تسلل الصبح الى البيت من دون طقوس الصباحات المعتادة؛ فلا تثائب عند الفراش، ولا (تصبيحات) بالخير ، ولا اقداح شاي، ولا زمن يهرب مسرعاً باتجاه بداية دوام، او سيارة تنهي إنتظاره!..
ربما كان الليل هو السبب!..انسحب مثل ستارة مسرح ولم يتغير شيء..
المشهد نفسه للصباح الثالث على التوالي!..الأم تتربع في زاوية الغرفة المقابلة للصورة الكبيرة الملونة- لكنها لم تعد تنظر للصورة كما كانت تفعل، الجد يقرفص في باب الغرفة شابحاً عينيه الكليلتين باتجاه باب الحوش، الأخ الذي اراد النهوض أجلسته صرخات الأم التي تحولت بعد ذلك الى عويل لايهدأ إلا بعد ان تهمي عيون الحاضرين دمعاً ساخناً…العم وحده يتحرك لائباً، عيناه تراقبان الهاتف النقال الذي وُضع على طبلة بلاستيكية وسط الغرفة، كلما رنَّ نزلت نغماته مثل المطارق على أعصاب الحاضرين، لذلك غيَّر العم نغمته الى صوت مؤذن ينادي” الله أكبر..الله أكبر..”.
بين طرقة باب وضربة جرس، أمتلاْ البيت بالمنتظرين المواسين، ولم يتذكر أي منهم ان صبحاً جديداً قد حلّ، وليلاً قد أدبر، حتى سأل الجد بصوت فيه بقايا من قوة وجلَد:
– هل أفطرت؟..
أجابوه بالنفي، فرد منادياً الأم باعثاً فيها الأمل:
– كلي ولو لقمة..لقد ذبلتِ..سيعود بعد قليل ولايصح ان يراك هكذا ذابلة..كلي وأشربي حتى يراك مثلما تركك..
– وهل سيعود؟؟
أجابت الأم بنبرة يائسة وصوت لزج ضاعت نهايات حروفه في البحة التي تشبه الحشرجة..
– بإذن الله.
أجاب الجد متردداً، وكأنه غير متأكد مما يقول، لكنه بعد لحظات حاول ان يستعيد سطوة رجولته الشائخة فأستدرك قائلاً:
– صدقيني كسرت قلبه..تخيلته وقد إنهار عندما قلت له؛ هذا فتى مات ابوه في حرب إيران، واُعدم أخوه في حرب الكويت..أعيده لي (بلبن أمك الزاكية)..لقد سكت..كأنني سمعت صوت تصدع قلبه، صحيح ان الخاطفين قساة جداً، لكنه إنهار..لم يغلق الهاتف..ربما ذهب يجادل أفراد عصابته لفك وثاقه وإطلاق سراحه..
سرح الجد في خياله والجميع منصت اليه وكأنه راوية يقود مستمعيه الى ذروة التشويق. أما الأم فقد راحت تنظر الى الصورة المعلقة على الحائط..
– ربما قتلوه..هؤلاء لم يرضعوا حليباً زاكياً..
– أذكري الله..صدقيني تفطر قلبه ..ربما أختلفوا فيما بينهم فتأخروا في إطلاق سراحه؟..
– وربما فيهم من نادى” إقطع نزاع القوم ياحرملة”؟!..
تهدمت الكلمات على أطراف شفتيها، فأطلقت صرخة مشروخة وهي ترنو الى الصورة من خلف ستارة دمع ساكن، فتصادى صوتها في أصوات النسوة اللاتي كتمنّّ رغبة في الصراخ والندب معها بعد ان نظر الرجال اليهن نظرة تحذير مفادها؛ لم يحدث شيء بعد يستدعي العويل، لكنهن تابعنَّ نظر الأم المصلوب على الصورة بحجمها الكبير؛ وجه عريض لفتى يبدو ان عمره تجاوز الخامسة عشر عاماً..شفتان مكتنزتان كأنهما تعتصران أبتسامة تشبه تلويحة وداع، عينان واسعتان فيهما شيئ من الحور، وجبهة عريضة ارخى على جانبيها ذؤابتين من شعرِ أسود لصاف منحدرتين من مفرق الرأس ، فتعطي للوجه ملمحاً ملوكياً يجمع بين نعومة الأنثى وفوران الفتوة الزاحفة على تخوم الرجولة.
ربما الجميع اكتشف معنى الأبتسامة المستقطرة من الشفتين.. راحو يستعيدون كل القصص التي سمعوها عن المخطوفين وطرق قتلهم البشعة؛ خرقة بالية تضغط على هاتين العينين ، وشريط لاصق عريض يدوف الأبتسامة بدم الشفتين المتورمتين من أثر الضرب، ويدان مقيدتان الى الخلف تجعلان الجسد مثل الصرة الملقاة بإهمال، وثمة عيون تتلاصف من تحت أقنعة سوداء، وغتر مرقطة تتنقب بها الوجوه،والذي أراد ان يقطع نزاع القوم يمسك رأس الفتى من الذؤابتين ويسحبه الى الخلف ليكشف موضع الحنجرة للسكين اللاهثة، انطلق الصوت مخشخشاً:
الله أكبر..الله أكبر…الله….
انقطعت الصورة، التفت الجميع الى الهاتف الملقى على الطبلة بحركة واحدة على إيعاز كوني جعل الأجساد متوترة الأعناق مشرئبة بانتظار شيء سينفجر..
هرع العم الى الهاتف مثل الملدوغ،وخلفه الجد يتكأ على عصاه بصعوبة..وحدها الأم بقيت شاخصة بعينيها المخضلتين الى السقف وكأنها تسبر اغواره بنظرة نافذة..
– لا والله..لم يتصلوا حتى الآن..
– ….
– اليوم هو موعد الإنذار الأخير..نحن بانتظار الفرج
استرخت الأعناق على الأكتاف ثانيةً، وهمدت الأجساد وكأنها لُطشت بالأرض مستسلمة لقلقها المشوب بالحزن، وفي صمت الهمود أرتفع صوت الجدة مرة أخرى:
– خذوها للتنور..خذوها قبل فوات الآوان..لاتضيعوا الولد..
لم يلتفت أحد اليها، بقيت تدور بوجهها الذي حاكته خيوط غائرة من التجاعيد والوشم الأزرق بانتظار تعليق أو استجابة!.. فهي منذ أول أمس عندما علموا باختطاف حفيدها تصر على أخذ الأم الى التنور وهناك تكشف صدرها وتطلب من الله عودة ابنها..لكن الجميع كان يعقد أمالاً على إتصال من الخاطفين يطلق سراحه، او ينتظرون ماتفعله الشرطة برغم ان الخاطفين حذروهم من الإتصال بالشرطة، والبعض منهم تجاوز كل شيء وراح يفكر بكيفية إختراق الزحام على بوابة الطب العدلي للتعرف عليه بين الجثث المجهولة الهوية..
الخاطفون الذين اتصلوا في اليوم الثاني من خطفه لم يقولو شيئاً يرجح أي احتمال، فقد أكتفو بالقول:” سنحقق معه وبعدها ننزل حكم الله فيه، فـأما ان يذهب الى الكلية الطبية أو الى الطب العدلي…”.
الأخ وحده أعتقد ان في ماقاله الخاطفون يكمن رأس خيط الجريمة، فعند سماعه الجملة الأخيرة من كلام الخاطفين صاح:
– عرفتهم..والله العظيم عرفتهم..هؤلاء معه في المدرسة لم يغششهم في إمتحانات البكلوريا..كانوا يضايقونه وتوعدوه بان لايستمتع بدرجاته العالية اذا لم ينجحوا هم أيضاً..استاءوا من درجاته العالية واحتمال دخوله كلية الطب فعدوه عميلاً…
ركض الى خزانة ملابسه بحثاً عن سلاحه ، لكن الأم صرخت بالحاضرين:
– قيدوه..لم يبق لي غيره..
العم حاول تهدئته وهو يسفه رأيه:
– اطمئن يا ابني.. سيطلقون سراحه.. فهو ليس سياسياً ولا متديناً ولا موظفاً في الحكومة..ولايمكن ان يقتلونه لمجرد حصوله على درجات أعلى منهم!!…
أحد الجيران علق متأسياً:
– عليك ان تتوقع كل شيء!..
حاول الأخ ان يفلت من بين أيديهم وهو يزأر غاضباً، مما هيج مشاعر الأم التي هبت مفزوعة لتلقي بجسدها عليه وقد عملت أصابعها في شعر رأسه وملابسه حتى مزقتها صارخة بصوت مفجوع:
– قيدوه..قيدوه…لم يبق لي غيره…
الفجيعة التي نثت من نبرات صوتها جمدت حركة الجميع..جعلت العيون تغرورق بالدموع. أرتفع نشيج الرجال والنساء، فتهاوى الأبن مستسلماً ..مذهولا، انحنت عليه بعد ان سقط شالها، أحكمت اصابع كفيها في رقبته، عندها اتسعت عيناه بنظرة أستغراب، لكنها باردة ومستسلمة..صعدت أصابع الأم الى خديه، قوستهن حول وجهه وكأنها تغرف ماءً يكاد ينضب.. مسدت خديه بابهاميها نازلة من أرنبة أنفه الدقيقة مارةً على الزغب الأسمر النابت تواً فوق الشفة العليا.. كلاهما أستسلما لنظرات متبادلة وحركات متأرجحة مابين الجنون والممارسة الطقسية بالرغم من النداءات المبتلة بالدموع والأسى:
– أسمع كلام أمك..
قالها الجد بحزن شديد.
ومنذ تلك اللحظة والأبن جالس جنب أمه وكأنه مربوط اليها..
أنتصف النهار، وهو الموعد النهائي لما سيقوله الخاطفون… الذين ركبهم التشاؤم منذ اللحظات الأولى وتكتموا عليه ارادو ان يقولو؛ كفى انتظاراً..لنبحث عن الجثة. لكن شجاعتهم لاتواتيهم، اما المتفاءلون فلايريدون قطع خيط الأمل، أو أنهم أيضاً لايجرأون على إعلان يأسهم، فراحوا يستجيبون لنداءات الجدة:
– خذوها الى التنور..
بعد ان كانوا يعلنون صراحة؛ لاتنشغلوا بالخرافات.. ارتفع النداء المخشخش مرة أخرى:
– لا والله..
– ….
– نعم أنتهى الوقت..ربما لاتوجد في منطقتهم شبكة..
– ….
– لكن رحمة الله واسعة
أزداد أكتظاظ البيت بالأقارب والجيران، كأنهم أتفقوا جميعاً على ان يكون انتهاء انذار الخاطفين، موعداًً لمجيئهم حاملين معهم أحزانهم الجاهزة لأصناف الأسى..أحتشاد الناس في غرف البيت وباحة الحوش بعث رائحة غريبة لايمكن تصنيفها.. ربما هي الرائحة التي تسبق فواجع الموت المنتظر؟!.. “كلنا بانتظار الموت…”، علق الجد بما يشبه الحكمة لتهوين الأمر.. وهذا ماجعل البعض يتجرأ لإعلان حزنه ويأسه..فراح العم والجد يستجيبان للبعض من المواسين بالذهاب بحثاً عن الجثة – هم لم يقولو جثة، لكنهم قالوا سنذهب نسأل المستشفيات قبل ان يخرجوا من البيت.. مجموعة اخرى قالت؛ سنذهب الى مراكز الشرطة وخرجت… وبعد مضي أكثر من ساعة تجرأت مجموعة أخرى وقالت سنذهب الى الطب العدلي قبل أن يغلق أبوابه..
– لن يغلق أبوابه أبداً…
علق الجد، وفهموا من نبرة صوته الموافقة..الكل راح يبادر ويذهب من دون أخذ رأي أحد..فكل من يملك سيارة خاصة أخذ معه شخصاً أو شخصين وخرج للبحث، وكانوا يعلنون جهة ذهابهم لإعلام الآخرين كي لايذهبوا الى الجهة نفسها، إلا مجموعة واحدة خرجت بتكليف من العم!..حيث كلف أحد الأقارب بالذهاب والبحث في المزابل ومكبات النفايات ومصبات المياه الثقيلة والمبازل على أطراف المدينة حيث كثر العثور على الجثث المجهولة الهوية هناك.
كاد البيت يخلو من الرجال باستثاء الجد والعم والأخ المشدود الى امه وبضعة فتيان وشيوخ جلسوا في باب الدار أو باحة الحوش… مع هبوط الشمس أمتلأ البيت بكآبة ثقيلة جعلت الأم تصرخ وهي ترنوا الى الصورة المعلقة أمامها:
– يمه..تريد تاخذ شهادة المدرسة لأبيك..
فهمت النسوة المغزى، أرتفع عويلهن، ولأول مرة تخلى الجد عن رجولته ونحب بصوت مشروخ:
– بوييييههه..
جددت الجدة دعوتها:
– خذوها الى التنور..تنور الزهراء البتول..ام الذبيح بنت المصطفى…
لم تجد من يعترضها حتى بالصمت، كما كانت تشعر في المرات السابقة!..كأن الجميع أستسلموا لأي شيء يرجى منه أو لايرتجى!..
أرسلت من يصعد الى سطح الدار لتهيئة التنور:
– تنور طين فيه رماد، وليس تنور معدن( أبو الغاز)..
– أين هو الغاز؟.
علقت إحدى النساء، لم تلفت لها الجدة، فأستمرت وكأنها تبرر رأيها وعملها:
– الزهراء..بنت أكرم خلق الله وحبيبه لاتخيّب ظني..
رفعت يديها الى السماء وأبتهلت:
– يامنجِ.. لامنج من الأحزان غيرك..فرج عن كربنا..صبرنا على الموت والفواجع وفقدناهم محتسبين اليك، وقد وعدتنا انك مع الصابرين..
ومن ثم التفت الى صورة والده ببزته العسكرية التي أرتفعت قليلاً فوق صورة أبنيه، أسبلت ذراعيها وكأنها تؤدي صلاة خاشعة، راحت تتأمل عيني ولده..ترنوان من خلف ضباب شفيف يتلاشى مع ألوان باهتة للوجه والملابس الزيتونية والنجمتين اللتين أنطفأ التماعهما.. يدفع جسده وكأنه يريد الخروج من أطار الصورة.. يهتز كتفه بنجمتيه الذهبيتين، يحاول تحريك ذراعيه لكي يخلع الشريط الأسود الذي يمتد بين ضلعي الزاوية العليا للصورة.. يبرز صدره للأمام وكأنه يلوح لها بنوط الشجاعة الوحيد الذي جمدت حركته على جيب الصدر الأيمن، فيما أنفرد جناحا نسر معدني على جيب صدره الأيسر وهو يحيط بمظلة طائرة بلامظلي..حاولت الجدة أن تفتح عينيها لتظهر مقدار قلقها وألمها المتكلس فيهما، مدت يديها الى الصورة:
– انهض من قبرك يابطل… ماذا تعمل بنجماتك وأنواطك ونسرك الذهبي ومظلتك الطائرة؟!.. لقد خطفوا ريحانة عمرك ياولدي..
مدت كفيها الى وجهها وسط ذهول من تبقى في الغرفة ومسحت دمعتين ساحتا بين خطوط التجاعيد المعرّشة حول العينين..تكسر الصمت الحزين بصرخة الأم من خلف الجدة وكأنها تنبهت لأول مرة الى صورة زوجها:
– سامي..سامي..ي..ي…تعال لي.. يريدون ذبح ولدنا ياسامي…مالك ساكت؟..سامي..ي..ي…؟!
تخلت الجدة عن حزنها وقالت:
– أصعدو بها الى التنور..
نهضت بها بعض النسوة والجدة خلفهن..كادت الغرفة تفرغ، وجد الأبن الفرصة سانحة للتخلص من قبضة أمه التي حاولت ان تشده اليها..
ترددت نغمات مختلفة من الهواتف النقالة..لم تكترث لها الأم والنسوة ..أجابات مقتضبة للمتاهتفين؛ نعم..لا..وصلوا.. سيعودون..ان شاء الله..الله كريم..إجابات لاتكشف عن شيء، لم يعرّنَ النسوة أنتباهاً..رحنَّ يمشينّ بخطوات جنائزية وئيدة خلف وحول خطوات الأم المتثاقلة
على سلالم الدرج.. تنشطت حركة الجدة وراحت تُكثر من توجيهاتها وتطميناتها:
– ثقتي عالية بام السبطين..لن تخيّب ظني بنت المصطفى..
ضاق الدرج بالنسوة الصاعدات، كل منهن تحاول ان تجد لنفسها دوراً في إسناد الأم؛ واحدة تضع يدها خلف ظهرها، وأخرى تمسكها من عضدها، والثالثة تعدل شالها، ورابعة ترفع ثوبها لكي لاتتعثر به خطواتها، وخامسة تبسمل وتحوقلوتهمس بأدعية متضرعة، وسادسة تمسح دموعاً تهمي بصمت تأسياً للأم ، او متذكرة أحزانها الشخصية..
أنفلت حشد النسوة من نهاية الدرج الى فسحة السطح من دون ان تتقدم أية واحدة منهن الى التنور المحشور مابين ضلعي ستارة السطح عند الزاوية المقابلة ليمين فتحة الدرج، جميعهن نظرنّ الى التنور ولا يعلمنّ ماذا يفعلنّ!.. كنَّ بانتظار ماتفعله الجدة التي كانت تسحب انفاسها ببطء يشبه الفحيح ..
مدت إحداهن يدها اليها وسحبتها الى وسط السطح مابين التنور وحشد النسوة..وقفت متأملة التنور الطيني الذي بدا مثل زقورة مصغرة، تسنده دكتان من طابوق مملوج بالجص، فيما بدا ثقب التنفيس في الأسفل مثل سرة في بطن تمثال، وثمة سخام يحيط فوهة التنور بما يجعلها مثل شفة سوداء دائرية… تقدمت الجدة، أطلت على فوهة التنور لتتفحصه، ومن ثم رفعت رأسها والتفتت الى النسوة، حيث كانت الأم واقفة مسنودة بأذرعهن، فاجئتهن الجدة بما يشبه التأنيب:
– الله يستر عليكن أتركنا..مشكورات والله يحفظ عوائلكن..تبقى أختها معها فقط.
لم تكترث الأم المهروسة بالحزن لكلمات الجدة، لكنها كانت تستجيب لكل إيعازاتها على نحو آلي..أما النسوة فقد تركنّ سطح الدار بتردد شديد مع محاولة الإيحاء برغبتهن بالبقاء أو إيجاد مبرر لوجودهن، فقد كانت وجوههن تشي بإنزعاج من أمر الجدة لأنها حرمتهن من مشاهدة ذروة المشهد.. لكن الحاح الجدة جعلهن يخلينَّ سطح الدار..عنده قالت الجدة بهدوء:
– توكلي على الله.
بدت الأم وكأنها لن تسمع الكلام، بدلاً من ان تتقدم حاولت الجلوس على بلاط السطح من الإعياء، فتلاقفتها يدا أختها وأنهضتها من أبطيها:
– ضعي عينيك بعين الله..سيأتي ان شاء الله..
مدت الجدة يدها اليها وراحت تدفعها بحركات تشبه التمسيد باتجاه التنور حتى وقفت عند فوهته شبه المائلة اليها، سحبت الجدة الشال من رأس الأم، فأنهمر شعرها الذي أختاط فيه بقايا صبغ مائل للحمرة مع شيب يتخفى بين طياته المتلاصقة بفعل العرق،رفعت الأم وجهها الى السماء وقالت بعتاب مر:
– أهذا جزاء من يربي الأيتام؟..ربي.. ماعندي لك غير هذا السؤال!..
– أذكري الله..أذكري الله… رحمته واسعة..
ومن ثم طلبت منها ان تخرج ثدييها، حاولت الأخت مساعدتها، لكن الثديين أندلقا الى الخارج وشكلا إمتداداً لبياض الصدر الحليبي .. سمرة الغروب وعتمة الشعر جعلا الثديين أشد بياضاً.. قالت الجدة:
– سمي باسم الله الرحمن الرحيم..أدخلي رأسك في التنور..
ترددت الأم، لمت أنفها من رائحة الرماد الراكدة في القعر ..
– لاتخافي.. انه تنور أبنة حبيب الله وأم الشهيد المظلوم..مدي يدك في التنور..
أعادت الأم رأسها الى الفوهة، أنهمر شعرها في التنور ولامس ثدياها خشونة حافته التي تكلس عليها السخام ..
– مدي يدك..خذي رماداً..
راحت الأم تستجيب بشكل آلي وكانها فقدت الشعور، رفعت رأسها مغمضة العينيين زامة الشفتين..مدت يدها لتأتي بحفنة رماد..رفعت صدرها الى السماء، فنفر الثديان، مسحت صدرها وثدييها بالرماد، التصق عليه بسبب العرق وترك خطوطاً لمزيج أزرق ظهرت فيه أصابع الأم..
– يامن أعدت يوسف الى يعقوب..تعرف أن قلب الأم أحر من هذا التنور..أعد لي ولدي…
أمرتها الجدة ان تردد بعدها..فكانت الكلمات تخرج من فم الأم متلاشية في حركة الشفتين التي تشبه خفقات قلب يوشك على التوقف..فبقيَّ صوت الجدة وحده متحمساً مرتبكاً يعلو في صمت الغروب الصيفي..فقد تلاشت آفاق السماء المحيطة بالمدينة بمزيج من الغبار ودخان بقايا إنفجارات وبخار الصيف المتصاعد مع روائح عطنة، بينما راح كفا الأم ينزلان الى قاع التنور ويقبضان على مزيد من الرماد وتهيله على صدرها.. تصبب العرق من وجهها ورقبتها حتى لصق شعرها على وجهها وصدرها ليختلط بعجينة الرماد فبدت وكأنها غاطسة في وحل!..تلاحقت أنفاسها مع إزدياد حركتها وكمأ لو كانت في حفلة زار..أرادت الأخت ان توقفها بعد أن ساورها القلق على وضعها، فأوقفتها الجدة:
– اتركيها..انه التلبس بأحزان الزهراء، كلما أستعر قلبها وصار مثل التنور يعني ان الله سيستجيب لدعوتها..نيران قلبها ستحرق خاطفي ابنها…
بعدها التفت الجدة الى صوب القبلة:
– يارب..ياولي من لاولي له.. أنظر حال الأرملة الثكلى.. ياكريم يارحمن يارؤوف…
ومن ثم التفتت الى الأم:
– أدخلي رأسك في حلق التنور..كلما استطعت الدخول أفضل لك..سيلوح لك ظل أبنك..ينهض من الرماد مثل النار المتموجة..لاتخافي..انه نور وليس نار..
تسارعت حركة الأم وكأنها تريد ان تنسكب كلها في التنور، دخل رأسها حتى الكتفين..جسدها يرتعش، يريد اللحاق بالرأس.. فرشت يديها على الدكتين ودفعت جسدها ثانية الى الفوهة..صوت الجدة يتواصل بالحوقلات والبسملات والصلوات والأدعية..دعتها مرة اخرى ان لاتخشى صورته النارية الطالعة من الرماد، انه نور أنفاس الزهراء يبعث الأمل، أنحشر الجسد كله في فوهة التنور، ارتفع قدماها، ندت منها آهات حرى، تحولت الى كلمات وجمل غير مفهومة..يأتي صوتها مثل النفخ أو الفحيح..يزداد الصوت كأنه صوت نيران محصورة توحي بقرب إنفجار التنور..بدا الصوت يتسلل من ثقب التنفيس أسفل التنور..صوت ممزق يشبه الزئير أو الجعيير، يأتي بدفقات متقطعة مصحوباً برماد متطاير، ارادت الجدة والأخت ان تتفحصاه ، لكن الذهول سمرهن في أماكنهن..دفقات الرماد تتوالى متلاشية في عتمة الغروب التي بدأت تزحف من كل الجهات، خالط الرماد لون أحمر ناري مظفور بخيوط دم فائر..ارتفع صوت حاد وقوي يشق صمت الغروب بخشوع وحزن:
الله أكبر..الله أكبر..
ردت الجدة بألية:
– الله أكبر..
أرتفعت الأصوات من أرجاء المدينة، ومن المآذن والبيوت ومن الشوارع والأزقة يردد صداه الدخان والظلمة اللزجة التي تصاعدت مثل البخار..الله اكبر…الله أكبر..تقاطعت وأختلطت مع بعضها، وراح صدى خشوعها وجلالها يملأ السماء حتى تلاشت تماماً في عويل مفاجيء هز كل شيء وجعل مزيج الدم والرماد والدخان يتفجر من ثقب التنفيس في أسفل التنور، مما جعل الجدة والأخت متأرجحتين مابين حلق الدرج وفوهة التنور.
""
* الناقد العراقي
ربما كان الليل هو السبب!..انسحب مثل ستارة مسرح ولم يتغير شيء..
المشهد نفسه للصباح الثالث على التوالي!..الأم تتربع في زاوية الغرفة المقابلة للصورة الكبيرة الملونة- لكنها لم تعد تنظر للصورة كما كانت تفعل، الجد يقرفص في باب الغرفة شابحاً عينيه الكليلتين باتجاه باب الحوش، الأخ الذي اراد النهوض أجلسته صرخات الأم التي تحولت بعد ذلك الى عويل لايهدأ إلا بعد ان تهمي عيون الحاضرين دمعاً ساخناً…العم وحده يتحرك لائباً، عيناه تراقبان الهاتف النقال الذي وُضع على طبلة بلاستيكية وسط الغرفة، كلما رنَّ نزلت نغماته مثل المطارق على أعصاب الحاضرين، لذلك غيَّر العم نغمته الى صوت مؤذن ينادي” الله أكبر..الله أكبر..”.
بين طرقة باب وضربة جرس، أمتلاْ البيت بالمنتظرين المواسين، ولم يتذكر أي منهم ان صبحاً جديداً قد حلّ، وليلاً قد أدبر، حتى سأل الجد بصوت فيه بقايا من قوة وجلَد:
– هل أفطرت؟..
أجابوه بالنفي، فرد منادياً الأم باعثاً فيها الأمل:
– كلي ولو لقمة..لقد ذبلتِ..سيعود بعد قليل ولايصح ان يراك هكذا ذابلة..كلي وأشربي حتى يراك مثلما تركك..
– وهل سيعود؟؟
أجابت الأم بنبرة يائسة وصوت لزج ضاعت نهايات حروفه في البحة التي تشبه الحشرجة..
– بإذن الله.
أجاب الجد متردداً، وكأنه غير متأكد مما يقول، لكنه بعد لحظات حاول ان يستعيد سطوة رجولته الشائخة فأستدرك قائلاً:
– صدقيني كسرت قلبه..تخيلته وقد إنهار عندما قلت له؛ هذا فتى مات ابوه في حرب إيران، واُعدم أخوه في حرب الكويت..أعيده لي (بلبن أمك الزاكية)..لقد سكت..كأنني سمعت صوت تصدع قلبه، صحيح ان الخاطفين قساة جداً، لكنه إنهار..لم يغلق الهاتف..ربما ذهب يجادل أفراد عصابته لفك وثاقه وإطلاق سراحه..
سرح الجد في خياله والجميع منصت اليه وكأنه راوية يقود مستمعيه الى ذروة التشويق. أما الأم فقد راحت تنظر الى الصورة المعلقة على الحائط..
– ربما قتلوه..هؤلاء لم يرضعوا حليباً زاكياً..
– أذكري الله..صدقيني تفطر قلبه ..ربما أختلفوا فيما بينهم فتأخروا في إطلاق سراحه؟..
– وربما فيهم من نادى” إقطع نزاع القوم ياحرملة”؟!..
تهدمت الكلمات على أطراف شفتيها، فأطلقت صرخة مشروخة وهي ترنو الى الصورة من خلف ستارة دمع ساكن، فتصادى صوتها في أصوات النسوة اللاتي كتمنّّ رغبة في الصراخ والندب معها بعد ان نظر الرجال اليهن نظرة تحذير مفادها؛ لم يحدث شيء بعد يستدعي العويل، لكنهن تابعنَّ نظر الأم المصلوب على الصورة بحجمها الكبير؛ وجه عريض لفتى يبدو ان عمره تجاوز الخامسة عشر عاماً..شفتان مكتنزتان كأنهما تعتصران أبتسامة تشبه تلويحة وداع، عينان واسعتان فيهما شيئ من الحور، وجبهة عريضة ارخى على جانبيها ذؤابتين من شعرِ أسود لصاف منحدرتين من مفرق الرأس ، فتعطي للوجه ملمحاً ملوكياً يجمع بين نعومة الأنثى وفوران الفتوة الزاحفة على تخوم الرجولة.
ربما الجميع اكتشف معنى الأبتسامة المستقطرة من الشفتين.. راحو يستعيدون كل القصص التي سمعوها عن المخطوفين وطرق قتلهم البشعة؛ خرقة بالية تضغط على هاتين العينين ، وشريط لاصق عريض يدوف الأبتسامة بدم الشفتين المتورمتين من أثر الضرب، ويدان مقيدتان الى الخلف تجعلان الجسد مثل الصرة الملقاة بإهمال، وثمة عيون تتلاصف من تحت أقنعة سوداء، وغتر مرقطة تتنقب بها الوجوه،والذي أراد ان يقطع نزاع القوم يمسك رأس الفتى من الذؤابتين ويسحبه الى الخلف ليكشف موضع الحنجرة للسكين اللاهثة، انطلق الصوت مخشخشاً:
الله أكبر..الله أكبر…الله….
انقطعت الصورة، التفت الجميع الى الهاتف الملقى على الطبلة بحركة واحدة على إيعاز كوني جعل الأجساد متوترة الأعناق مشرئبة بانتظار شيء سينفجر..
هرع العم الى الهاتف مثل الملدوغ،وخلفه الجد يتكأ على عصاه بصعوبة..وحدها الأم بقيت شاخصة بعينيها المخضلتين الى السقف وكأنها تسبر اغواره بنظرة نافذة..
– لا والله..لم يتصلوا حتى الآن..
– ….
– اليوم هو موعد الإنذار الأخير..نحن بانتظار الفرج
استرخت الأعناق على الأكتاف ثانيةً، وهمدت الأجساد وكأنها لُطشت بالأرض مستسلمة لقلقها المشوب بالحزن، وفي صمت الهمود أرتفع صوت الجدة مرة أخرى:
– خذوها للتنور..خذوها قبل فوات الآوان..لاتضيعوا الولد..
لم يلتفت أحد اليها، بقيت تدور بوجهها الذي حاكته خيوط غائرة من التجاعيد والوشم الأزرق بانتظار تعليق أو استجابة!.. فهي منذ أول أمس عندما علموا باختطاف حفيدها تصر على أخذ الأم الى التنور وهناك تكشف صدرها وتطلب من الله عودة ابنها..لكن الجميع كان يعقد أمالاً على إتصال من الخاطفين يطلق سراحه، او ينتظرون ماتفعله الشرطة برغم ان الخاطفين حذروهم من الإتصال بالشرطة، والبعض منهم تجاوز كل شيء وراح يفكر بكيفية إختراق الزحام على بوابة الطب العدلي للتعرف عليه بين الجثث المجهولة الهوية..
الخاطفون الذين اتصلوا في اليوم الثاني من خطفه لم يقولو شيئاً يرجح أي احتمال، فقد أكتفو بالقول:” سنحقق معه وبعدها ننزل حكم الله فيه، فـأما ان يذهب الى الكلية الطبية أو الى الطب العدلي…”.
الأخ وحده أعتقد ان في ماقاله الخاطفون يكمن رأس خيط الجريمة، فعند سماعه الجملة الأخيرة من كلام الخاطفين صاح:
– عرفتهم..والله العظيم عرفتهم..هؤلاء معه في المدرسة لم يغششهم في إمتحانات البكلوريا..كانوا يضايقونه وتوعدوه بان لايستمتع بدرجاته العالية اذا لم ينجحوا هم أيضاً..استاءوا من درجاته العالية واحتمال دخوله كلية الطب فعدوه عميلاً…
ركض الى خزانة ملابسه بحثاً عن سلاحه ، لكن الأم صرخت بالحاضرين:
– قيدوه..لم يبق لي غيره..
العم حاول تهدئته وهو يسفه رأيه:
– اطمئن يا ابني.. سيطلقون سراحه.. فهو ليس سياسياً ولا متديناً ولا موظفاً في الحكومة..ولايمكن ان يقتلونه لمجرد حصوله على درجات أعلى منهم!!…
أحد الجيران علق متأسياً:
– عليك ان تتوقع كل شيء!..
حاول الأخ ان يفلت من بين أيديهم وهو يزأر غاضباً، مما هيج مشاعر الأم التي هبت مفزوعة لتلقي بجسدها عليه وقد عملت أصابعها في شعر رأسه وملابسه حتى مزقتها صارخة بصوت مفجوع:
– قيدوه..قيدوه…لم يبق لي غيره…
الفجيعة التي نثت من نبرات صوتها جمدت حركة الجميع..جعلت العيون تغرورق بالدموع. أرتفع نشيج الرجال والنساء، فتهاوى الأبن مستسلماً ..مذهولا، انحنت عليه بعد ان سقط شالها، أحكمت اصابع كفيها في رقبته، عندها اتسعت عيناه بنظرة أستغراب، لكنها باردة ومستسلمة..صعدت أصابع الأم الى خديه، قوستهن حول وجهه وكأنها تغرف ماءً يكاد ينضب.. مسدت خديه بابهاميها نازلة من أرنبة أنفه الدقيقة مارةً على الزغب الأسمر النابت تواً فوق الشفة العليا.. كلاهما أستسلما لنظرات متبادلة وحركات متأرجحة مابين الجنون والممارسة الطقسية بالرغم من النداءات المبتلة بالدموع والأسى:
– أسمع كلام أمك..
قالها الجد بحزن شديد.
ومنذ تلك اللحظة والأبن جالس جنب أمه وكأنه مربوط اليها..
أنتصف النهار، وهو الموعد النهائي لما سيقوله الخاطفون… الذين ركبهم التشاؤم منذ اللحظات الأولى وتكتموا عليه ارادو ان يقولو؛ كفى انتظاراً..لنبحث عن الجثة. لكن شجاعتهم لاتواتيهم، اما المتفاءلون فلايريدون قطع خيط الأمل، أو أنهم أيضاً لايجرأون على إعلان يأسهم، فراحوا يستجيبون لنداءات الجدة:
– خذوها الى التنور..
بعد ان كانوا يعلنون صراحة؛ لاتنشغلوا بالخرافات.. ارتفع النداء المخشخش مرة أخرى:
– لا والله..
– ….
– نعم أنتهى الوقت..ربما لاتوجد في منطقتهم شبكة..
– ….
– لكن رحمة الله واسعة
أزداد أكتظاظ البيت بالأقارب والجيران، كأنهم أتفقوا جميعاً على ان يكون انتهاء انذار الخاطفين، موعداًً لمجيئهم حاملين معهم أحزانهم الجاهزة لأصناف الأسى..أحتشاد الناس في غرف البيت وباحة الحوش بعث رائحة غريبة لايمكن تصنيفها.. ربما هي الرائحة التي تسبق فواجع الموت المنتظر؟!.. “كلنا بانتظار الموت…”، علق الجد بما يشبه الحكمة لتهوين الأمر.. وهذا ماجعل البعض يتجرأ لإعلان حزنه ويأسه..فراح العم والجد يستجيبان للبعض من المواسين بالذهاب بحثاً عن الجثة – هم لم يقولو جثة، لكنهم قالوا سنذهب نسأل المستشفيات قبل ان يخرجوا من البيت.. مجموعة اخرى قالت؛ سنذهب الى مراكز الشرطة وخرجت… وبعد مضي أكثر من ساعة تجرأت مجموعة أخرى وقالت سنذهب الى الطب العدلي قبل أن يغلق أبوابه..
– لن يغلق أبوابه أبداً…
علق الجد، وفهموا من نبرة صوته الموافقة..الكل راح يبادر ويذهب من دون أخذ رأي أحد..فكل من يملك سيارة خاصة أخذ معه شخصاً أو شخصين وخرج للبحث، وكانوا يعلنون جهة ذهابهم لإعلام الآخرين كي لايذهبوا الى الجهة نفسها، إلا مجموعة واحدة خرجت بتكليف من العم!..حيث كلف أحد الأقارب بالذهاب والبحث في المزابل ومكبات النفايات ومصبات المياه الثقيلة والمبازل على أطراف المدينة حيث كثر العثور على الجثث المجهولة الهوية هناك.
كاد البيت يخلو من الرجال باستثاء الجد والعم والأخ المشدود الى امه وبضعة فتيان وشيوخ جلسوا في باب الدار أو باحة الحوش… مع هبوط الشمس أمتلأ البيت بكآبة ثقيلة جعلت الأم تصرخ وهي ترنوا الى الصورة المعلقة أمامها:
– يمه..تريد تاخذ شهادة المدرسة لأبيك..
فهمت النسوة المغزى، أرتفع عويلهن، ولأول مرة تخلى الجد عن رجولته ونحب بصوت مشروخ:
– بوييييههه..
جددت الجدة دعوتها:
– خذوها الى التنور..تنور الزهراء البتول..ام الذبيح بنت المصطفى…
لم تجد من يعترضها حتى بالصمت، كما كانت تشعر في المرات السابقة!..كأن الجميع أستسلموا لأي شيء يرجى منه أو لايرتجى!..
أرسلت من يصعد الى سطح الدار لتهيئة التنور:
– تنور طين فيه رماد، وليس تنور معدن( أبو الغاز)..
– أين هو الغاز؟.
علقت إحدى النساء، لم تلفت لها الجدة، فأستمرت وكأنها تبرر رأيها وعملها:
– الزهراء..بنت أكرم خلق الله وحبيبه لاتخيّب ظني..
رفعت يديها الى السماء وأبتهلت:
– يامنجِ.. لامنج من الأحزان غيرك..فرج عن كربنا..صبرنا على الموت والفواجع وفقدناهم محتسبين اليك، وقد وعدتنا انك مع الصابرين..
ومن ثم التفت الى صورة والده ببزته العسكرية التي أرتفعت قليلاً فوق صورة أبنيه، أسبلت ذراعيها وكأنها تؤدي صلاة خاشعة، راحت تتأمل عيني ولده..ترنوان من خلف ضباب شفيف يتلاشى مع ألوان باهتة للوجه والملابس الزيتونية والنجمتين اللتين أنطفأ التماعهما.. يدفع جسده وكأنه يريد الخروج من أطار الصورة.. يهتز كتفه بنجمتيه الذهبيتين، يحاول تحريك ذراعيه لكي يخلع الشريط الأسود الذي يمتد بين ضلعي الزاوية العليا للصورة.. يبرز صدره للأمام وكأنه يلوح لها بنوط الشجاعة الوحيد الذي جمدت حركته على جيب الصدر الأيمن، فيما أنفرد جناحا نسر معدني على جيب صدره الأيسر وهو يحيط بمظلة طائرة بلامظلي..حاولت الجدة أن تفتح عينيها لتظهر مقدار قلقها وألمها المتكلس فيهما، مدت يديها الى الصورة:
– انهض من قبرك يابطل… ماذا تعمل بنجماتك وأنواطك ونسرك الذهبي ومظلتك الطائرة؟!.. لقد خطفوا ريحانة عمرك ياولدي..
مدت كفيها الى وجهها وسط ذهول من تبقى في الغرفة ومسحت دمعتين ساحتا بين خطوط التجاعيد المعرّشة حول العينين..تكسر الصمت الحزين بصرخة الأم من خلف الجدة وكأنها تنبهت لأول مرة الى صورة زوجها:
– سامي..سامي..ي..ي…تعال لي.. يريدون ذبح ولدنا ياسامي…مالك ساكت؟..سامي..ي..ي…؟!
تخلت الجدة عن حزنها وقالت:
– أصعدو بها الى التنور..
نهضت بها بعض النسوة والجدة خلفهن..كادت الغرفة تفرغ، وجد الأبن الفرصة سانحة للتخلص من قبضة أمه التي حاولت ان تشده اليها..
ترددت نغمات مختلفة من الهواتف النقالة..لم تكترث لها الأم والنسوة ..أجابات مقتضبة للمتاهتفين؛ نعم..لا..وصلوا.. سيعودون..ان شاء الله..الله كريم..إجابات لاتكشف عن شيء، لم يعرّنَ النسوة أنتباهاً..رحنَّ يمشينّ بخطوات جنائزية وئيدة خلف وحول خطوات الأم المتثاقلة
على سلالم الدرج.. تنشطت حركة الجدة وراحت تُكثر من توجيهاتها وتطميناتها:
– ثقتي عالية بام السبطين..لن تخيّب ظني بنت المصطفى..
ضاق الدرج بالنسوة الصاعدات، كل منهن تحاول ان تجد لنفسها دوراً في إسناد الأم؛ واحدة تضع يدها خلف ظهرها، وأخرى تمسكها من عضدها، والثالثة تعدل شالها، ورابعة ترفع ثوبها لكي لاتتعثر به خطواتها، وخامسة تبسمل وتحوقلوتهمس بأدعية متضرعة، وسادسة تمسح دموعاً تهمي بصمت تأسياً للأم ، او متذكرة أحزانها الشخصية..
أنفلت حشد النسوة من نهاية الدرج الى فسحة السطح من دون ان تتقدم أية واحدة منهن الى التنور المحشور مابين ضلعي ستارة السطح عند الزاوية المقابلة ليمين فتحة الدرج، جميعهن نظرنّ الى التنور ولا يعلمنّ ماذا يفعلنّ!.. كنَّ بانتظار ماتفعله الجدة التي كانت تسحب انفاسها ببطء يشبه الفحيح ..
مدت إحداهن يدها اليها وسحبتها الى وسط السطح مابين التنور وحشد النسوة..وقفت متأملة التنور الطيني الذي بدا مثل زقورة مصغرة، تسنده دكتان من طابوق مملوج بالجص، فيما بدا ثقب التنفيس في الأسفل مثل سرة في بطن تمثال، وثمة سخام يحيط فوهة التنور بما يجعلها مثل شفة سوداء دائرية… تقدمت الجدة، أطلت على فوهة التنور لتتفحصه، ومن ثم رفعت رأسها والتفتت الى النسوة، حيث كانت الأم واقفة مسنودة بأذرعهن، فاجئتهن الجدة بما يشبه التأنيب:
– الله يستر عليكن أتركنا..مشكورات والله يحفظ عوائلكن..تبقى أختها معها فقط.
لم تكترث الأم المهروسة بالحزن لكلمات الجدة، لكنها كانت تستجيب لكل إيعازاتها على نحو آلي..أما النسوة فقد تركنّ سطح الدار بتردد شديد مع محاولة الإيحاء برغبتهن بالبقاء أو إيجاد مبرر لوجودهن، فقد كانت وجوههن تشي بإنزعاج من أمر الجدة لأنها حرمتهن من مشاهدة ذروة المشهد.. لكن الحاح الجدة جعلهن يخلينَّ سطح الدار..عنده قالت الجدة بهدوء:
– توكلي على الله.
بدت الأم وكأنها لن تسمع الكلام، بدلاً من ان تتقدم حاولت الجلوس على بلاط السطح من الإعياء، فتلاقفتها يدا أختها وأنهضتها من أبطيها:
– ضعي عينيك بعين الله..سيأتي ان شاء الله..
مدت الجدة يدها اليها وراحت تدفعها بحركات تشبه التمسيد باتجاه التنور حتى وقفت عند فوهته شبه المائلة اليها، سحبت الجدة الشال من رأس الأم، فأنهمر شعرها الذي أختاط فيه بقايا صبغ مائل للحمرة مع شيب يتخفى بين طياته المتلاصقة بفعل العرق،رفعت الأم وجهها الى السماء وقالت بعتاب مر:
– أهذا جزاء من يربي الأيتام؟..ربي.. ماعندي لك غير هذا السؤال!..
– أذكري الله..أذكري الله… رحمته واسعة..
ومن ثم طلبت منها ان تخرج ثدييها، حاولت الأخت مساعدتها، لكن الثديين أندلقا الى الخارج وشكلا إمتداداً لبياض الصدر الحليبي .. سمرة الغروب وعتمة الشعر جعلا الثديين أشد بياضاً.. قالت الجدة:
– سمي باسم الله الرحمن الرحيم..أدخلي رأسك في التنور..
ترددت الأم، لمت أنفها من رائحة الرماد الراكدة في القعر ..
– لاتخافي.. انه تنور أبنة حبيب الله وأم الشهيد المظلوم..مدي يدك في التنور..
أعادت الأم رأسها الى الفوهة، أنهمر شعرها في التنور ولامس ثدياها خشونة حافته التي تكلس عليها السخام ..
– مدي يدك..خذي رماداً..
راحت الأم تستجيب بشكل آلي وكانها فقدت الشعور، رفعت رأسها مغمضة العينيين زامة الشفتين..مدت يدها لتأتي بحفنة رماد..رفعت صدرها الى السماء، فنفر الثديان، مسحت صدرها وثدييها بالرماد، التصق عليه بسبب العرق وترك خطوطاً لمزيج أزرق ظهرت فيه أصابع الأم..
– يامن أعدت يوسف الى يعقوب..تعرف أن قلب الأم أحر من هذا التنور..أعد لي ولدي…
أمرتها الجدة ان تردد بعدها..فكانت الكلمات تخرج من فم الأم متلاشية في حركة الشفتين التي تشبه خفقات قلب يوشك على التوقف..فبقيَّ صوت الجدة وحده متحمساً مرتبكاً يعلو في صمت الغروب الصيفي..فقد تلاشت آفاق السماء المحيطة بالمدينة بمزيج من الغبار ودخان بقايا إنفجارات وبخار الصيف المتصاعد مع روائح عطنة، بينما راح كفا الأم ينزلان الى قاع التنور ويقبضان على مزيد من الرماد وتهيله على صدرها.. تصبب العرق من وجهها ورقبتها حتى لصق شعرها على وجهها وصدرها ليختلط بعجينة الرماد فبدت وكأنها غاطسة في وحل!..تلاحقت أنفاسها مع إزدياد حركتها وكمأ لو كانت في حفلة زار..أرادت الأخت ان توقفها بعد أن ساورها القلق على وضعها، فأوقفتها الجدة:
– اتركيها..انه التلبس بأحزان الزهراء، كلما أستعر قلبها وصار مثل التنور يعني ان الله سيستجيب لدعوتها..نيران قلبها ستحرق خاطفي ابنها…
بعدها التفت الجدة الى صوب القبلة:
– يارب..ياولي من لاولي له.. أنظر حال الأرملة الثكلى.. ياكريم يارحمن يارؤوف…
ومن ثم التفتت الى الأم:
– أدخلي رأسك في حلق التنور..كلما استطعت الدخول أفضل لك..سيلوح لك ظل أبنك..ينهض من الرماد مثل النار المتموجة..لاتخافي..انه نور وليس نار..
تسارعت حركة الأم وكأنها تريد ان تنسكب كلها في التنور، دخل رأسها حتى الكتفين..جسدها يرتعش، يريد اللحاق بالرأس.. فرشت يديها على الدكتين ودفعت جسدها ثانية الى الفوهة..صوت الجدة يتواصل بالحوقلات والبسملات والصلوات والأدعية..دعتها مرة اخرى ان لاتخشى صورته النارية الطالعة من الرماد، انه نور أنفاس الزهراء يبعث الأمل، أنحشر الجسد كله في فوهة التنور، ارتفع قدماها، ندت منها آهات حرى، تحولت الى كلمات وجمل غير مفهومة..يأتي صوتها مثل النفخ أو الفحيح..يزداد الصوت كأنه صوت نيران محصورة توحي بقرب إنفجار التنور..بدا الصوت يتسلل من ثقب التنفيس أسفل التنور..صوت ممزق يشبه الزئير أو الجعيير، يأتي بدفقات متقطعة مصحوباً برماد متطاير، ارادت الجدة والأخت ان تتفحصاه ، لكن الذهول سمرهن في أماكنهن..دفقات الرماد تتوالى متلاشية في عتمة الغروب التي بدأت تزحف من كل الجهات، خالط الرماد لون أحمر ناري مظفور بخيوط دم فائر..ارتفع صوت حاد وقوي يشق صمت الغروب بخشوع وحزن:
الله أكبر..الله أكبر..
ردت الجدة بألية:
– الله أكبر..
أرتفعت الأصوات من أرجاء المدينة، ومن المآذن والبيوت ومن الشوارع والأزقة يردد صداه الدخان والظلمة اللزجة التي تصاعدت مثل البخار..الله اكبر…الله أكبر..تقاطعت وأختلطت مع بعضها، وراح صدى خشوعها وجلالها يملأ السماء حتى تلاشت تماماً في عويل مفاجيء هز كل شيء وجعل مزيج الدم والرماد والدخان يتفجر من ثقب التنفيس في أسفل التنور، مما جعل الجدة والأخت متأرجحتين مابين حلق الدرج وفوهة التنور.
""
* الناقد العراقي