على الجسر الطويل الذي يجتاز بها دجلة ، رغم زحام السيارات، والسيطرات وعندما تمر كل يوم، كانت تلبس ذلك الوجه القاتم ، تتلصص النظر دون أن يراها احد، غارقة بعالم من صنعها، لا يمسه غيرها، تكللها نظرات الرجاء التي تودعها بها أمها، ترقب الطفلة التي شاخت، ترجو الله أن تعود إليها كل يوم،
ضاقت ذرعا ببيتهم الصغير، الذي يطبق على روحها، يجلدها ذلك الحداد الطويل والذي يتلاشى مع الزمن، حتى يغدو هو الزمن، يندفع مع ثوب أمها الأسود، في تلك الندوب الكثيرة التي تغزو وجهها الأسمر، حداد وذهول فرضته على حياتهم، منذ أن تناقص عدد من في البيت، وتطايرت أجسادهم الشابة قسرا، وسط الذهول الذي استقر في قلبها لا يفارقها ، ترتق اللحظات لتستل ذكريات أبناء رحلوا في جحيم أحداث عصفت بالجميع ، فما عادت تعيش إلا فردوسهم السماوي.
لذلك ما أن تترك البيت وأمها، حتى تنشر فرحها في تلك المسافة الممتدة على ضفتي النهر ، تتطاير روحها مع طيوره المحلقة ، تحاول أن تفك غلالتها قليلا ، تجعل عنقها يلامس أنفاس النهر، تنتشي بقبلاته، رغم أن الطريق قد يلحقها بكل طيش ولا معقولية الأحداث، بأولئك الراحلين، إلا أنها تبقى محتفظة بفرح مخبول لا تعرف له نهاية .
كانت تحتاج إلى طاقة مذهلة كي تشعر بالسلام، تؤججه في داخلها، تموجات كالحب، كالرغبة بالحياة، وهي تتخلص من ذلك العويل الصامت، الذي ينهض فجراً، مع حركات الوالدة المتشبثة بأرواح تملأ البيت، وخوف على من بقى بالحياة .
تبقى حياتها لعبة تتمتع بها قد تخطيء أحيانا، لكنها لم تعد تبالي، لا تتجاوز حدودها، وبذلك تتمكن من تحقيق بعضا من حريتها، رغم شعورها بالذنب من تمتعها بحرية منحها إياها موت رجال كانوا سياطا تقيد حركتها ، تخجل كثيرا من حقيقة كهذه ، أمام نظرات أمها بالذات.
لتقف الحياة ما شاء لها الوقوف على عنق وردة، على جبين شجرة، على قمة جبل، على آخر شعرة من رأسها لا يهم، المهم إنها تعيشها بكل حرية، تغترفها من ذلك البريق الموجع، الممتد رغم كل المسافات ليتأصل نبضا خافقا في قلبها، شعور عصي على الفهم ، يصبح هلاميا ولا معنى له عند ولوجها عتبة البيت ، ليعود الحزن، والخوف من كل شيء ، يقزمها من جديد .
منذ كم من الأيام وهي ترقبه من بعيد، مستغرقا في حديث لانهاية له، تراه يتكلم كثيرا ، لا احد يعرف عنه إلا هوسه بالكلام، ويديه ترسم البحور أمام الآخرين.
لكنها ومنذ اليوم الأول الذي تلامست روحها مع بريق روحه المتهادية، مع خطواته المترددة في ذلك الممر الطويل، أصبح يهدر في كل مسامات حياتها، تتوهمه يدعوها اليه، رغم أنها لم تحاول أن تجعله ينتبه إلى وجودها.
اليوم اجتازت معه شرنقتها، مباركة تجاوزها ذلك الخجل الأحمق الذي يكبلها، تحركت ببطيء، كان يجلس وحيدا، التفت إليها، التقت نظراتهما بهدوء، عرفت أنها ستبوح بما فيها من رغبات، اقتربت، رغم الضجيج والأصوات إلا أنها لا تسمع إلا وجيب قلبها يدفع الدم إلى كل خلايا جسدها.
أمسكت بذلك ألتوق الذي يلجم عواطفها، بكل تلك الأصوات القادمة من وراء الحجاب، غادرت صوت أمها وهي تتلو وصاياها.
تحرك متلجلجا وهي تقترب منه، هم بمغادرة المكان، حرك رأسه في كل الاتجاهات ، تحفز وكأن صاعقة ستحل عليه ، لكنه تسمر في مكانه، وضع كفيه تحت ساقيه، والتصق بالطرف الآخر من المصطبة الإسمنتية، لكنه لم يترك المكان.
رفرف قلبه عليها وهي تتلمس أن يبقي عواطفه ساكنة، كي لا تتساقط أفراحها،
وتتدفق حوله فتصبغ قميصه الأبيض بلون حلمها الرائق،
حاول أن يقول شيئا أن يحادثها ، ينزف كل روحه أمامها، رغم كل الخوف المزروع فيهما منذ ملايين السنين، رغم الأرض المتفجرة بين جنسه وجنسها، لكنه كان يدرك أنها نبض قلبه.
نسمات داعبت خصلات شعرها، التي انفلتت من وراء غلالتها المزهوة بربيعها على جبينها، فدفعت بلملمتها، قلقها وارتباكها.
لم يكن قادراً على لوك كلماته، عشرات القصائد كتبها من اجل هذه اللحظة، وضاعت الكلمات، تمسك بمكانه على الطرف الثاني من المصطبة ضاجا،
انعتقت في تلك اللحظات عن مجلسها ، بجيدها المرتجف، تداخلت خطواتها تناغمت مع خطواته ، عانقته ، فانتشت برائحته ، راقصته على ارض هشة
مدت اليه ذراعيها، اقتادته إلى عالمها هي، تباهت به أمام كل النساء .
أعطاها يديه، تلامسا ، تدافعت فيهما أحاسيس غاية في الرهافة.
– هما لك ، لنحلق معا
هناك في غابة بلا حدود عند أقاصي الأرض ، لم يحاولا امتحان قلبيهما ، لكن ليعرفا فقط ماذا بإمكانهما أن يفعلا ، ما فيهما من حب قادر على إذهال الدنيا
لا احد يفهمهما، لكنهما يعرفان أنهما عاشقان ملتفان، متعانقان، لا برد لا ريح هو السكون الذي يلفهما وملائكته.
عطرها بأنفاسه ، وكأنهما أصبحا أيقونة يتألق معها جسديهما، وروحيهما يتناغمان معا
هما في اندهاشهما ما عادا يلتفتان إلى إي شيء، حتى الجمال ما عاد يعنيهما، فجمالهما الداخلي وما يفيض به كل ما يعنيهما
** **
عندما همّ بتطويقها بين ذراعيه، شعرت بوخز على ذراعيها، في وجهها وخزا مؤلما تناهى إلى كل جسدها ، أنغرز فيها،
هناك خيوط تحاك حولها ، تتشعب في أعماقها بين مسامات جلدها،
تقلصت وانحنى ظهرها على تلك المصطبة الإسمنتية، هب فيها خوف، جعل فرحها الطارئ ينهمر كسحابة مثقلة.
تراقصت دموع جهدت ألا تنهمر،
يا لهذا الحزن ، كم بدت رائقة وصافية ، وهي قادمة كآلهة أرضية ، عروسة كانت، ككون من بروق في عمق السماء، كم كان بودي لو تعرف، أني قادم إليها من عطري المشوق إلى أحضانها ، من رغبتي الموعود بها في بقائها معي .
داعب ورقة يحاول أن يمدها أليها، إلا أن أصابعه لا زالت منتشية في الفضاء، وابتسامة بحجم السماء في عينيه.
أراد أن يضع الورقة بين يديها.
تحيرت، هل تمسك بها ؟ أهي لها .
وهي المقطونة به ، أمسكت بها بلهفة، أبقتها بين يديها.
رغبة جامحة في أن أجدك طوال الوقت ، جدب هذه الحياة بدونك ، واختيار صعب أن أبقى بلا عينيك
بين تلك الدقائق التي مرت والدقائق الآتية، يمر الزمن ببطيء، تكتنز فيهما العواطف، تقف مسمرة في انتظار ما يأتي، وهي المرتعشة ، لاحظت أنه يرقبها بلهفة ، فطوت الورقة .
أبتسم لترددها، لأول مرة يشعر أن لقصائده معنى ، وقد جعلتها قريبة منه إلى هذا الحد، كم يشتهي اليوم أن يركن إلى زاوية من قلبها.
وقلبها الذي يعلنه حبيبا، لازال يدفع بروحها بين ثنايا روحه، في خباياها
*** ***
(احبك .. شيئا يشبه النبؤة يشبه الحياة وجودك في حياتي)
في الحي الفقير الذي تقطنه، تقافزت خطواتها مع رائحة الخبز المخبوز توا في بيوت الحي، ممزوجة برائحة اللبلبي في عربة العم حسين في زاويته الأثيرة،
وهي تتلقف منه كيس النايلون المعبأ باللبلبي ومائه المائل إلى الصفرة ورائحته الأثيرية
قالت له : عم حسين .. الفلوس بعدين
أعجبه فرحها اللذيذ قال : كلك فلوس .. يا أميرة
* عن الناقد العراقي
لمياء الآلوسي: عند أقاصي الهمس…..
ضاقت ذرعا ببيتهم الصغير، الذي يطبق على روحها، يجلدها ذلك الحداد الطويل والذي يتلاشى مع الزمن، حتى يغدو هو الزمن، يندفع مع ثوب أمها الأسود، في تلك الندوب الكثيرة التي تغزو وجهها الأسمر، حداد وذهول فرضته على حياتهم، منذ أن تناقص عدد من في البيت، وتطايرت أجسادهم الشابة قسرا، وسط الذهول الذي استقر في قلبها لا يفارقها ، ترتق اللحظات لتستل ذكريات أبناء رحلوا في جحيم أحداث عصفت بالجميع ، فما عادت تعيش إلا فردوسهم السماوي.
لذلك ما أن تترك البيت وأمها، حتى تنشر فرحها في تلك المسافة الممتدة على ضفتي النهر ، تتطاير روحها مع طيوره المحلقة ، تحاول أن تفك غلالتها قليلا ، تجعل عنقها يلامس أنفاس النهر، تنتشي بقبلاته، رغم أن الطريق قد يلحقها بكل طيش ولا معقولية الأحداث، بأولئك الراحلين، إلا أنها تبقى محتفظة بفرح مخبول لا تعرف له نهاية .
كانت تحتاج إلى طاقة مذهلة كي تشعر بالسلام، تؤججه في داخلها، تموجات كالحب، كالرغبة بالحياة، وهي تتخلص من ذلك العويل الصامت، الذي ينهض فجراً، مع حركات الوالدة المتشبثة بأرواح تملأ البيت، وخوف على من بقى بالحياة .
تبقى حياتها لعبة تتمتع بها قد تخطيء أحيانا، لكنها لم تعد تبالي، لا تتجاوز حدودها، وبذلك تتمكن من تحقيق بعضا من حريتها، رغم شعورها بالذنب من تمتعها بحرية منحها إياها موت رجال كانوا سياطا تقيد حركتها ، تخجل كثيرا من حقيقة كهذه ، أمام نظرات أمها بالذات.
لتقف الحياة ما شاء لها الوقوف على عنق وردة، على جبين شجرة، على قمة جبل، على آخر شعرة من رأسها لا يهم، المهم إنها تعيشها بكل حرية، تغترفها من ذلك البريق الموجع، الممتد رغم كل المسافات ليتأصل نبضا خافقا في قلبها، شعور عصي على الفهم ، يصبح هلاميا ولا معنى له عند ولوجها عتبة البيت ، ليعود الحزن، والخوف من كل شيء ، يقزمها من جديد .
منذ كم من الأيام وهي ترقبه من بعيد، مستغرقا في حديث لانهاية له، تراه يتكلم كثيرا ، لا احد يعرف عنه إلا هوسه بالكلام، ويديه ترسم البحور أمام الآخرين.
لكنها ومنذ اليوم الأول الذي تلامست روحها مع بريق روحه المتهادية، مع خطواته المترددة في ذلك الممر الطويل، أصبح يهدر في كل مسامات حياتها، تتوهمه يدعوها اليه، رغم أنها لم تحاول أن تجعله ينتبه إلى وجودها.
اليوم اجتازت معه شرنقتها، مباركة تجاوزها ذلك الخجل الأحمق الذي يكبلها، تحركت ببطيء، كان يجلس وحيدا، التفت إليها، التقت نظراتهما بهدوء، عرفت أنها ستبوح بما فيها من رغبات، اقتربت، رغم الضجيج والأصوات إلا أنها لا تسمع إلا وجيب قلبها يدفع الدم إلى كل خلايا جسدها.
أمسكت بذلك ألتوق الذي يلجم عواطفها، بكل تلك الأصوات القادمة من وراء الحجاب، غادرت صوت أمها وهي تتلو وصاياها.
تحرك متلجلجا وهي تقترب منه، هم بمغادرة المكان، حرك رأسه في كل الاتجاهات ، تحفز وكأن صاعقة ستحل عليه ، لكنه تسمر في مكانه، وضع كفيه تحت ساقيه، والتصق بالطرف الآخر من المصطبة الإسمنتية، لكنه لم يترك المكان.
رفرف قلبه عليها وهي تتلمس أن يبقي عواطفه ساكنة، كي لا تتساقط أفراحها،
وتتدفق حوله فتصبغ قميصه الأبيض بلون حلمها الرائق،
حاول أن يقول شيئا أن يحادثها ، ينزف كل روحه أمامها، رغم كل الخوف المزروع فيهما منذ ملايين السنين، رغم الأرض المتفجرة بين جنسه وجنسها، لكنه كان يدرك أنها نبض قلبه.
نسمات داعبت خصلات شعرها، التي انفلتت من وراء غلالتها المزهوة بربيعها على جبينها، فدفعت بلملمتها، قلقها وارتباكها.
لم يكن قادراً على لوك كلماته، عشرات القصائد كتبها من اجل هذه اللحظة، وضاعت الكلمات، تمسك بمكانه على الطرف الثاني من المصطبة ضاجا،
انعتقت في تلك اللحظات عن مجلسها ، بجيدها المرتجف، تداخلت خطواتها تناغمت مع خطواته ، عانقته ، فانتشت برائحته ، راقصته على ارض هشة
مدت اليه ذراعيها، اقتادته إلى عالمها هي، تباهت به أمام كل النساء .
أعطاها يديه، تلامسا ، تدافعت فيهما أحاسيس غاية في الرهافة.
– هما لك ، لنحلق معا
هناك في غابة بلا حدود عند أقاصي الأرض ، لم يحاولا امتحان قلبيهما ، لكن ليعرفا فقط ماذا بإمكانهما أن يفعلا ، ما فيهما من حب قادر على إذهال الدنيا
لا احد يفهمهما، لكنهما يعرفان أنهما عاشقان ملتفان، متعانقان، لا برد لا ريح هو السكون الذي يلفهما وملائكته.
عطرها بأنفاسه ، وكأنهما أصبحا أيقونة يتألق معها جسديهما، وروحيهما يتناغمان معا
هما في اندهاشهما ما عادا يلتفتان إلى إي شيء، حتى الجمال ما عاد يعنيهما، فجمالهما الداخلي وما يفيض به كل ما يعنيهما
** **
عندما همّ بتطويقها بين ذراعيه، شعرت بوخز على ذراعيها، في وجهها وخزا مؤلما تناهى إلى كل جسدها ، أنغرز فيها،
هناك خيوط تحاك حولها ، تتشعب في أعماقها بين مسامات جلدها،
تقلصت وانحنى ظهرها على تلك المصطبة الإسمنتية، هب فيها خوف، جعل فرحها الطارئ ينهمر كسحابة مثقلة.
تراقصت دموع جهدت ألا تنهمر،
يا لهذا الحزن ، كم بدت رائقة وصافية ، وهي قادمة كآلهة أرضية ، عروسة كانت، ككون من بروق في عمق السماء، كم كان بودي لو تعرف، أني قادم إليها من عطري المشوق إلى أحضانها ، من رغبتي الموعود بها في بقائها معي .
داعب ورقة يحاول أن يمدها أليها، إلا أن أصابعه لا زالت منتشية في الفضاء، وابتسامة بحجم السماء في عينيه.
أراد أن يضع الورقة بين يديها.
تحيرت، هل تمسك بها ؟ أهي لها .
وهي المقطونة به ، أمسكت بها بلهفة، أبقتها بين يديها.
رغبة جامحة في أن أجدك طوال الوقت ، جدب هذه الحياة بدونك ، واختيار صعب أن أبقى بلا عينيك
بين تلك الدقائق التي مرت والدقائق الآتية، يمر الزمن ببطيء، تكتنز فيهما العواطف، تقف مسمرة في انتظار ما يأتي، وهي المرتعشة ، لاحظت أنه يرقبها بلهفة ، فطوت الورقة .
أبتسم لترددها، لأول مرة يشعر أن لقصائده معنى ، وقد جعلتها قريبة منه إلى هذا الحد، كم يشتهي اليوم أن يركن إلى زاوية من قلبها.
وقلبها الذي يعلنه حبيبا، لازال يدفع بروحها بين ثنايا روحه، في خباياها
*** ***
(احبك .. شيئا يشبه النبؤة يشبه الحياة وجودك في حياتي)
في الحي الفقير الذي تقطنه، تقافزت خطواتها مع رائحة الخبز المخبوز توا في بيوت الحي، ممزوجة برائحة اللبلبي في عربة العم حسين في زاويته الأثيرة،
وهي تتلقف منه كيس النايلون المعبأ باللبلبي ومائه المائل إلى الصفرة ورائحته الأثيرية
قالت له : عم حسين .. الفلوس بعدين
أعجبه فرحها اللذيذ قال : كلك فلوس .. يا أميرة
* عن الناقد العراقي
لمياء الآلوسي: عند أقاصي الهمس…..