف: وطلب الإله أن لا يفتح هذا الصندوق إلا الأمير ألكسندر بنفسه، فقط عندما يبلغ سن الخامسة عشرة من عمره.
قال الملك فيليب باستغراب: أهي أحجية، أم هو ألكسير تشيع عنه العامة. أنبئني أيها الكاهن، ما هذه الأسرار، ومن وراءها.
بعزم ومن بإيمان ينحني الكاهن قائلاً: إلكسير الخلود.
قال الملك باستغراب: كيف؟
في الواقع أن أن معبد ماء الحياة، كان المفترض أن يدار من قبل الصبي المجنّح، ولكنه فدى نفسه لكي يصبح جسده مثوى، عفواً مكان للنبع نفسه، وتسيل من عروقه مياه الخلود، وأكاسيرها لمن هو محتاج لفضلة من العمر.
لم نسمع بأمر كهذا من قبل: قال الملك فيليب.
أجاب الكاهن: بوجهة نظر الإله آمون المبجل، أنها قد تنجح مع الأمير الصغير.
جازماً قال الملك من غير انتظار، ولا أخذ مشورة وزيره الخضر: أتمنى ألا يحدث ذلك، قطعاً.
ولكن الأمير ألكسندر سيدعى في يوم من أشهر أيام حياته بذي القرنين: قال الكاهن.
مستغرباً استفسر الملك فيليب: لماذا؟
لآنه سوف يمتلك نواصي الشرق والغرب، في إمبراطورية يديرها بذات اليمين وذات الشمال. قال الكاهن.
لم اسمع، ولم يعلمني أحد من قبل، حتى من كبير مستشاريي الوزير الخضر. قال الملك.
إنها من أسرار الإله آمون، لن تزاح مكنوناتها إلا من قبل الأمير ألكسندر حين بلوغ الخامسة عشرة من عمره: أضاف الكاهن مجدداً.
بمجرد إعادة الكاهن للتواريخ، وتأكيده على مولد البكر ألكسندر، تداعت الشكوك لدى فيليب ملك مقدونيا، حول حالة الملكة فيلاديلفيا، أثنا حملها للجنين، وظنه الكبير منذ أول ليلة دخل عليها، وهو يسمع الآن تلك الأصوات الغريبة التي كانت تصدر فوق السرير الملكي، وقسمات وجه الملكة الغريبة، وكلماتها المتقطعة بلفظة آمون الفرعونية التي كانت تختلط بكلمة آمين وقتها، فكيف لآمون المصري أن يعبر المياه، ويغشى مخدعه في تلك الليلة بالذات ليسبقه في معاشرة زوجته الباكر قبله، ولم يني يتساءل والشكوك تتضاعف في ذاكرته، كيف أن فيلاديلفيا كانت تحاور أحدهم طوال حملها، حسبها الجميع تناغي الجنين، حتى كبير كهنته برر سهومها، وتتداعياتها، لقلة التجربة في الحمل الأول.
والآن، وبناء على توضيحات الكاهن مبعوث آمون، وهديته للأمير ألكسندر الذي كانت تردد فيلاديلفيا اسمه وهي تتحاور في مكنونها، تأكد للملك فيليب أن الصبي ليس منه، وإنما من آمون نفسه. بدأ الآن فقط يحاسبها على الأيام التي مرّت، ويقاضيها في شكوكه بكونها سلّمت نفسها لآمون في ليلة زفافهما ذاتها، وأن ألكسندر ليس من نطفته، وإنما هو ابن آمون عشيقها، فسحت هذه الظنون هوة كبيرة تتعمق يوماً بعد يوم في علاقتهما.
إذا كان ألكسندر ثمرة وصالك مع آمون في سريري، أو في وصال سماوي معه، فإنه ليس من صلبي: استجوب الملك فيليب زوجته الملكة فيلاديلفيا.
أجابت فيلاديلفيا بكل ثقة: كلا، فأنت من كان يرتدي قناع آمون لشدة اعجابك بشخصيته، وذكوريته، كان ذلك في الليلة الأولى التي نمت معي على هذا السرير مولاي.
إلى هنا أنتهى الحوار، وبقي كل منهما على موقفه، ولكن الحكاية تداعت لدى العامة، وانتشرت في المملكة، ولما شبّ الأمير ألكسندر افتتن بكونه سليل إله فرعوني، فأعجبته الخرافة، وبدأ هو نفسه يصدقها، خصوصاً بعدما فتح الصندوق، واختلس رشفة صغيرة منها بعيداً عن الوزير الخضر، بماء على تعليمات كاهن معبد الصبي المجنّح، أحالته وقتها لشعور بطاقة هائلة تغمره، قبل الحفل الذي سيقام للمناسبة.
وبانتحار الملك فيليب، تنامى الشعور لدى الأمير الشاب ألكسندر، وقد تنصب على عرش مملكة مقدونية برعاية والدته فيلاديلفيا، وكاهن معبد الصبي المجنّح. وبإشراف كبير مستشاري الملك فيليب الوزير الأعلى الخضر، عراب ألكسندر ومن قبله والده فيليب، رجل موهوب بمعارف غير محدودة وبثقافة عالية؛ مع حواس إضافية لم يتوصل إليها البشر وقتها، ذكي، عادل، يعتقد العامة أن الخضر نفسه هو رجل متجدد الحياة، ولعله ممن يجرعون من ألكسير الحياة بذات النبع الذي لا يعلم مكانه غير كاهن المعبد، والخضر نفسه.
تقول الحكايات الخرافية التي يرويها الأجداد لأحفادهم، أنهم سمعوا عن أبائهم أن الخضر عند بلوغه الخمسين من عمره يغيب لأسبوع، ويعود بهي الطلعة كشاب في الخامسة والعشرين. عليه أن يغمر نفسه في الماء لخمس ثوان ليزيح عن عمره الربع قرن. وتضيف الأسطورة: بأنه الخضر نفسه كان قد رعى الصبي المجنّح منذ ولادته، عندما انتشله من نسر فوق شجرة على جبل الأولمبس فجلبه إلى الغابات المقدونية.
مولاي لم يترك والدكم الملك فيليب وصية لكم، ولكن آمون قد وهبكم ذلك الصندوق بما فيه، علينا أن نفتحه أمام العامة في حفل التنصيب، والتتويج لكي يرى شعب مقدونية، ويبارك جدارتكم في ولاية عرش مقدونية، صحيح أنكم رشفتم من ألكسير رشفة كانت تأثيراتها جمة على طاقاتكم العمرية، والعقلية، ولكن رشفة صغيرة لا تكفي بمرور الزمن، عليكم الآن بالجرعة كاملة. ولا تخشى فكاهن معبد الصبي المجنّح سوف يزودنا بجرعات كلما احتجت لطاقة، وتجديد في العمر. ومن غير أن يسهب الخضر في تعليماته للأمير ألكسندر، أدرك الأمير آفاق مستقبله المشرق.
ومنذئذ ترسخ لدى ألكسندر إيمان بأنه ثمرة اتحاد آمون بأمه فيلاديلفيا، وأحبها لاعتقاده بأنه قد يكون من أنصاف الألهة، وبهذا يؤهل لحياة طويلة خالدة.
وفي مراسيم التتويج فتح الوزير الخضر صندوق آمون الألماسي أمام حشود المقدوني، وكهنته، وفتح جرة الألكسير الصغيرة ليناولها للأمير الذي سيصبح بعد لحظات ملك مقدونية الكبير، فجرع منها ألكسندر جرعة كبيرة بشكل جعل الحشد يرى ما رمى إليه الوزير الخضر، وعلت في الأجواء صياحات التهليل للملك المعظم الجديد سليل فيليب الكبير، مما أثار ضحكة ساخرة على وجه الملك، وأمه الملكة، وقام الوزير بفتح خارطة ملفوفة في الصندوق مشيراً لموقع نبع ماء الحياة، ورسالة مربطوطة بمصغّر سيف ذهبي تقول: هذه كلمات قدسية أكتبها لولدي ألكسندر، لأعلنه أمير نصف إلهي، وعند تتويجه سوف يكون وكيلي الشرعي على بلاد الإغريقي في جبل الألومبس، من تساليا، وسالونيك، ومقدونيا وسائر الأراضي شمال بحرنا، كلمات الأله آمون وختمه: قال الوزير الخضر وهو يختم الرسالة، ويطويها ويضعها مع الجرة في الصندوق الألماسي ويقفله ليسلمه إلى الملكة فيلاديلفيا.
وباختتام المراسيم أصبح الخضر في نفسه مركزه مع الملك ألكسندر، كما كان مع ابيه، المستشار الأعظم للملكة المقدونية، بينما لا يشغل ذهن ألكسندر من شؤون المُلك غير تحقيقه في مقولة آمون أن يصبح على الأقل نصف إله، فربما تكون هذه الجرعات ممهدة للمشيئة، ولكن الخريطة المرافقة توحي بأن عليه أن يجد مكان النبع، فيكون ابن آمون سليل بجدارة.
مولاي عليكم الانتظار لبلوغ العشرين من العمر، حين ذاك لسوف يصبح حلمكم حقيقة: قال الوزير الخضر جواباً على خواطر ألكسندر، مما أثار تعجب الملك لقراءة الخضر لأفكاره.
لننتظر لوقتها، فنبدأ بغزو آسيا الصغرى، ثم العراق، وفارس: أجاب الملك ألكسندر.
بكل تأكيد: أردف الوزير الخضر.
أجابه الملك: أين يمكن لنا أن نجد معبد منبع الصبي المجنّح.
بتجاهله لرحلاته للنبع كل ربع قرن قال الوزير خضر: لنتبع تعاليم الخارطة المرفقة، وندرسها في الفترة من الآن حتى موعد غزواتنا، إنها بالتأكيد سوف تقودنا إليه.
بعد سنين، وعند بلوغ الملك ألكسندر العشرين، تهيأت الجيوش للحملة الأولى، تحجج الوزير الخضر باستحالة تركه البلاد من غير قيادة لو رحل مع الملك ألكسندر، لحداثة الدولة وكثرة الطامعين، وهو سبب غير المعلن للوزير لكي لا يفتضح سرّ ديمومته، وينافسه فيها أحد حتى ولو كان الملك ألكسندر نفسه. أو ربما استحالة وجود نبع كهذا إلا في مخيلة العامة، وضميرها الجمعي، مما تسمعه، وتشكلها في ذاتها. لهذا أوصاه بأن يبني في كل مكان يرتاح له مدينة يطلق عليها اسمه.
لهذا طاشت غزوات ألكسندر شرقاً، وغرباً، فليس على الخارطة مكان محدد يشير لا للمعبد، ولا للنبع، ولا لالتقاء الأنهر الأربعة، أو بالأحرى تفرعها عن النبع، وإنما هي بحيرة فان الأرمنية، ولا يبدو عليها يكنها نبع غريب، بل مصب كبير.
ولم تكن غزوات الألكسندر من أجل احتلال تلك البلاد، وإنما كان همه منحصر في البحث عن نبع إالكسير الحياة الموعود، منبع ماء الخلود، فغزا وادي الرافدين عابراً العاصمة الآشورية “آرباإيللو”(**) التي كانت واحدة من قراها على نهر الزاب، أحد روافد دجلة العظيم، مثواه الأخير وهو في سن الخامسة والثلاثين ونيف.
وتحقيقاً لوصية الوزير الخضر بنى ألكسندر مدنه مثل ألكسندرية شمال بابل، وألكسندرون على الضفاف الغربية لشبه جزيرة آسيا، أسس لكل منها مسرح إغريقي عريق للعامة، والخاصة تستقبل العروض الجماهيرية في مصارعة الأسود بخاصة. كان همه الكبير أن يصل فارس ليحطم ضريح كسرى أنو شروان والد قنبيز انتقاماً لما فعله الأخير بمعبد آمون(***). وأسرع لينشئ مدينة الأسكندرية شمال مصر، ويزور بقايا معبد أبيه المفترض.
فكر الوزير الخضر أن كل ما يفعله ألكسندر ذو القرنين المقدوني، هو هوس سيضيع عمره فيه، كما فعل غيره من قبل، ولم يجدوا نبع ماء الخلود في معبد الصبي المجنّح، الذي لم يكن غير أحجية، أو مكان مفترض غامض لم يزره حتى الخضر نفسه، ولربما أسطورة نشأت وتتطورت في الضمير الجمعي منذ نشأت الحضارات، وصار الإنسان يفكر في مصيره الأزلي.
ولو كان شعي ألكسندر صحيحاً لما مات إسكندر المقدوني ذي القرنين بمرض غامض مفاجئ ألّم به عندما عاد إلى بلدة أربيل لينام مع معشوقته الكردية، ومن بعده وزيره الخضر نفسه.
د. فاروق أوهان
_
(*) من مجموعة زهرة لوز قانية، تحت الطبع.
(**) أرباإللولو” تعني الآلهة الأربعة، وهي موقع مدينة أربيل الحالية المبنية حول القلعة نفسها.
(***) بحقد وحسد كبيرين غزا قنبيز كسر الفرس ضريح آمون ليدمر من أساسه مما حفز ألكسندر في ما بعد على الانتقام لأبيه المفترض آمون.
* منقول عن:
دز فاروق أوهان : بلوغ ينبوع ماء الحياة (*)
يبدو أن الإله آمون قد استخدم إيروس لكي يرسل بسهمه بذرته تلك، إيرس هذا هو نفسه الذي كان مرتهناً لفيليب حين سلطه على أهالي طيبة من أزواج العشاق المائة والخمسين، فبث فيهم الغيرة، والعداوة، وهكذا أفناهم فيليب في معركة بين العشاق الألداء، ينحر بعضهم البعض بسبب الحقد غير المبرر. لهذا استحق فيليب أن يغزوه الإله آمون في عش زوجيته لكي ينام مع فيلادليفيا، فتلد له\ ما “لهما” الإسكندر، رداً على فعلته مع آهالي طيبة المغرر بهم، وانتقاماً لهم.
ارتعاش جسد فيليب أيقظ فيلاديلفيا، فسحبها من ذلك الحلم السريع، وأبعدها عن الهواجس التي سكنتها للحظات، وهكذا انقلب فيليب على جهته الثانية لينام مثل رجل الثلج جامد، بعد زيارته لكهف دافئ أفرغ فيه كل تمنياته في أن يكون له وريثه من أول ليلة.
لقد زرعت بذرتي في رحمك لكي تلدي لي وريثاً بعد تسعة أشهر من الآن: قالها شبح آمون وهو يهم بالاختفاء.
انتظر، انتظر: همست فيلاديلفيا. لكن الشبح كان قد اختفى.
أين أنت؟ ومن تكون: قالت الملكة.
كانت قد تأخرت كثيراً، وقد شعرت بأنها سوف تمرّ في محنة معقدة، تشغل مستقبلها، بعواقب وضعتها في أسئلة محيرة، أوقعهتا في حيرة وقلق ليلاً، ونهاراً طوال تسعة أشهر الحمل، مما جعل الملك فيليب الحريص على وريث عرشه يتحسّب لكل طارئ، ويشك في أي أمر ينتاب ملكته الشابة المعظمة.
وفي أول يوم بعد أن ولدت فلاديلفيا بكرها الصبي، وفد كاهن من معبد نبع الصبي المجنّح، ليصل إلى قلعة الملك فيليب عبر جبل الأولمبس إلى مقدونية؛ قدمه الوزير الأعلى الخضر لجلالة ملك مقدونية، وقد حمل الكاهن دعوات، ومباركة الإله آمون وتمنياته؛ مع هدية مفخمة قدمها لجلالة الملك فيليب المعظم. هذه هدية قدسيّة من الإله آمون لعزيز القلب المولد ألكسندر: قال الكاهن.
أجاب الملك فيليب: كيف لكم معرفة اسم ابننا المولود بكراً، ونحن لم نبح باسمه لأي مخلوق.
تلقيتُ معاليك شفرة قبل تسعة شهور من يوم مولد الأمير، وأنا أتعبد في محراب معبد الرجل المجنّح، عند نبع ماء الحياة الأولي، الذي يتفرع عنه أنهار الحياة الأربعة: سيحون، وجيحون، ودجلة والفرات: أجاب بكل خضوع الكاهن.
بقلب واجف، وشكّ دفين، ومن غير أية علامة للوجل، أو تردد قال الملك فيليب: جيد أن تعلمنا، ونشكر العناية الإلهية على اهتمامها بنا.
مناولاً الملك فيليب صندوق ألماسي قال الكاهن بكل اهتمام، وجدية: في هذا الصندوق قليل من ماء النبع، فيه هدية من الإله آمون. وأضاف: وطلب الإله أن لا يفتح هذا الصندوق إلا الأمير ألكسندر بنفسه، فقط عندما يبلغ سن الخامسة عشرة من عمره.
قال الملك فيليب باستغراب: أهي أحجية، أم هو ألكسير تشيع عنه العامة. أنبئني أيها الكاهن، ما هذه الأسرار، ومن وراءها.
بعزم ومن بإيمان ينحني الكاهن قائلاً: إلكسير الخلود.
قال الملك باستغراب: كيف؟
في الواقع أن أن معبد ماء الحياة، كان المفترض أن يدار من قبل الصبي المجنّح، ولكنه فدى نفسه لكي يصبح جسده مثوى، عفواً مكان للنبع نفسه، وتسيل من عروقه مياه الخلود، وأكاسيرها لمن هو محتاج لفضلة من العمر.
لم نسمع بأمر كهذا من قبل: قال الملك فيليب.
أجاب الكاهن: بوجهة نظر الإله آمون المبجل، أنها قد تنجح مع الأمير الصغير.
جازماً قال الملك من غير انتظار، ولا أخذ مشورة وزيره الخضر: أتمنى ألا يحدث ذلك، قطعاً.
ولكن الأمير ألكسندر سيدعى في يوم من أشهر أيام حياته بذي القرنين: قال الكاهن.
مستغرباً استفسر الملك فيليب: لماذا؟
لآنه سوف يمتلك نواصي الشرق والغرب، في إمبراطورية يديرها بذات اليمين وذات الشمال. قال الكاهن.
لم اسمع، ولم يعلمني أحد من قبل، حتى من كبير مستشاريي الوزير الخضر. قال الملك.
إنها من أسرار الإله آمون، لن تزاح مكنوناتها إلا من قبل الأمير ألكسندر حين بلوغ الخامسة عشرة من عمره: أضاف الكاهن مجدداً.
بمجرد إعادة الكاهن للتواريخ، وتأكيده على مولد البكر ألكسندر، تداعت الشكوك لدى فيليب ملك مقدونيا، حول حالة الملكة فيلاديلفيا، أثنا حملها للجنين، وظنه الكبير منذ أول ليلة دخل عليها، وهو يسمع الآن تلك الأصوات الغريبة التي كانت تصدر فوق السرير الملكي، وقسمات وجه الملكة الغريبة، وكلماتها المتقطعة بلفظة آمون الفرعونية التي كانت تختلط بكلمة آمين وقتها، فكيف لآمون المصري أن يعبر المياه، ويغشى مخدعه في تلك الليلة بالذات ليسبقه في معاشرة زوجته الباكر قبله، ولم يني يتساءل والشكوك تتضاعف في ذاكرته، كيف أن فيلاديلفيا كانت تحاور أحدهم طوال حملها، حسبها الجميع تناغي الجنين، حتى كبير كهنته برر سهومها، وتتداعياتها، لقلة التجربة في الحمل الأول.
والآن، وبناء على توضيحات الكاهن مبعوث آمون، وهديته للأمير ألكسندر الذي كانت تردد فيلاديلفيا اسمه وهي تتحاور في مكنونها، تأكد للملك فيليب أن الصبي ليس منه، وإنما من آمون نفسه. بدأ الآن فقط يحاسبها على الأيام التي مرّت، ويقاضيها في شكوكه بكونها سلّمت نفسها لآمون في ليلة زفافهما ذاتها، وأن ألكسندر ليس من نطفته، وإنما هو ابن آمون عشيقها، فسحت هذه الظنون هوة كبيرة تتعمق يوماً بعد يوم في علاقتهما.
إذا كان ألكسندر ثمرة وصالك مع آمون في سريري، أو في وصال سماوي معه، فإنه ليس من صلبي: استجوب الملك فيليب زوجته الملكة فيلاديلفيا.
أجابت فيلاديلفيا بكل ثقة: كلا، فأنت من كان يرتدي قناع آمون لشدة اعجابك بشخصيته، وذكوريته، كان ذلك في الليلة الأولى التي نمت معي على هذا السرير مولاي.
إلى هنا أنتهى الحوار، وبقي كل منهما على موقفه، ولكن الحكاية تداعت لدى العامة، وانتشرت في المملكة، ولما شبّ الأمير ألكسندر افتتن بكونه سليل إله فرعوني، فأعجبته الخرافة، وبدأ هو نفسه يصدقها، خصوصاً بعدما فتح الصندوق، واختلس رشفة صغيرة منها بعيداً عن الوزير الخضر، بماء على تعليمات كاهن معبد الصبي المجنّح، أحالته وقتها لشعور بطاقة هائلة تغمره، قبل الحفل الذي سيقام للمناسبة.
وبانتحار الملك فيليب، تنامى الشعور لدى الأمير الشاب ألكسندر، وقد تنصب على عرش مملكة مقدونية برعاية والدته فيلاديلفيا، وكاهن معبد الصبي المجنّح. وبإشراف كبير مستشاري الملك فيليب الوزير الأعلى الخضر، عراب ألكسندر ومن قبله والده فيليب، رجل موهوب بمعارف غير محدودة وبثقافة عالية؛ مع حواس إضافية لم يتوصل إليها البشر وقتها، ذكي، عادل، يعتقد العامة أن الخضر نفسه هو رجل متجدد الحياة، ولعله ممن يجرعون من ألكسير الحياة بذات النبع الذي لا يعلم مكانه غير كاهن المعبد، والخضر نفسه.
تقول الحكايات الخرافية التي يرويها الأجداد لأحفادهم، أنهم سمعوا عن أبائهم أن الخضر عند بلوغه الخمسين من عمره يغيب لأسبوع، ويعود بهي الطلعة كشاب في الخامسة والعشرين. عليه أن يغمر نفسه في الماء لخمس ثوان ليزيح عن عمره الربع قرن. وتضيف الأسطورة: بأنه الخضر نفسه كان قد رعى الصبي المجنّح منذ ولادته، عندما انتشله من نسر فوق شجرة على جبل الأولمبس فجلبه إلى الغابات المقدونية.
مولاي لم يترك والدكم الملك فيليب وصية لكم، ولكن آمون قد وهبكم ذلك الصندوق بما فيه، علينا أن نفتحه أمام العامة في حفل التنصيب، والتتويج لكي يرى شعب مقدونية، ويبارك جدارتكم في ولاية عرش مقدونية، صحيح أنكم رشفتم من ألكسير رشفة كانت تأثيراتها جمة على طاقاتكم العمرية، والعقلية، ولكن رشفة صغيرة لا تكفي بمرور الزمن، عليكم الآن بالجرعة كاملة. ولا تخشى فكاهن معبد الصبي المجنّح سوف يزودنا بجرعات كلما احتجت لطاقة، وتجديد في العمر. ومن غير أن يسهب الخضر في تعليماته للأمير ألكسندر، أدرك الأمير آفاق مستقبله المشرق.
ومنذئذ ترسخ لدى ألكسندر إيمان بأنه ثمرة اتحاد آمون بأمه فيلاديلفيا، وأحبها لاعتقاده بأنه قد يكون من أنصاف الألهة، وبهذا يؤهل لحياة طويلة خالدة.
وفي مراسيم التتويج فتح الوزير الخضر صندوق آمون الألماسي أمام حشود المقدوني، وكهنته، وفتح جرة الألكسير الصغيرة ليناولها للأمير الذي سيصبح بعد لحظات ملك مقدونية الكبير، فجرع منها ألكسندر جرعة كبيرة بشكل جعل الحشد يرى ما رمى إليه الوزير الخضر، وعلت في الأجواء صياحات التهليل للملك المعظم الجديد سليل فيليب الكبير، مما أثار ضحكة ساخرة على وجه الملك، وأمه الملكة، وقام الوزير بفتح خارطة ملفوفة في الصندوق مشيراً لموقع نبع ماء الحياة، ورسالة مربطوطة بمصغّر سيف ذهبي تقول: هذه كلمات قدسية أكتبها لولدي ألكسندر، لأعلنه أمير نصف إلهي، وعند تتويجه سوف يكون وكيلي الشرعي على بلاد الإغريقي في جبل الألومبس، من تساليا، وسالونيك، ومقدونيا وسائر الأراضي شمال بحرنا، كلمات الأله آمون وختمه: قال الوزير الخضر وهو يختم الرسالة، ويطويها ويضعها مع الجرة في الصندوق الألماسي ويقفله ليسلمه إلى الملكة فيلاديلفيا.
وباختتام المراسيم أصبح الخضر في نفسه مركزه مع الملك ألكسندر، كما كان مع ابيه، المستشار الأعظم للملكة المقدونية، بينما لا يشغل ذهن ألكسندر من شؤون المُلك غير تحقيقه في مقولة آمون أن يصبح على الأقل نصف إله، فربما تكون هذه الجرعات ممهدة للمشيئة، ولكن الخريطة المرافقة توحي بأن عليه أن يجد مكان النبع، فيكون ابن آمون سليل بجدارة.
مولاي عليكم الانتظار لبلوغ العشرين من العمر، حين ذاك لسوف يصبح حلمكم حقيقة: قال الوزير الخضر جواباً على خواطر ألكسندر، مما أثار تعجب الملك لقراءة الخضر لأفكاره.
لننتظر لوقتها، فنبدأ بغزو آسيا الصغرى، ثم العراق، وفارس: أجاب الملك ألكسندر.
بكل تأكيد: أردف الوزير الخضر.
أجابه الملك: أين يمكن لنا أن نجد معبد منبع الصبي المجنّح.
بتجاهله لرحلاته للنبع كل ربع قرن قال الوزير خضر: لنتبع تعاليم الخارطة المرفقة، وندرسها في الفترة من الآن حتى موعد غزواتنا، إنها بالتأكيد سوف تقودنا إليه.
بعد سنين، وعند بلوغ الملك ألكسندر العشرين، تهيأت الجيوش للحملة الأولى، تحجج الوزير الخضر باستحالة تركه البلاد من غير قيادة لو رحل مع الملك ألكسندر، لحداثة الدولة وكثرة الطامعين، وهو سبب غير المعلن للوزير لكي لا يفتضح سرّ ديمومته، وينافسه فيها أحد حتى ولو كان الملك ألكسندر نفسه. أو ربما استحالة وجود نبع كهذا إلا في مخيلة العامة، وضميرها الجمعي، مما تسمعه، وتشكلها في ذاتها. لهذا أوصاه بأن يبني في كل مكان يرتاح له مدينة يطلق عليها اسمه.
لهذا طاشت غزوات ألكسندر شرقاً، وغرباً، فليس على الخارطة مكان محدد يشير لا للمعبد، ولا للنبع، ولا لالتقاء الأنهر الأربعة، أو بالأحرى تفرعها عن النبع، وإنما هي بحيرة فان الأرمنية، ولا يبدو عليها يكنها نبع غريب، بل مصب كبير.
ولم تكن غزوات الألكسندر من أجل احتلال تلك البلاد، وإنما كان همه منحصر في البحث عن نبع إالكسير الحياة الموعود، منبع ماء الخلود، فغزا وادي الرافدين عابراً العاصمة الآشورية “آرباإيللو”(**) التي كانت واحدة من قراها على نهر الزاب، أحد روافد دجلة العظيم، مثواه الأخير وهو في سن الخامسة والثلاثين ونيف.
وتحقيقاً لوصية الوزير الخضر بنى ألكسندر مدنه مثل ألكسندرية شمال بابل، وألكسندرون على الضفاف الغربية لشبه جزيرة آسيا، أسس لكل منها مسرح إغريقي عريق للعامة، والخاصة تستقبل العروض الجماهيرية في مصارعة الأسود بخاصة. كان همه الكبير أن يصل فارس ليحطم ضريح كسرى أنو شروان والد قنبيز انتقاماً لما فعله الأخير بمعبد آمون(***). وأسرع لينشئ مدينة الأسكندرية شمال مصر، ويزور بقايا معبد أبيه المفترض.
فكر الوزير الخضر أن كل ما يفعله ألكسندر ذو القرنين المقدوني، هو هوس سيضيع عمره فيه، كما فعل غيره من قبل، ولم يجدوا نبع ماء الخلود في معبد الصبي المجنّح، الذي لم يكن غير أحجية، أو مكان مفترض غامض لم يزره حتى الخضر نفسه، ولربما أسطورة نشأت وتتطورت في الضمير الجمعي منذ نشأت الحضارات، وصار الإنسان يفكر في مصيره الأزلي.
ولو كان شعي ألكسندر صحيحاً لما مات إسكندر المقدوني ذي القرنين بمرض غامض مفاجئ ألّم به عندما عاد إلى بلدة أربيل لينام مع معشوقته الكردية، ومن بعده وزيره الخضر نفسه.
د. فاروق أوهان
_
(*) من مجموعة زهرة لوز قانية، تحت الطبع.
(**) أرباإللولو” تعني الآلهة الأربعة، وهي موقع مدينة أربيل الحالية المبنية حول القلعة نفسها.
(***) بحقد وحسد كبيرين غزا قنبيز كسر الفرس ضريح آمون ليدمر من أساسه مما حفز ألكسندر في ما بعد على الانتقام لأبيه المفترض آمون.
* منقول عن:
دز فاروق أوهان : بلوغ ينبوع ماء الحياة (*)