سليمان فياض - ضريح ولي الله المقدس.. قصة قصيرة

اندفع عم "طه" خارجًا من دار عم "سلامة" صائحًا:
- سلامة مات يا حارة غضنفر. سلامة مات.
يسرع "طه" السير في الحارة المتعرجة، وهو يكرر صياحه بالنبأ. كأن حدثًا كونيًّا قد وقع، وأطلت وجوه نساء وأطفال ورجال من بيوت غضنفر، وخضير، والحاج سليمان، وكاعوه، وفياض، وتسلق رمضان منحدر الحفرة العميقة بالحارة، صاعدًا إلى أعلاها. وجوه طينية البشرة، محدّدة الملامح، كبيوت الطين في الحارة. قالت امرأة من آل كاعوه:
- بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم أجعله آخر موت.
كان الموت بعيدًا عن أهل الحارة، منذ زمن بعيد، منذ قتل الأشرار من الأعوان، في عزبة معوّض، رجلين من أهل كاعوه، غدار وغيلة.
ودهش رجل من آل خضير، لفزع طه لموت سلامة. وحماسه في إعلان النبأ، وسرعة خطوه في الحارة. وكأنه قد عزم على إعلان الخبر للقرية كلها، فقال له:
- الموت حق يا عم طه. من يسمعك يظن أن سلامة من أقاربك، أو على مِلّتك.
صرخ فيه الحاج سليمان، وكان قد غادر داره، حين سمع صراخ طه بالخبر:
- اسكت. الموت لا يفرق بين ملة وملة، وأهل البلد عشرة وجيرة.
وأوسع الحاج سليمان خطوه، نحو بيت سلامة، في آخر الحارة، عند "سرة" البلد. وجد "طه" امرأته "خضرة" واقفة على الباب. فقالت لطه وهو يدخل البيت:
- على وشك، مات سلامة الرجل الطيب.
التفت "طه" نحوها، شاعرًا بالإهانة، ومد يده، وصفعها على خدها الأعجف، وقال:
- اخرسي، وجدته ميتًا، لو لم أذهب إليه لوجده غيري ميتًا.
فزعت خضرة، وقالت:
- تضربني يا طه. لو كان سلامة حيًّا، ورآك تضربني، لقطع لك يدك بقدومه.
طأطا طه رأسه، وقال:
- سلامة لم يرفع يده نحو أحد يا امرأة، منذ سقطت أسنانك، وأنت تخرفين. تقولين أي كلام.
وجلس طه قرب الباب حزينًا، وقال:
- يلطف الله بالبلد، يلطف الله بالبلد، فموت سلامة ليس كأي موت.
ورفع رأسه، وقال لامرأته:
- هاتي لي ثوبي الكشمير. المنادي لابد أن يعلن الخبر لأهل البلد.
دخل الحاج سليمان دار عم سلامة. هبط عتبتها إلى الفسحة، كانت الدار بيتًا من فسحة صغيرة، وغرفتين صغيرتين، مجرد بيت صغير، لكنه صار دارًا، مثل بيت كبير، لأنه كان بيتًا لعم سلامة. كان يقع في سرة البلد. يعبره كل من يشاء. في الليل، والنهار، ليجد نفسه يجتاز بابًا آخر مفتوحًا على النصف الآخر من البلد.
كانت الأخشاب ألواحًا وعروقًا وأوتادًا وخوابير واقفة وملقاة، وثمة كرة تلقي بضوء نهاري، في الفسحة الصغيرة.
ورآه الحاج سليمان ممدّدا على ظهره، في الركن المقابل للكوة، على حصير قديم. خطا نحوه وجثا على ركبتيه. الوجه منير، بلا أخاديد، ملائكي الملامح. وجه بلا خطيئة واحدة، وكأن الزمن لم يعرف طريقه إليه، يشعّ بسلام عميق، كذلك السلام الذي أحس به وهو في فلسطين، وهو يقدّس في بيت المقدس.
وانحني الحاج سليمان، ولثم جبين عم سلامة، وجمع بين كفيه على صدره، وغطى جسده ووجهه بملاءة بيضاء، وهمس وهو يرسم صليبًا وهميًّا على الجسد المسجى:
- في رحاب القديسين يا سلامة.
وتلفت الحاج سليمان حوله في دهشة. وحدث نفسه: أين ذهب الأولاد في هذا الصباح. هذا الصباح بالذات، لا أحد منهم بجانبك، لكي تلقي الرب وحيدًا، كما جئت إلى الدنيا وحيدًا يا سلامة، ترحل.
وسمع الحاج سليمان أنفاس الصمت، فتلفت نحو الباب المفتوح أبدًا على مصراعيه، رأى جمعًا من أهل الحارة، واقفين، لا يجرؤ أحد منهم على نزول العتبة، والدخول إلى فسحة الموت. ووقف الحاج سليمان، وتوجه نحوهم قائلا:
- اذهبوا جميعًا، لا حاجة له الآن بأحد منكم، فهو بين يدي الربّ.
وأجهشت امرأة بالبكاء، فارتفع النواح وهم يبتعدون، وطأطأ الرجال رءوسهم في أسى. وردّ الحاج سليمان مصراعي الباب وراءه، وصعد عتبة الدار، فوجد طه أمامه واقفًا يلهث:
قال له "طه":
- المنادي يعلن الخبر الآن لأهل البلد.
قال له الحاج سليمان:
- جزاك الله خيرًا.
قال له "طه":
- هو ميتنا يا حاج سليمان، ولن تأخذوه منا.
فزع الحاج سليمان، وصاح قائلا:
- اقصر الشرّ يا طه. سلامة منا، ونحن أهله.
قال "طه" مكررًا:
- هو ميتنا يا حاج سليمان، ولن تأخذوه منا.
****
كان "صابر" المنادي يسير في الطريق الدائري للقرية. معلنًا وفاة عم سلامة، ويتوقف أمام كل حارة زاعقًا بالنبأ، فترتجف الأبدان لخبر الموت، ويرهف الأولاد والبنات السمع، وينظر الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، ويغادرون البيوت والدور، إلى الأبواب، ومداخل الحارات، والنبأ يسري مع الهواء إلى من في الحقول، وأهل العزب والكفور المحيطة. وحين مر المنادي أمام الحاج "علي ابن الدرينى" وقف الحاج "علي"، وقال:
- يرحمه الله.
ثم ضرب كفًّا على كف، وقد تنبه إلى أمر، قائلا:
- فليطف بنا الله. كيف لم نتوقع هذا الموقف الصعب؟
تقدم الحاج "إبراهيم" البلهنية، نحو الحاج "علي" قائلا:
- حاج علي، سلامة منا. وصلي معنا في مساجدنا. وأنت تشهد أنه صلى معي ومعك في الجوامع الثلاثة: الشيوى، وابن عنان، وشعير.
فقال له الحاج "علي" كأنه يدفع خطرا لا قبل لأحد به:
- لكنه يا حاج إبراهيم، لم يعلن إسلامه أمام الشيخ أحمد عنتر في جامع ابن عنان، على مشهد من الناس.
غضب الحاج "إبراهيم" البلهنية، وقال عابسًا:
- يعلن إسلامه؟ والصلاة في الجامع، معنا يا حاج علي، أليست إسلامًا؟
قال الحاج "علي" بيأس، ضاربًا الهواء بكفه ضربة قصيرة:
- أعرف. أعرف يا حاج إبراهيم، لكن ما قيمة ذلك الآن. إنه الآن ميت. والموتى أمرهم إلى الله لا إلينا.
فأكد الحاج" إبراهيم" قائلا:
- بعد أن يدفن، يكون أمره إلى الله. لكن، قبل ذلك، أين يدفن؟ في مقابرنا، أم مقابرهم؟
جلس الحاج "علي"، وقال بأسى عظيم:
- في حياته، طلبه الكل: من اسمه عيسي، ومن اسمه محمد، وداخل بيوت الكل: من اسمها عائشة، ومن اسمها مريم. حتى في غيبة الرجال يا حاج إبراهيم الكل كان يأمن له، ويأتمنه. وأظنه لهذا السبب، دخل المسجد وصلى، وذهب إلى كنيسة ميت غمر وصلّى، وصام صيامهم وصام صيامنا. ثم نقول نحن: هو منا، ويقولون هم: هو منا. الحقيقة أنه حالة فريدة ووحيدة. فهو من الكل يا حاج إبراهيم.
ظل الحاج "إبراهيم" واقفًا، وقال:
- ذلك لا يقدم ولا يؤخر. لنا مقابرنا، ولهم مقابرهم. فأين يدفن؟ عندنا، أم عندهم؟
نهض الحاج "علي" واقفًا، وقال:
- الأمر ليس بيدنا يا حاج إبراهيم، فلنذهب إلى العمدة. فهو كبير البلد.
****
كان العمدة "شكري" جالسًا على مصطبة الدوار، وظهره إلى نافذة مسجد الشعايرة، يحيط به أعيان عوائل البلد: شعير، ومكنس، وفياض، والدسوقي، والشيوي. وعلى مصطبة متعامدة أعيان العوائل الأخرى: ميتري، وجرجس. والدواودة، ويوسف. واخترق الحاج علي، والحاج إبراهيم سياج الخفر، عند مدخل الدوار، وكان العمدة يقول:
- لا داعي للشقاق والخصام. عشنا أهلا، نتزاور، ونتهادى، يا أهل الخير.
قال رجل من آل جرجس:
- وحتى نظل كذلك يا شكري بك. دعوه لنا، فهو من ملتنا، ويصلي في كنيستنا، وقسيس الكنيسة في ميت غمر يشهد.
وقال رجل من آل "مكنس":
- حتى نظل بخير، معًا، دعوه لنا، فهو من ملتنا ويصلي في مساجدنا، والكل يشهد.
فصاح العمدة:
- كفى. الله واحد. ربنا وربكم واحد.
ودخل المجلس شيخ الخفر مسرعًا، وانحنى هامسًا في أذن العمدة، فرفع العمدة رأسه فرأى الناس خارج الدوار، يحملون النبابيت، وقد انقسموا قسمين، وبينهم كان صفان من الخفر يمسكون ببنادقهم، فالتفت إلى الأعيان قائلا:
- هذه هي آخرة الخلاف أيها المجانين. الدمّ. كيف يسامحكم سلامة؟ كيف يغفر لكم الله؟
انهضوا وفضوا الناس، وليعد الكل إلى بيته، فلن تحدث بيننا فتنة أبدًا.
صاح الرجل من أهل جرجس:
- كيف؟
تقدم الحاج "علي" وقال:
- إذا أذنت لي يا عمدة، قلت للأعيان: كيف؟
فصاح رجل من أهل "متري":
- لا تقل إنه منكم.
وصاح رجل من أهل الحبشي:
- ولا تقل إنه منهم.
فصرخ العمدة:
- كفى. ولنسمع قل يا حاج علي، فقد عهدناك حكيمًا، ولم نرك إلا في المِحن.
قال الحاج علي:
- لنا شيخنا، ولهم قسيسهم. ندعو شيخنا، ويدعون قسيسهم، ويجلسون معًا. وما يحكمان به، ينفذ علينا وعليهم.
فصاح الحاج "إبراهيم" البلهنية ضاحكًا:
- لا فُضّ فوك يا حاج علي.
فقال له الحاج "علي":
- لو أكملت تعليمك الديني لكنت الآن شيخنا.
وضحك الأعيان جميعًا، وقالوا لأول مرة:
- رضينا .. رضينا.
عندئذ بدت الراحة في وجه العمدة، وقال لعين أعيان الشيوي:
- لديكم خيل. أرسل واحد منكم بفرس إلى ميت غمر، وليأخذ معه فرسًا آخر للقسيس. وليكن معه هنا قبل العصر.
وفضّ الأعيان الناس خارج الدوار، فانصرفوا مطيعين بعصيهّم، وعاد الأعيان إلى المجلس وجلسوا. وأقبل الخفراء يقدمون الشاي للأعيان. وقال العمدة للخفراء:
- قولوا لهم أن يعدوا الغداء لرجال البلد.
وحين التفت العمدة إلى الأعيان، ابتسم ثم ضحك، حتى دمعت عيناه، فقد رأى الأعيان، وقد تداخلوا في المجلس، وراحوا يتحدثون اثنين، اثنين قال:
- لم يجعل الله في بلدنا دينين، وملتين، إلا لحكمة.
فقال الحاج "إبراهيم":
- سلامة النجار جمع قلوب البلد في حياته على الحبّ والخير، وروحه، إن شاء الله، ستحل في كل بيت.
الشاي، والغداء، وأحاديث ما بين الشاي والغداء، أرخت أعصاب الأعيان، وأزاحت جانبًا، بالشبع والرىّ، الهواجس والظنون، والحدة والغضب. هنا الكل بشر من البشر ، وجيرة من الجيرة، وصحب من الصحب، فاسترخوا في قاعة الراحة الكبيرة بالدوار، بين جالس على راحته، ومضطجع على راحته، وممدد ساقيه، والعمدة قد غفا هانئًا في راحة القيلولة، ونسائم النوافذ العديدة، الواسعة، في القاعة الفسيحة تهب من بحري إلى قبلي، في انتظار قدوم القسيس من ميت غمر والشيخ عنتر من كفر "العناني" وأثناء هذا الانتظار، كان الكل قد غفا غفوة القيلولة، جالسًا، ومضطجعًا، وممدّد الساقين، ومستلقيًا على ظهره، فوق السجاجيد الحائلة اللون، وتنافرت أوضاع الوسائد، والمساند، والرؤوس، في القاعة الشرقية.
****
وكان العصر يقترب، حين أفاق العمدة من غفوته، ورأى الكل في غفوته، وقد اختلطت أنفاس الجميع، فابتسم، وأشعل سيجارة، وراح يرهق السمع، وتراءى له عم سلامة راقدًا، لا يزال وحيدًا كما كان، منذ ودعت زوجته الدنيا، وغادر بنوه البلدة إلى العمل في المدن، ولسوف يوارّى سلامة الثرى وحيدًا، ولا يعرف ابن له أن أباه قد رحل، في غيابه إلى الأبد.
وراح العمدة يحدث نفسه: ماذا لو اختلف الشيخ والقسيس؟ وماذا لو عصي الناس ما يحكم الشيخ والقسيس؟ ستكون كارثة لا يستطيع أحد لها دفعًا، وكارثة أفظع، أن يصير لكل عائلة ثأر عند عائلة أخرى، ثأر أبدي تتوارثه الأجيال، وبسببه هو، بسبب سلامة المسالم، الذي فض في زياراته للبيوت نزاعات بين الأزواج، وخصومات بين العوائل، وأخرج أجساد صغار غرقوا في آبار السواقي، وطحنتهم دواليبها، ولم يحدث في البلدة مأتم، ولا فرح، إلا وكان أحد شهوده ماذا لو ...؟ وماذا لو ...؟ وماذا لو ...؟.
بدا له أن الحاج علي وحده، يعرف ما سيحكم به الشيخ والقسيس، ما يجب أن يحكم به الشيخ والقسيس، لدفع الكارثة. هو الوحيد، مثله، الذي يعرف، هو الذي لم يقرأ ولم يكتب، يعرف بالقلب، والفطرة، والصدر الرحب، والعقل الحكيم المتسامح، ما يجب أن يحكم به الشيخ والقسيس، من قبل أن يقبلا، هو الذي اقترح فكرة اجتماعهما معًا، ولابد أنه، وحده، يعلم ما سوف يكون عليه قرارهما، وربما كان بحاجة إليه قبل اجتماعهما، وكان بحاجة إليه، بعد أن يعلن الشيخ والقسيس ذلك القرار المجهول.
نظر العمدة إلى وجه الحاج "علي". كان راقدًا، كفاه على صدره، مثلما رأى سلامة تمامًا، في رقدته، بدا له الحاج "علي" صاحيًا، متغافيًا فجفنا عينيه يرتجفان، كأنه يفكر مغمض العينين.
توجه العمدة نحوه، زاحفًا ومّسه في كتفه بإصبعه، ففتح الحاج "علي" عينيه لتوه، وابتسم، فأشار له العمدة برأسه في صمت كي ينهض، ويتبعه، وحده، الرجل الرشيد.
قبل أن يؤذن مسجد الشعايرة لصلاة العصر، كان الشيخ عنتر والقسيس قد أقبلا، وجلسا مع العمدة على مصطبة الدوار، وأخذ الحاج "علي" ينظر إلى الرجلين. كلاهما، فيما يقدر، ممتلئ كلامًا. كلاهما يقف على أرض غير التي يقف عليها الآخر، ينتمي بعقله إلى زمن غير زمن صاحبه، بينهما مئات السنين، وها هما ذا جالسان معا في ساعة العصر، يبتسم أحدهما لصِنوه، أكرشان، ملغدان، ملتحيان، معتمان، مترهلان، وبينهما من أسباب اللقاء، ما يجعل كلاهما يقدر دور الآخر في قومه، وظروفه مع قومه.
قال لهما العمدة:
- اسمعا أيها الفاضلان، قبل أن يأتي الأعيان، ما سيقوله لكما الحاج علي، فهو الذي اقترح أن يجمع بينكما هنا.
والتفت الفاضلان إلى الحاج علي. ودهشا، حين نظرا إليه: رجل ريفي فارع القامة في جلسته، واضح الملامح، هادئ الوجه، ذكي العينين. وأدرك الفاضلان معًا، أنه لا يقرأ ولا يكتب، وأنه، من ثيابه، مستور البيت. وتحدث الحاج علي، فأصغى له الفاضلان، وارتسمت على وجهيهما الدهشة، والعجب، وأطرقا مفكرين، حين ارتفع صوت المؤذن مناديًا لصلاة العصر، فوق سطح المسجد.
وقال العمدة للشيخ عنتر:
- قم لتصلي بنا العصر، ولندع للحاج علي القسيس وأعيان قومه، يتحدث معه ومعهم، ثم يصلي هو وحده.
وابتسم وقال للقسيس عن الحاج علي:
- هذا الرجل يا مولانا، مثل سلامة، لو فتحت قلب أحدهما لرأيت فيه قلب الآخر.
وابتعد الشيخ عنتر، والعمدة، وتبعهما الأعيان إلى داخل المسجد من باب الدوار. وجاء أعيان آخرون، وقبلوا يدي القسيس، وجلسوا حوله وجاء شيخ الخفر يتبعه الخفر بأكواب الشاي وأباريقه.
وقال القسيس لأعيان قومه:
- عمدتكم هذا عجيب. له عقل من ذهب.
فقال عين آل متري:
- تعلم في الجامعة يا مولانا، وأثر أن يكون عمدة للبلدة بعد أبيه.
وقال القسيس للحاج "علي":
- وأنت .. لك عقل من ماس. وأظن أنك لا تقرأ ولا تكتب.
فابتسم علي، وقال:
- انظر حولك يا مولانا. ونأمل. وسوف تعرف.
وبهت الأعيان حين رأوا القسيس ينحني على يد "علي" ويقبلها قبلة خاطفة. فقال رجل من آل جرجس، بذكاء وشك:
- كأنكم يا أبانا قد قررتما أمرًا.
فابتسم القسيس، وقال:
- يفعل الرب ما فيه الخير للجميع.
****
من القاعة الكبرى بالدوار، خرجا من الباب متجاورين: الشيخ عنتر، وقسيس الكنيسة، ويد أحدهما في يد الآخر. وعند درج الشرفة المستديرة، وقفا، وأخرج القسيس ورقة من عبائته، وناولها للعمدة. وكانت ساحة الدوار، ممتلئة من أولها إلى آخرها برجال العوائل، وكانت أيديهم خالية من العصى، وعيونهم تفيض بالترقب، والخوف.
قال القسيس لمن بالساحة:
- من كان منكم معه عصا فليغادر هذا المكان.
وساد الصمت.
وقال الشيخ لمن بالساحة:
- يد الله مع الجماعة، ومن خرج عليها شق عصا الطاعة.
وقال العمدة:
- من خالف قرار الفاضلين، فليغادر هذا البلد، ولا يعد إليه.
وأشار الفاضلان إلى العمدة، فأخذ يقرأ قرار الفاضلين:
"يوضع سلامة بن غالي في صندوق، ويُصلى عليه في بيته صلاة آل عيسى، ثم يحمل إلى المسجد ويصلى عليه في المسجد صلاة آل محمد ثم يدفن في قبر وحده، ويُرجأ أمره كله إلى فاطر السماوات والأرض".
عندئذ ضجت الساحة بصيحتين:
- رضينا ..
- رضينا ..
وراح الكل يعانق الكل، فيم كان الفاضلان يتعانقان، والعمدة والحاج عليّ ينظر أحدهما إلى الآخر.
وحين هدأت الساحة. قال العمدة:
- الحاج علي تبرع بربوة على رأس أرضه، تكون قبرًا لسلامة.
وقال القسيس:
- وأنا تبرعت ببناء هذا القبر.
****
وظل أهل البلدة يتحدثون زمنًا. كيف أن عم سلامة كان يبتسم، حين حمل ليوضع في الصندوق، وكيف أنه كان خفيف الوزن، وهو يحمل إلى قبره الوحيد.
لكن هذا القبر صار بعد سنين ضريحًا متواضعًا، يذهب إليه ناس ليقرأوا له الفاتحة، ويذهب إليه ناس ليضيئوا له الشموع. ولا يعرف أحد من الذي رسم رسمًا قديمًا على جدار ضريحه، رسمًا منفردًا لهلال، ولا من الذي رسم على ذات الجدار، قلبًا، بداخله هلال، في قلبه صليب، يراه أبدًا المارة والزائرون، القادمون دائمًا من قرى بعيدة، وكفور نائية ونجوع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى