يتعاطى الشاعر مع الزمن، فكل ذلك العروض وتعقيدات الموسيقى والصوت ما هي إلا طرق لقياس الزمن قطرة بقطرة، كما تتسرب من بين أصابعه وتتبخر في العدم.” فالقطرة التي لا تتحول نهرا تلتهمها الرمال “
يقول غالب في إحدى غزلياته. وقت بعد آخر نكتشف حقيقة انه عندما نكتب فإننا فعليا نتذكر، ليس الماضي بذاته، ليس شخصا أو مكانا، مشهدا أو صوتا أو أغنية، ولكن أولاً وبشكل رئيسي نتذكر كلمات. الكلمات الكامنة في ذكرى محددة، والحاملة لصدى مكان وزمان محدديّن. لكن مشكلة الشاعر ليست أساسا في المُفردَات. تكمن المشكلة في كيفية أخذ المفردات القديمة ووضعها في محيط جديد، في بنى جديدة ستتحدث عن حاضرنا. وتضيء ما يحدث الآن. إذن فوظيفة الذاكرة ليست يسيرة: فعلى الفرد معرفة الكلمات ومعانيها، ولكن عليه أيضا نسيان محيطها الذي وُجِدت فيه.
لهذا السبب قد يجد المرء أثناء الكتابة، في منتصف رحلته أو قرب نهايتها، انه طوال الوقت كان يسافر صوب إيثاكا، وأنه انما تركها من أجل العثور عليها من جديد.
كانت ” جيرترود ستاين ” هي التي قالت: على الكتّاب أن يكون لهم وطنان، ذاك الذي ينتمون إليه. والآخر حيث يعيشون حقيقة. الثاني رومانسي، منفصل عن ذواتهم، هو ليس بحقيقي ولكنه حقيقة هناك…..
طبعا في بعض الأحيان يكتشف الناس وطنهم كما انه الآخر “.
هناك حكاية تنسب الى جلال الدين الرومي تقول: ذهب رجل الى بيت المعشوق، قرع الباب. فسأله الرجل:داخل البيت: مَن هناك ؟ فأجاب الرجل: إنه أنا. فقال له الصوت: هذا المكان لا يسعنا أنت و أنا.
وبقيّ الباب مغلقا. فانصرف الرجل، حائرا، مرتبكا و مستغربا من هذه الكلمات، متأملا معانيها الخفيّة.
وبعد سنة من العيش في عزلة، محروماً من ابسط متع الحياة، قرر الخروج وقرع الباب ثانية. سأله ذات الرجل: من داخل البيت: من هناك ؟ فأجاب الرجل: انه أنت. فانفتح الباب.
بالطبع بالنسبة للصوفي فانه لكي ينفتح الباب لا بد من المرور بسلسلة من التمارين الروحية الصارمة، وبهذا يستطيع الدخول في حضرة المعشوق، كما يسميه المتصوفة أو الله. مهمة الشاعر الذي تقتصر أدواته على الكلمات مختلفة. فبالنسبة إليه يبقى الباب مغلقا حتى ينجح هو من خلال تفان كليّ في دخول أحجيّات اللغة ذاتها. ولأن الفن خالد وحياة الإنسان قصيرة، فليس هناك من شاعر استطاع الوصول الى إتمام هذه المهمة الرائعة، حتى كبار الشعراء. فما يحدث هو أن كل شاعر تاريخيا، سواء بوعيّ أو لا، في الواقع يكمل عمل من سبقه من الشعراء، شيء يشبه قصيدة لا متناهية أو سلسلة حروف تمتد الى الأبدية، أو الى نهاية الزمان. كتب الشاعر ميلوش قصيدة تعبر عن هذا بدقة، تحكي عن رحلة لا تصدق لشعراء عبر الأزمنة، كثِلّة من البشر اختارت طريقها، تحدب على قول الحقيقة، ولكن بطريقة تخيليّة وعلى نحو ما طفوليّة.
وفي ذات المعنى يطرح بورخيس في مقالته ” وردة كولريدج ” فكرة مشابهة: إن كل الشعراء في الواقع
يُفصِلون ذات الملحمة القديمة والتي تعد كل قصيدة مجرد جزء منها. أحببتُ قصيدة ميلوش كثيرا، فترجمتُها إلى العربية ونشرتُها في صحيفة يومية تصدر في لندن، حيث كان الشاعر الحائز على جائزة نوبل سيقرأ شعره في مهرجان لندن للشعر. كان الشاعر الكبير معجبا بالحروف العربية وسألني بتشوق أي قصيدة هذه ؟ فقلت له إن عنوانها ” تقرير ” ومن الواضح انه مرفوع الى الإله أو أية ذات يدعوها ” بالعلي القدير ” فافتّر ميلوش مبتسماً: “أي نعم بالطبع “: تعرف بأنني بعثت له عدة تقارير عبر السنين، ولكنه لم يجبني قط “. لم استطع المساعدة بالقول للشاعر الكبير: ” من يدري، عله سيفعل ذلك يوما ما “.
* كلمة الشاعر سركون بولص في اليوم العالمي للشعر
يقول غالب في إحدى غزلياته. وقت بعد آخر نكتشف حقيقة انه عندما نكتب فإننا فعليا نتذكر، ليس الماضي بذاته، ليس شخصا أو مكانا، مشهدا أو صوتا أو أغنية، ولكن أولاً وبشكل رئيسي نتذكر كلمات. الكلمات الكامنة في ذكرى محددة، والحاملة لصدى مكان وزمان محدديّن. لكن مشكلة الشاعر ليست أساسا في المُفردَات. تكمن المشكلة في كيفية أخذ المفردات القديمة ووضعها في محيط جديد، في بنى جديدة ستتحدث عن حاضرنا. وتضيء ما يحدث الآن. إذن فوظيفة الذاكرة ليست يسيرة: فعلى الفرد معرفة الكلمات ومعانيها، ولكن عليه أيضا نسيان محيطها الذي وُجِدت فيه.
لهذا السبب قد يجد المرء أثناء الكتابة، في منتصف رحلته أو قرب نهايتها، انه طوال الوقت كان يسافر صوب إيثاكا، وأنه انما تركها من أجل العثور عليها من جديد.
كانت ” جيرترود ستاين ” هي التي قالت: على الكتّاب أن يكون لهم وطنان، ذاك الذي ينتمون إليه. والآخر حيث يعيشون حقيقة. الثاني رومانسي، منفصل عن ذواتهم، هو ليس بحقيقي ولكنه حقيقة هناك…..
طبعا في بعض الأحيان يكتشف الناس وطنهم كما انه الآخر “.
هناك حكاية تنسب الى جلال الدين الرومي تقول: ذهب رجل الى بيت المعشوق، قرع الباب. فسأله الرجل:داخل البيت: مَن هناك ؟ فأجاب الرجل: إنه أنا. فقال له الصوت: هذا المكان لا يسعنا أنت و أنا.
وبقيّ الباب مغلقا. فانصرف الرجل، حائرا، مرتبكا و مستغربا من هذه الكلمات، متأملا معانيها الخفيّة.
وبعد سنة من العيش في عزلة، محروماً من ابسط متع الحياة، قرر الخروج وقرع الباب ثانية. سأله ذات الرجل: من داخل البيت: من هناك ؟ فأجاب الرجل: انه أنت. فانفتح الباب.
بالطبع بالنسبة للصوفي فانه لكي ينفتح الباب لا بد من المرور بسلسلة من التمارين الروحية الصارمة، وبهذا يستطيع الدخول في حضرة المعشوق، كما يسميه المتصوفة أو الله. مهمة الشاعر الذي تقتصر أدواته على الكلمات مختلفة. فبالنسبة إليه يبقى الباب مغلقا حتى ينجح هو من خلال تفان كليّ في دخول أحجيّات اللغة ذاتها. ولأن الفن خالد وحياة الإنسان قصيرة، فليس هناك من شاعر استطاع الوصول الى إتمام هذه المهمة الرائعة، حتى كبار الشعراء. فما يحدث هو أن كل شاعر تاريخيا، سواء بوعيّ أو لا، في الواقع يكمل عمل من سبقه من الشعراء، شيء يشبه قصيدة لا متناهية أو سلسلة حروف تمتد الى الأبدية، أو الى نهاية الزمان. كتب الشاعر ميلوش قصيدة تعبر عن هذا بدقة، تحكي عن رحلة لا تصدق لشعراء عبر الأزمنة، كثِلّة من البشر اختارت طريقها، تحدب على قول الحقيقة، ولكن بطريقة تخيليّة وعلى نحو ما طفوليّة.
وفي ذات المعنى يطرح بورخيس في مقالته ” وردة كولريدج ” فكرة مشابهة: إن كل الشعراء في الواقع
يُفصِلون ذات الملحمة القديمة والتي تعد كل قصيدة مجرد جزء منها. أحببتُ قصيدة ميلوش كثيرا، فترجمتُها إلى العربية ونشرتُها في صحيفة يومية تصدر في لندن، حيث كان الشاعر الحائز على جائزة نوبل سيقرأ شعره في مهرجان لندن للشعر. كان الشاعر الكبير معجبا بالحروف العربية وسألني بتشوق أي قصيدة هذه ؟ فقلت له إن عنوانها ” تقرير ” ومن الواضح انه مرفوع الى الإله أو أية ذات يدعوها ” بالعلي القدير ” فافتّر ميلوش مبتسماً: “أي نعم بالطبع “: تعرف بأنني بعثت له عدة تقارير عبر السنين، ولكنه لم يجبني قط “. لم استطع المساعدة بالقول للشاعر الكبير: ” من يدري، عله سيفعل ذلك يوما ما “.
* كلمة الشاعر سركون بولص في اليوم العالمي للشعر