استيلا قايتانو - خرائط لعوالم مجهولة

أحس بقسوة الأرض عندما ايقظته بلكمة لم يحرر هل كانت مؤلمة أم لا؟ ولكنها أيقظته في فزع، بعده تمدد قليلاً على ايقاع مفاصله المتصلبة، كالعادة قام وهو يعاني من نعاس يأبى اطلاق سراح جفنيه، ليرى أشباح الزمن الرمادي.

عند استيقاظه رأى الخارطة التي رسمها تبوله الليلي، لابد أنها بلاد يحلم بزيارتها يوماً، كم كان يحب دروس الجغرافيا، قبل أن يترك المدرسة، يلقي نظرة نحو شقيقته التي كانت ترمقه بنظرة قاسية تجبره على النهوض، يرتفع بجسده عن الأرض في كسل وتعب شديدين، وآلاف الحصى والأتربة تتشبث به وبثيابه التي بالكاد تستره.

أمسك سرواله بكالتا يداه ليعدل وضعه المائل كان ضحية ذلك تساقط عشرات الحصى لتعود الى قرارها الأول.

يمشي مستنداً على أمشاط قدمه اليمنى مقاوماً الألم الناتج عن تشقق باطن قدميه، يتجه الى المسجد قاصداً الحنفيات التي اصطفت مثل جنود يتلقون التعليمان من قائدهم، يغتسل في فتور، يصب الماء على سرواله لازالة آثار البول، ثم يعصره جزءاً جزءاً فيزداد التصاقاً به حتى يوضح بروز عضوه الصغير المتصلب من أثر البرد، يقف قليلاُ تحت أشعة الشمس ثم يعود أدراجه خارج الأسوار حيث اصطفاف المتسولين بصورة مقززة، يفكر: لكل شئ بقايا وأوساخ يجب أن تلقى، فنحن قاذورات البشر يجب أن تلقى على الرصيف، أطفال يفتك الرمد بعيونهم ويترك آثار جريمته في شكل افرازات صفراء مائلة للاخضرار على جانبي العين، كبار السن يتآكلون تحت وطأة الجزام وسائر الأمراض المتخلفة، ثياب تجيد فضح العورات أكثر من سترها، أواني سوداء هضمها الزمن، وأعلنت احتجاجها بثقوب عندما تشتعل تحت كلما ينتج ناراً، سمع شجاراً، دائماً ذاك الطفلين، ثمانية سنوات عمر الأصغر، والآخر يكبره بعام، يبدو أنهما أخوين لايدري أحد ما أصلهما أو فصلهما، دائماً يتشاجران على بقايا طعام بائت، يفوز به الأكبر ويعدو، ينحني الصغير ليلتقط حجراً ويرضقه، أفضحه ذلك الشق الهائل في خلفية سرواله، فيظهر غباش ردفيه، ضحك بصوت عالٍ وضحك من رأى الحدث من الأطفال، وهم يتابعون المطاردة التي ابتعدت وابتلعها الزحام البشري الذي أخذ يتدفق نحو المدينة في غزارة.

مرة أخرى نظرات شقيقته التي تقطع لذاته، هي تكبره بعامين في العاشرة من عمرها، رغم أنها كانت تبدو أصغر من ذلك بكثير، نسبة لقلة حجمها، سمع أن عروس البحر نصفها الأعلى انسان والنصف الأسفل سمكة، أخته كذلك نصفها الأعلى حي أما النصف الأسفل فميت، يقال أنها اصيبت بشلل الأطفال.

كان يحملها على ظهره خلال جولاتهما حول المدينة بحثاً عن ما يسد الرمق، يتجول بها النهار كله، كانت مهمته أن يخترق بها الزحام في الأسواق والطرقات والبصات، وكانت مهمتها النشل، اكتشفا هذه الموهبة بالصدفة مثل الصدفة التي ألقتهما على الرصيف. كانا يستغلا عربة التصق فيها الركاب، واختلطت روائح عرقهم دون تميز، وبعد عدد قليل من المحطات يشرعا في النزول، يفعلان ذلك بصعوبة تنتزع شفقة الركاب عليهما لدرجة أن "الكمساري" لايجرؤ على سؤالهما على الأجرة.

كثيراً ما كان يتشاجران لعدم عدل شقيقته في تقسيم النقود بينهما، فيؤنبها على ذلك ويذكرها بأنه يحملها على ظهره النهار كله، وكانت تقول: أنا أيضاً أخاطر بادخال يدي في جيوب الناس من أجلنا معاً، ويستمر كل منهما في امتنانه على الآخر وينتهي الشجار بأنه تضربه بقسوة وغلظة كأن الحياة التي أخذت من رجليها قد أضيفت الى يديها، أو كأنها ليس اليد التي تتسلل بالنقود دون أن يحس بها أحد، لايستطيع ضربها لأن يديه كانتا معقودتين تحت فخذيها الضامرين، كان يبكي ويعلو صوته بأنه سيلقيها أرضاً تقول: أفعل ذلك ان شئت، على الأقل أكون قد تخلصت منك ومن رائحة بولك النتنة، وشكواك التي لاتنتهي.. كانت تقول ذلك وهي تزيد من أشباك يديها حول عنقه، يلي هذه العاصفة من الشجار سكون طويل الأمد. هي خلفه دائماً لايدري ماذا تفعل، يبحر عبر نزيف الزمن، الزمن القاتل والمقتول، يبدأ صوت يخرج من أغوار نفسه في التحدث.

ان اختي قاسية مثل أبي، الصلة التي كانت تربطني به يده الثقيلة التي كان يقبض بها على كتفي، أحس بتسلل الألم الى جسمي كله، كنت حينها في الخامسة من عمري أو يزيد قليلاً، كان أبي متسولاً وكفيفاً، كنت أخاف من بياض عينيه الفاسدتين كأنه يراني دون سائر الخلق، في العادة لا أنظر الى وجهه حتى أكاد أنسى ملامحه، أيضاً كان خلفي، كنت أتجول به بين السيارات الفارهة، وأخرى كانت تقل ركاباً، فينطلق لسانه بسيل من الدعوات الصالحات لمن يعطيه ومن لا يعطيه، وكثيراً لايعطيه أحد، ولايثير ما يقوله من دعوات شفقة أو يحرك ساكناً، عندما تضئ الاشارة الحمراء أسرع بين السيارات طمعاً في أكبر قدر من النقود، كثيراً ما يسرع أحدهم في رفع زجاج سيارته وآخرون يهرعون عندما تضئ الاشارة الخضراء كأنها أنقذتهم منا، ويستمر أبي في دعواته لهم، كنت أغتاظ منه، لو دعا لنا كل هذه الدعوات لتغير حالنا.. كنت أدعو في سري دعوات مضادة تماماً لما يقوله أبي، كان يضغط على كتفي بقسوة عندما يحس بعدم انتباهي معه.

أعجبتني السيارات التي كنت أقف قربها أتحسسها كما وددت أن أقتني واحدة فيأتي أبي ويقف جوارها ويدعو لي بالدعوات الصالحات ولكن.. من سيقوده حينئذ؟ فيتبخر حلمي كما ولد.. ذات يوم وجدت غطاء لعلبة صدئة، أزلت عنها التراب وأمسكته بكفي، أصبحت أديرها يمنى ويسرى وأصدر أصواتاً بفمي وأنفي تحاكي كل ما تصدره السيارات، كانت سيارتي كبيرة حمراء أتفادى أن تصطدم بها سارة أخرى، كان أبي يضع يده على كتفي اسوقه بين السيارات عندما أقف قرب واحدة اصدر صوت الفرامل وانتظره حتى ينتهي من دعواته التي أعتاظ منها، ثم أحرك سيارتي نحو أخرى، كنت أفرح عندما يدس أحدهم عملة في كف أبي، وأحس بخيبة عندما نقابل ببرود وتجاهل، أما أبي فما يدور في صدره وعقله ينعكس على قبضته الثقيلة على كتفي التي ترتخي حيناً وتقوى في أحايين أخرى. الى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم، عندما كبر حلمي وأصبحت سيارتي كبيرة حمراء أقودها، أتوقف عندما تضئ الاشارة الحمراء لن أرفع زجاج سياراتي في وجه أبي، أحببت سيارتي ونسيت اليد الملتصقة بكتفي أسرعت لاتفادى السيارة التي كانت ستحطم سيارتي وتحولها الى عجينة، هربت بالسيارة، وكان أبي كبش الفداء، لا أدري هل كنت أحب أبي أم لا؟ فقط أحسست بقلبي ينقبض بين جوانحي مثل حمامة مذبوحة، حتى الآن أذكر تطاير دمه على الأسفلت والاطارات، أذكر يده ذات الأسابع المنفرجة كأنه مازال يقبض على كتفي، لم أعي ما حدث، لم أبك كان الليل ينزل استاره، تسللت من الزحام وأذناي تسمعان كلمات مبعثرة من المارة:

يا ساتر.. يا رب.. الله.. مات.. قتلوا.. خلاص انتهى.

تدخل كلمات من أذن وتخرج حروف من الأذن الأخرى:

ر.. ت.. أ.. س.. ت.. هـ.. م.. ع.. و.. ف.. ص.. خ.. ي عدوت وأنا أرتعد من الخوف لأن أبي المتطاير الدماء كان يطاردني، يده القاسية تلاحقني وتريد أن تخنقني.

وقفت والسيارة اللعينة ما زالت في يدي، صبغ الصدأ كفي، أخذت آلة حادة وشرعت أحطم السيارة وأحدث فيها ثقوب كثيرة، حولتها الى عجينة كلما أهوى عليها أسمع صوت الزجاج المتناثر في كل اتجاه، حطمتها لأنها قتلت أبي ثم القيتها في بالوعة تضج بالعفونة والنتانة، أحسست ببعض الراحة وأنا أرى فقعات الهواء تطفح فوق الماء لقد أخذت يثأر أبي.

عدت الى المأوى جوار المسجد، هاجمتني أختى:

- أين أباك؟

سؤال كالخنجر المسموم، ودون تفكير كأن الذي يتحدث ليس أنا، صوت يخرج من أغوار جوفاء:

- لقد دهسته سيارة.. ولكني حطمت سيارتي وألقيتها في بالوعة متعفمة.. ألا تنظرين الى يدي الخاليتين، فردت أصابعي الصغيرة التي جثم فوقها الخضاب الصدئ، لم أدري حينها هل كنت أود مواساتها؟ هل كنت أريد أن أقول بأني السبب؟ هل كنت أريد أن أقول لقد أصلحت الخطأ؟ بكت تجمع حولها المتسولون، حاولت اسكاتها كأني أخشى افتضاح أمري، ولكن دون جدوى، أحسست حينها بفاجعة عظيمة تكرر المنظر، التفاف الناس حول أختي مثل التفاف هؤلاء حول جثة أبي، تسللت مرة أخرى أعدو في الطرقات دون وعي، حافياً أحاول ستر عريي التهبت قدماي من قساوة الأرض وجدت نفسي في مكان الحدث، تجمد دم أبي، أرى التماع لونه القاني على أضواء السيارات، جفت الدماء والسيارات تمشي عليها تقشرت الداء من الأسفلت وتطايرت مثل قضور الفول المدمس، رأيت ملايين القشور تقتلع من الاسفلت وتتجه نحوي، تطاردني، تخنقني، منع عني الهواء، تتراكم فوق تدفنني، ثم أغيب عن الوعي.

تحس شقيقته ارتجاف يداه تحت فخذيها تسأله عن السبب، لا يجيب، في هذه الأثناء كانا يقتربان من المسجد، القاها في اعمال تناولا بعض الطعام وناما، اليوم الثاني لا يختلف عن الأول كثيراً، ذات يوماً اشتد حدة الشجار بينهماـ قرر تركها قالت: اذهب.. هل تظن أنني سوف أحتاج لك؟ رماها وذهب، هرول مبتعداً قبل أن تأخذه الشفقة ويعود كان يقول: لن تجد من يحملها على ظهره، ستزحف على الأرض مثل الثعابين.

ذهب والتقى ببعض المشردين، قضى معهم بقية اليوم، يروون قصص الأفلام الهندية التي شاهدوها ويرددون أغانيهم، يقلدون الأبطال في حركاتهم، يتجادلون كثيراً لأن كل منهم فهم الفيلم على طريقته، وفي الليل ذهب معهم الى السينما في نهاية الفيلم. تحركت سيارة داخله، لتصدر أصواتاً مكتومة في أحشائه، تذكر شقيقته، تسلل من داخل السينما وأخذ يبحث عنها شارعاً شارعاً، كان وحيداً في مدينة خلت من الناس والروائح، وحيداً في شوارع بامتداد الأيام المحزنة، وحيداً في عالم واسع سعة الثقوب في القلوب.

عاد الى المأوى بعد رحلة بحث غير موفقة، كان خائفاً اذا سأله أحد: أين أختك؟ وجدها مستلقية وتتنفس بانتظام، عندها أحس بشئ من الرضا، أخذ خرقة ثم رتقها بأقمشة من كل الألوان، ألقاها على جسدها النحيل، واستلقى قربها متنفساً الصعداء.

في الصباح الباكر أيقظته لكمة مميزة، نظر اليها كانت تعابير وجهها تقول ان شيئاً لم يحدث البارحة، عاد بنظراته المسورة بنثرها على مارسمه تبوله الليلي من خرائط لعوالم مجهولة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى