مضى من الليل نصفه، والكائنات الآدمية لهذا الحي النائي نصفُ نيامٍ.. تتوجسُ خيفةً في مساكنها، وآذانها تستمعُ لكل حركةٍ قد تصدر بالخارج، تتوقع برهبةٍ زيارةً غير مرغوبٍ فيها، قد يقوم بها سُراة الليل، أبناء الظلام.. فالدواخل موصدة.. القناديل مطفأة.. الظلمة حالكة السواد.. والبروقُ تومضُ، يتسللُ ضوءُها بخجلٍ من بين شعاب الغيوم المتراصة في الأجواء، تصطدم بالألواح المعدنية التي صنعت منها تلك الأهرامات المتهالكة التي يدعوها أصحابها مساكن.. ونباحُ الكلاب الضالة يقصمُ ظهرالسكون المطبق بأنيابه على الحي!
قد بلغ بي الشوقُ شأواً سحيقاً.. إلى فتاتي «باميجي».. يصلبني على الآكام الموحشة، وفي مخابئ الصخر.. عند الينابيع الحارة.. «باميجي» عصفورةٌ استوائيةٌ فريدةٌ، متوحشة الجمال.. قد انفجرت ينابيعُ أنوثتها العذبة، وهي تبلغ من العمر تسعة عشر ربيعاً، لتستحيل فردوساً عبقرياً بنباتاتٍ غضةٍ، وتلالٍ من الأزاهر تسلل إليَ طيفها وأنا على مرقدي، أصارع جبروت الأرق الذي بات ينهك جفني.. أجثو على ركبتيَّ مبتهلاً إلى السماء طوراً، وأنبطح على فراشي وأقاوم اليأس طوراً آخر. ارتفع نقيق ضفدعة انساب نقيقها عبر ثغرات الخيزران التي بُني بها مسكني.. وإناث الأنوفليس البغيضة العطشى تغرز معاولها في جسدي تستبيح دمي ثم تتطاير تجوب أرجاء المسكن جيئة وذهاباً، وقد بيتت نية شريرة في احتلاله أو هكذا أظن.. كنت أود لو أرى النجوم المتلالئة تتراقص في مداراتها، والشهب والنيازك تتسابق نحو كرتنا هذه، غير أن النوم خارج الغرفة يعدّ مغامرة من العيار الثقيل في هذا الحي.. سرتْ في شراييني رعشة جميلة مبهمة.. اهتزت لها جوانحي إثر لثمة فجائية حارة طبعتها شفتا فتاتي باميجي الساحرتان على ثغري.. مددت يدي ومسست خدها، فتناطحت في خلدي الأفكار.. أراني قد سموت إلى فردوس استثنائي خاص بي.. ما وجدت بها شجرة لمعرفة خير أو شر.. فبتُ ألتهم بشرهٍ ما يقع نصب عينيَّ دونما اكتراث. انفلق باب الغرفة إثر ضربة عنيفة عاجله بها أحدهم، متبوعة بحركة لأجزاء بندقية آلية، وصوت قبيح يأمرني: «لا تتحرك». التصق جسدي النحيل بالفراش.. صرتُ كالمومياء.. لم أجد سانحة للحركة، ولم يترك لي ذلك الصوت متنفساً لتقويم وضعية جسدي في المرقد. ولج الغرفة شخصان لم أتبين خلقتهما أبداً. إني لم أزل متيبساً.. أشعل أحدهما مصباحاً يدوياً، صوّب الضوء إلى وجهي، أحالني إلى أعمى مؤقتاً.. وإذا بصوت يقول: «أين القروش واللابتوب والموبايل»؟.. يا للحظ السيئ! يبدو أني أتعرض للنهب.. يبدو أن أبناء الظلام قد أدركوني. أفصحت لهما عن مواضعها مكرهاً.. سيأخذونها لا محالة. اختلجت في داخلي أحاسيس بالغضب والوجل والحسرة، ولا حيلة. هؤلاء لا يرحمون.. ينهبون ويسلبون، يغتصبون ويقتلون، ولا يرمش لهم جفن. قلتُ أصون روحي فلا أفقدها أيضاً. انفلتت من رئتيَّ شهقة عميقة بُعيد ذهابهما، أعادت إلى موميائي أعني جسدي النحيل بعض الحياة... عاودني جبروت الأرق، مستصحباً اليأس والقنوط، بينما ابتدأت في الخارج، قطرات المطر تنقر سطح مسكني المعدني، نقرات متسارعة، كثيفة وعنيفة.. وريح هوجاء تهز ملابسي المتدلية من على حبل موثق بين خشبتين تعلوان فراشي.. وإناث الأنوفليس البغيضة تلك، اختفت إلى حيث لا أدري.. وأنا أحاول بعبوسٍ مراراً، اجترار الوقت قليلاً، من دون جدوى، لأستعيد أملاكي المنهوبة، وطيف فتاتي الرائعة الاستوائية باميجي!
* كاتب من جمهورية جنوب السودان.
قد بلغ بي الشوقُ شأواً سحيقاً.. إلى فتاتي «باميجي».. يصلبني على الآكام الموحشة، وفي مخابئ الصخر.. عند الينابيع الحارة.. «باميجي» عصفورةٌ استوائيةٌ فريدةٌ، متوحشة الجمال.. قد انفجرت ينابيعُ أنوثتها العذبة، وهي تبلغ من العمر تسعة عشر ربيعاً، لتستحيل فردوساً عبقرياً بنباتاتٍ غضةٍ، وتلالٍ من الأزاهر تسلل إليَ طيفها وأنا على مرقدي، أصارع جبروت الأرق الذي بات ينهك جفني.. أجثو على ركبتيَّ مبتهلاً إلى السماء طوراً، وأنبطح على فراشي وأقاوم اليأس طوراً آخر. ارتفع نقيق ضفدعة انساب نقيقها عبر ثغرات الخيزران التي بُني بها مسكني.. وإناث الأنوفليس البغيضة العطشى تغرز معاولها في جسدي تستبيح دمي ثم تتطاير تجوب أرجاء المسكن جيئة وذهاباً، وقد بيتت نية شريرة في احتلاله أو هكذا أظن.. كنت أود لو أرى النجوم المتلالئة تتراقص في مداراتها، والشهب والنيازك تتسابق نحو كرتنا هذه، غير أن النوم خارج الغرفة يعدّ مغامرة من العيار الثقيل في هذا الحي.. سرتْ في شراييني رعشة جميلة مبهمة.. اهتزت لها جوانحي إثر لثمة فجائية حارة طبعتها شفتا فتاتي باميجي الساحرتان على ثغري.. مددت يدي ومسست خدها، فتناطحت في خلدي الأفكار.. أراني قد سموت إلى فردوس استثنائي خاص بي.. ما وجدت بها شجرة لمعرفة خير أو شر.. فبتُ ألتهم بشرهٍ ما يقع نصب عينيَّ دونما اكتراث. انفلق باب الغرفة إثر ضربة عنيفة عاجله بها أحدهم، متبوعة بحركة لأجزاء بندقية آلية، وصوت قبيح يأمرني: «لا تتحرك». التصق جسدي النحيل بالفراش.. صرتُ كالمومياء.. لم أجد سانحة للحركة، ولم يترك لي ذلك الصوت متنفساً لتقويم وضعية جسدي في المرقد. ولج الغرفة شخصان لم أتبين خلقتهما أبداً. إني لم أزل متيبساً.. أشعل أحدهما مصباحاً يدوياً، صوّب الضوء إلى وجهي، أحالني إلى أعمى مؤقتاً.. وإذا بصوت يقول: «أين القروش واللابتوب والموبايل»؟.. يا للحظ السيئ! يبدو أني أتعرض للنهب.. يبدو أن أبناء الظلام قد أدركوني. أفصحت لهما عن مواضعها مكرهاً.. سيأخذونها لا محالة. اختلجت في داخلي أحاسيس بالغضب والوجل والحسرة، ولا حيلة. هؤلاء لا يرحمون.. ينهبون ويسلبون، يغتصبون ويقتلون، ولا يرمش لهم جفن. قلتُ أصون روحي فلا أفقدها أيضاً. انفلتت من رئتيَّ شهقة عميقة بُعيد ذهابهما، أعادت إلى موميائي أعني جسدي النحيل بعض الحياة... عاودني جبروت الأرق، مستصحباً اليأس والقنوط، بينما ابتدأت في الخارج، قطرات المطر تنقر سطح مسكني المعدني، نقرات متسارعة، كثيفة وعنيفة.. وريح هوجاء تهز ملابسي المتدلية من على حبل موثق بين خشبتين تعلوان فراشي.. وإناث الأنوفليس البغيضة تلك، اختفت إلى حيث لا أدري.. وأنا أحاول بعبوسٍ مراراً، اجترار الوقت قليلاً، من دون جدوى، لأستعيد أملاكي المنهوبة، وطيف فتاتي الرائعة الاستوائية باميجي!
* كاتب من جمهورية جنوب السودان.