جذبنى صوت عزف على آلة عجيبة. قريب هو الصوت من صوت الناى والكمان. صوت حزين لا يخرج من وتر. وصوت آلة نفخ هو. سرت نحو مصدر الصوت فى حديقة مظلمة، يمتد ظلامها على شاطئ ترعة (البوهية)، حتى قاربت أطراف المدينة رأيته جالسا فى الظلام مستندا بظهره الى ساق شجرة، وحيدا يعزف على آلة كالعصا. همست مفتونا. بالعزف: جميل. كف عن العزف، والتفت نحو صوتى. رأيت ابتسامته، والتماع بريق عينيه فى ظلام الليل، كأنما منحه العزف نورا خفيا. قال لى بهدوء، وكأنه يعرفنى منذ زمن بعيد: ـ أجلس. ـ وأنا أجلس بجانبه، سألته: ـ مااسم هذه الآلة؟ ـ فقال لى: ـ فلوت. أحبه وأحب صوته. لنتعارف أولا. ـ قلت له: ـ لم أر هذه الآلة من قبل. من أين حصلت عليها؟ وكيف تعلمت العزف بها؟ ـ فقال لى ببساطة، بها رنة سحرية: ـ من الملجأ. ـ وجمت للحظة، ولربما وجومى سيطول، لولا أنه قال لى: ـ منذ طفولتى بالملجأ، وأنا أعزف على هذا الفلوت. جعل لى قيمة فى الملجأ كله. ـ سحقنى كونه نشأ يتيما. فقلت له: ـ المهم انك الآن صرت رجلا. ـ فضحك ضحكة ساخرة، كأنه يسفه ماقلت، وقال لى وهو يقف: ـ هيا بنا. سنلتقى مرة أخرى، فأنت، كما أرى، رجل طيب. ـ جذبنى صوته الحزين ا ليه فقلت له، وقد وقفت لوقوفه: ـ متى؟ ـ فقال لى: ـ اذا شئت هنا فى الليل، فى مثل هذا الوقت من الليل. ـ وصمت لحظة، وقال دون أن يتحرك: ـ واذا شئت ان نتعارف أكثر، فتعال الى بيتى، فى أى وقت من النهار. ـ قلت له ونحن نغادر الحديقة معا، الى الشارع الفسيح الفاصل بين الحديقة والبيوت: ـ أفضل أن ألقاك فى بيتك، فى أى وقت من النهار. ـ راح يصف لى الطريق الى بيته، بالقرب من المدرسة الثانوية القريبة. حفظت منه اسم الشارع، ورقم البيت. وقال لى: ـ قبل أن تزورنى. من أنت؟ حتى يطمئن قلبى اليك. ـ حدثته عمن أكون، ونحن لا نزال واقفين، قبيل افتراقنا، فقا ل لى: ـ سنكون صديقين. ساعلمك ماأعلم، وتعلمنى ماتعلم. لدى مثلا مصحف شريف، وأحب أن تعلمنى كيف أقرأ القرآن الكريم قراءة مرتلة، مادمت طالب أزهر. وجميل أننا فى الصيف، وشهور اجازة الصيف ممتدة أمامنا، أقصد أمامك. وسأعلمك العزف على هذا الفلوت، اذا كانت لديك اذن موسيقية. سأعلمك أيضا ماتعلمته فى الملجأ: النسج على النول اليدوى، اذا لم تجد عيبا فى الحرفة اليدوية. ـ وافترقنا الى موعد فى ظهيرة الغد. (2) طرقت باب بيته بمطرقة حديدية، طرقات ثلاث، طرقة اثر طرقة، كما قال لى، وقلبى يخفق شوقا لأرى وجها لم يتح لى الظلام رؤيته. فتحت لى الباب صبية. كانت فى ثياب البيت، منكوشة الشعر. بدا لى شعرها ملتفا حول بعضه البعض وملبدا، صانعا حول وجهها واذنيها مروحة من الشعر. سألتها بخجل: ـ سيد موجود. أنا سليمان. قبل أن تجيب، جاءنى صوته الحزين فرحا بى، يقول لى: ـ تعال ياسليمان. أفسحت لى الصبية الطريق. وانعطفت بى، فى صالة البيت الترابية، الى غرفة فسيحة، طينية الجدران، على اليسار. دخلت الغرفة، وظلت الصبية واقفة على بابها، تنظر الى بفضول. كان سيد جالسا الى نول خشبى، ولا يزال يواصل العمل به، والمكوك يروح ويجئ بين خيوط السدى وخيوط اللحم، وكفا سيد تصدان المكوك البيضاوي بقطعتين من الخشب فى كفيه يمنة ويسرة، وقدماه على ذراعين تتبادلان الارتفاع والانخفاض، فوق ذراعين خشبيتين أسفل الخيوط. وفى آخر النول كانت بكرة وحيدة تتحرك وترتخى مع حركة الخيط فى المكوك. قال لى سيد وهو لا يزال يعمل: ـ أجلس ياسليمان. سأفرغ لك بعد قليل . ثم قال لى مشيرا إلى أخته الصبية: ـ هذه هى أختى صفية. حدثتها هى وأمى عنك. وطلب من أخته أن تصنع لنا شاياً صعيديا، وتكثر من السكر. وعاد سيد يعمل. ورحت أرقب حركة المكوك واليدين والقدمين، واسمع أصوات الحركة الكلية لحنا متسقا، وانغاما رتيبة، فى معزوفة الآلة الخشب ية الضخمة التى تملأ أكثر من نصف الغرفة. طالت الفرجة. ورأيت مصحفا بجانبى على الكنبة البلدية، ففتحته على صفحة ما، مستفتحا باول آية. ولمحنى سيد فقال لى ضاحكا: ـ ماالآية التى وقعت عليها عيناك؟ اقرأها لى. وقرأت له الآية التى وقعت عليها عيناى، قراءة مرتلة: (ونفس وماسواها. فألهمها فجورها وتقواها). فقال لى عاتبا، وهو لا يزال يعمل: ـ ألم تقل: (بسم الله الرحمن الرحيم). ولم تقل حين توقفت: (صدق الله العظيم). شعرت بخجل، فقلت له: ـ لن أنسى ذلك مرة أخرى. وجاءت أخته صفية بالشاى على صينية نحاسية، وضعتها على الكنبة بجانبى. وقال لها سيد وهى تخرج من الغرفة: ـ قولى لأمك: إن سليمان سيتغدى معنا. هممت بالاعتذار عن الغداء، لكن الوقت كان بعد الظهر، وسيد كان يرحب بى فى بيته، فلم أقل شيئا. وظل سيد يعمل صامتا بجد. وشغلت نفسى بالنظر الى حركة يديه وقدميه، والى ما حولى فى الغرفة على يمينى تسريحة بنية هائلة، حائلة اللون، أعلاها مرآة لامعة، مصقولة، وأسفلها أدراج مغلقة فقدت مقابضها. وفوق الأدراج مشط، وزجاجة كولونيا، وزجاجة صبغة يود صغيرة، ورباط من الشاش لا يزال بورقته. وعند آخر درج بالتسريحة كان كتاب أصفر سميك تفسخ كعب جلدته لا يزال بورقته. نهضت قلي لا وأخذت الكتاب. فتحت تجليدته السميكة. وقعت عيناى على عنوان: (شمس المعارف) كنت أعرف هذا الكتاب فقد رأيته فى يد قارئ طالع مغربى، كان يجوب دروب قريتى، مرة فى كل عام، وأنا طفل صغير ابتسمت ورحت أقلب الورق الأصفر، وأنا أعجب فى نفسى، كيف اجتمع هذا المصحف وكتاب شمس المعارف، عند صاحبى سيد. وسمعت صوت سيد يقول لى: ـ لازلت على أول الطريق. والله يختار لى. ـ دهشت لأن سيد يتابعنى بعينيه، وهو يعمل على النوال الخشبى. ودهشت لما قاله لى، ولم أعرف انئذ مقصده تماما. إنشغلت برهة بتصفح الكتاب العجيب، الى أن أحسست بسيد يوقف النول الخشبي، ويقول لى: ـ الشاى برد. ـ ونهض سيد عن كرسى النول، وجلس على الجانب الآخر للأريكة، وصارت صينية الشاى بيننا، وناولنى كوبى، وأخذ الكتاب من يدى، ووضعه حيث كان على التسريحة. والتفت الى قائلا: ـ سترى اليوم عجبا، فى هذه الغرفة، بعد أن ننتهى من شرب هذا الشاى. اثناء شربنا الشاى راح سيد يحدثنى عن نفسه: طلق أبوه أمه وهو طفل صغير. وكانت حاملا أخته صفية. لم تستطع أمه أن تعوله، وترعاه وهى تعمل فى بيوت الناس، فى الوقت نفسه، فدفعت به الى ملجأ للأيتام بالمدينة، وظلت تزوره مرة فى كل شهر أو شهرين أو ثلاثة شهور. لكنها ظلت تحتفظ بأخته ترعاها وتربيها، وتجعلها تساعدها فى العمل فى بيوت الناس، ولم تدفع بها هى الأخرى الى الملجأ وبقيت من أجلها حرة، بلا زوج. وتعلم هو سيد فى الملجأ أمرين: النسيج والعزف على الفلوت. كان سيد يحدثنى عن حياته ببراءة من لا خبرة له بالناس، ولا بأفكار الناس، ومو ا ضعاتهم الاجتماعية، عن بعضهم البعض، وكأننى صديق صدوق حميم وخليل يعرفه منذ الصغر. هزتنى ثقته بى، واعترافاته لى، وصار شديد القرب الى قلبى. فرغنا من الشاى، فصفق سيد، وجاءت اخته الصبية، فرفعت صينية الشاى من بيننا. وقال سيد لها: ـ جهزى البخور، وموقد البخور. وهى ت غادر الغرفة، قلت له بدهشة، وعيناى على كتاب: شمس المعارف: ـ هل ستحضر الجن لى؟ فضحك وقال لى بزهو: ـ نعم وملك الجن نفسه: شمهورس. فالزم الصمت عند حضوره. أخذ سيد يضع على نار الموقد بخورا حاد الرائحة. وكانت الغرفة مغلقة النوافذ ومظلمة، وكانت اخته الصبية جالسة على مق عد امام التسريحة تنظر الى مرآتها، منكوشة الشعر لا تزال. قال لي سيد: ـ سيظهر شمهورس لأختى وحدها فى المرأة. ستراه هى، ونحن لا نراه ستسمعه هى، ونحن لا نسمعه. ولا تفزع حين ترى مايصيب أختى من اضطراب وخوف، حين ترى ملك الجن، وتتحدث اليه. هززت له رأسى متفهما. وبدوت شديد اللهفة لما سوف يحدث أمامى. وراح سيد يتمتم بتعويذة حفظها عن ظهر قلب من كتاب شمس المعارف، وهو يغذى نار البخور بمزيد من البخور. وحين وضع سيد بخور الصندل على النار، وفاحت رائحته، بدت لى اخت سيد وهى ترتجف وترتعد، مفتوحة العينين على اتساعهما، تنظر فى المرآة . وهمست وهى ترتجف: حضر ملك الجن العظيم. اننى أراه، وأسمعه. انه يقول لك: لماذا جئت بى؟ فقال لها سيد: ـ أخبريه اننى أسأله عن رأيه فى سليمان، فسيكون لى صاحبا، إذا أمرتنى. فقالت له أخته على الفور، كأنها قد قالت له ماقاله: انه يقول لك امام عينى: ألهذا جئت بى؟ ماأ سخفكم معشر الانس. انه يقول لك أيضا: صاحبك رجل طيب. وسيكون له شأن غير شأنك، فأنت ستسير فى طريق، وهو سيسير فى طريق. والله وحده يعلم ماالطريق. لكنكما صاحبين الى حين. التفت الى سيد آنئذ قائلا: ـ أفهمت شيئا؟ قلت له: ـ لا. كلام عام. اصرفه. ودع الغيب لله. راح سيد يتلو تعويذة الصرف، حتى لا يدمر الجنى، كما قال سيد، كل شئ. ولأننى كنت من يومى شكاك القلب، فقد رحت أفكر اننى فى جلسة نصب. أطرافها سيد، وأخت سيد، وهذه المرآة فى غرفته. فأنا لم أر شيئا فى المرأة بعينى، ولم أسمع شيئا من المرآة بأذنى وانتهى سيد من تعويذته، فقالت أخته له: ـ الحمد لله انصرف ملك الجن العظيم بسلام. وبدأت أخت سيد تهدأ، وقد غمرها العرق، مثلى، ومثل سيد، هى فيما تظهره من حضور ملك الجن، والفزع من هيبة ملك الجن، ونحن من حر هواء حبيس، ونار موقدة، ونافذة مغلقة. فتحت أخت سيد مصراعى النافذة، وحملت موقد البخور، وغادرت الغرفة. وقال لى سيد: ـ سوف أقطع شوطا بعيدا مع الأيام، فى تحضير امراء الجن، ومعرفة ماكان ومايكون وماسيكون، ولن أسخر معرفتى الا للخير. ابتسمت وقلت لسيد ساخرا ومداعبا: ـ أيمكنك أن تجعلنى أرى ملك الجن بعينى، وأسمع ملك الجن بأذنى؟ فقال لى على الفور: ـ لك؟ لا. ولا لى أنا. قلت له: ـ لم؟ ـ فقال لى: ـ لا يرى أحد من الإنس أحد من الجن، الا فتاة لم تدخل الدنيا بعد. قلت له: ـ أتقصد أنها لم تتزوج بعد؟ فقال لى: ـ بل لم يصبها مايصيب النساء حين يبلغن. وتخلص سيد من لجاجتى. فقد زعق قائلا: ـ جهزوا لنا الغداء. وجاءت أخت سيد، وأم سيد بالغداء. وجلسنا معنا، وكان الغداء أرزا، وبامية مطهوة بلا لحم، وخبزاً طريا خرج لتوه من التسخين، على صاجة فوق وابور الجاز. ولاحظت أن أخت سيد قد غسلت رأسها، ومشطت شعرها، ولفته بشبكة من خيوط زرقاء. ذلك اليوم غادرت بيت سيد، وبعد أن دربته على قراءة آى القرآن، على مهل، وبترتيل تجويد يعطى للحرف الساكن حركتين من اصبعى يده، وللحرف الممدود أربع حركات، وللهمزة فى أول الكلام، أو فى آخره، ست حركات، وقطع النفس مع القراءة، فلا يتنفس الا اذا توقف عن النطق، معتمدا على ماختزنه فى صدره من الهواء. وأريته علامات مواضع الوقف والوصل وجواز أحدهما، فى الترتيل المجود للقرآن. وبدا لى سيد سعيدا بمايتعلمه منى. وكانت أكواب الشاى المزرود تأتى ملآى، وتذهب فارغة بين حين وحين. وكانت لحظة مغادرتى لبيت سيد، عند الغروب لحظة فرار بالنسبة لى. وبرغم حبى لعزف سيد، فى ظلام الليل، لم أشعر بالرضا عن وجودى فى بيت به نول خشبى، وصبية منكوشة الشعر، وأم عجفها الزمن، وغارت عيناها، ومرآة مسحورة يتخفى وراءها ملك الجن، وكل قبيل الجن، وصاحب ممزق بين العزف وقراءة القرآن، وتحضير ملك الجن. وكلما شدنى الحنين لعزف سيد، وصوته الأسيان الحزين أذهب اليه فى ظلام الليل، قرب منتصف الليل، حيث يجلس على حجر ويعزف مسندا ظهره الى ساق الشجرة ثانيا ركبتيه الى صدره، وعينه تومضان فى ظلام الليل، وشفتاه متكورتان على ثقب جانبى بالفلوت والصوت ينساب حنوناً كصوت الناى والشبابة من الثقوب وحين ينتهى من العزف او حين يشبع من العزف وبث هم القلب، يلتفت الى قائلا فى كل مرة: ـ فى الملجأ، كنت أعزف على ناى خشبى، فى الليل، وفى الحفلات التى يجمعون فيها التبرعات، كى يطعمونننا. وحين تخرجت من الملجأ، وقد بلغت السادسة عشرة من عمري أعطونى هدية هذا الفلوت المعدنى. ونسير قليلا معا، ونتحدث قليلا معا، ثم نفترق وهو يقول لى فى كل مرة: ـ ألن تزورنى؟ فأقول له: ـ إن شاء الله. انقطع صديقى سيد عن الذهاب الى الحديقة، ليلة بعد ليلة. أذهب الى الحديقة، ولا أسمع صوت الفلوت يدعونى اليه من بعيد. وأصل الى شجرته وحجره فأجدهما وحيدين، ولا شئ سوى الظلام، ولا صوت سوى نأ مات الليل، وهسيس الأوراق. وحدثت نفسى أنه مريض. ذهبت الى بيته مرارا، وفى عز الظهيرة، وفى ضحى الصباح، وعند الغروب. تقول لى أمه بحزن شديد: ـ سيد؟ سيد لم نعد نراه. هجر النول، والبيت هجرنا سيد يحمل مصحفه قبيل الفجر، ولا يعود حتى ليأكل. يبيت خارج البيت أكثر الليالي. واذا عاد، يصرخ فينا كى نعود الى الله. فى المرة الأخيرة، وجدت امه واخته محجبتين، وقد استسلمتا لسكينة عميقة، لا تباليان بما هما فيه، ولا بما يأتى بعد الغد. قالت لى أم سيد بذات الحزن. سيد؟ سيد ستجده فى جامع من جوامع السنبلة الخضراء. منذ ذلك الحين، تجاهلت صوت سيد، وعزف ناى سيد، ورعشة التردد فى صوت سيد، وصوت الناى الى أن صادفت سيد يوما قرب الغروب، وقد انحسرت الشمس عند القنطرة، عن طريق الترعة، واشجار الحديقة. رأيته يصعد درج سلم خارجى لمقر جمعية الاخوان المسلمين. ناديته فتوقف، والتفت. لحقت به، فقال لى لفوره بفرح شديد: ـ تعال معى. ستلتقى بخير اخوة فى الله. يصلون، ويصومون، ويتهدجون فى ظلام الليل، ويتعاونون على الخير، ولا يعملون عملا الا لوجه الله. صعدت معه الدرج، ودخلت معه ردهة الجمعية. كل الوجوه من حولى تحمل لحى، وشوارب محفوفة. الكل بين واقف وجالس شباب عفى، تفوح رو ائح العرق والخصوبة من أيديهم واعناقهم. بدوا لى وكأنهم على سفر فى حال هجرة. سألت سيد: ـ ماالخبر؟ فقال لى: ـ نحن نستعد للجهاد الأصغر. قلت له: ـ فى القناة؟ فقال لى: ـ بل الى جهاد أعظم فى أرض فلسطين. كنا فى شهر ابريل. ضحكت ساخرا، وقلت له هامسا، خشية آذان أصحاب اللحى: ـ الانجليز هنا، والانجليز هناك واليهود أيضا، نتحرر هنا من العملاء، ثم نتحرر هناك. فقال لى برثاء: ـ لا تزال صغيرا، ولن تفهم شيئا. وانصرف عنى الى الوجوه واللحى، ليبحث له عن دور بين المهاجرين للجهاد. ونسيت مرة أخرى أمر سيد، وعزفت عن الذهاب الى بيته، أو حتى السؤال عنه بمقر جمعية الاخوان، الى ان التقيت بأخته صفية مصادفة، متسربلة، هى الصغيرة العمر، بالحجاب. قالت لى: إن سيد لم يذهب الى فلسطين، تركوه وأخذوا غيره الى حين. ذات نهار. والصيف فى عزه، حرا وضوءا. كنت جالسا تحت شجرة ظليلة صغيرة الأوراق على رصيف محطة السكة الحد يد، اقرأ فى كتاب (علم النفس التكاملى) ولم أكد اقطع فى قراءاتى سعيدا بما أعرف، عدة صفحات حتى رايت الكتاب يخطف من يدى نظرت فزعا الى من فعلها، فرأيته واقفا امامى، جاد الوجه، صارم الملامح، وقال لى وهو ينظر الى غلاف الكتاب باستنكار بالغ: ـ أتقرأ فى كتاب من كتب الكفر، وتترك كتاب الله؟ وقبل أن أنطق بحرف، أو أقف لأجادله كان قد صفعنى بكفه بالقرب من أذنى وطوح الكتاب بعنف، فسقط ممزقا بين قضبان القطار. وفوجئت به ينظر الى باحتقار من أعلى إلى أسفل، ويذهب عنى مسرعا. ونزلت بين القضبان، ورحت أحمل اشلاء الكتاب. كنت قد استعرته نظير قرشين لقراءته. والآن صار على أن أدفع ثمنه، وسوف ألجأ الى أبى وأمى لأروى لهما ماحدث، حتى يدفعا لى ثمن الكتاب: خمسون قرشا. بلعت غضبى، الى قرب الغروب، ولم أطق أن أبيت غاضبا، فذهبت الى بيته. وسألت أمه عنه، فغابت لحظة، وخرج الى هو باسما، وكأننى عدت اليه تا ئبا من الذنب، وازداد غيظى، ورفعت كف يمناى وصفعته، ثم كف يسراى وصفعته. لم تكفنى الصفعتين. وقفت أنتظر رد فعله، لأكون راضيا عنه. توقت أن نتعارك. سأكون راضيا. توقت أن يعتذر سأكون راضيا. توقعت أن يطردنى من بيته سأكون راضيا. لكن الدموع انبثقت من عينيه الجمليتين، وقال لى. هو من مزق كتابا، ومزق معه علما، سعت البشرية كلها إليه: ـ يهديك الله ياأخى.ـ