صـورة زاهيـة رسمها جدي في عودته من (البلد) وهي الكلمة الوحيدة التي تعني مركز مروي وقراها التي له في كل واحدة منها عم أو خال وحتى جد, كنا نسأله بشغف وتأتينا منه الأجوبة في استحسان واستملاح لكل ما بالبلد ما كان يشابهه في قصصه سوى روايته عن رحلته لحج بيت الله الحرام, مما كان يدفعنا وبقوة للتوسل المتواصل أمامه بأخذنا لزيارة (البلد), وقد كان.
في البدء كانت أم خير أهم امرأة في البلدة هي (في الحساب) النسبي جدة لجدي أسطورة في كل شئ, بدءا من عمرها الذي فاق المائة والعشرون عدا نقداً وهي في أحسن حالاتها لا تشكو من شئ سوى قلة المحصول بعد موسم التساب, كانت قفاف تمرها تبلغ حتى الفاشر والدمازين حيث لها أحفاد وأحفاد أحفاد في كل صقع من أرض (الصعيد) يتلوها وداعـة وهو بدء الحكي وختامه رجل يعمل عشرة في واحد, بعد الزرع والحش والقلع والبيع والشراء كان يرعى زوجتان وعشرات البيوت لأخوته المسافرين ضرباً في الأرض كما كان إمام الصلاة وخليفة الذكر وقاضي المنازعات كان كل شئ, والأهم من مناصبه أنه (صمد) الساقييي.
يأتي بعده سقد وطائع, والجاموس رحال, كان سقد, وهذا اسمه, نشطاً مرناً مربوع القامة (يشنق) طاقية حمراء, ويرتدي العراقي والسروال الطويل وكان يحمل (قدوماً) لا يفارقه, عيناه عينا الصقر كثير الزغللة بهما. تقع غالبية أعمال إصلاح الساقييي على سقد خاصة تركيب القواديس وشد الأربطة وإبدال الألواح المكسورة بإحدى (نصيحة) من نجر الطلح القادم من وادي الملك أو من سكب السلم المقطوع من أودية شقت العتامير كما كان عليه دق الخوازيق وتركيز الشعب وكل يومه ينقضي في الأعمال الدؤوبة حشاً وتقفيزاً وخوزقة وتجبيداً ودقاً وسحباً وعزقاً لا يكاد ينقطع من عمل إلى عمل,
لم يعرف أحد من الذين سألناهم أين يبيت سقد ولا من أين يأتي ولا إلى أين يذهب كما لم يعرف أحد من الذين اهتممنا بسؤالهم عن قصص البلد عن قرابتنا بسقد رغم أن قرابتنا بأي كائن في (البلد) كانت تستدعي اعتدالاً في الجلسـة من حبوبتنا (بت الملك) وبدءاً في حساب يصعب حصره إذا يطلع حتى الجد العاشـر وربما وصل إلى سوار وكدنقا أو ربما اتصل إلى طمبل وصبير وهي الأمور التي تدخل الجدة في مناحـة الملوك فراس الخيل الذين قضوا نحبهم من (الركاب إلى التراب) مما يجعل تربتهم مقدسة إن وقعت بها يمين فلا بد نافذة, لكن الغالب هو أن هذه السير كلما ثارت تدخل الحبوبة في أشجان لا نهاية لها تنسى معها ما كنا نسألها عنه من نسب أو صلة أو أحاج ولذلك كنا نحاول إبعادها عن سير أسلافها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. أما الرواية عن طائع فقد كانت أنه معروف الأصل والفصل والعمل وكل أمره سهل لا يخرج عن علف الجاموس رحال أو استرضاءه بضرب يسير على فخذه الأيمن فيسرع في السير جاراً معه نواحاً لا يكاد ينقطع هو نواح أعضاء الساقية في ترتيل حميم لا يخالك أنه منقطع عن هذه البيئة بحنانها البالغ. لكن طائعاً كان خير المنغمس في دأب متصل هو الركوب خلف الجاموس رحال شاداً من أزره دافعاً له في رحلته الدائرية رافعاً الماء إلى جرف التحتانيـة لسقيا البرسيم واب سبعين والخضروات الآهلة بكل خيرات القرية المعطاء. ما كان أحد يناسبه اسمه مثلما ناسب طائعاً الاسم المسبق الذي اطلق عليه. كان مثالاُ في الاستغراق المتسامح, وما كان أحد تطاوعه مهنته ويلازمها مثلما تلازم المهنة طائعاً في اتساق نبيل, كان الدوران حول شعبة مركز الساقيي هو الوقت الأطول الذي يمضي من نهارية طائع كل الوقت لا يقطع عليه الاستغراق ذلك إلا أن يترنح لوح أو ينكسر قادوس فخاري يجعل الصمد وداعة يلعن دقاق الطين الذين صاغوا هذا القادوس سئ الحال رفعاً إلى أفران قنا من جهة الصعيد المصري كما يلعن معه إهمال طائع الذي ينسب غالباً إلى أبناء هذا الزمان وكل ذلك عائد إلى الخسارة الكبيرة التي سببهـا انكسار القادوس اللعين.
كان مجلس أم خير عامراً كل صبح يؤدي لها كل الناس فروض ولاء وطاعة وترد إليها أخبار الإنتاج من الجابرية وحتى الكاسنجر وكانت لا ترضى عن شئ منها فما كان بالأمس عندها أفضل مما يكون اليوم.
كان وجهها ذلك اليوم متهللاً حين وقف اللوري (السفنجة) وجرى الصغار في القرية مبشرين بقدوم ناس (الصعيد), كان الولوج إلى مجلس أم خير مهيباً, كل الأيدي تشير إلى ضرورة المرور لديها للسلام قبل الدخول عند الأقارب, لم يكن أحد من القرية بعيداً, قالت العجوز : (قرّبوهم أنّـ– نـشمّهن ) وكأنها تعرف بحاسة الشم أكثر كانت قبضتها قوية ولم توفر الخدود والرقاب والآذان أيضاً وكانت تشم بأنفاس عميقة كمدخني النارجيلة, ولدهشتنا أخذت تفرق بين أبناء الجد الواحد صعوداً إلى : دا ولد نفيسي, ودا ولد مريـم .. .. بعد كل شمّة ولم تفارقنا الدهشة من فراستها إلى اليوم.
في عمرنا ذاك كان طائع هو الأحب بالنسبة إلينا في القرية الوادعة التي خلفها الجد الكبير توم وكنا نحسد طائع على اللعبة الكبيرة التي يركب عليها دون عناء يذكر سوى الفرقعة التي يحدثها بالصوت (الفرطوق) خلف الجاموس رحّال فيسحب الساقية بصوتها الحنون ودمعها الهاطل فتروي على بكائها ا لحقول الخضر وكنا نحبه لتسامحه وصبره الأكيد وهو يرمي لنا عجوة (المشرق) السكرية بلا حساب. كنّا نقدره عكس الجميع فقد كان يفتح لنا أبواباً من اللهو كلما غاب الرقيب والإشارة للعم حجير القاسي. لا شئ وراء طائع سوى الدوران بالساقية ولا يتوقف عن ذلك سوى لأكل (حرف) القراصة الذي كان يرده من بيوت بنات أم خير بالتتالي ولا تسمع جواره سوى أنين الساقية وخوار الثور رحال وترديده لحداء متقطع ورثه من حضـوره النادر لقراءة (المولد) دون إجادة لذلك الحـداء.
الذي بقي في الذاكرة لندرته هو مزاح العم الـ (حجير) , ذلك المزاح النادر من الرجل قاسي الملامح جاد التقاطيع, كان يسألنا : من صديقكم في البلد ؟ كان يتوقع أن نذكر اسم ابنه النجيب, جعفر فنخيّب ظنه بصراخ عفوي (طااااااايييييع) , فيتجهم وجهه زيادة , ويمد لحيته إلى الأمام قائلاً : تربال رفيـق تربال, لا لبـس نجووووووم ولا عـدل حـاااااال.
عرفنا بعد سنين أن لبس النجوم هو حال من يلتحق بالميري العسكري, ودليل العم حجير أن المسكين طائع لا يزال هو تربال الساقييي التي أصبحت وابور الديزل.
حقاً إن التربال رفيق التربال...
في البدء كانت أم خير أهم امرأة في البلدة هي (في الحساب) النسبي جدة لجدي أسطورة في كل شئ, بدءا من عمرها الذي فاق المائة والعشرون عدا نقداً وهي في أحسن حالاتها لا تشكو من شئ سوى قلة المحصول بعد موسم التساب, كانت قفاف تمرها تبلغ حتى الفاشر والدمازين حيث لها أحفاد وأحفاد أحفاد في كل صقع من أرض (الصعيد) يتلوها وداعـة وهو بدء الحكي وختامه رجل يعمل عشرة في واحد, بعد الزرع والحش والقلع والبيع والشراء كان يرعى زوجتان وعشرات البيوت لأخوته المسافرين ضرباً في الأرض كما كان إمام الصلاة وخليفة الذكر وقاضي المنازعات كان كل شئ, والأهم من مناصبه أنه (صمد) الساقييي.
يأتي بعده سقد وطائع, والجاموس رحال, كان سقد, وهذا اسمه, نشطاً مرناً مربوع القامة (يشنق) طاقية حمراء, ويرتدي العراقي والسروال الطويل وكان يحمل (قدوماً) لا يفارقه, عيناه عينا الصقر كثير الزغللة بهما. تقع غالبية أعمال إصلاح الساقييي على سقد خاصة تركيب القواديس وشد الأربطة وإبدال الألواح المكسورة بإحدى (نصيحة) من نجر الطلح القادم من وادي الملك أو من سكب السلم المقطوع من أودية شقت العتامير كما كان عليه دق الخوازيق وتركيز الشعب وكل يومه ينقضي في الأعمال الدؤوبة حشاً وتقفيزاً وخوزقة وتجبيداً ودقاً وسحباً وعزقاً لا يكاد ينقطع من عمل إلى عمل,
لم يعرف أحد من الذين سألناهم أين يبيت سقد ولا من أين يأتي ولا إلى أين يذهب كما لم يعرف أحد من الذين اهتممنا بسؤالهم عن قصص البلد عن قرابتنا بسقد رغم أن قرابتنا بأي كائن في (البلد) كانت تستدعي اعتدالاً في الجلسـة من حبوبتنا (بت الملك) وبدءاً في حساب يصعب حصره إذا يطلع حتى الجد العاشـر وربما وصل إلى سوار وكدنقا أو ربما اتصل إلى طمبل وصبير وهي الأمور التي تدخل الجدة في مناحـة الملوك فراس الخيل الذين قضوا نحبهم من (الركاب إلى التراب) مما يجعل تربتهم مقدسة إن وقعت بها يمين فلا بد نافذة, لكن الغالب هو أن هذه السير كلما ثارت تدخل الحبوبة في أشجان لا نهاية لها تنسى معها ما كنا نسألها عنه من نسب أو صلة أو أحاج ولذلك كنا نحاول إبعادها عن سير أسلافها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. أما الرواية عن طائع فقد كانت أنه معروف الأصل والفصل والعمل وكل أمره سهل لا يخرج عن علف الجاموس رحال أو استرضاءه بضرب يسير على فخذه الأيمن فيسرع في السير جاراً معه نواحاً لا يكاد ينقطع هو نواح أعضاء الساقية في ترتيل حميم لا يخالك أنه منقطع عن هذه البيئة بحنانها البالغ. لكن طائعاً كان خير المنغمس في دأب متصل هو الركوب خلف الجاموس رحال شاداً من أزره دافعاً له في رحلته الدائرية رافعاً الماء إلى جرف التحتانيـة لسقيا البرسيم واب سبعين والخضروات الآهلة بكل خيرات القرية المعطاء. ما كان أحد يناسبه اسمه مثلما ناسب طائعاً الاسم المسبق الذي اطلق عليه. كان مثالاُ في الاستغراق المتسامح, وما كان أحد تطاوعه مهنته ويلازمها مثلما تلازم المهنة طائعاً في اتساق نبيل, كان الدوران حول شعبة مركز الساقيي هو الوقت الأطول الذي يمضي من نهارية طائع كل الوقت لا يقطع عليه الاستغراق ذلك إلا أن يترنح لوح أو ينكسر قادوس فخاري يجعل الصمد وداعة يلعن دقاق الطين الذين صاغوا هذا القادوس سئ الحال رفعاً إلى أفران قنا من جهة الصعيد المصري كما يلعن معه إهمال طائع الذي ينسب غالباً إلى أبناء هذا الزمان وكل ذلك عائد إلى الخسارة الكبيرة التي سببهـا انكسار القادوس اللعين.
كان مجلس أم خير عامراً كل صبح يؤدي لها كل الناس فروض ولاء وطاعة وترد إليها أخبار الإنتاج من الجابرية وحتى الكاسنجر وكانت لا ترضى عن شئ منها فما كان بالأمس عندها أفضل مما يكون اليوم.
كان وجهها ذلك اليوم متهللاً حين وقف اللوري (السفنجة) وجرى الصغار في القرية مبشرين بقدوم ناس (الصعيد), كان الولوج إلى مجلس أم خير مهيباً, كل الأيدي تشير إلى ضرورة المرور لديها للسلام قبل الدخول عند الأقارب, لم يكن أحد من القرية بعيداً, قالت العجوز : (قرّبوهم أنّـ– نـشمّهن ) وكأنها تعرف بحاسة الشم أكثر كانت قبضتها قوية ولم توفر الخدود والرقاب والآذان أيضاً وكانت تشم بأنفاس عميقة كمدخني النارجيلة, ولدهشتنا أخذت تفرق بين أبناء الجد الواحد صعوداً إلى : دا ولد نفيسي, ودا ولد مريـم .. .. بعد كل شمّة ولم تفارقنا الدهشة من فراستها إلى اليوم.
في عمرنا ذاك كان طائع هو الأحب بالنسبة إلينا في القرية الوادعة التي خلفها الجد الكبير توم وكنا نحسد طائع على اللعبة الكبيرة التي يركب عليها دون عناء يذكر سوى الفرقعة التي يحدثها بالصوت (الفرطوق) خلف الجاموس رحّال فيسحب الساقية بصوتها الحنون ودمعها الهاطل فتروي على بكائها ا لحقول الخضر وكنا نحبه لتسامحه وصبره الأكيد وهو يرمي لنا عجوة (المشرق) السكرية بلا حساب. كنّا نقدره عكس الجميع فقد كان يفتح لنا أبواباً من اللهو كلما غاب الرقيب والإشارة للعم حجير القاسي. لا شئ وراء طائع سوى الدوران بالساقية ولا يتوقف عن ذلك سوى لأكل (حرف) القراصة الذي كان يرده من بيوت بنات أم خير بالتتالي ولا تسمع جواره سوى أنين الساقية وخوار الثور رحال وترديده لحداء متقطع ورثه من حضـوره النادر لقراءة (المولد) دون إجادة لذلك الحـداء.
الذي بقي في الذاكرة لندرته هو مزاح العم الـ (حجير) , ذلك المزاح النادر من الرجل قاسي الملامح جاد التقاطيع, كان يسألنا : من صديقكم في البلد ؟ كان يتوقع أن نذكر اسم ابنه النجيب, جعفر فنخيّب ظنه بصراخ عفوي (طااااااايييييع) , فيتجهم وجهه زيادة , ويمد لحيته إلى الأمام قائلاً : تربال رفيـق تربال, لا لبـس نجووووووم ولا عـدل حـاااااال.
عرفنا بعد سنين أن لبس النجوم هو حال من يلتحق بالميري العسكري, ودليل العم حجير أن المسكين طائع لا يزال هو تربال الساقييي التي أصبحت وابور الديزل.
حقاً إن التربال رفيق التربال...