خطواته واسعة ، سريعة ، تشق ظلمة الليل ، لاتهتم مطلقا بكل مخاطر الطريق ، فارع القامة ، ضخم الجثة ، عار تماما ، لا يلبس حتي ما يستر العورة ، عار كالانتماء ، كما ولدته امه ، إعتاد كبي جزلان - هكذا كانوا ينادونه ، لم يشارك ابدا في إختيارات البشر لكل المسميات التي يطلقونها عليه - إعتاد كبي جزلان علي هذه الرحلة اليومية التي تبدأ في نهايات الليل و تنتهي في بواكير الصباح ، إنها رحلة موسمية ، تبدو خطوات كبي جزلان تواقع هذا الطريق المخيف حين تبدأ إجازات المدارس ، تلك المدارس التي علمته حب الرغيف ، مدارس ( كاتشا ) او ( كجه ) كما يقول سكان جبال النوبة الاصليين ، لاتعني تلك المدارس ب( كاتشا ) ، مدارس أسستها الارساليات المسيحية ، لا تعني بالنسبة له غير انها مكان يتواجد فيه الرغيف ، إن ضجة التلاميذ و الطلاب تشعره بالامان ، إن فكرة الامن العذائي لها ذلك المتسع من الاهنمام في عقل كبي جزلان ، خارج تلك النوايا المبرمجة التي جعلت الإرساليات تحقق طموحاتها المتعمدة في ان تكون تلك المنطقة التي تقع حنوب مدينة ( كادقلي ) ، منطقة ( كاتشا ) منطقة تلتحم فيها كل تناقضات حركة الفكر الانساني ، مدارس ذات بناء مدهش بالنسبة لسكان المنطقة ، أخذت تلك الجبال التي تحيط بالمدارس تقذف باصداء الاناشيد الي البعيد ، الي تلك الغابات و السهول ، الي أذان حيوانات المنطقة المتوحشة و المستانسة ، ضجة التلاميذ في حركتهم و سكونهم ، ألعابهم و مسامراتهم في الليالي المظلمة و المقمرة خارج عنابر الداخليات ، إن الظلام في تلك المنطقة له لون اكثف من حدود السواد ، لكن تبقي تلك المدارس بقع من الضوء يهتدي بها السائرون علي تلك الدروب الموحشة و النائية ، خارج احلام اولئك المدرسين ، خارج أرقهم الذي تصنعه ذكريات المدن التي أتوا منها ، خارج كل تلك الافعال التاريخية ، كان كبي جزلان يتعامل مع هذه المدارس بمنتهي التجريد ، لا تعني هذه المدارس بالنسبة اليه سوي الرغيف ، اصبح مذاق الرغيف علي لسانه نوع غريب من الإدمان ، لايبرح مطلقا مكانه الحميم امام مطابخ الداخليات ، يسمح لنفسه بالتجول حتي مباني السفرة - قاعة الطعام - ليس ابعد من ذلك بين المطبخ وقاعة الطعام ، كان يحس حين يري اولئك التلاميذ يتناولون طعامهم ، حين يري ذلك الرغيف المدور تمزقه الايدي و تلتهمه الافواه ، يحس ان فكرته عن هذا الشئ الغريب هو محور حركة الكون .
الطباخون و عمال المطبخ إعتادوا عليه ، اصبح من ضمن مسئولياتهم ، حاول مرة كبير الطباخين ان يبعده من المنطقة ، عن كمية الرغيف التي يلتهمها ، كان كبي جزلان هناك كما إعتاد ، وقف تلك الوقفة التي تشبه وقفة التماثيل ، وقف امام المطبخ ، كان ذلك في الصباح ، منع من ممارسة عشقه ، تحولت تلك الوقفة الي صخب عال جدا ، همهمات إحتجاج حيث انه لايستطيع مطلقا ان يختزن في عقله البسيط أي إشارات او علامات يمكن ان يقال عنها إنها لغة مشتركة بين البشر ، همهمات غريبة تحولت الي صراخ هستيري ، تحرر ذلك التمثال من جموده ، تحول كبي جزلان الي كتلة من الإنفعال اطاحت بكل الاشياء التي صادفته او حاولت ان تقف دونه و الرغيف ، قذف بكبير الطباخين علي اقرب صخرة علي ذلك الجبل ، قوة هائلة إقتلعت ابواب المطبخ ، هشمت الشبابيك ، حطم كبي جزلان اواني الطبخ ، هرسها مع ملاحظة انها من الالمنيوم لكنه اسنطاع ان يشكل بثورته العارمة اوضاعا و ملامح اخري لاي إناء مر به في طريقه ، كان يركض في دوائر متوترة و يصرخ ضد كل العالم الموجود بالمنطقة ، إمتدت ثورة كبي جزلان حتي وصلت الي الطابور الصباحي ، كان ناظر المدرسة يتحدث عن النظام كما كل يوم ، المدرسون في مكاتبهم يستعدون لبداية اليوم الدراسي ، التلاميذ يحاولون الهروب بشرودهم و همساتهم من خطبة الناظر المعتادة ، جاء كبي جزلان كما الإعصار إقتحم الطابور ، يضرب كل من يصادفه ، هرج ، مرج ، تناثر التلاميذ في الفناء ، إختفي الناظر داخل مكتبه ، كبي جزلان يطارد التلاميذ في الفناء ، يضرب بكل قوة ، معركة لها ضحايا ، جرحي ، تلميذ كسرت يده ، بعضهم اغمي عليهم ، لا زالت ثورة كبي جزلان مستمرة ، هرول احد المدرسين الي حيث مكام الإنطلاقة ، عرف الامر ، اخذ معه اكثر من عشرة ارغفة و جاء الي الفناء ، يتابع الي درجة اللهث خطوات كبي جزلان الثائرة ، أخيرا إقترب منه ، لوح له بالارغفة ، همدت ثورة كبي جزلان رويدا رويدا ، إقترب من المدرس بحذر شديد ، خطف الارغفة من يده ، همهم ، صرخ بعنف ، إرتعش جسمه ، أخذ واحدة من الارغفة ، كومها في يده الضخمة ، رفع يده اليسري الي أعلي و كأنه يحيي الشمس ، مسح الرغيفة علي عرق إبطه الذي كان غزيرا جدا ، إلتهمها بعنف ، كأن كبي جزلان يأكل من عرق إبطيه
بعدها جاءت تعليمات من الناظر توصي بالإعتناء التام بمشروع كبي جزلان الغذائي ، بعدها اصبح واحدا من أهم مسئوليات الطباخين .
يخاف كبي جزلان من الاماكن الخالية ، يعرف تماما حين يختفي التلاميذ من المدارس انه سيواجه اياما صعبة وعصيبة اياما يختفي فيها الرغيف ، في تلك الايام ، ايام الإجازات ، يكون كبي جزلان خارج حيويته ، متداخلا مع حزنه الابكم ، وقتها لاتجدي كل الصرخات ، كل الهمهمات ، يفقد تماما معني وجوده ، يواجه بذاكرته غير المعقدة تلك الابواب و الشبابيك المغلقة ، اغنام ترعي في فناء المدرسة ، الحشائش البرية تتطاول احيانا كثيرة علي سور المدارس ، خريف تصرخ فيه السماء برعودها و تشتعل ببروقها ، وحين ترعد السماء يصرخ كبي جزلان في وجهها و كأنه يحتج ضد الخريف ، الخريف يعني ان تقفل المدارس ، يختفي التلاميذ ، يرحلون الي حيث لايعلم ، يختفي تبعا لذلك الرغيف ، محور فكرة كبي جزلان عن الكون ، إجازة الخريف تمتد الي ستة اشهر لذا ان رحلات كبي جزلان ، تلك الرحلات التي تبدأ في نهايات الليل و تنتهي في الصباح لتبدأ من جديد في ظهيرة حارة ككل نهارات الخريف ، رحلات البحث عن رغيف ، عن ذلك المذاق ، مذاق يقاتل من اجله كبي جزلان الطبيعة بكل عناصرها .
خطواته واسعة تهزم ظلمة الليل ، تقوده لهفة مكثفة ، يتجه من ( كاتشا ) شمالا الي ( كادقلي ) ، يستطيع ان يهرب من كل الوحوش التي في الطريق ، عار كالإنتماء ، كما ولدته أمه ، يشق مهرولا غابات كثيفة ، تهرب من امامه حتي الشياطين ، لا يتوقف ابدا ، لايسمح لخطواته ان يصيبها التعب ، تجلده سياط من الامطار ، يهتدي بالبروق و يصرخ حين ترعد ، لكنه لايتوقف ابدا ، يخوض في وحول لزجة حافيا ، لا يلتفت حتي للاشواك التي تسكن قدميه ، يسبح متحديا تلك الخيران التي تندفع من الجبال ، لايهم ، حتي قوة الإندفاع يهزمها كبي جزلان في بحثه الوجودي عن ذلك المذاق ، عن تلك الرائحة التي تتفتح امامها كل مسامات حواسه الاكثر من خمس ، هذه المسافة التي تطويها خطوات كبي جزلان كانت لواري ( اب اربعة و الابيض ضميرك و السفنجة ) تقطعها في موسم الخريف ، موسم إجازات المدارس في اكثر من عشر ساعات و احيانا ايام بنهاراتها و لياليها بل في معطم الاحوال تتعطل هذه الحركة في الخريف ، لكن كبي جزلان لا يتعطل ابدا ، في نهايات كل ليل من ليالي هذه الشهور الستة ينطلق كبي جزلان الي( كادقلي) ، يصل في الصباح الباكر ، يقف امام فرن ( احمد حريقة ) ، يقث كتمثال ، ينظر الي طاولات الرغيف و هي تخرج من الفرن ، ملوثا بالطين و العرق ، درجة حرارة جسمه يمكنها ان تعادل حرارة الفرن الذي يخرج منه الرغيف ، تتساقط قطرات العرق من جسمه العاري تماما علي الارض ، إن كبي جزلان يمطر ايضا في كل خريف يختفي فيه التلاميذ من المدارس .
في بداية علاقته بأفران ( كادقلي ) تصرف بذلك الجنون الذي يصنعه الحرمان ، كان يهجم علي طاولات الرغيف بعنف غريب ، مداهمة يندر ان تجدها حتي عند اولئك الذين يؤمنون بالنضال المسلح ، ياصابعه العشرة يستطيع ان يكوم عددا من الارغفة ، خطف مرة طاولة كاملة و ركض بها هازما كل اللاحقين به ، إنطلق كما الإعصار و الطاولة تبدو إزاء جسمه الضخم اشبه بصندوق خشبي صغير ، تكررت هذه الافعال الجنونية حتي ان الافران غيرت مواعيدها بعد ان اكتشف ان إخفاءها لطاولات الرغيف لن تمنع كبي جزلان من الحصول عليها ، لاشئ يجدي مطلقا مع الطريقة التي يقتحم بها كبي جزلان ، إستقرت ممارسة كبي جزلان مع افران ( كادقلي ) بعد ان استطاع ( احمد حريقة ) ان يحصر كل تلك الثورة امام فرنه فقط ، رجل كريم استطاع ان يسمح بسماحة لذلك العملاق ، عاشق الرغيف ، ان يأخذ ما يريد و بدون اي عنف و بذلك استطاع ان يفدي اصحاب الافران الاخري .
يأتي كبي جزلان حاملا بين حناياه ذلك الإصرار العميق علي الهدف ، يقف ممطرا عرقه علي الارض ، ينتظر بلهفة تتجاوز منلوجات كل العشاق ، اول طاولة تخرج من الفرن يقتحمها ، يكور بيده الضخمة عددا من الارغفة ، يعصرها بأصابعه حتي تصبح كتلة واحدة متماسكة ، يرفع يده اليسري الي أعلي في أعظم تحية وثنية ، يمسح كتلة الرغيف علي عرق ابطيه و يلتهم و يلتهم و يلتهم .
( احمد حريقة) اصبح يحاسب العاملين في الفرن علي التأخير قياسا علي وقفة كبي جزلان امام الفرن في كل صباح من صباحات خريف الشهور الستة .
علق احد ظرفاء المدينة علي رحلات كبي جزلان مقترحا ان يكتب علي جسده العاري هذه العبارة ( كاتشا كادقلي وبالعكس ) ، مجرد ما إنتهي كبي جزلان من مهمته التاريخية ذات المغزي الوجودي امام فرن ( احمد حريقة ) ضم الي صدره عددا من الارغفة و اتجهت خطواته الي نفس ذلك الطريق الذي مر به ليلا ، هذه المرة الرحلة نهارية ، نهار خريفي ساخن ، يرجع كبي جزلان الي ( كاتشا ) ، يعرق و تغسله الامطار في الطريق ، الشمس تجفف جسده العاري ، تهرب من امامه الوحوش علي الطريق ، يحاول بعضها الإعتداء عليه ، لكن ، الرغبة في الحياة ، في المزيد من الرغيف تهزم تلك المحاولات ، عادة ما يصل كبي جزلان الي ( كاتشا ) بين العصر والمغرب ، تواجهه المدارس فارغة. من حيوية التلاميذ ، ترعبه فكرة الاماكن الخالية ، يتجول داخل فناء المدارس ، يسترخي امام المطبخ ، يؤرقه ذلك البحث عن المذاق الذي يدمنه ، يحاور بصرخاته المحتجة امطار الليل اذا كانت السماء ممطرة ، أكثر ما يثير كراهية الخريف عنده اصوات الضفادع ، محصورا في فكرته الآسرة عن الرغيف اضاع كل تفاصيل علاقاته بسكان المنطقة ، اصبح لا يتعدي حدود المدارس ، هكذا هي رحلات كبي جزلان تبدأ في نهايات الليل ، تنتهي في بدايات الصباح لتبدأ رحلة العودة في نهار خريفي غائظ ليصل بين العصر و الغروب ، يسترخي في مكانه الحميم ، تستفزه الفراغات و تثيره اصوات الضفادع ليبدأ رحلة جديدة ، هكذا و لمده ستة اشهر هي إجازة المدارس في الخريف يكون كبي جزلان قد صارع فيها كل قوي الطبيعة ، تحدي كل صعاب الطريق ، تهرب منه الوحوش و يهرب منها ، يمطر عرقا كما تمطر سحابات الخريف ، الخريف ذلك المسئول المباشر عن حالة كون الاماكن خالية .
هكذا ، حتي جاء يوم ، تحرك فيه كبي جزلان في نهاية الليل ، إرتبك فرن (احمد حريقة) في ذلك الصباح و لم يكن كبي جزلان موجودا ، لم يأت هذا الصباح الي ( كادقلي ) ، هناك في ( كاتشا ) كانت الشمس خلف السحب الداكنة تمارس غروبها الحزين و هي تعرف ان كبي جزلان لم يأت من ( كادقلي ) ، البروق تضئ ظلمة الليل دون ان يلتمع بالاضواء جسد ذلك المارد المقاتل ، أرعدت السماء و لاحظت غياب تلك الصرخة المحتجة و لم تجد الضفادع من تثيره ياصواتها ، غاب كبي جزلان في تلك الرحلة الاخيرة مخلفا ذلك الفراغ في كل مكان كان يجب ان يكون فيه ، هكذا ، بين ( كاتشا ) و ( كادقلي ) ، في رحلته الوجودية ، رحلة البحث عن الرغيف ، كبي جزلان تلتهمه الوحوش .
الطباخون و عمال المطبخ إعتادوا عليه ، اصبح من ضمن مسئولياتهم ، حاول مرة كبير الطباخين ان يبعده من المنطقة ، عن كمية الرغيف التي يلتهمها ، كان كبي جزلان هناك كما إعتاد ، وقف تلك الوقفة التي تشبه وقفة التماثيل ، وقف امام المطبخ ، كان ذلك في الصباح ، منع من ممارسة عشقه ، تحولت تلك الوقفة الي صخب عال جدا ، همهمات إحتجاج حيث انه لايستطيع مطلقا ان يختزن في عقله البسيط أي إشارات او علامات يمكن ان يقال عنها إنها لغة مشتركة بين البشر ، همهمات غريبة تحولت الي صراخ هستيري ، تحرر ذلك التمثال من جموده ، تحول كبي جزلان الي كتلة من الإنفعال اطاحت بكل الاشياء التي صادفته او حاولت ان تقف دونه و الرغيف ، قذف بكبير الطباخين علي اقرب صخرة علي ذلك الجبل ، قوة هائلة إقتلعت ابواب المطبخ ، هشمت الشبابيك ، حطم كبي جزلان اواني الطبخ ، هرسها مع ملاحظة انها من الالمنيوم لكنه اسنطاع ان يشكل بثورته العارمة اوضاعا و ملامح اخري لاي إناء مر به في طريقه ، كان يركض في دوائر متوترة و يصرخ ضد كل العالم الموجود بالمنطقة ، إمتدت ثورة كبي جزلان حتي وصلت الي الطابور الصباحي ، كان ناظر المدرسة يتحدث عن النظام كما كل يوم ، المدرسون في مكاتبهم يستعدون لبداية اليوم الدراسي ، التلاميذ يحاولون الهروب بشرودهم و همساتهم من خطبة الناظر المعتادة ، جاء كبي جزلان كما الإعصار إقتحم الطابور ، يضرب كل من يصادفه ، هرج ، مرج ، تناثر التلاميذ في الفناء ، إختفي الناظر داخل مكتبه ، كبي جزلان يطارد التلاميذ في الفناء ، يضرب بكل قوة ، معركة لها ضحايا ، جرحي ، تلميذ كسرت يده ، بعضهم اغمي عليهم ، لا زالت ثورة كبي جزلان مستمرة ، هرول احد المدرسين الي حيث مكام الإنطلاقة ، عرف الامر ، اخذ معه اكثر من عشرة ارغفة و جاء الي الفناء ، يتابع الي درجة اللهث خطوات كبي جزلان الثائرة ، أخيرا إقترب منه ، لوح له بالارغفة ، همدت ثورة كبي جزلان رويدا رويدا ، إقترب من المدرس بحذر شديد ، خطف الارغفة من يده ، همهم ، صرخ بعنف ، إرتعش جسمه ، أخذ واحدة من الارغفة ، كومها في يده الضخمة ، رفع يده اليسري الي أعلي و كأنه يحيي الشمس ، مسح الرغيفة علي عرق إبطه الذي كان غزيرا جدا ، إلتهمها بعنف ، كأن كبي جزلان يأكل من عرق إبطيه
بعدها جاءت تعليمات من الناظر توصي بالإعتناء التام بمشروع كبي جزلان الغذائي ، بعدها اصبح واحدا من أهم مسئوليات الطباخين .
يخاف كبي جزلان من الاماكن الخالية ، يعرف تماما حين يختفي التلاميذ من المدارس انه سيواجه اياما صعبة وعصيبة اياما يختفي فيها الرغيف ، في تلك الايام ، ايام الإجازات ، يكون كبي جزلان خارج حيويته ، متداخلا مع حزنه الابكم ، وقتها لاتجدي كل الصرخات ، كل الهمهمات ، يفقد تماما معني وجوده ، يواجه بذاكرته غير المعقدة تلك الابواب و الشبابيك المغلقة ، اغنام ترعي في فناء المدرسة ، الحشائش البرية تتطاول احيانا كثيرة علي سور المدارس ، خريف تصرخ فيه السماء برعودها و تشتعل ببروقها ، وحين ترعد السماء يصرخ كبي جزلان في وجهها و كأنه يحتج ضد الخريف ، الخريف يعني ان تقفل المدارس ، يختفي التلاميذ ، يرحلون الي حيث لايعلم ، يختفي تبعا لذلك الرغيف ، محور فكرة كبي جزلان عن الكون ، إجازة الخريف تمتد الي ستة اشهر لذا ان رحلات كبي جزلان ، تلك الرحلات التي تبدأ في نهايات الليل و تنتهي في الصباح لتبدأ من جديد في ظهيرة حارة ككل نهارات الخريف ، رحلات البحث عن رغيف ، عن ذلك المذاق ، مذاق يقاتل من اجله كبي جزلان الطبيعة بكل عناصرها .
خطواته واسعة تهزم ظلمة الليل ، تقوده لهفة مكثفة ، يتجه من ( كاتشا ) شمالا الي ( كادقلي ) ، يستطيع ان يهرب من كل الوحوش التي في الطريق ، عار كالإنتماء ، كما ولدته أمه ، يشق مهرولا غابات كثيفة ، تهرب من امامه حتي الشياطين ، لا يتوقف ابدا ، لايسمح لخطواته ان يصيبها التعب ، تجلده سياط من الامطار ، يهتدي بالبروق و يصرخ حين ترعد ، لكنه لايتوقف ابدا ، يخوض في وحول لزجة حافيا ، لا يلتفت حتي للاشواك التي تسكن قدميه ، يسبح متحديا تلك الخيران التي تندفع من الجبال ، لايهم ، حتي قوة الإندفاع يهزمها كبي جزلان في بحثه الوجودي عن ذلك المذاق ، عن تلك الرائحة التي تتفتح امامها كل مسامات حواسه الاكثر من خمس ، هذه المسافة التي تطويها خطوات كبي جزلان كانت لواري ( اب اربعة و الابيض ضميرك و السفنجة ) تقطعها في موسم الخريف ، موسم إجازات المدارس في اكثر من عشر ساعات و احيانا ايام بنهاراتها و لياليها بل في معطم الاحوال تتعطل هذه الحركة في الخريف ، لكن كبي جزلان لا يتعطل ابدا ، في نهايات كل ليل من ليالي هذه الشهور الستة ينطلق كبي جزلان الي( كادقلي) ، يصل في الصباح الباكر ، يقف امام فرن ( احمد حريقة ) ، يقث كتمثال ، ينظر الي طاولات الرغيف و هي تخرج من الفرن ، ملوثا بالطين و العرق ، درجة حرارة جسمه يمكنها ان تعادل حرارة الفرن الذي يخرج منه الرغيف ، تتساقط قطرات العرق من جسمه العاري تماما علي الارض ، إن كبي جزلان يمطر ايضا في كل خريف يختفي فيه التلاميذ من المدارس .
في بداية علاقته بأفران ( كادقلي ) تصرف بذلك الجنون الذي يصنعه الحرمان ، كان يهجم علي طاولات الرغيف بعنف غريب ، مداهمة يندر ان تجدها حتي عند اولئك الذين يؤمنون بالنضال المسلح ، ياصابعه العشرة يستطيع ان يكوم عددا من الارغفة ، خطف مرة طاولة كاملة و ركض بها هازما كل اللاحقين به ، إنطلق كما الإعصار و الطاولة تبدو إزاء جسمه الضخم اشبه بصندوق خشبي صغير ، تكررت هذه الافعال الجنونية حتي ان الافران غيرت مواعيدها بعد ان اكتشف ان إخفاءها لطاولات الرغيف لن تمنع كبي جزلان من الحصول عليها ، لاشئ يجدي مطلقا مع الطريقة التي يقتحم بها كبي جزلان ، إستقرت ممارسة كبي جزلان مع افران ( كادقلي ) بعد ان استطاع ( احمد حريقة ) ان يحصر كل تلك الثورة امام فرنه فقط ، رجل كريم استطاع ان يسمح بسماحة لذلك العملاق ، عاشق الرغيف ، ان يأخذ ما يريد و بدون اي عنف و بذلك استطاع ان يفدي اصحاب الافران الاخري .
يأتي كبي جزلان حاملا بين حناياه ذلك الإصرار العميق علي الهدف ، يقف ممطرا عرقه علي الارض ، ينتظر بلهفة تتجاوز منلوجات كل العشاق ، اول طاولة تخرج من الفرن يقتحمها ، يكور بيده الضخمة عددا من الارغفة ، يعصرها بأصابعه حتي تصبح كتلة واحدة متماسكة ، يرفع يده اليسري الي أعلي في أعظم تحية وثنية ، يمسح كتلة الرغيف علي عرق ابطيه و يلتهم و يلتهم و يلتهم .
( احمد حريقة) اصبح يحاسب العاملين في الفرن علي التأخير قياسا علي وقفة كبي جزلان امام الفرن في كل صباح من صباحات خريف الشهور الستة .
علق احد ظرفاء المدينة علي رحلات كبي جزلان مقترحا ان يكتب علي جسده العاري هذه العبارة ( كاتشا كادقلي وبالعكس ) ، مجرد ما إنتهي كبي جزلان من مهمته التاريخية ذات المغزي الوجودي امام فرن ( احمد حريقة ) ضم الي صدره عددا من الارغفة و اتجهت خطواته الي نفس ذلك الطريق الذي مر به ليلا ، هذه المرة الرحلة نهارية ، نهار خريفي ساخن ، يرجع كبي جزلان الي ( كاتشا ) ، يعرق و تغسله الامطار في الطريق ، الشمس تجفف جسده العاري ، تهرب من امامه الوحوش علي الطريق ، يحاول بعضها الإعتداء عليه ، لكن ، الرغبة في الحياة ، في المزيد من الرغيف تهزم تلك المحاولات ، عادة ما يصل كبي جزلان الي ( كاتشا ) بين العصر والمغرب ، تواجهه المدارس فارغة. من حيوية التلاميذ ، ترعبه فكرة الاماكن الخالية ، يتجول داخل فناء المدارس ، يسترخي امام المطبخ ، يؤرقه ذلك البحث عن المذاق الذي يدمنه ، يحاور بصرخاته المحتجة امطار الليل اذا كانت السماء ممطرة ، أكثر ما يثير كراهية الخريف عنده اصوات الضفادع ، محصورا في فكرته الآسرة عن الرغيف اضاع كل تفاصيل علاقاته بسكان المنطقة ، اصبح لا يتعدي حدود المدارس ، هكذا هي رحلات كبي جزلان تبدأ في نهايات الليل ، تنتهي في بدايات الصباح لتبدأ رحلة العودة في نهار خريفي غائظ ليصل بين العصر و الغروب ، يسترخي في مكانه الحميم ، تستفزه الفراغات و تثيره اصوات الضفادع ليبدأ رحلة جديدة ، هكذا و لمده ستة اشهر هي إجازة المدارس في الخريف يكون كبي جزلان قد صارع فيها كل قوي الطبيعة ، تحدي كل صعاب الطريق ، تهرب منه الوحوش و يهرب منها ، يمطر عرقا كما تمطر سحابات الخريف ، الخريف ذلك المسئول المباشر عن حالة كون الاماكن خالية .
هكذا ، حتي جاء يوم ، تحرك فيه كبي جزلان في نهاية الليل ، إرتبك فرن (احمد حريقة) في ذلك الصباح و لم يكن كبي جزلان موجودا ، لم يأت هذا الصباح الي ( كادقلي ) ، هناك في ( كاتشا ) كانت الشمس خلف السحب الداكنة تمارس غروبها الحزين و هي تعرف ان كبي جزلان لم يأت من ( كادقلي ) ، البروق تضئ ظلمة الليل دون ان يلتمع بالاضواء جسد ذلك المارد المقاتل ، أرعدت السماء و لاحظت غياب تلك الصرخة المحتجة و لم تجد الضفادع من تثيره ياصواتها ، غاب كبي جزلان في تلك الرحلة الاخيرة مخلفا ذلك الفراغ في كل مكان كان يجب ان يكون فيه ، هكذا ، بين ( كاتشا ) و ( كادقلي ) ، في رحلته الوجودية ، رحلة البحث عن الرغيف ، كبي جزلان تلتهمه الوحوش .