“ لا يستطيع مصمم الرقص البشري مجاراة الايقاع المتوازن لغصن متجه الى السماء تساءلت ان كانت العاطفة الجمالية للاشــكال السامية مؤلفة من فهم سام للخلق ولابد ان الانسان سيكتشف يوما الالفباء في عيون العقيق الابيض ، وفي اثار يتركها العث وسيعرف أن كل قوقعة عثر عليها كانت قصيدة”
اليخو كاربنتر (الخطوات الضائعة)
اللون الأزرق لون ضعيف الوضوح ، يعمل على تهدئة الأعصاب في حالات الإجهاد الذهني والأرق العصبي ، وهو لون يحمل على التفكير في المدى البعيد . هذا ما جال في خاطري ، وأنا انظر الى ثوب ازرق معلق على حبل غسيل فوق أعالي السطوح . كان هذا قد حــصل وقت جلوسي على مصطبة قديمة وضعت لجلوس عابري السبيل . وانا انظر للثوب استوحيت ترنيمة كانت ترددها جدتـي دائما . لم اكن اعرف مغزى الترنيمة حينها لكنها تعني لي الان الكثير , اعادت لي الترنيمة أريج الماضـي كما أعاده لي اللــون الأزرق هو الآخر ، وكاني اشم رائحة جدتي وهي تردد امسح صدرك بجلد افـعى حينها سيـزول العشــق عنك . رحمك الله يا جدتي كم تمنيـتك بقربـي هذه اللحظة لننظر الى اللون الازرق سوية . مر أمامي مجموعة أطفال مرحين مبتسمين يحملون بأيديهم بالونات بالوان جميلة الأمر الذي دفعني لرفع صوتي مرددا الترنيمة . ضحكت لدعابتهم الطفولية , صرخ احدهم باعلى صوته ((سم الحية )) وهو يشير نـحو أحد الأطفال والذي كان يحمل بالونا ازرق اللون . تبعه بقية الأطفال ، ثم صرخوا جميعا بصوت واحد (( سم الحية )) . كم هو جـميل ان يكون البالون هو الرابطة التي تربطني بالماضي كذلك اللون الازرق , ان كل الذين تركتهم ورائي من أصدقاء واحبة ومن اقـمت مـعهم منذ اللحظة التي سمعتك فيها وانت ترددين هذه الترنيمة لم يكونوا قادرين على التحدث بلغة الطفولة , لغة من يفكر دون ماض لم يتجاوز الثلاثة او الاربــع سنين , كنت كمن يفيق من نومه بعد ان انتهت الترنيمة مر الأطفال سريعا دون ان اشـعر بذلك تاركين وراءهم بالونا يرتفع وهاهو في طريقه للوصول بمستوى الثوب الازرق .. آه ياجدتي ليس لي مفر من ان احكي لك ماجرى فلاشيء يفرحني غير ذلك تكلمنا بلـغة الطفولة كثيرا ورددنا ترنيمتك كثيرا وأينما كنا ، رغم ذلك فقد رددتها اليوم بصـوت عال وعلى مسامع المارة لشعوري بالوحدة بل لذلك الشعور المضني بتطبيقها اوبعدم تطبيقها ولم اكن اشعر بذلك لولا صدى كلماته الاخيرة بعد ان ردد الترنيمة كثيرا – آن الاوان لتفعل ذلك هيا ياصديقي امسح صدرك , كانت هذه أخر كلماته ياجدتي في ذلك اليوم الذي تلقت فيه وحدتنـا امرآ بإخلاء الموقع الذي كنا نتمركز فيه لم تحدد جهة الإخلاء لصعوبة الموقف اذ كانت القذائف تتساقط دون هوادة تاركة حفرآ كبـيرة في كل مكان ، الصعوبة الكبرى كانت تتمثل بمدفعيتنا التي كانت تقف وكانها تماثيل رخامية وسط دخان كثيف إذ يتطلب سحبها جهدآ بالغ التعقيد , كنت حينها اتحصن من موضع آمن بعيدآ نوعا ما عن المدافع رغم كل هذا فأني حاولت رفع رأسي قليلا ليـتسنى لي معرفة الجنود الاخرين اوعلى الأقل معرفة الناجين منهم لكن الدخان الكثيف حال دون ذلك فعدت الى وضعي الاول مســـتلقيآ على ظهري وبينما كنت كذلك سمعت صوتا ينادي – الى السماء ايها البالون , كان صوته ياجدتي لم يكن باستـطاعتي فعل شيء ألا تذكري ماقلتيه ذات مرة نم ايها البالون الصغير , بعد ذلك حاولت النهوض بحذر شديد وما ان اصبح رأسي بموازاة سطح الارض حتى أذهلني منظر بالون يصعد الى السماء لم أميز لونه لشدة كثافة الدخان ثم عاد صوته من جديد : الى السماء أيها البالون, في تلك اللحــظة لم اكن قادرا على الوصول اليه الا بالتجرد من كل ما املك من ماضي , نهضت من موضعي كمن لايملك من الماضي ســــوى ثلاثة سنين وناديت باعلى صوتي –لاعليك ايها البالون الصغير انا في طريقي اليك , ماهي الا لحظات حتى وصلت الموضــــع الذي كان يقي نفسه فيه خوفآ من القذائف عندما دخلت الموضع كان مستلقيآ على ظهره ضمني اليه بشدة ثم وضعته في حجري كان مبتـسمآ رغم مسيل الدم من فمه فحدثني بلهجة اعادت لي العاطفة التي نسيتها منذ بدء الحرب قائلآ – ارتفع ايها البالون هناك حيث الســـماء الصافية , ابتسم رغم الالم وقال سيمتلىء فمي بالمرارة ثم لبثنا صامتين ولم يدم هذا الصـمت طويلآ حتى رددت الترنيـــمة بنبرة حزينة ابتســم مرة اخرى قائلآ – ليس بمقدور أحد ازالة عشق البالونات عني حدثني ياصاحبي بلغة الطفولة قال هذا وقد ضـمني اليه بشــدة فقلت قبل أن يحل الظلام امتلأت السماء بالغربان ونعيقها وكان جميع سكان القرية مجتمعين عند عتبة داركم ســمعت أحدهم يقول الغربان رمز التشــأؤم وهو يشير بسباته نحو الغربان من كان يؤمن بقوله فقد أشار بسباته هو الاخر ومن لم يؤمـن فقد اكتفى بصمته محاولآ استذكار أحد رموز التشأؤم سألني وهو يبتسم وكم كان عمرنا حينها ؟ لاعليك يكفي اننا أطفالا قلـت له هذا ثم ان نســــــاء القرية قد تجمعن ايضآ في داركم وهن يصرخن بأعلى اصواتهن ميزت صوت والدتي من بين أصوات النسوة لعذوبته وصـــدقه .. كنت واقفآ بمسافة ليــست ببعيدة عندما أطلقت والدتي صرختها والتي أجبرتني على إمساك بعباءتها ثم ســــرت خلفها كالأعمى لان سواد العباءة كان يغطي وجهي لكني رغم ذلك كنت اعرف كل النساء عن طريق ماتحــمله عباءة كل واحدة من رائحة . يصـعب تصديق ذلك. رائحة التبغ كانت تفوح من عباءة جدتي , كانت الرائحة المميزة من بين الروائح اما والدتي فكانت عباءتها دون رائحة سوى رائحة لعاب فمي لانني كنـت اطبق اسناني بشدة على اطرافها جدتي ووالدتي لم تحملا معهما سوى تلك الرائحتين ..هذا اذا ماقارنتها ببــقية الروائح التي كانت تضـعها او تحملها كل امرأة .. حتى اني تذكرت جدتي عندما كانت تقول لوالدتي ماجدوى رائـحة الدنيا مقابل رائــحة الموت .وصلت مع والدتي عند مدخل الغرفة التي كانت فيها والدتك رحمها الله ممددة على حصيرة مغطاة بعباءتها ,حينها نصحتني والدتي بالوقوف في زاوية ما ثم قامت برمي نفسها على الارض ثم صرخت باعلى صوتها وارتفع معها صــوت النساء . عندما كنت واقفا في المكان الذي نصحتـنتني والدتي بالوقوف فيه رأيتك تحمل بالونآ ازرقآ التقت عينانآ وابتـــسمنا لبعضنا حتى انفجرنا ضـحكآ الامر الذي صفعتني من اجله والدتي على خدي ثم قادتني معها الى البيت دون ان تفارقني صــورتك وانت تحمل البالون .ودون ان تفارقه ابتسامته سألني ماذا حصـل بعد ذلك ؟عندما عدت الى دارنا جلسـت على الاريكة التي كانت جدتي تفضل الجلوس عليها كانت مطلية باللون الاسود وكان خلفها على الجدار صورة لجدي مبتسم الوجه وعلى صــدره حزام مليء بالرصاص , لبثت صامتآ متذكرآ الضحكة ثم ضحكت رغمآ عني والدتي قد صعدت الى سطح الدار لتعد فراش النوم . بعد لحـظات عادت جدتي , كانت تضع بين شفتيها سيـجارة وهي تسير على عجل اخفيت ضحكتي وابتسمت جدتي بابتسامتها المعهودة ثم نظرت الى صــورة جدي فاختفت ابتســامتها فجأة ’ انتابني شعور بأن جدتي انما جاءت لتوبخني فتكـورت في مكانــــي , لكن ابتــــسامتها سرعان ماعادت اليــها ثم قالت سيأتي للمبيت عندنا ضمني اليه بقوة هذه المرة وبدأ النزيف من جديد في هذه الظـــروف بات من المستحيل طلب المــــساعدة لكن ابتسامتنا معآ كانت بمثابة المعونة الانسانية التي يحتاجها الانسان في اقــــسى الظروف .حاول الكلام لكني نصـحته بعدم فعل ذلك لكن اصراره على الكلام كان شديدآ فقال : الهواء المتــبقي في رئتي يكفي لمليء بالونآ آخر بل يكفي لان اتحدث وتحدث , كنت اتــبع جدتك بخطوات وئيدة كنت انظر لسكان القرية من خلف البالون كانوا جميعـهم بلون واحــد هو الازرق حتى الغربان اصــبح لونها ازرقآوبينما كنت كذلك افلت من يدي البالون فطار بعــيدآ حتى انه لحق بالغربان وقد اعتبروه واحدآ من رموز التشاؤم واشـاروا جميعهم نحوه قبل ان يشيروا جميعهم نحوي واصلت سيري خلف جدتك حتى دخلنا داركم فرأيتك تقفز فرحآ والتقيــــنا من جديد وانفجرت ضحكتنا غير مبالين بنظرات جدتك حينها سألتني عن البالون فأجـــبتك ضاحكآ قد تبع الغربان .بعد ذلك جلسنا متلاصقين على الاريكة ومنذ تلك الليلة بدأت جدتك تحكي لنا حـــكايات قالت انها لم تفارق مخيلتها منذ نعومة اظافرها , كنا نصغي اليها بأهتمام شديد حتى أن البعض من تلك الحكايات كانت تحركنا من مكاننا لدرجـة تعلقنا بثوب جدتك الازرق المزركش بورود بيضاء في احدى الليالي وعندما كنا نصغي لحكـايات جدتك قالت انتم يااولاد ستــــكون لكم حكاية عجيبة , ستحبان بعضكما وسيغلبكما العشق لكن من اراد منكم ان يذهب عشق الاخر عنه فليمسح صــــدره بجلد افعى ثم رددت الترنيمة .كان يتكلم وهو يحرك رأسه واضعآ يده على صدره وكأن نشــوة عظيمة في داخله يبتسم ثم يرمقني بنظرة خاطفة وهو يقول الهواء المتبقي في داخلي يكفي لملىء بالونآ آخر , رغم الحرب فالبالونات هناك في السماء أنظر الى البالون يصــارع ســموم الحــرب بدلآ من ســموم الافاعي
انه يتحداها بكل شجاعة , ذات مرة سألت جدتك عن ما أذا كان جلد الافعى سيذهب عني عشق البالونات فقالت : اسمع ياولدي جرت العادة لدينا بأن يطاف بالمولود الجديد في سوق المدينة تحمله احدى النساء تمر به من تحت السلاح ومن ثم تأخذه الى محـلات بيع الاصباغ فتقوم المرأة التي تحمل المولود بأختيار لون فتدخل اصبعها داخل علبة الصبغ ثم تمرره على قماط المولود ..هل تعرفان ماذا اختير لكم ؟
كلا ياجدتي – الازرق طبعآ.
لم تكن جدتك تعرف لوني الحقيقي .. فالمراة التي حملتني بعد ساعة من ولادتي قد اختارت اللون الازرق لكن القصة الحقيقة والتي اخبرتني بها والدتي رحمها الله تقول ان المرأة التي حملتني الى السوق قد اخـتارت في باديء الامر اللون الاســود وقبل ان تمرر اصبعها على قماطي فكرت بان هذا اللون هو لون شؤم لكن اصبـعها كان قريبا من قــماطي فنزلت منه بعض القطرات قبل ان تغير اللون الاسود الى اللون الازرق ..يوم اسود ويوم ازرق ولماذا لم تخبر جدتي بذلك ؟ هي علم بذلك لكني كنت مستمعآ بحكايتها حتى ان كل حركة كانت تصدر منها كان لها معنى خاص حتى نظراتها كنت اعلم ان فيها شىء من الطمأنينة غير الطمأنينة المصـــاحبة لحـكايتها ..كنت مشغولا ومذهولا بمشاهدتها وهي تستخرج كيس التبغ لتعمل منه سيجارتها المفضلة وهي تمرر لســـانها على الورقة التي ستصبح سيجارة فيما بعد قالت ليس للبالون دم ولحم لكني اعشق البالونات اضافة الى ذلك فاني املأ البالون من هوائي الذي يمنحني الحياة لهدا تحبه ياولدي رغم ان الدخان كان كثيفا لكنه كان ينظر الى السماء محاولآ البحث عن البالون انظر هناك قال هذا وهو يشير نحو السماء معركة غير مرئية بين الهواء الذي يحيى به الانسان وبين الهواء الدي يميت الانسان , انظر الى البالون انه يصعد الى الســماء اما هذه القنابل فليس بمقدورها على اعادة نفسها بعد الانفجار مهما تعددت الطرق لك%
""
* إشارة : قصة الكاتب ” فاضل سالم ” هذه هي القصة الفائزة بالمرتبة الثالثة في مسابقة الامل التي أقامها بيت الحكمة العراقي ، وكانت اللجنة المشرفة مؤلفة من الأساتذة ناطق خلوصي و حنون مجيد و حسب الله يحيى .
الناقد العراقي
فاضل سالم: (( البالون الصغير ))
اليخو كاربنتر (الخطوات الضائعة)
اللون الأزرق لون ضعيف الوضوح ، يعمل على تهدئة الأعصاب في حالات الإجهاد الذهني والأرق العصبي ، وهو لون يحمل على التفكير في المدى البعيد . هذا ما جال في خاطري ، وأنا انظر الى ثوب ازرق معلق على حبل غسيل فوق أعالي السطوح . كان هذا قد حــصل وقت جلوسي على مصطبة قديمة وضعت لجلوس عابري السبيل . وانا انظر للثوب استوحيت ترنيمة كانت ترددها جدتـي دائما . لم اكن اعرف مغزى الترنيمة حينها لكنها تعني لي الان الكثير , اعادت لي الترنيمة أريج الماضـي كما أعاده لي اللــون الأزرق هو الآخر ، وكاني اشم رائحة جدتي وهي تردد امسح صدرك بجلد افـعى حينها سيـزول العشــق عنك . رحمك الله يا جدتي كم تمنيـتك بقربـي هذه اللحظة لننظر الى اللون الازرق سوية . مر أمامي مجموعة أطفال مرحين مبتسمين يحملون بأيديهم بالونات بالوان جميلة الأمر الذي دفعني لرفع صوتي مرددا الترنيمة . ضحكت لدعابتهم الطفولية , صرخ احدهم باعلى صوته ((سم الحية )) وهو يشير نـحو أحد الأطفال والذي كان يحمل بالونا ازرق اللون . تبعه بقية الأطفال ، ثم صرخوا جميعا بصوت واحد (( سم الحية )) . كم هو جـميل ان يكون البالون هو الرابطة التي تربطني بالماضي كذلك اللون الازرق , ان كل الذين تركتهم ورائي من أصدقاء واحبة ومن اقـمت مـعهم منذ اللحظة التي سمعتك فيها وانت ترددين هذه الترنيمة لم يكونوا قادرين على التحدث بلغة الطفولة , لغة من يفكر دون ماض لم يتجاوز الثلاثة او الاربــع سنين , كنت كمن يفيق من نومه بعد ان انتهت الترنيمة مر الأطفال سريعا دون ان اشـعر بذلك تاركين وراءهم بالونا يرتفع وهاهو في طريقه للوصول بمستوى الثوب الازرق .. آه ياجدتي ليس لي مفر من ان احكي لك ماجرى فلاشيء يفرحني غير ذلك تكلمنا بلـغة الطفولة كثيرا ورددنا ترنيمتك كثيرا وأينما كنا ، رغم ذلك فقد رددتها اليوم بصـوت عال وعلى مسامع المارة لشعوري بالوحدة بل لذلك الشعور المضني بتطبيقها اوبعدم تطبيقها ولم اكن اشعر بذلك لولا صدى كلماته الاخيرة بعد ان ردد الترنيمة كثيرا – آن الاوان لتفعل ذلك هيا ياصديقي امسح صدرك , كانت هذه أخر كلماته ياجدتي في ذلك اليوم الذي تلقت فيه وحدتنـا امرآ بإخلاء الموقع الذي كنا نتمركز فيه لم تحدد جهة الإخلاء لصعوبة الموقف اذ كانت القذائف تتساقط دون هوادة تاركة حفرآ كبـيرة في كل مكان ، الصعوبة الكبرى كانت تتمثل بمدفعيتنا التي كانت تقف وكانها تماثيل رخامية وسط دخان كثيف إذ يتطلب سحبها جهدآ بالغ التعقيد , كنت حينها اتحصن من موضع آمن بعيدآ نوعا ما عن المدافع رغم كل هذا فأني حاولت رفع رأسي قليلا ليـتسنى لي معرفة الجنود الاخرين اوعلى الأقل معرفة الناجين منهم لكن الدخان الكثيف حال دون ذلك فعدت الى وضعي الاول مســـتلقيآ على ظهري وبينما كنت كذلك سمعت صوتا ينادي – الى السماء ايها البالون , كان صوته ياجدتي لم يكن باستـطاعتي فعل شيء ألا تذكري ماقلتيه ذات مرة نم ايها البالون الصغير , بعد ذلك حاولت النهوض بحذر شديد وما ان اصبح رأسي بموازاة سطح الارض حتى أذهلني منظر بالون يصعد الى السماء لم أميز لونه لشدة كثافة الدخان ثم عاد صوته من جديد : الى السماء أيها البالون, في تلك اللحــظة لم اكن قادرا على الوصول اليه الا بالتجرد من كل ما املك من ماضي , نهضت من موضعي كمن لايملك من الماضي ســــوى ثلاثة سنين وناديت باعلى صوتي –لاعليك ايها البالون الصغير انا في طريقي اليك , ماهي الا لحظات حتى وصلت الموضــــع الذي كان يقي نفسه فيه خوفآ من القذائف عندما دخلت الموضع كان مستلقيآ على ظهره ضمني اليه بشدة ثم وضعته في حجري كان مبتـسمآ رغم مسيل الدم من فمه فحدثني بلهجة اعادت لي العاطفة التي نسيتها منذ بدء الحرب قائلآ – ارتفع ايها البالون هناك حيث الســـماء الصافية , ابتسم رغم الالم وقال سيمتلىء فمي بالمرارة ثم لبثنا صامتين ولم يدم هذا الصـمت طويلآ حتى رددت الترنيـــمة بنبرة حزينة ابتســم مرة اخرى قائلآ – ليس بمقدور أحد ازالة عشق البالونات عني حدثني ياصاحبي بلغة الطفولة قال هذا وقد ضـمني اليه بشــدة فقلت قبل أن يحل الظلام امتلأت السماء بالغربان ونعيقها وكان جميع سكان القرية مجتمعين عند عتبة داركم ســمعت أحدهم يقول الغربان رمز التشــأؤم وهو يشير بسباته نحو الغربان من كان يؤمن بقوله فقد أشار بسباته هو الاخر ومن لم يؤمـن فقد اكتفى بصمته محاولآ استذكار أحد رموز التشأؤم سألني وهو يبتسم وكم كان عمرنا حينها ؟ لاعليك يكفي اننا أطفالا قلـت له هذا ثم ان نســــــاء القرية قد تجمعن ايضآ في داركم وهن يصرخن بأعلى اصواتهن ميزت صوت والدتي من بين أصوات النسوة لعذوبته وصـــدقه .. كنت واقفآ بمسافة ليــست ببعيدة عندما أطلقت والدتي صرختها والتي أجبرتني على إمساك بعباءتها ثم ســــرت خلفها كالأعمى لان سواد العباءة كان يغطي وجهي لكني رغم ذلك كنت اعرف كل النساء عن طريق ماتحــمله عباءة كل واحدة من رائحة . يصـعب تصديق ذلك. رائحة التبغ كانت تفوح من عباءة جدتي , كانت الرائحة المميزة من بين الروائح اما والدتي فكانت عباءتها دون رائحة سوى رائحة لعاب فمي لانني كنـت اطبق اسناني بشدة على اطرافها جدتي ووالدتي لم تحملا معهما سوى تلك الرائحتين ..هذا اذا ماقارنتها ببــقية الروائح التي كانت تضـعها او تحملها كل امرأة .. حتى اني تذكرت جدتي عندما كانت تقول لوالدتي ماجدوى رائـحة الدنيا مقابل رائــحة الموت .وصلت مع والدتي عند مدخل الغرفة التي كانت فيها والدتك رحمها الله ممددة على حصيرة مغطاة بعباءتها ,حينها نصحتني والدتي بالوقوف في زاوية ما ثم قامت برمي نفسها على الارض ثم صرخت باعلى صوتها وارتفع معها صــوت النساء . عندما كنت واقفا في المكان الذي نصحتـنتني والدتي بالوقوف فيه رأيتك تحمل بالونآ ازرقآ التقت عينانآ وابتـــسمنا لبعضنا حتى انفجرنا ضـحكآ الامر الذي صفعتني من اجله والدتي على خدي ثم قادتني معها الى البيت دون ان تفارقني صــورتك وانت تحمل البالون .ودون ان تفارقه ابتسامته سألني ماذا حصـل بعد ذلك ؟عندما عدت الى دارنا جلسـت على الاريكة التي كانت جدتي تفضل الجلوس عليها كانت مطلية باللون الاسود وكان خلفها على الجدار صورة لجدي مبتسم الوجه وعلى صــدره حزام مليء بالرصاص , لبثت صامتآ متذكرآ الضحكة ثم ضحكت رغمآ عني والدتي قد صعدت الى سطح الدار لتعد فراش النوم . بعد لحـظات عادت جدتي , كانت تضع بين شفتيها سيـجارة وهي تسير على عجل اخفيت ضحكتي وابتسمت جدتي بابتسامتها المعهودة ثم نظرت الى صــورة جدي فاختفت ابتســامتها فجأة ’ انتابني شعور بأن جدتي انما جاءت لتوبخني فتكـورت في مكانــــي , لكن ابتــــسامتها سرعان ماعادت اليــها ثم قالت سيأتي للمبيت عندنا ضمني اليه بقوة هذه المرة وبدأ النزيف من جديد في هذه الظـــروف بات من المستحيل طلب المــــساعدة لكن ابتسامتنا معآ كانت بمثابة المعونة الانسانية التي يحتاجها الانسان في اقــــسى الظروف .حاول الكلام لكني نصـحته بعدم فعل ذلك لكن اصراره على الكلام كان شديدآ فقال : الهواء المتــبقي في رئتي يكفي لمليء بالونآ آخر بل يكفي لان اتحدث وتحدث , كنت اتــبع جدتك بخطوات وئيدة كنت انظر لسكان القرية من خلف البالون كانوا جميعـهم بلون واحــد هو الازرق حتى الغربان اصــبح لونها ازرقآوبينما كنت كذلك افلت من يدي البالون فطار بعــيدآ حتى انه لحق بالغربان وقد اعتبروه واحدآ من رموز التشاؤم واشـاروا جميعهم نحوه قبل ان يشيروا جميعهم نحوي واصلت سيري خلف جدتك حتى دخلنا داركم فرأيتك تقفز فرحآ والتقيــــنا من جديد وانفجرت ضحكتنا غير مبالين بنظرات جدتك حينها سألتني عن البالون فأجـــبتك ضاحكآ قد تبع الغربان .بعد ذلك جلسنا متلاصقين على الاريكة ومنذ تلك الليلة بدأت جدتك تحكي لنا حـــكايات قالت انها لم تفارق مخيلتها منذ نعومة اظافرها , كنا نصغي اليها بأهتمام شديد حتى أن البعض من تلك الحكايات كانت تحركنا من مكاننا لدرجـة تعلقنا بثوب جدتك الازرق المزركش بورود بيضاء في احدى الليالي وعندما كنا نصغي لحكـايات جدتك قالت انتم يااولاد ستــــكون لكم حكاية عجيبة , ستحبان بعضكما وسيغلبكما العشق لكن من اراد منكم ان يذهب عشق الاخر عنه فليمسح صــــدره بجلد افعى ثم رددت الترنيمة .كان يتكلم وهو يحرك رأسه واضعآ يده على صدره وكأن نشــوة عظيمة في داخله يبتسم ثم يرمقني بنظرة خاطفة وهو يقول الهواء المتبقي في داخلي يكفي لملىء بالونآ آخر , رغم الحرب فالبالونات هناك في السماء أنظر الى البالون يصــارع ســموم الحــرب بدلآ من ســموم الافاعي
انه يتحداها بكل شجاعة , ذات مرة سألت جدتك عن ما أذا كان جلد الافعى سيذهب عني عشق البالونات فقالت : اسمع ياولدي جرت العادة لدينا بأن يطاف بالمولود الجديد في سوق المدينة تحمله احدى النساء تمر به من تحت السلاح ومن ثم تأخذه الى محـلات بيع الاصباغ فتقوم المرأة التي تحمل المولود بأختيار لون فتدخل اصبعها داخل علبة الصبغ ثم تمرره على قماط المولود ..هل تعرفان ماذا اختير لكم ؟
كلا ياجدتي – الازرق طبعآ.
لم تكن جدتك تعرف لوني الحقيقي .. فالمراة التي حملتني بعد ساعة من ولادتي قد اختارت اللون الازرق لكن القصة الحقيقة والتي اخبرتني بها والدتي رحمها الله تقول ان المرأة التي حملتني الى السوق قد اخـتارت في باديء الامر اللون الاســود وقبل ان تمرر اصبعها على قماطي فكرت بان هذا اللون هو لون شؤم لكن اصبـعها كان قريبا من قــماطي فنزلت منه بعض القطرات قبل ان تغير اللون الاسود الى اللون الازرق ..يوم اسود ويوم ازرق ولماذا لم تخبر جدتي بذلك ؟ هي علم بذلك لكني كنت مستمعآ بحكايتها حتى ان كل حركة كانت تصدر منها كان لها معنى خاص حتى نظراتها كنت اعلم ان فيها شىء من الطمأنينة غير الطمأنينة المصـــاحبة لحـكايتها ..كنت مشغولا ومذهولا بمشاهدتها وهي تستخرج كيس التبغ لتعمل منه سيجارتها المفضلة وهي تمرر لســـانها على الورقة التي ستصبح سيجارة فيما بعد قالت ليس للبالون دم ولحم لكني اعشق البالونات اضافة الى ذلك فاني املأ البالون من هوائي الذي يمنحني الحياة لهدا تحبه ياولدي رغم ان الدخان كان كثيفا لكنه كان ينظر الى السماء محاولآ البحث عن البالون انظر هناك قال هذا وهو يشير نحو السماء معركة غير مرئية بين الهواء الذي يحيى به الانسان وبين الهواء الدي يميت الانسان , انظر الى البالون انه يصعد الى الســماء اما هذه القنابل فليس بمقدورها على اعادة نفسها بعد الانفجار مهما تعددت الطرق لك%
""
* إشارة : قصة الكاتب ” فاضل سالم ” هذه هي القصة الفائزة بالمرتبة الثالثة في مسابقة الامل التي أقامها بيت الحكمة العراقي ، وكانت اللجنة المشرفة مؤلفة من الأساتذة ناطق خلوصي و حنون مجيد و حسب الله يحيى .
الناقد العراقي
فاضل سالم: (( البالون الصغير ))