الضباب واصل التكاثف على السطوح ، والأجسام المعدنية للعربات الواقفة والمستعدة للانطلاق ، مؤذنو الأحياء المجاورة استيقظوا للتو ، بدأوا الوضوء قبل الفجر استعداداً للتسبيح والصلاة ، غاب نصف القمر الجميل وراء غمامة تستعجل الانتقال فيبطّؤها الهواء الرّطب ، أما نصفه الآخر فلم يولد بعد ، الشارع يمتد من تلة المنطار حتى بقايا شارع السكة الحديد في حي الشجاعية، لم تعد القضبان التي يمر عليها القطار القادم من القاهرة موجودة ؛ آثار حرب حزيران امتدت إليها وإلى المحطة الرئيسة في الشجاعيّة ، وإلى المساحات الواسعة على طولها حتى الحدود في رفح . سوق الجمعة الممتد من المنطار شرقًا حتى نهاية الشارع في طرف الشجاعيّة غربًا ، يقام مرة واحدة في الأسبوع ، منذ الفجر حتى قبل صلاة الجمعة ، في هذا الشارع ينتشر الباعة كالجراد ، يتسابقون إلى رصّ وترتيب بضائعهم ، عربات تطلق أبواقها تحث على إفساح الطريق ، كارات تنطلق في عجلة تكاد تصدم أعمدة العُرش ، تخشخش أصوات ، ترتفع نداءات ، ينتشر زعاق، في المكان ليس سوى الباعة، يتسارعون إلى عرباتهم ، بضائعهم ، بسطاتهم ؛ يرتّبون ، يفردون ، يسطّرون ، يُعلّقون ، يتمتمون . أضواء الشارع باهتة ، تنطفئ بعض المصابيح على الأعمدة وتعود لتومض بشدة من جديد، مصابيح تتوهج وأخرى تخفت حتى تكاد تتلاشى ، الباعة لاهون عن المصابيح بعرض بضائعهم ، كل منهم يعرف مكانه ، بسطتـه ، بضاعته ، جاره عن اليمين ، عن الشمال ، والذي في مواجهته ، تنفتح الدكاكين على الجانبين ، تنتشر البسطات أمامها، يزدحم السوق بالمعروضات فلا يبقى إلا ممر ضيق بين البسطات ؛ أقمشة ، أدوات منزلية ، ملابس جاهزة ، أدوات تجميل ، بطيخ ، فراخ ، عصافير ، سمّان ، زغاليل ، خردوات ، أدوات نجارة ، لحوم ، أسماك مثلجة ، روائح ، عطور . هبطت في السوق بضائع من كل أسواق الدنيا ، الصين ، تايوان ، تركيا ، مصر ، الأردن ، سوريا ، في هذا الشارع الطويل بحي الشجاعية تأتي دول وقارات تجلس على الأرصفة ، ترتص على البسطات ، تزكم رائحتها الأنوف ، ينادي عليها باعة أتوا رغم كل الحواجز التي نصبها الاحتلال على شارع صلاح الدين ، من رفح لسوق الجمعة يأتون ، مرّ معظمهم عن جنود الدبابات عند حاجز المطاحن ، فاستعرض الجنود أعدادهم ، عرباتهم ، بطـاقاتهم ، بضائعهم ، سحناتهم ، طوابيرهم الراكبة التي يجبرونها على الترجل للفحص ، يمر مَن يمر ، يملص من يملص ، يرجع من يرجع ، ويُعتقل مَن يُعتقل .. يعبرون من حاجز القهر إلى حاجز الموت إلى حواجز كثيرة منصوبة بينهم وبين رزق العيال ..
دفع باب الدار فارتفع الصرير ، رمى حقيبة المدرسة عن كتفه جانبًا أسرع إلى الصنبور ، وضع رأسه الصغير المعفر تحت خيط الماء، ابتلّ رأس رامي ، شرب قميصه المدرسي الأخضر بعض ماء الصنبور، نهرته الأم ، لم يكترث . واصل الصنبور دلق الماء على رقبته، أغلقه بيدين مبتلتين وهرول إلى حجرة في ركن الفناء ، فتح حقيبة المدرسة ، أخرج أعوادًا خضراء قصفها من سياج الشارع ، الأرانب الصغيرة تنط داخل القفص الحديدي ، تمد بوزها بين الفتحات عندما رأت الأغصان الخضراء ، صار يداعبها ، يمد الأوراق ويسحبها ثانية ، تنجح الصغار في قضم بعض الأوراق الخضراء ، يعاود الكرّة ، تنجح الأرانب مرة وتفشل مرات ، الأرنب الكبير يزوم ، يُحوّم في القفص ولا يستطيع إخراج بوزه ، الفتحات أكبر من أن تتسع له ، يعاكسه الصبي ، يمد الغصن قليلاً داخل القفص ثم يسحب يده للخـلف ، دق الأرنب الكبير قدميه على أسلاك القفص محتجًّا ، يحزن الصبي عليه، يمد له الغصن الأخضر أكثر ، يلاحظ سرعة القضم .. فرق بين قضم الصغير وقضم الكبيـر .. كل أرنب يقضم حسب أسنانه واتساع فمه.. يجري إلى الإبريق ، يصب ماءً في الوعاء المثبت على طرف القفص .. كيف يشرب الأرنب ؟ إنه يلحس الماء كالقطة ، في يوم الجمعة عندما قصفت الطائرات غزة اختبأت في حجرة الأرانب ، رأيت الأرانب مذعورة من الصوت ، تلتف حول الأرنب الكبير ، ازداد القصف، تعالت الانفجارات فاختبأت الأرانب الصغيرة في ركن القفص جهة الجدار ، تمدد الأرنب الكبير في الواجهة يخفي وراءه الصغار المذعورة .. أنا الآخر اختبأت بعض الوقت ولما توقف القصف وقف الأرنب الكبير ، وبدأت الصغار تلفّ من أول القفص إلى آخره ، جريت إلى الشارع ، رفعت العلم على عصا صغيرة وسرت في المظاهرة .
ـ إيش بتعمل عندك ؟
نظر الأب من الباب مُدخلاً رأسه إلى حجرة الأرانب، في حين ظل جسمه في الخارج .
ـ بألاعب الأرانب ، وبأطعمها .
ـ وليش مروّح بدري من المدرسة ؟.
ـ مظاهرات .
ـ أنا عارفك مشاغب .
ـ لا والله .
ـ بالله ما رحت على معبر المنطار اليوم ؟.
ـ الصحيح رحت .
ـ كيف الوضع ؟! .
ـ مواجهات .. الجنود بيطخوا الرايح والجاي .
ـ طيب اطلع غيِّر أواعيك عشان تتغدى .
ـ الغدا أرانب ؟! .
ـ نعم !! من وين ؟! .
ـ ………
نظر رامي إلى القفص .
ـ لسه صغار ما بينذبحوش .
أشار الصبي إلى الأرنب الكبير .
ـ لما يكبروا الصغار شوية بنذبح منهم .
ارتفع صوت بائع في الشارع ينادي :
ـ على السكين يا بطيخ .
ـ يابا اشتريلنا بطيخ .
ـ طيب .. طيب .
ـ كل يوم بتقول طيب عالفاضي .
ـ امشِ ..
ينهر الوالد الصبي .. خرج مسرعًا من حجرة الأرانب إلى داخل المنزل .. هذا الولد عفريت .. صرت خايـف عليه ، كل يوم يرجع إخوته من المدرسة قبله وهوّ يتأخر عن الرجوع إلى الدار .. يأتي معفّرًا ، يديه وشكله يفضحه، أحياناً يكذب عليّ بحجة جمع أوراق الشجر للأرانب ، وأحيانًا يجيب بصدق أنه خرج من المدرسة مع أصحابه إلى المواجهات مع جنود الاحتلال في موقع المنطار..
ـ يابا طخوا زميلنا في المدرسة وبدك نسكت !!
رصاص الجنود في موقع المنطار لا يفرق بين صغار وأشجـار ، شباب ودور ، شيوخ وحيطان .. كل من يتحرك ومن لا يتحرك هدف لرصاصهم.. الله يمضّي هالأيام على خير .. الملعون يريد بطيخ وعينـه على الأرنب الكـبير .. من شهور وأنا عاطل عن العمل، بحثت عن أي عمل بلا فائدة ، البطالة تعمّ الجميع ، وما ادّخرته ينفد بسرعة ، الناس لا يعملون ، الأسعار مرتفعة ، الأفواه لا ترحم ، الآن المهم الخبز.. بلا بطيخ بلا أرانب بلا غيره ..
اقتربت عودة الأولاد من المدرسة ظهرًا ..
أم رامي تدور في البيت على غير هدى ، لم يعد مناص من البحث عن أيّ طعام ، اقتصر الأكل من أسابيع على البقوليات الجافة ، يرتفع أزيز طائرة في الشرق .. نسمع صوتها في النهار ولا نراها .. ويرتفع الأزيز في الليل ولا نرى أنوارها .. وحين تنصرف يأتي بعدها الغضب.. الله أعلم متى وأين ستضرب اليوم ، وأين يقف الشهيد القادم ، والجريح القادم ، أيّ المواقع سَتُقصَف ، وأيها سَيسلَم .. أزيزها صوت شؤم يثير القلق واضطراب المعدة ، والخوف على الأولاد والبيوت والمواقع .. تظل تئز ، يرتفع صوتها فيما يشبه جعار حيوان خرافي يلولح الريح بصوته علوًا وانخفاضًا ، تُصوّر ، تستكشف ، تُراقب ، تُحدد الأهداف ، ثم تغيب ليبدأ القصف . يستمر الأزيز الغريب للطائرة ، طائرة استطلاع ، ترقب وتحدد العصافير بين الأشجار ، والنمل في الجحور ، وبقايا السمك في سوق الشجاعية ، الناس ينتظرون الآتي بصبر ، ورباطة جأش ، وبسخرية أحيانًا .. ما العمل ؟! الله هو الحامي.
أذّن الظهر .. الشمس تميل إلى غروبها ، الظل ينزاح عن الرءوس والسطوح ونهايات الشجر ، يمتد رويدًا رويـدًا .. يحمل معه نسمات المتوسط الرطبة ، ورياح الحرب والموت والانفجارات . الأزيز يستمر، تدخل إلى ركن الأرانب ، رأت ابنها رامي يلاعب الأرانب كالعادة ، يحمل في يده أعواد الملوخية الخضراء وأغصان نبات الحمص "الحاملة " في كل عودة له بعد خروجه من المدرسـة ، أو من مواجهات معبر المنطار ، يحرص على أن يلتقط في طريقه ما يجده من الأغصان الخضراء ، يذهب مُحملاً بالحجارة، ويعود بأغصان الحمص وحباته الفارغة ..
يفتشها غصنًا غصنًا ، يفحصها بتؤدة ، يعثر فيها أحيانًا على حبة أو حبتين تاهت من بين أصابع الآكلين ، يتذوقها بإمعان ، يلوكها في تلذذ.. تحب الأرانب أوراق الحمص ، كلما رأتني قادمًا إلى ركنها تـسرع إلى واجهــة القفص، آه .. إنها ترى الورق الأخضر ، لا يحركها من كسلها إلا اللون الأخضر ، تدق أقدامهـا على أرض القفص ، تمدّ أبوازها ، تزمزم فمها ، تُرعّش أنفها ، تحاول اختراق سياج القفص ..
ـ خذي ..
يمد يده فتقضم الأرنب .
ـ لا .. لا ..
يشد يده بعيدًا . تدور الأرانب ثانية ، الأرنب الكبير يقف إلى السياج الحديدي للقفص ، يرفع يده لإمساك الغصن ..
ـ خذ ..
يمد رامي يده ثانية ، يمسك الأرنب طرف الغصن بأسنانـه ، يشده إلى الداخل قبل أن يتمكن الصبي من سحبه ثانية إلى الخارج ، يروح الأرنب إلى ركن القفص ، تهجم معه الأرانب الصغيرة ، يحاول رامي أن يمد يده مرّة أخرى ، تنهره الأم ..
ـ بس لعب .. حط مية للأرانب ..
يهرول إلى إبريق الماء ، يملأ الآنية المثبتة على القفص.. ينظر إلى أمه :
ـ يمه .. بدي حاملة .
ـ ………
ـ سامعة والا لأ ؟!
ـ ما انت شايف أبوك من غير شغل .
ـ يعني لا أرانب ولا بطيخ ولا حاملة .. الله أكبر .
ـ لما أبوك يشتغل بيشتري لك .
ـ طيب وليش ما يشتغل .. مين اللي مانعه ..
ـ هوه ملاقي شغل ومش مشتغل ..
ـ الشغل كثير ..
ـ وين ؟!
ـ عند المنطار .
في الفجر يعمر سوق الجمعة في حي الشجاعية ، ناس من كل مكان ، سيارات ، عربات ، كارات تنتشر بفـوضى ، تعلو أصوات الباعة، تختلط بأغاني حماسية من إذاعة فلسطين البرنامج الثاني .. موسيقى حامية .. وين الملاييـن .. يعلو صوت :
ـ يازلمة وطي صوت الراديو .. الملايين لسه نايمين..
رد آخر :
ـ نوم الطرشان .
ترتفع النداءات ، تنتفخ عروق رقابهم من الصراخ، الناس يمرون، يتفرجون ، يُقلّبون ، يسألون عن الأسعار ، يجادلون :
ـ صناعة أيّ دولة ؟
ـ صناعة كوريا .
ـ الشمالية ؟
ـ نعم !! وايش عرّفني .
ـ طويلة ؟.
ـ قصيرة .
ـ قطن ؟ .
ـ لأ . قطن مع بوليستر .
ـ بتشرب في الغسيل ؟ .
ـ لأ . اغسل والبس من غير كوي .
ـ ياسلام على العِلم .
يرتفع نداء أجش لأحد باعة الفراخ :
ـ كيلو الفراخ بسبعة ، يااللا خلّصت الفراخ من البلد ، راحت المزارع.. جنود الاحتلال دمروها .
ـ كرتونة البيض بعشرة يااللا ، بعد اليوم ما في فراخ ولا بيض ، المزارع راحت .
ـ الطرق والمعابر مغلقة .
ـ أيام الحرب فول وعدس وجنازات .
الفلاحات يجلسنَ على الأرصفة ، يبعن بقايا خضر وفواكه من حقولهن ، الأسعار مرتفعة ، لا أحد يستطيع الوصول إلى أرضه إلا بصعوبة ومخاطرة ، الجرّافات انتقمت من الأشجـار ..
ـ الله ينتقم منهم .
قالت إحداهن :
ـ في أيّ دين هدم الشجر والحجر ..
أبو رامي يرتدي جلبابًا فضفاضًا ، انحشر جسده الممتلئ في الجلباب، رأسه حاسرة ، مشّط شعره الذي خطه الشيب على عجل، دخل أول السوق بعد أن ربط كارته التي يجرها حمار واهن في عامود الكهرباء ، أمسك بيديه سلة قبع داخلها الأرنب الكبير بهدوء واستكانة ، فروته البيضاء تتلقى غبار الطريق يهتز الأرنب في السلة إلى أعلى وإلى أسفل في يد أبو رامي الذي يتمايل يمينًا وشمالاً من لحم زائد تحت إبطيه ، يغمض الأرنب عينيه ، تنعسه الهدهدة ، يتفحص أبو رامي الناس ، يتطلّع في عيون النسوة والرجال ولا يستطيع أن يتفوه بكلمة ، لا أحد يسألـه عن ثمن الأرنب ، يتذكر كلمات زوجته ليلة الأمس عندما انصرف الأولاد إلى النوم :
ـ يا راجل ربك متكفل بالرزق .. اتوكّل على الله ..
ـ يا ولية إيش يقولوا الناس .. رايح أبيع أرنب ؟!
ـ طيب وإيش فيها .
ـ كل هالطول وهالعرض ورايح أبيع أرنب !!
ـ ما هو من الحاجة والقلة .
ـ وإذا شافني واحد من أصحابي ؟!
ـ إذا شافوك راح يحسدوك لأنه ما عندهم زيك أرنب يبيـعوه .
ـ آه والله صحيح ..
انطلق داخل السوق بين البسطات والمعروضات حاملاً الأرنب الأبيض الناعس في السلة .. منذ دخولي السوق لم يسألني أحد عن ثمن الأرنب، ولا عن سعر الكيلو من لحم الأرانب ، توقعت أن يسألني كثيرون ممن يحبون لحم الأرانب ، يتطلع إليّ البعض ويمضون بين البسطات ، ترى هل أنادي بعشرة كيلو الأرنب حتى ألفت انتباه المارة؟! أريد أن أبيع الأرنب ، لا أستطيع أن أنادي .. الكلمات لا تريد أن تخرج من فمي ، كأن الناس كلهم ينظرون ، يتفحصونني ، لا يكترثون بالأرنب ، يتطلعون إليّ ويستمرون في طريقهم ، كيف ألفت الانتباه إلى الأرنب ، ليتني أحضرت رامي معي ، لكان كالعفريت ينادي .. بعشرة كيلو الأرنب .. بعشرة كيلو الأرنب . أو ينادي .. أرنب للبيع .. أرنب للبيع . لكنّ رامي لا يريـد بيع الأرنب ، رامي وإخوته أرادوا أكل لحم الأرنب، لذا تركته في البيت نائمًا وخرجت قبل أن يصحو ، سيتفاجأ رامي وإخوته عندما لا يرون الأرنب في القفص .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. سأُمنّيهم بأكل أرنب من الأرانب الصغيـرة .. سأشتري لهم البطيخ والحاملة .. عندما يرون البطيخ والحاملة سينسون الأرنب .
الشمس حارقة ، قطرات العرق تنز على جبهته ، رفع كمه يمسح وجهه ، رأى دكانًا يبيع الفراخ ، جلـس في ظلها ، تخير مكانًا على الرصيف قرب أقفاص الفراخ الفارغة ، جلس على عتبتها المرتفعة، أخرج الأرنب من السلة ، قبض بيديه على أذنيه ، رفعه فتدلى الأرنب في حجره سمينًا.. كبيراً ، ممتلئًا، جعل ثقل الأرنب على حجره .. إذا كان الناس لا يُقبلون على شراء كيلو الفراخ بسبعة فكيف سأبيع كيلو الأرنب بعشرة ؟! قلة من الزبائن أمام دكان الفراخ ، قبل أن أخرج قلت لأم رامي: اطبخي اليوم عدس . صمتت ولم تجبني . خرجت إلى السوق ، لا أحد يتطلع إلى الأرنب ، إذن لأرفعه قليلاً ، تمدّد الأرنب فبان طوله وحجمه، مسحتُ على فروته ، ظل هادئًا ، الشمس تزحف إلى قدميّ ، إذا لم أبعه بعد قليل ستكون مصيبة لأن الشمس ستلحقني وتقترب الصلاة ، عندها يبدأ السوق في الانتهاء ، عليّ أن أتحرك ، أتكلم ، أنادي ، لكن من أين يخرج الصوت ..
ساومت النسوة وبعض الرجال على الأرنب ، سألن وسألوا إن كان أرنب أو أرنبة .. تطلّعت إليهم في استغـراب ، وماذا يعني أرنب أو أرنبة !! كله للذبح ، ولحم الأرانب بارد وخفيف .. أما الذي يريده للتربية.. ها هو .. ليفحص ، فحص الأرنب رجال ونساء ، إحداهن أعجبها الأرنب ، أمسكته من أذنيه تستطلع وزنه، ساومتني كثيرًا ، خجلت من كثرة المساومة ، لم تكن عجوزًا ماهرة في الشراء ، إنما في الثلاثين ، طويلة ، واسعة العينين ، جميلـة ، قلّبت الأرنب ، وزنته بين يديها من أذنيه ، ثم طلبت وزنه على ميزان الفراخ ، وضعه صاحب الدكان على الميزان ..
ـ اللهم صلي على النبي ..
قالها وهو يزن . وضعته في سلتها ودفعت ثمنه بعد أن خصمت الفكة ، ومضت مع الأرنب الذي انكمش في سلتها .
القراءات والدروس الدينية التي تسبق الصلاة أتت من مكبرات الصوت في المساجد القريبة ؛ إيذانًا باقتراب النداء لصلاة الجمعة .. الناس يخرجون من السوق ، أصحاب البضائع يلملمون بضائعهم ، الشمس طردت الظل وملأت شارع سوق الجمعة على جانبيه وفي زواياه ، لم يعد على الرصيف من ظلال ، وضعتُ النقود في جيبي ومضيتُ إلى حيث ربطت الكارة ، حللت الرباط وصعدت عليها ، مررت ببائع الحاملة ، توقفت ، أكوام الحاملة لا تزال مرصوصة ، الكساد واضح ، فرصة .. اشتري رطلاً .. يأكل رامي والأولاد الحمص الأخضر وتأكل الأرانب الصغيرة الأغصان والأوراق ، مضيت حتى خرجت من السوق ، عند المنعطف رأيت بائع بطيخ إلى جانب الشـارع ، سطّر بطيخه بنظام .. الفاضي بعمل قاضي .. من قلة البيع يتفنن في عرض بطيخه .. اقتربت ..
ـ الخمستاعشر كيلو بعشرة يا بطيخ ..
ينادي البائع .
إذن ليأكل الأولاد لبّ البطيخ وتأكل الأرانب الصغيرة قشر البطيخ .. أما بذوره فليتسلى بها الصغار بعد تحميصهـا . وضعت البطيخ وأغصان الحمص على الكارة ومضيت عائـدًا .. صوت طائرة لعينة يئز في الشرق ، يعـلو ، ينخفض ، والناس يغادرون السوق على استعجـال ..
دخل شارع الحارة بسرعة عائدًا إلى بيته ليتوضأ لصلاة الجمعة ، رأى تجمعًا غير عادي من الجيران قرب باب داره، قفز من مكانه إلى الأرض ، بطيخة تدحرجت عن الكارة فوقعت وتفجّمت على الأسفلت ، هرول جسده داخل جلبابه الضيق إلى التجمع يستطلع الأمر ، تسابق إليه صغاره :
ـ طخوه يابا .
ـ مين ؟! .
ـ رامي .
أخبره الجيران أن رامي في المستشفى بخير ، لم يصدقهم وهم يحاولون طمأنته ، يحلفون له أنه لم يستشهد، أصابه الجنود عند المنطار ، تبرع أحد الواقفين بنقل أبو رامي في سيارته إلى المستشفى ليطمئن على ابنه ، وجد رامي راقدًا موصولاً بأنابيب ولفائف ، عيونه مفتوحة ، يتنفس في هـدوء ، ويتطلع إلى وجه والده ، ابتسـم ، لا يستطيع الكلام إلا بصعوبة ، اقترب منه :
ـ ليش ما استنيتش لما أرجع من السوق ؟!
ـ ………
ـ اشتريتلك بطيخ وحاملة .
ـ ………
ابتسم رامي وهمس بصوت ضعيف .
ـ والأرنب ؟!
* من مجموعة جنود لا يحبون الفراشات
دفع باب الدار فارتفع الصرير ، رمى حقيبة المدرسة عن كتفه جانبًا أسرع إلى الصنبور ، وضع رأسه الصغير المعفر تحت خيط الماء، ابتلّ رأس رامي ، شرب قميصه المدرسي الأخضر بعض ماء الصنبور، نهرته الأم ، لم يكترث . واصل الصنبور دلق الماء على رقبته، أغلقه بيدين مبتلتين وهرول إلى حجرة في ركن الفناء ، فتح حقيبة المدرسة ، أخرج أعوادًا خضراء قصفها من سياج الشارع ، الأرانب الصغيرة تنط داخل القفص الحديدي ، تمد بوزها بين الفتحات عندما رأت الأغصان الخضراء ، صار يداعبها ، يمد الأوراق ويسحبها ثانية ، تنجح الصغار في قضم بعض الأوراق الخضراء ، يعاود الكرّة ، تنجح الأرانب مرة وتفشل مرات ، الأرنب الكبير يزوم ، يُحوّم في القفص ولا يستطيع إخراج بوزه ، الفتحات أكبر من أن تتسع له ، يعاكسه الصبي ، يمد الغصن قليلاً داخل القفص ثم يسحب يده للخـلف ، دق الأرنب الكبير قدميه على أسلاك القفص محتجًّا ، يحزن الصبي عليه، يمد له الغصن الأخضر أكثر ، يلاحظ سرعة القضم .. فرق بين قضم الصغير وقضم الكبيـر .. كل أرنب يقضم حسب أسنانه واتساع فمه.. يجري إلى الإبريق ، يصب ماءً في الوعاء المثبت على طرف القفص .. كيف يشرب الأرنب ؟ إنه يلحس الماء كالقطة ، في يوم الجمعة عندما قصفت الطائرات غزة اختبأت في حجرة الأرانب ، رأيت الأرانب مذعورة من الصوت ، تلتف حول الأرنب الكبير ، ازداد القصف، تعالت الانفجارات فاختبأت الأرانب الصغيرة في ركن القفص جهة الجدار ، تمدد الأرنب الكبير في الواجهة يخفي وراءه الصغار المذعورة .. أنا الآخر اختبأت بعض الوقت ولما توقف القصف وقف الأرنب الكبير ، وبدأت الصغار تلفّ من أول القفص إلى آخره ، جريت إلى الشارع ، رفعت العلم على عصا صغيرة وسرت في المظاهرة .
ـ إيش بتعمل عندك ؟
نظر الأب من الباب مُدخلاً رأسه إلى حجرة الأرانب، في حين ظل جسمه في الخارج .
ـ بألاعب الأرانب ، وبأطعمها .
ـ وليش مروّح بدري من المدرسة ؟.
ـ مظاهرات .
ـ أنا عارفك مشاغب .
ـ لا والله .
ـ بالله ما رحت على معبر المنطار اليوم ؟.
ـ الصحيح رحت .
ـ كيف الوضع ؟! .
ـ مواجهات .. الجنود بيطخوا الرايح والجاي .
ـ طيب اطلع غيِّر أواعيك عشان تتغدى .
ـ الغدا أرانب ؟! .
ـ نعم !! من وين ؟! .
ـ ………
نظر رامي إلى القفص .
ـ لسه صغار ما بينذبحوش .
أشار الصبي إلى الأرنب الكبير .
ـ لما يكبروا الصغار شوية بنذبح منهم .
ارتفع صوت بائع في الشارع ينادي :
ـ على السكين يا بطيخ .
ـ يابا اشتريلنا بطيخ .
ـ طيب .. طيب .
ـ كل يوم بتقول طيب عالفاضي .
ـ امشِ ..
ينهر الوالد الصبي .. خرج مسرعًا من حجرة الأرانب إلى داخل المنزل .. هذا الولد عفريت .. صرت خايـف عليه ، كل يوم يرجع إخوته من المدرسة قبله وهوّ يتأخر عن الرجوع إلى الدار .. يأتي معفّرًا ، يديه وشكله يفضحه، أحياناً يكذب عليّ بحجة جمع أوراق الشجر للأرانب ، وأحيانًا يجيب بصدق أنه خرج من المدرسة مع أصحابه إلى المواجهات مع جنود الاحتلال في موقع المنطار..
ـ يابا طخوا زميلنا في المدرسة وبدك نسكت !!
رصاص الجنود في موقع المنطار لا يفرق بين صغار وأشجـار ، شباب ودور ، شيوخ وحيطان .. كل من يتحرك ومن لا يتحرك هدف لرصاصهم.. الله يمضّي هالأيام على خير .. الملعون يريد بطيخ وعينـه على الأرنب الكـبير .. من شهور وأنا عاطل عن العمل، بحثت عن أي عمل بلا فائدة ، البطالة تعمّ الجميع ، وما ادّخرته ينفد بسرعة ، الناس لا يعملون ، الأسعار مرتفعة ، الأفواه لا ترحم ، الآن المهم الخبز.. بلا بطيخ بلا أرانب بلا غيره ..
اقتربت عودة الأولاد من المدرسة ظهرًا ..
أم رامي تدور في البيت على غير هدى ، لم يعد مناص من البحث عن أيّ طعام ، اقتصر الأكل من أسابيع على البقوليات الجافة ، يرتفع أزيز طائرة في الشرق .. نسمع صوتها في النهار ولا نراها .. ويرتفع الأزيز في الليل ولا نرى أنوارها .. وحين تنصرف يأتي بعدها الغضب.. الله أعلم متى وأين ستضرب اليوم ، وأين يقف الشهيد القادم ، والجريح القادم ، أيّ المواقع سَتُقصَف ، وأيها سَيسلَم .. أزيزها صوت شؤم يثير القلق واضطراب المعدة ، والخوف على الأولاد والبيوت والمواقع .. تظل تئز ، يرتفع صوتها فيما يشبه جعار حيوان خرافي يلولح الريح بصوته علوًا وانخفاضًا ، تُصوّر ، تستكشف ، تُراقب ، تُحدد الأهداف ، ثم تغيب ليبدأ القصف . يستمر الأزيز الغريب للطائرة ، طائرة استطلاع ، ترقب وتحدد العصافير بين الأشجار ، والنمل في الجحور ، وبقايا السمك في سوق الشجاعية ، الناس ينتظرون الآتي بصبر ، ورباطة جأش ، وبسخرية أحيانًا .. ما العمل ؟! الله هو الحامي.
أذّن الظهر .. الشمس تميل إلى غروبها ، الظل ينزاح عن الرءوس والسطوح ونهايات الشجر ، يمتد رويدًا رويـدًا .. يحمل معه نسمات المتوسط الرطبة ، ورياح الحرب والموت والانفجارات . الأزيز يستمر، تدخل إلى ركن الأرانب ، رأت ابنها رامي يلاعب الأرانب كالعادة ، يحمل في يده أعواد الملوخية الخضراء وأغصان نبات الحمص "الحاملة " في كل عودة له بعد خروجه من المدرسـة ، أو من مواجهات معبر المنطار ، يحرص على أن يلتقط في طريقه ما يجده من الأغصان الخضراء ، يذهب مُحملاً بالحجارة، ويعود بأغصان الحمص وحباته الفارغة ..
يفتشها غصنًا غصنًا ، يفحصها بتؤدة ، يعثر فيها أحيانًا على حبة أو حبتين تاهت من بين أصابع الآكلين ، يتذوقها بإمعان ، يلوكها في تلذذ.. تحب الأرانب أوراق الحمص ، كلما رأتني قادمًا إلى ركنها تـسرع إلى واجهــة القفص، آه .. إنها ترى الورق الأخضر ، لا يحركها من كسلها إلا اللون الأخضر ، تدق أقدامهـا على أرض القفص ، تمدّ أبوازها ، تزمزم فمها ، تُرعّش أنفها ، تحاول اختراق سياج القفص ..
ـ خذي ..
يمد يده فتقضم الأرنب .
ـ لا .. لا ..
يشد يده بعيدًا . تدور الأرانب ثانية ، الأرنب الكبير يقف إلى السياج الحديدي للقفص ، يرفع يده لإمساك الغصن ..
ـ خذ ..
يمد رامي يده ثانية ، يمسك الأرنب طرف الغصن بأسنانـه ، يشده إلى الداخل قبل أن يتمكن الصبي من سحبه ثانية إلى الخارج ، يروح الأرنب إلى ركن القفص ، تهجم معه الأرانب الصغيرة ، يحاول رامي أن يمد يده مرّة أخرى ، تنهره الأم ..
ـ بس لعب .. حط مية للأرانب ..
يهرول إلى إبريق الماء ، يملأ الآنية المثبتة على القفص.. ينظر إلى أمه :
ـ يمه .. بدي حاملة .
ـ ………
ـ سامعة والا لأ ؟!
ـ ما انت شايف أبوك من غير شغل .
ـ يعني لا أرانب ولا بطيخ ولا حاملة .. الله أكبر .
ـ لما أبوك يشتغل بيشتري لك .
ـ طيب وليش ما يشتغل .. مين اللي مانعه ..
ـ هوه ملاقي شغل ومش مشتغل ..
ـ الشغل كثير ..
ـ وين ؟!
ـ عند المنطار .
في الفجر يعمر سوق الجمعة في حي الشجاعية ، ناس من كل مكان ، سيارات ، عربات ، كارات تنتشر بفـوضى ، تعلو أصوات الباعة، تختلط بأغاني حماسية من إذاعة فلسطين البرنامج الثاني .. موسيقى حامية .. وين الملاييـن .. يعلو صوت :
ـ يازلمة وطي صوت الراديو .. الملايين لسه نايمين..
رد آخر :
ـ نوم الطرشان .
ترتفع النداءات ، تنتفخ عروق رقابهم من الصراخ، الناس يمرون، يتفرجون ، يُقلّبون ، يسألون عن الأسعار ، يجادلون :
ـ صناعة أيّ دولة ؟
ـ صناعة كوريا .
ـ الشمالية ؟
ـ نعم !! وايش عرّفني .
ـ طويلة ؟.
ـ قصيرة .
ـ قطن ؟ .
ـ لأ . قطن مع بوليستر .
ـ بتشرب في الغسيل ؟ .
ـ لأ . اغسل والبس من غير كوي .
ـ ياسلام على العِلم .
يرتفع نداء أجش لأحد باعة الفراخ :
ـ كيلو الفراخ بسبعة ، يااللا خلّصت الفراخ من البلد ، راحت المزارع.. جنود الاحتلال دمروها .
ـ كرتونة البيض بعشرة يااللا ، بعد اليوم ما في فراخ ولا بيض ، المزارع راحت .
ـ الطرق والمعابر مغلقة .
ـ أيام الحرب فول وعدس وجنازات .
الفلاحات يجلسنَ على الأرصفة ، يبعن بقايا خضر وفواكه من حقولهن ، الأسعار مرتفعة ، لا أحد يستطيع الوصول إلى أرضه إلا بصعوبة ومخاطرة ، الجرّافات انتقمت من الأشجـار ..
ـ الله ينتقم منهم .
قالت إحداهن :
ـ في أيّ دين هدم الشجر والحجر ..
أبو رامي يرتدي جلبابًا فضفاضًا ، انحشر جسده الممتلئ في الجلباب، رأسه حاسرة ، مشّط شعره الذي خطه الشيب على عجل، دخل أول السوق بعد أن ربط كارته التي يجرها حمار واهن في عامود الكهرباء ، أمسك بيديه سلة قبع داخلها الأرنب الكبير بهدوء واستكانة ، فروته البيضاء تتلقى غبار الطريق يهتز الأرنب في السلة إلى أعلى وإلى أسفل في يد أبو رامي الذي يتمايل يمينًا وشمالاً من لحم زائد تحت إبطيه ، يغمض الأرنب عينيه ، تنعسه الهدهدة ، يتفحص أبو رامي الناس ، يتطلّع في عيون النسوة والرجال ولا يستطيع أن يتفوه بكلمة ، لا أحد يسألـه عن ثمن الأرنب ، يتذكر كلمات زوجته ليلة الأمس عندما انصرف الأولاد إلى النوم :
ـ يا راجل ربك متكفل بالرزق .. اتوكّل على الله ..
ـ يا ولية إيش يقولوا الناس .. رايح أبيع أرنب ؟!
ـ طيب وإيش فيها .
ـ كل هالطول وهالعرض ورايح أبيع أرنب !!
ـ ما هو من الحاجة والقلة .
ـ وإذا شافني واحد من أصحابي ؟!
ـ إذا شافوك راح يحسدوك لأنه ما عندهم زيك أرنب يبيـعوه .
ـ آه والله صحيح ..
انطلق داخل السوق بين البسطات والمعروضات حاملاً الأرنب الأبيض الناعس في السلة .. منذ دخولي السوق لم يسألني أحد عن ثمن الأرنب، ولا عن سعر الكيلو من لحم الأرانب ، توقعت أن يسألني كثيرون ممن يحبون لحم الأرانب ، يتطلع إليّ البعض ويمضون بين البسطات ، ترى هل أنادي بعشرة كيلو الأرنب حتى ألفت انتباه المارة؟! أريد أن أبيع الأرنب ، لا أستطيع أن أنادي .. الكلمات لا تريد أن تخرج من فمي ، كأن الناس كلهم ينظرون ، يتفحصونني ، لا يكترثون بالأرنب ، يتطلعون إليّ ويستمرون في طريقهم ، كيف ألفت الانتباه إلى الأرنب ، ليتني أحضرت رامي معي ، لكان كالعفريت ينادي .. بعشرة كيلو الأرنب .. بعشرة كيلو الأرنب . أو ينادي .. أرنب للبيع .. أرنب للبيع . لكنّ رامي لا يريـد بيع الأرنب ، رامي وإخوته أرادوا أكل لحم الأرنب، لذا تركته في البيت نائمًا وخرجت قبل أن يصحو ، سيتفاجأ رامي وإخوته عندما لا يرون الأرنب في القفص .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. سأُمنّيهم بأكل أرنب من الأرانب الصغيـرة .. سأشتري لهم البطيخ والحاملة .. عندما يرون البطيخ والحاملة سينسون الأرنب .
الشمس حارقة ، قطرات العرق تنز على جبهته ، رفع كمه يمسح وجهه ، رأى دكانًا يبيع الفراخ ، جلـس في ظلها ، تخير مكانًا على الرصيف قرب أقفاص الفراخ الفارغة ، جلس على عتبتها المرتفعة، أخرج الأرنب من السلة ، قبض بيديه على أذنيه ، رفعه فتدلى الأرنب في حجره سمينًا.. كبيراً ، ممتلئًا، جعل ثقل الأرنب على حجره .. إذا كان الناس لا يُقبلون على شراء كيلو الفراخ بسبعة فكيف سأبيع كيلو الأرنب بعشرة ؟! قلة من الزبائن أمام دكان الفراخ ، قبل أن أخرج قلت لأم رامي: اطبخي اليوم عدس . صمتت ولم تجبني . خرجت إلى السوق ، لا أحد يتطلع إلى الأرنب ، إذن لأرفعه قليلاً ، تمدّد الأرنب فبان طوله وحجمه، مسحتُ على فروته ، ظل هادئًا ، الشمس تزحف إلى قدميّ ، إذا لم أبعه بعد قليل ستكون مصيبة لأن الشمس ستلحقني وتقترب الصلاة ، عندها يبدأ السوق في الانتهاء ، عليّ أن أتحرك ، أتكلم ، أنادي ، لكن من أين يخرج الصوت ..
ساومت النسوة وبعض الرجال على الأرنب ، سألن وسألوا إن كان أرنب أو أرنبة .. تطلّعت إليهم في استغـراب ، وماذا يعني أرنب أو أرنبة !! كله للذبح ، ولحم الأرانب بارد وخفيف .. أما الذي يريده للتربية.. ها هو .. ليفحص ، فحص الأرنب رجال ونساء ، إحداهن أعجبها الأرنب ، أمسكته من أذنيه تستطلع وزنه، ساومتني كثيرًا ، خجلت من كثرة المساومة ، لم تكن عجوزًا ماهرة في الشراء ، إنما في الثلاثين ، طويلة ، واسعة العينين ، جميلـة ، قلّبت الأرنب ، وزنته بين يديها من أذنيه ، ثم طلبت وزنه على ميزان الفراخ ، وضعه صاحب الدكان على الميزان ..
ـ اللهم صلي على النبي ..
قالها وهو يزن . وضعته في سلتها ودفعت ثمنه بعد أن خصمت الفكة ، ومضت مع الأرنب الذي انكمش في سلتها .
القراءات والدروس الدينية التي تسبق الصلاة أتت من مكبرات الصوت في المساجد القريبة ؛ إيذانًا باقتراب النداء لصلاة الجمعة .. الناس يخرجون من السوق ، أصحاب البضائع يلملمون بضائعهم ، الشمس طردت الظل وملأت شارع سوق الجمعة على جانبيه وفي زواياه ، لم يعد على الرصيف من ظلال ، وضعتُ النقود في جيبي ومضيتُ إلى حيث ربطت الكارة ، حللت الرباط وصعدت عليها ، مررت ببائع الحاملة ، توقفت ، أكوام الحاملة لا تزال مرصوصة ، الكساد واضح ، فرصة .. اشتري رطلاً .. يأكل رامي والأولاد الحمص الأخضر وتأكل الأرانب الصغيرة الأغصان والأوراق ، مضيت حتى خرجت من السوق ، عند المنعطف رأيت بائع بطيخ إلى جانب الشـارع ، سطّر بطيخه بنظام .. الفاضي بعمل قاضي .. من قلة البيع يتفنن في عرض بطيخه .. اقتربت ..
ـ الخمستاعشر كيلو بعشرة يا بطيخ ..
ينادي البائع .
إذن ليأكل الأولاد لبّ البطيخ وتأكل الأرانب الصغيرة قشر البطيخ .. أما بذوره فليتسلى بها الصغار بعد تحميصهـا . وضعت البطيخ وأغصان الحمص على الكارة ومضيت عائـدًا .. صوت طائرة لعينة يئز في الشرق ، يعـلو ، ينخفض ، والناس يغادرون السوق على استعجـال ..
دخل شارع الحارة بسرعة عائدًا إلى بيته ليتوضأ لصلاة الجمعة ، رأى تجمعًا غير عادي من الجيران قرب باب داره، قفز من مكانه إلى الأرض ، بطيخة تدحرجت عن الكارة فوقعت وتفجّمت على الأسفلت ، هرول جسده داخل جلبابه الضيق إلى التجمع يستطلع الأمر ، تسابق إليه صغاره :
ـ طخوه يابا .
ـ مين ؟! .
ـ رامي .
أخبره الجيران أن رامي في المستشفى بخير ، لم يصدقهم وهم يحاولون طمأنته ، يحلفون له أنه لم يستشهد، أصابه الجنود عند المنطار ، تبرع أحد الواقفين بنقل أبو رامي في سيارته إلى المستشفى ليطمئن على ابنه ، وجد رامي راقدًا موصولاً بأنابيب ولفائف ، عيونه مفتوحة ، يتنفس في هـدوء ، ويتطلع إلى وجه والده ، ابتسـم ، لا يستطيع الكلام إلا بصعوبة ، اقترب منه :
ـ ليش ما استنيتش لما أرجع من السوق ؟!
ـ ………
ـ اشتريتلك بطيخ وحاملة .
ـ ………
ابتسم رامي وهمس بصوت ضعيف .
ـ والأرنب ؟!
* من مجموعة جنود لا يحبون الفراشات