ـــ أطياف النطق:
هناك في نهايات الأسقاع المجبولة على التمدد نحو اللامتناهي، حيث لا طير يشدو ولا زهرة تغامر بالنماء، هناك حيث لا تستقيظ الشمس إلا وهي تفرك عينيها المغمضتين في انشداه طفولي لخلو المكان، هناك تقيمين إلى جوار كثيب رمل قد نحتت الريح الغاضبة قمم جوانبه في عناية فنان، وأسلمت وجهه نحو الشرق ليبدو مجلّلا بسكون الوحدة والتفرد ككل مظاهر الأرض هناك، لا يعانق إلا الأشعة ليستمد ذهبيته من لونها، ولا يخشى إلا صولة الزوابع حين يدعوها المغيب لتعرب عن أقصى أقصى عنفها.
لقد انتهى امتداد الموماة ولمع جبينها الذي صهرته خيوط الشمس مباشرة وعن قرب، حيث لا واقي لها منها إلا قطع من سحاب تركض باتجاه المجهول تراجع اندفاع السماء ولما تنته أبعاد عينيك، كان لونهما "التارقي" الجاذب لا يمازجه إلا بعض لون ثوبك البارودي الذي ارتخى كلية على طول قامتك الهيفاء في غير ما اختلال ليعطي المكان بعدا أخر.
كنت ــ عكس بعض من صادفتُ ــ سافرة الوجه وقد تفرد أنفك بلطف أرنبة محببة إلى النظر، من إحدى زوايا البناية المحلّاة الواجهة بطلاء بني، كان صوتك يصل في غير ما استئذان، رقيقا يصطحب هفيف ريح مهرّبة من قبضة هجير مزمن، وقد هذبت عذوبة الصوت بعض صرامته ربما رفقا بمن يسمعه لأول مرة مثلنا.
ساعتئذ ارتسمت بسمتك التلقائية كما لو أنها تشع الخصب في اكفهرار الجفاف المخيم على ملامح المدينة، والمدينة ـ رغم حركتها ـ تبدو في طور المستسلم للفتور لاتزال، لكن الذي أجاد فن المحاصرة بحق؛ هو نظراتك الواثقة بطبيعة الحال.
ويسألني بعض من معي:
ـــ هل لأن نظراتها محملة بأطياف النطق يا معلمي؟
ساعتها أشرت عليه ليشركني إمعان النظر، وقد انغلق عليّ الجواب، وخلسة هممنا بقراءتها معا؛ فإذا هي نظرات مثقلة بالمعنى، تنزع نحو الشرود كظباء العرق الشرقي المجاورالتي اتخذت من ضواحي مدينتكم مرعى لها، إنها تشاطرها دوام التحفز للوثوب نحو الأبعد، والأبـــــــعد أبعدان، أبعد في الزمان كقوافل "إهرير" التي توارى حاديها في غفلة من راوي التلال المشرأبة في هرمية متمايزة الأحجام والقامات، وأبعد في المكان كمدينتكم التي هاجرت تلقاء الشمس فأوغلت إلى حيث لا بحر إلا عينيك.
تحت ازرقاق سماء يميزها الصفاء، تستلقي المدينة كما لو أنها خرجت من كنف " العرق الشرقي" على عجل بعد طويل عراك، وخلفها تدندن الريح بأحجية الأماسي فرحا بعودة القناصة، وقرب أرجلها تصطف كثبان متوهجة كأثداء عذارى عاريات يرقصن وسط لهب آبار نفط متأججة، وقد رسمت ينابيع نار مزروعة عبر الفضاء الطلق فتبدو الأرض من حولها بين ظاهر كئيب وعمق متدفق بنعمة الثروات.
ومع ذلك لم تعلني علينا الكلام حين تزوينا قريبا من مجلسك، نتطلع إلى بعض الظل هروبا من حرارة لاهبة وقد تقضى الضحى، كنت فقط وفقط تبتسمين ربما إمعانا في الترحيب بنا على عادتكم.
وبعد فتور اهتمام عادت إلينا عيناك جادتين هذه المرة، لتحملانا إلى زمن تلقّى فيه مرتفع الحجرالرمادي أولى صدمات النقش على خده الموشوم، فحمل الميسم الذي دُمغت به أعناق إبل القبيلة الأم بعد أن باركته الملكة " تين هينان"، وتطوّف به شيخ الثوار " آمود"، قبل أن يستلقي بين ناظريك الرماديين كل صباح.
وقالت مرافقتك تسألنا بعد استئذان:
ــ سواح؟ أم تجار؟
2 ـــ طلائع الطير:
وتبادلنا النظر فيما بيننا، فنحن في الواقع نجهل الحرفتين معا، ثم أشارت إلى دكان للشاي كان قريبا منا، يديره شاب شديد السمرة فاحم الشعر، وقد جلس إلى جواره شيخ هرم نحيل، قد امتدت لحيته إلى أسفل راسمة شكل لسان، كان يستهل حديثه مع زواره بقوله:
ـــ حدثني كبير أجدادي إنه هو من روّض القفر وافترشه قبل استئناس الريح والماء، ثم وفدت أولى طلائع الطير والسحالى.
وما أن حوّلت ناظري الي مرافقي في دهشة، حتى استأنف الشيخ كلامه في ثبات مُدرّس محترف:
ـــ ومنذ لا أحد يدري هاجر أبناؤه الى اليابسة خلف البحر.
وعلق صاحبي ضاحكا:
ـــ يعني (حرقة) مبكرة(1).
فقلت مصوبا:
ـــ بل إنه يقصد الانتشار الأول.
3 ـــ أنشودة البقــــر[:
وبالقرب من المرأة الأسطورة نزل كهل في هيئة إغريقية عاري الزندين والساقين، قال مرافقه قبل أن يجلس كما لو أنه يزيل حيرة الجميع:
ـــ إنه غلام هيرودوت وقد جاء ليصحح انطباع أستاذه عن بقر إفريقيا الذي لم يعد يسير إلى الخلف بعد أن اكتشف الأمام.
فاندفعت المرأة الأسطورة إلى القول:
ـــ بقر كان يسير الى الخلف؟ وكيف؟
وقال المرافق الإغريقي وقد اعتقدنا أنه برتبة راوية:
ـــ يقول غلام هيرودوت ربما حدث ذلك في زمن ما يا سيدتي.
ومن داخل الكوخ المجاور جاء صوت الشيخ الهرم مزمجرا هذه المرة:
ــ حضور المحترم هيرودوت هوما دفع بالبقر إلى السير نحو الخلف يا ابنتي.
ورفعت المرأة الأسطورة رأسها نحوه مبتسمة، قبل أن تتفقدنا بنظرة حملت إلينا صفاء أفاق إيليزي الممتدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هي ما يعرف بالهجرة السريــة أو الهجرة غير الشرعية.
مدينة إيليزي
في 28/29 مارس2011
هناك في نهايات الأسقاع المجبولة على التمدد نحو اللامتناهي، حيث لا طير يشدو ولا زهرة تغامر بالنماء، هناك حيث لا تستقيظ الشمس إلا وهي تفرك عينيها المغمضتين في انشداه طفولي لخلو المكان، هناك تقيمين إلى جوار كثيب رمل قد نحتت الريح الغاضبة قمم جوانبه في عناية فنان، وأسلمت وجهه نحو الشرق ليبدو مجلّلا بسكون الوحدة والتفرد ككل مظاهر الأرض هناك، لا يعانق إلا الأشعة ليستمد ذهبيته من لونها، ولا يخشى إلا صولة الزوابع حين يدعوها المغيب لتعرب عن أقصى أقصى عنفها.
لقد انتهى امتداد الموماة ولمع جبينها الذي صهرته خيوط الشمس مباشرة وعن قرب، حيث لا واقي لها منها إلا قطع من سحاب تركض باتجاه المجهول تراجع اندفاع السماء ولما تنته أبعاد عينيك، كان لونهما "التارقي" الجاذب لا يمازجه إلا بعض لون ثوبك البارودي الذي ارتخى كلية على طول قامتك الهيفاء في غير ما اختلال ليعطي المكان بعدا أخر.
كنت ــ عكس بعض من صادفتُ ــ سافرة الوجه وقد تفرد أنفك بلطف أرنبة محببة إلى النظر، من إحدى زوايا البناية المحلّاة الواجهة بطلاء بني، كان صوتك يصل في غير ما استئذان، رقيقا يصطحب هفيف ريح مهرّبة من قبضة هجير مزمن، وقد هذبت عذوبة الصوت بعض صرامته ربما رفقا بمن يسمعه لأول مرة مثلنا.
ساعتئذ ارتسمت بسمتك التلقائية كما لو أنها تشع الخصب في اكفهرار الجفاف المخيم على ملامح المدينة، والمدينة ـ رغم حركتها ـ تبدو في طور المستسلم للفتور لاتزال، لكن الذي أجاد فن المحاصرة بحق؛ هو نظراتك الواثقة بطبيعة الحال.
ويسألني بعض من معي:
ـــ هل لأن نظراتها محملة بأطياف النطق يا معلمي؟
ساعتها أشرت عليه ليشركني إمعان النظر، وقد انغلق عليّ الجواب، وخلسة هممنا بقراءتها معا؛ فإذا هي نظرات مثقلة بالمعنى، تنزع نحو الشرود كظباء العرق الشرقي المجاورالتي اتخذت من ضواحي مدينتكم مرعى لها، إنها تشاطرها دوام التحفز للوثوب نحو الأبعد، والأبـــــــعد أبعدان، أبعد في الزمان كقوافل "إهرير" التي توارى حاديها في غفلة من راوي التلال المشرأبة في هرمية متمايزة الأحجام والقامات، وأبعد في المكان كمدينتكم التي هاجرت تلقاء الشمس فأوغلت إلى حيث لا بحر إلا عينيك.
تحت ازرقاق سماء يميزها الصفاء، تستلقي المدينة كما لو أنها خرجت من كنف " العرق الشرقي" على عجل بعد طويل عراك، وخلفها تدندن الريح بأحجية الأماسي فرحا بعودة القناصة، وقرب أرجلها تصطف كثبان متوهجة كأثداء عذارى عاريات يرقصن وسط لهب آبار نفط متأججة، وقد رسمت ينابيع نار مزروعة عبر الفضاء الطلق فتبدو الأرض من حولها بين ظاهر كئيب وعمق متدفق بنعمة الثروات.
ومع ذلك لم تعلني علينا الكلام حين تزوينا قريبا من مجلسك، نتطلع إلى بعض الظل هروبا من حرارة لاهبة وقد تقضى الضحى، كنت فقط وفقط تبتسمين ربما إمعانا في الترحيب بنا على عادتكم.
وبعد فتور اهتمام عادت إلينا عيناك جادتين هذه المرة، لتحملانا إلى زمن تلقّى فيه مرتفع الحجرالرمادي أولى صدمات النقش على خده الموشوم، فحمل الميسم الذي دُمغت به أعناق إبل القبيلة الأم بعد أن باركته الملكة " تين هينان"، وتطوّف به شيخ الثوار " آمود"، قبل أن يستلقي بين ناظريك الرماديين كل صباح.
وقالت مرافقتك تسألنا بعد استئذان:
ــ سواح؟ أم تجار؟
2 ـــ طلائع الطير:
وتبادلنا النظر فيما بيننا، فنحن في الواقع نجهل الحرفتين معا، ثم أشارت إلى دكان للشاي كان قريبا منا، يديره شاب شديد السمرة فاحم الشعر، وقد جلس إلى جواره شيخ هرم نحيل، قد امتدت لحيته إلى أسفل راسمة شكل لسان، كان يستهل حديثه مع زواره بقوله:
ـــ حدثني كبير أجدادي إنه هو من روّض القفر وافترشه قبل استئناس الريح والماء، ثم وفدت أولى طلائع الطير والسحالى.
وما أن حوّلت ناظري الي مرافقي في دهشة، حتى استأنف الشيخ كلامه في ثبات مُدرّس محترف:
ـــ ومنذ لا أحد يدري هاجر أبناؤه الى اليابسة خلف البحر.
وعلق صاحبي ضاحكا:
ـــ يعني (حرقة) مبكرة(1).
فقلت مصوبا:
ـــ بل إنه يقصد الانتشار الأول.
3 ـــ أنشودة البقــــر[:
وبالقرب من المرأة الأسطورة نزل كهل في هيئة إغريقية عاري الزندين والساقين، قال مرافقه قبل أن يجلس كما لو أنه يزيل حيرة الجميع:
ـــ إنه غلام هيرودوت وقد جاء ليصحح انطباع أستاذه عن بقر إفريقيا الذي لم يعد يسير إلى الخلف بعد أن اكتشف الأمام.
فاندفعت المرأة الأسطورة إلى القول:
ـــ بقر كان يسير الى الخلف؟ وكيف؟
وقال المرافق الإغريقي وقد اعتقدنا أنه برتبة راوية:
ـــ يقول غلام هيرودوت ربما حدث ذلك في زمن ما يا سيدتي.
ومن داخل الكوخ المجاور جاء صوت الشيخ الهرم مزمجرا هذه المرة:
ــ حضور المحترم هيرودوت هوما دفع بالبقر إلى السير نحو الخلف يا ابنتي.
ورفعت المرأة الأسطورة رأسها نحوه مبتسمة، قبل أن تتفقدنا بنظرة حملت إلينا صفاء أفاق إيليزي الممتدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هي ما يعرف بالهجرة السريــة أو الهجرة غير الشرعية.
مدينة إيليزي
في 28/29 مارس2011