عزمي العفّاس - حافّة الانتظار

الانهيارُ رغبةٌ في استنشاق كلّ الأشياء دفعة واحدة دونَ أن يلجَ أيّ شيء من هوائها إلى القلبِ. رغبةُ البقاءِ على قيد الأحضانِ دونَ أن يمسّ القلبُ القلبَ ودون أن يجرحَ الهواءُ المحيطُ أحزانَ الأملِ المتبقّية. أمشي خاليا من كلّي، وأسيرُ نحوَ نهاية متوقّعة دونَ أن أحدّدها: الانهيار خطوةٌ أخيرة نحوَ العودةِ من جديد نحو نقطة البداية الّتي لم أبلغها بعدُ، وخطوةٌ نحوَ الاستمرارِ في طريقِ الممكنات المتعدّدة الّتي تخزّنها الطّبيعةُ في الاسمنت الهشّ. في الطّريق نحوَ كلّ شيء لا شيء يعترضُ طريقي كي ألملمَهُ، وكلُّ ما يعترضني أشلاء نفسي المتسربلة بشقائق النّعمان: أدونيس مرّ من هُنا قبلَ أن يموت للمرّة الأخيرة، وصنعَ من النّهرِ ضريحا لجمال أفروديت. توقظني نفسي قبل الانهيار بقليل فتتشظّى ولا أملك خيارا سوى أن ألملمها ثانية قبل أن تتشظّى من جديد ويصير موعدُ الانهيار المرتقب أبعد، ليسَ للخيال دور في تشتيت الأشياء من على قارعة الحلم فالحلمُ ينكسرُ فوقَ الظّلالِ قبلَ أن تختفي نهارا. يسيرُ ظلّي من الجهة الأخرى من الحلم، وكأنّنا غريبين لم يلتقيا يوما في خيال ما، أو في صورة ما. يسيرُ مبتعدا عن كلّ ما أحملهُ فيحملني: نحيا كي ننتظر النّهاية لا أكثر ولا أقلّ. نحيا لأنّنا نتّسمُ بالعجز المستمرّ في المكان وفي اللّحظات: أعجز عن احتضان نفسي بما يكفي حينَ يهوي رأسي على ركبتيّ فيحمّلها مأساةَ الانتظارِ اللّانهائيّ. أنتظرُ ما لا يأتي، أو ما قد يأتي لكنّه لن يأتي: ننتظرُ أن يصيرَ الخيالُ واقعا بتفاصيلهِ، وننتظرُ أن يأتي الموتُ مستلقيا فوقَ غمامة من ندى الحبّ السّرمديّ، وننتظرُ أن نسقط مغشيّا علينا كي لا نموتَ مرّة ثانية فالموتُ حلوُ المذاقِ لا يتكرّر سوى لحظات عديدة. الانتظارُ مهنةُ المتمرّس على البقاءِ داخل وحدته دونَ أن ينتظر شيئا ولا أحدا، رغبة الإنسان الأوّل في الأبديّة، زكامٌ يصيبُ الأعصابَ فيتلف بقاياها، جحيم من الأحاسيس الهادئة، هدنةٌ مع القلب المنسيّ، البقاءُ لمجرّد الوجود، إبصارُ الأشياءِ دونَ رؤيتها، رؤيا تنزلُ في غارٍ القلبِ فتصيبُهُ برعشةِ اللّامبالاة، نهايةُ معركة الآلهة داخلَ الأضلاع، حفيفُ أفعى يتسرّب بينَ خيوطِ التّبغ، وتدرّبٌ على القتل. نتعلّمُ قتلَ الأشياءِ، ونتعلّمُ أن نمضيَ في سُنّةِ حياتنا دونَ أن تلدغنا الشّمسُ بضيائها مرّة أخرى، ودونَ أن يحتجزنا الزّمنُ في دوائره المتوقّفة عن الدّوران: كجنين أُجْهِضَ كي يعيش، واستطاعَ الهروبَ من التّخفّي ليوم كي يبرز كامل الأحشاءِ المترهّلة فيما بعد، لكن دونَ قلب. مرميّا على قارعة الفراغ، لا أستطيعُ الانهيارَ ولا أستطيعُ العودةَ منهُ: لا شيءَ هُنا كي يصيرَ وكلّ شيء هنا سيصيرُ دونَ أن يكون، لا شيء هنا كي نقولَ كائنٌ وكلّ شيء هنا سيكونُ دونَ أن يصير. أقفُ فوقَ فوّهة البراكين الخامدةِ وأرتمي في أحضانِ النّيرانِ كي تلسعني نشوَتُها: كانت بردا وسلاما على الأشقياء، ولم تصر. يلتحفُ القمرُ سوادهُ وينام، فلا يبلغني منهُ سوى عواء السّاهرينَ على حراسة الموتِ: لا تقتربْ، مازال هؤلاء يتعذّبونَ فلا دورَ لكَ الآن، قفْ على ناصية الانهيار وانتظر سقوط الشّهب كي تتلقّفها واحدا واحدا، فلا أحد يتمنّى سوى ما ترجوهُ أنت. أتوقّفُ عن البكاء حينَ أبكي وكأنّ الأمر صار نفسه دونَ أن يصير أيضا، هو فقط كائن فلا يتحوّل إلّا في ذاته، أمّا أنا فأصيره: ينزعُ القمرُ فستانهُ اللّيليّ كي يتعرّى نهارا وينقذ شظايا النّزوات من الاندثار. أفتحُ صدري للأشياءِ فتملأ الحفرَ الرّقيقة الّتي خلّفها الفراغُ وأنتزِعُها كالأشواكِ الّتي تخزُ الأيادي إذا ما حاولتْ قطفَ الأزهارِ.
-ماذا يغطّي هذا الفراغ؟
-ورقة تين تكفي كي تغتفر الخطايا.
-وهل القلبُ خطيئة؟
-حوّاءُ أزاحت مكانَ العورةِ عن مكانه.
-وهل القلب عورة؟
-ليسَ إذا كنتُ قد نسيته..
أنسى أنّني هُنا حيثُ لا يوجدُ أحد، وأنسى أنّني هُنا حيثُ يوجد الجميع: النّسيانُ طريقُ الذّاكرة، ننسى كي نتذكّر من جديد، وكي نبوح بعدَ النّسيانِ بأنّنا تذكّرنا لكنّ شرخا سطحيّا في القلبِ كان يكفي كي تسقطَ في عمقهِ كلّ الذّكريات. تنصهرُ المتناقضاتُ كي تصيرَ واحدة دونَ أن تتحوّل إلى شيء، هي فقط تنصهرُ ولا دورَ لها بعدَ ذلك سوى الرّغبة في الانهيار. يعرّي اللّيلُ الواقعَ ليصيرَ محرار الصّدقِ والكذب، تتوالد الأسئلة من بعضها البعض دونَ أن توجد إجابة للسّؤال الأخير: لماذا. نبحثُ عن الأسبابِ كي لا يأخذنا صداع العاطفة بعيدا فنسقطُ في الرّومنسيّة المفرغة من معانيها: لنا ما يكفي من أحزان كي نستطيع أن نحبّ دون أن نستطيع البقاء، ولنا ما يكفي من جروح كي نحكّها بملحِ الأمل فيصيبها اليأس. أبقى بينَ بين، متردّدا، دونَ القدرة على الذّهاب في أيّ اتّجاه: هنا أنا وكلّ شيء حولي لا يقترب، وهناك قلبي وكلّ شيء حوله يبتعدُ. أخافُ القُربَ كما أخافُ البعدَ، فما إن حاولتُ إلّا علّمتني التّجربةُ: لا تقترب إلّا بعدَ أن تنظر وترى وتبصر. فالنّظر هو التّوجّه نحوَ الأشياءِ كما هي فلا ينظرُ من جعلَتِ الحياةُ حجابا أسودَ يزيّن عينيه، أمّا الرّؤيةُ الإحساسُ الّذي يجتاحُ الكيانَ دونَ أن يعرّيهِ بكامله فإذا ما رأيتُ فقدْ شعرتُ، وأمّا البصرُ فهو للبصيرةِ وعاءٌ يحميها من خيبات الزّمن المتعاقبة على شواطئ العينين والقلب. ربّما سوفَ ينبضُ قلبي هناكَ إذا ما اكتملتْ دورةُ الزّودياك وأخذ القمرُ حظّهُ من الاستعارات الّتي تخدشُ حياءَ الشّمس، وربّما سوف ينبضُ إذا ما انصهرتِ الأبراجُ في ضريح الجمال: تُبعثُ أفروديت من جديد كطير الهامة، تطلب المزيد كي تنتقم من موت جمالها فيها.
-أنقذيني.
-فقدتُ ما فقدتَ، رغمَ الصّلواتِ فوقَ ضريح أودين.
-الآلهةُ تموت، مثلنا تماما، فاعثري على موتي هناك.
-إلامَ تنظرُ؟
-نحوَ الفراغ.
-وماذا ترى؟
-ضوضاء من المشاعر الّتي لا تحسّ.
-وماذا تبصر؟
-أبصرُ نفسي في الفراغِ مصلوبا دونَ قلب..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى