دراسات في التراث أحمد بن فارس بن زكريا الرازي أبو الحسين - الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها.. الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وبه نستعين، وصلّى الله تعالى عَلَى محمد وآله.

قال الشيخُ أبو الحسينِ أحمدُ بنُ فارِسَ أدام الله تأييده:

هَذَا الكتاب "الصاحبي" فِي فقه اللغةِ العربيةِ وسننِ العربِ فِي كلامها. وإنَّما عَنْوَنْتُه بهذا الاسم لأنّي لما أَلَّفْتُه أَوْدعْتُه خزانةَ الصَّاحبِ الجليل كافي الكفاة، عَمَرَ اللهُ عِراص العلم والأدب والخير والعدل بطول عمره، تَجمُّلاً بذلك وتحسُّناً، إذ كَانَ يقبَلَه كافي الكفاة من علم وأدب مَرضِيّاً مقبولاً، وَمَا يَرْذُلُه أَوْ يَنفيه منفيّاً مَرْذولاً، ولأنّ أحسنَ مَا فِي كتابنا هَذَا مأخوذٌ عنه ومُفاد منه.

فأقول: إِن لعلم العرب أصلاً وفرعاً: أمَّا الفرعُ فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا: "رجل" و "فرس" و "طويل" و "قصير". وهذا هو الَّذِي يُبدأ بِهِ عند التعلُّم. وأمَّا الأصلُ فالقولُ عَلَى موضوع اللغة وأوَّليتها ومنشأها، ثُمَّ عَلَى رسوم العرب فِي مخاطبتها، وَمَا لَهَا من الافْتِنان تحقيقاً ومجازاً.

والنّاسُ فِي ذَلِكَ رجلانِ: رجلٌ شُغل بالفرع فلا يَعْرِف غيرَه، وآخَرُ جَمع الأمريْنِ معاً، وهذه هي الرُّتبة العليا، لأن بِهَا يُعلم خطابُ القرآن والسُّنة، وعليها يُعول أهلُ النَّظر والفُتيا، وذلك أن طالبَ العلم العُلويُ يكتفي من سماء "الطويل" باسم الطويل، ولا يَضِيرُه أن لا يعرف "الأشَقَّ" و "الأَمقَّ" وإن كَانَ فِي علم ذَلِكَ زيادةُ فَضل.

وإنَّما لَمْ يَضِره خفاءُ ذَلِكَ عَلَيْهِ لأنَّه لا يَكاد يجدُ منه فِي كتاب الله جل ثناؤه فيُحْوَج إِلَى علمه؛ ويقل مثله أيضاً فِي ألفاظ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم، إذ كَانَتْ ألفاظُه صلى الله عَلَيْهِ وسلم هي السّهلة العَذْبَة.

ولو أنه لَمْ يَعْلم توسُّع العرب فِي مخاطباتها لَعَيَّ بكثير من علم مُحْكَم الكتاب والسنَّة، ألا تسمع قول الله جل ثناؤه: "ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعون ربَّهم بالغَداةِ والعَشِيِّ يُريدون وجهَه" إِلَى آخر الآية? فسِرُّ هَذِهِ الآية ي نَطْقها لا يكون بمعرفةٍ غريب اللغة والوَحْشيِّ من الكلام، وإنَّما معرفته بغير ذَلِكَ مما لعلَّ كتابنا هَذَا يأتي عَلَى أكثره بعون الله تعالى.

والفرق بَيْنَ معرفة الفروع ومعرفة الأصول أن مُتَوسِّماً بالأدب لو سُئل عن "الجَزْم" و "التَّسوِيد" فِي علاج النوق، فتوقف أَوْ عيَّ بِهِ أَوْ لَمْ يعرفه، لَمْ ينقصه ذَلِكَ عند أهل المعرفة نقصاً شائناً، لأن كلام العرب أكثر من أن يُحصى.

ولو قيل لَهُ: هل تتكلم العربُ فِي النّفي بما لا تتكلم بِهِ فِي الإثبات، ثُمَّ لَمْ يعلمه لنَقْصه ذَلِكَ فِي شريعة الأدب عند أهل الأدب، لا أنَّ ذَلِكَ يُرْدد دينه أَوْ يَجُرُّه لمأثم.

كما أن مُتوسِّماً للنَّحو لو سُئل عن قول القائل:

لَهِنّكِ من عبْسـية لـوسـيمة = عَلَى هَنَوات كاذبٌ من يقولُها

فتوقَّف أَوْ فكَّر أَوْ استمْهل لكان أمرُهُ فِي ذَلِكَ عند أهل الفضل هَيِّناً، لكن لو قيل لَهُ مكان "لَهِنَّكِ" مَا أصل القَسم، وكم حروفه، وَمَا الحروفُ الخمسة المشبَّهة بالأفعال الَّتِي يكون الاسم بعدها منصوباً وخبرُهُ مرفوعاً? فلم يُجب لَحَكِم عَلَيْهِ بأنَّه لَمْ يُشامَّ صِناعةَ النحو فقط. فهذا الفصلُ بَيْنَ الأمرين. والذي جمعناه فِي مؤلَّفنا هَذَا مفرَّق فِي أصناف العلماء المتقدمين رضي الله عنهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء. وإنَّما لَنَا فِيهِ اختصارُ مبسوط أَوْ بسطُ مختصرٍ أَوْ شرحُ مشْكلٍ أَوْ جمعُ متفرقٍ. فأوَّل ذَلِكَ:

باب القول عَلَى لغة العرب
أتوقيف، أم اصطلاح
أقول: إِن لغة العرب توقيف. ودليل ذَلِكَ قوله جلّ ثناؤه: "وعلَّم أدمَ الأسماء كلَّها" فكان ابن عبّاس يقول: علّمه الأسماء كلّها وهي هَذِهِ الَّتِي يتعارَفُها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشباه ذَلِكَ من الأمم وغيرها. وروى خُصَيْف عن مُجاهد قال: علمه اسم كلّ شيء. وقال غيرهما: إنما علَّمه أسماء الملائكة. وقال آخرون: علّمه ذرّيته أجمعين. والذي نذهب إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا ذكرناه عن ابن عباس. فإن قال قائل: لَوْ كَانَ ذَلِكَ كما تذهب إِلَيْهِ لقال: "ثُمَّ عرضهن أَوْ عرضها" فلما قال "عرضهم" عُلم أن ذَلِكَ لأعيان بني آدمَ أَوْ الملائكة، لأن موضوع الكناية فِي كلام العرب يُقال لما يَعقِل "عرضهم" ولما لا يعقل "عرضها أَوْ عرضهن" - قيل لَهُ: إنما قال ذَلِكَ والله أعلم لأنه جَمع مَا يَعقل وَمَا لا يعقل فغلَّب مَا يعقل، وهي سنّة من سنن العرب، أعني باب التغليب. وذلك كقوله جل ثناؤه: "والله خَلق كل دابة من ماء: فمنهم من يمشي عَلَى بطنه، ومنهم مَن يمشي عَلَى رجليْن، ومنهم مَنْ يمشي عَلَى أربع" فقال: "منهم" تغليباً لمن يمشي عَلَى رجلين وهم بنو آدم. فإن قال: أفتقولون فِي قولنا سيف وحُسام وعَضب إِلَى غير ذَلِكَ من أوصافه أنه توقيف حَتَّى لا يكون شيء منه مُصْطَلَحاً عَلَيْهِ? قيل لَهُ: كذلك نقول: "والدليل عَلَى صِحَّة مَا نذهب إِلَيْهِ إجماعُ العلماء عَلَى احتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فِيهِ أَوْ يتفقون عَلَيْهِ، ثُمَّ احتجاجهم بأشعارهم، ولو كَانَتْ اللغة مُواضَعَةً واصطلاحاً لَمْ يكن أولئك فِي الاحتجاج بهم بأولى منا فِي الاحتجاج لَوْ اصطلحنا عَلَى لغة اليوم ولا فرق. ولعلَّ ظاناً أن اللغة الَّتِي دلَلنا عَلَى أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وَفِي زمان واحد. وَلَيْسَ الأمر كذلك، بل وقّف الله جلَّ وعزَّ آدمَ عليه السلام عَلَى مَا شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إِلَى علمه فِي زمانه، وانتشر من ذَلِكَ مَا شاء الله، ثُمَّ علَّم بعد آدم عليه السلام من عرَب الأنبياء صلوات الله عليهم نبياً نبياً مَا شاء أن يعلمه، حَتَّى انتهى الأمر إِلَى نبيّنا محمد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وآله وسلم، فآتاه الله جلَّ وعزَّ من ذَلِكَ مَا لَمْ يؤته أحداً قبله، تماماً عَلَى مَا أحسنَه من اللغة المتقدمة. ثُمَّ قر الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت. فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمِّل وجد من نُقَّاد العلم من ينفيه ويُرده. ولقد بلغنا عن أبي الأسود أن أمراً كلمه ببعض مَا أنكره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال: "هَذِهِ لغو لَمْ تبلغك" فقال لَهُ: "يَا ابن أخي لا خير لَكَ فيما لَمْ يبلغني" فعرَّفه بلطف أن الذي تكلم بِهِ مختلَق. وخلَّةٌ أخرى أنه لَمْ يبلغنا أن قوماً من العرب فِي زمانٍ يُقارب زمانَه أجمعوا عَلَى تسمية شيء من الأشياء مصطلِحِين عَلَيْهِ، فكنا نَستدِل بذلك عَلَى اصطلاح كَانَ قبلهم. وقد كَانَ فِي الصحابة رضي الله تعالى عنهم - وهم البُلغاء والفُصحاء - النظر فِي العلوم الشريفة مَا لا خفاء بِهِ. وَمَا علِمناهم اصطلحوا عَلَى اختراع لغةٍ أَوْ إحداث لفظةٍ لَمْ تتقدمهم. ومعلوم أن حوادث العالم لا تنقضي إِلاَّ بانقضائه ولا تزول إِلاَّ بزواله، وَفِي ذَلِكَ دليل عَلَى صِحة مَا ذهبنا إِلَيْهِ من هَذَا الباب.

باب القول عَلَى الخط العربي
وأول من كتب بِهِ يُروى أن أول من كتب الكتاب العربيَّ والسّريانيّ والكُتُب كلها آدم عليه السلام، قبل موته بثلاث مئة سنة، كتبها فِي طين وطبخه. فلما أصاب الأرضَ والغَرقُ وجد كلُّ قوم كتاباً فكتبوه، فأصاب إسماعيلُ عليه السلام الكتابَ العربيّ.

وكان ابنُ عباس يقول: أوّلُ من وضع الكتاب العربيّ إسماعِيلُ عليه السلام، وضعه عَلَى لفظه ومَنْطِقه.

والرواياتُ فِي هَذَا الباب تكثر وتختلف. والذي نقوله فِيهِ: إن الخطّ توقيف، وذلك لِظاهِر قوله عز وجل: "إِقرأ باسمِ ربِّك الَّذِي خَلَق، خَلَق الإنسانَ من عَلَق، إِقرأ وربُّكَ الأكرم الَّذِي علّم بالقلم، علّم الإنسان مَا لَمْ يعلم" وقال جلَّ ثناؤه: "والقلم وَمَا يسطرون" وإذا كَانَ كذا فليس ببعيد أن يوَقِّفَ آدمَ عليه السلام أن غيرَه من الأنبياء عليهم السلام عَلَى الكتاب. فأما أن يكون مُخْتَرَع اخترعه من تِلْقاءِ نفسه فشيءٌ لا تَعْلم صِحته إِلاَّ من خبر صحيح. وزعم قوم أن العرب العاربة لَمْ تعرف هَذِهِ الحروف بأسمائها، وأنهم لَمْ يعرفوا نحواً ولا إعراباً ولا رفعاً ولا نصباً ولا همزاً. قالوا والدليل عَلَى ذَلِكَ مَا حكاه بعضهم عن بعض الأعراب أنه قيل لَهُ: أتهمز إسرائيل? فقال: "إني إذن لَرَجُل سوء!" قالوا: وإنّما قال ذَلِكَ لأنه لَمْ يعرف من الهمز إِلاَّ الضغط والعصر. وقيل لآخر أتجرُّ فلسطين? فقال: "إني إذن لقويٌّ!"? قالوا: وسُمع بعض فصحاء العرب يُنشد: نحن بني عَلْقمةَ الأخيارا فقيل لَهُ: لم نصبت "بني"? فقال: مَا نصبته، وذلك أنه لَمْ يعرف من النّصب إِلاَّ إِسناد الشيء. قالوا: وحكى الأخفش عن أعرابي فصيح أنه سُئل أن يُنشد قصيدة عَلَى الدال فقال: وَمَا الدال? وحكي أن أبا حيّة النُّميري سُئل أن يُنشد قصيدة عَلَى الكاف فقال:

كفى بالنَّأي من أسماء كافِ
وَلَيْسَ لِسُقمها إِذ طال شافِ

قلنا: والأمر فِي هَذَا بخلاف مَا ذهب إِلَيْهِ هؤلاء ومذهبنا فِيهِ التوقيف فنقول: إن أسماء هَذِهِ الحروف داخلة فِي الأسماء الَّتِي أعلم الله جلَّ ثناؤه أنه علَّمها آدم عليه السلام، وَقَدْ قال جل وعزَّ: "علّمه البيان"، فهل يكون أوّلُ البيان إِلاَّ علم الحروف الَّتِي يقع بِهَا البيان? ولِمَ لا يكون الذي علَّم آدم عليه السلام الأسماء كلّها هو الَّذِي علّمه الألِفَ والباء والجيم والدال? فأما من حُكي عنه من الأعراب الَّذِين لَمْ يعرفوا الهمز والجرّ والكاف والدال فإنَّا لَمْ نزعم أن العرب كلها مدراً ووبراً قَدْ عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وَمَا العربُ فِي قديم الزمان إِلاَّ كنحن اليومَ: فما كلٌّ يعرف الكتابة والخطّ والقراءة، وأبو حيّة كَانَ أمس؛ وَقَدْ كَانَ قبله بالزمن الأطول من يعرف الكتابة ويخطّ ويقرأ، وَكَانَ فِي أصحاب رسول الله صلى الله تعالى سلم كاتبون منهم أمير المؤمنين عليٌّ صلوات الله تعالى عَلَيْهِ وعثمان وزيد وغيرهم. فحدثني أبو الحسن عليُّ بنُ إبراهيم القَطَّان قال أخبرنا عليّ بن عبد العزيز عن عن أبي عبيد قال: حدثنا ابن مَهْدِيّ عن ابن المبارك قال حدثني أبو واثل شيخٌ من أهل اليمن عن هانئ قال: كنت عند عثمان رضي الله تعالى عنه، وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتِف شاه إِلَى أبي بن كعب فِيهَا "لَمْ يتسنَّ" و "فأمهل الكافرين" و "لا تبديل للخلق" قال فدعا بالدّواة فمحا إحدى اللامين وكتب "لخلق الله" ومحا فأمهل وكتب "فَمهِّل" وكتب "لَمْ يَتَسَنَّهْ" ألحقَ فِيهَا هاءً. أفيكون جهلُ أبي حيّة بالكتابة حُجةً عَلَى هؤلاء الأئمة?. والذي نقوله فِي الحروف هو قولنا فِي الإعراب والعروض. والدليل عَلَى صِحة هَذَا وأن القوم قَدْ تداوَلوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحُطَيْئة الَّتِي أوّلها:

شاقَتْكَ أظعانٌ لِلَيلَى
دون ناظرة بواكر

فَنَجِدُ قوافيها كلَّها عند الترنُّم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علمُ الحطيئة بذلك لأشبهَ أن يختلف إعرابُها، لأن تساويها فِي حركة واحدة اتفاقاً من غير قصد - لا يكاد يكون. فإن قال قائل: فقد تواترت الرّوايات بأن أبا الأسود أولُ من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم فِي العروض. قيل لَهُ: نحن لا ننكر ذَلِكَ، بل نقول إن هذين العِلْمَين قَدْ كانا قديماً وأتت عليهما الأيام وقلاّ فِي أيدي الناس، ثُمَّ جددهما هذان الإمامان، وَقَدْ تقدم دليلنا فِي معنى الإعراب. وأما العروض فمن الدليل عَلَى أنه كَانَ متعارفاً معلوماً اتفاقُ أهل العلم عَلَى أن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا أَوْ من قال منهم: "إنه شعر" فقال الوليدُ بنُ المغيرة منكراً عليهم "لقد عرضتُ مَا يقرؤه محمد عَلَى أقراء الشعر، هزجه ورجزه وكذا وكذا، فلم أرَه يشبه شيئاً من ذلك" أفيقول الوليدُ هَذَا، وهو لا يعرف بحور الشعر?. وَقَدْ زعم ناس أنّ علوماً كَانَتْ فِي القرون الأوائل والزمن المتقادم، أنها دَرسَت وجُدّدت منذ زمان قريب، وترجمت وأصلحت منقولة من لغة إِلَى لغة. وليس مَا قالوا ببعيد، وإن كَانَتْ تِلْكَ العلوم بحمد الله وحسن توقيفه مرفوضة عندنا. فإن قال: فقد سمعناكم تقولون إن العرب فعلت كذا وَلَمْ تفعل كذا، مِن أنها لا تجمع بَيْنَ ساكنين، ولا تبتدئ بساكن، ولا تقف عَلَى متحرك، وأنها تسمي الشخص الواحد الأسماء الكثيرة، وتجمع الأشياء الكثيرة تَحْتَ الاسم الواحد، قلنا: نحن نقول إن العرب تفعل كذا بعدما وطأناه أن ذَلِكَ توقيف حَتَّى ينتهي الأمر إِلَى الموقّف الأول. ومن الدليل عَلَى عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية كتابتهم المصحف عَلَى الَّذِي يعلله النحويُّون فِي ذوات الواو والياء والهمز والمدّ والقصر فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو وَلَمْ يصوّروا الهمزة إذَا كَانَ مَا قبلها ساكناً فِي مثل "الخبء" و "الدفء" و "الملء" فصار ذَلِكَ كلّه حجة، وحتى كَرِهَ من العلماء تركَ اتباع المصحف من كَرِهَ. فحدثني عبد الرحمن بن حمدان عن محمد بن الجهم السّمرَّيّ عن الفرَّاء قال: "اتباعُ المصحف - إذَا وجدت لَهُ وجهاً من كلام العرب - وقراءةُ القراء أحبّ إليَّ من خلافه" قال وَقَدْ كَانَ أبو عمرو بن العلاء يقرأ "إن هذين لساحران" ولست أجترئ عَلَى ذَلِكَ. وقرأ "فأصَّدَّقَ وأكون" فزاد واواً فِي الكتاب وَلَمْ أستحبّ ذَلِكَ. والذي قاله الفرّاء حَسَن، وَمَا يِحَسَن قول ابن قتيبة فِي أحرُف ذكرها، وَقَدْ خالف الكُتَّابُ المصحفُ فِي هَذَا.

باب القول فِي أن لغة العرب أفضلُ اللغات وأوسعُها
قال جلّ ثناؤه: "وإنه لتنزيلُ ربّ العالمين، نَزَل بِهِ الرُّوح الأمين عَلَى قلبك، لِتكُون من المُنذِرين، بلسان عربيٍّ مبين" فوصَفه جلّ ثناؤه بأبلغ مَا يوصَف بِهِ الكلام، وهو البيان. قال جلّ ثناؤه: "خَلَق الإنسان، علَّمه البيان" فقدّم جلّ ثناؤه ذكر البيان عَلَى جميع مَا توحَّد بخلقه وتفرَّد بإنشائه، من شمس وقمر ونجم وشجر وغيرِ ذَلِكَ من الخلائق المحْكمة والنشايا المُتْقَنة. فلمّا خصَّ جلَّ ثناؤه اللسانَ العربيَّ بالبيانِ عُلم أن سائر اللغات قاصِرَةٌ عنه وواقعة دونه. فإن قال قائل: فقد يقع البيانُ بغير اللسان العربي، لأن كلَّ مَن أفْهَم بكلامه عَلَى شرط لغته فقد بَيَّن. قيل لَهُ: إِن كنتَ تريد أن المتكلّم بغير اللغة العربية قَدْ يُعرِبُ عن نفسه حَتَّى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان، لأن الأبكم قَدْ يدلُّ بإشارات وحركات لَهُ عَلَى أكثر مراده ثُمَّ لا يسمّى متكلماً، فضلا عن أن يُسمَّى بَيِّناً أَوْ بليغاً. وإن أردت أنَّ سائر اللغات تبيّن إبانة اللغة العربية فهذا غَلط، لأنا لو احتجنا أن تعبِّر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذَلِكَ إِلاَّ باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرةً، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسمّاة بالأسماء المترادفة. فأين هَذَا من ذاك، وأين لسائر اللغات من السَّعة مَا للغة العرب? هَذَا مَا لا خفاء بِهِ عَلَى ذي نُهيَة. وَقَدْ قال بعضُ علمائنا حين ذكر مَا للعرب من الاستعارة والتمثيل والقلب والتقدير والتأخير وغيرها من سنن العرب فِي القرآن فقال: ولذلك لا يقدر أحد من التراجم عَلَى أن ينقله إِلَى شيء من الألسنة كما نُقل الإنجيل عن السريانية إِلَى الحَبشية والرُّومية وترجمت التوراة والزَّبور وسائرُ كتب الله عزّ وجلّ بالعربية، لأن العجم لَمْ تتَّسع فِي المجاز اتساع العرب، ألا ترى أنك لو أردت أن تنقُل قوله جلّ ثناؤه: "وإما تخافَنَّ مِن قوم خِيانةً فانْبذْ إليهم عَلَى سواء" لَمْ تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ المؤدِّية عن المعنى الَّذِي أَوْدِعَتْه حَتَّى تبسُط مجموعها وتصِل مقطوعها وتُظهر مستورها فتقول: "إِن كَانَ بَيْنَك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضاً فأعلمهم أنّك قَدْ نقضت مَا شرطته لهم وآذِنْهم بالحرب لتكون أنت وهم فِي العلم بالنقض عَلَى استواء" وكذلك قوله جلّ ثناؤه: "فضربنا عَلَى آذانهم فِي الكهف". فإن قال قائل: فهل يوجد فِي سنن العرب ونظومها مَا يجري هَذَا المجرى? قيل لَهُ: إِن كلام الله جلّ ثناؤه أعلى وأرفع من أن يُضاهى أَوْ يُقابل أَوْ يعارض بِهِ كلام، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام العليّ الأعلى خالق كلّ لغة ولسان، لكنّ الشعراء قَدْ يؤمنون إيماءَ ويأتون بالكلام الَّذِي لو أراد مُريد نقْلُه لاعْتاص وَمَا أمكن إِلاَّ بمبسوطٍ من القول وكثير من اللفظ. ولو أراد أن يعبّر عن قول امرئ القيس: فدع عنك نَهْباً صيح فِي حَجَراته بالعربية فضلاً عن غيرها لطال عَلَيْهِ. وكذا قول القائل: "والظنُّ عَلَى الكاذبِ". و "نِجارُها نارُها". و "عَيَّ بالأسْناف". و "انْشأِي يُرمَ لكِ". و "هو باقِعة". و "قلبٌ لَو رَفع". و "عَلَى يَد فاخْضَمْ". وشأنُك إِلاَّ تركُه مُتفاقم وهو كثير بمثله طالت لغةُ العرب اللغات. ولو أراد معبّرٌ بالأعجمية أن يعبر عن الغنيمة والإخفاق واليقين والشكّ والظاهر والباطن والحق والباطل والمبين والمشكل والاعتزاز والاستسلام لعيّ بِهِ. والله جلّ ثناؤه أعلم حَيْثُ يجعل الفضل. ومما اختُصت بِهِ لغةُ العرب - بعد الَّذِي تقدم ذِكرناهُ قلبهُم الحروف عن جهاتها، ليكون الثاني أخفَّ من الأول، نحو قولهم: "ميعاد" وَلَمْ يقولوا "مِوْعاد" وهما من الوعد، إِلاَّ أن اللفظ الثاني أخفُّ. ومن ذَلِكَ تركهم الجمعَ بَيْنَ السَّاكنَينِ، وَقَدْ تجتمع فِي لغة العجم ثلاث سواكن. ومنه قولهم: "يَا حارِ" ميلاً إِلَى التخفيف. ومن اختلاسهم الحركات فِي مثل: فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحقِبٍ ومنه الإدغامُ، وتخفيفُ الكلمة بالحذف، نحو "لَمْ يَكُ" و "لَمْ أُبَلْ" ومن ذَلِكَ إضمارهم الأفعال، نحو "امرأ أتقى الله" و أمرَ مُبكياتِكِ، لا أمرَ مضْحكاتِكِ". وممّا لا يمكن نقْله البتَّةَ أوصافُ السيف والأسد والرمح وغير ذَلِكَ من الأسماء المترادفة. ومعلوم أن العَجَم لا تعرف للأسد غير اسم واحد، فأما نحن فنُخرج لَهُ خمسين ومائة اسم. وحدثني أحمد بن محمد بن بندار قال: سمعت أبا عبد الله بن خالَوَيْهِ الهمذاني" يقول: جمعت للأسد خمس مائة اسم وللحيَّة مائتين. وأخبرني عليُّ بنُ أحمد بنِ الصبَّاح قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا ابن أخي الأصمعي عن عمه أن الرشيد سأله عن شعر ل ابن حزام العُكْلِيّ ففسره، فقال: "يَا أصمعي، إِن الغريب عندك لغَيْرُ غريب" فقال: "يَا أمير المؤمنين، ألا أكون كذلك وَقَدْ حفظتُ للحَجَر سبعين اسماً?". وهذا كما قاله الأصمعي. ولكافي الكفاة أدام الله أيامه وأبقى للمسلمين فضله - فِي ذَلِكَ كتاب مجرد. فأين لسائر الأمم مَا للعرب? ومن ذا يمكنه أن يُعبّر عن قولهم: ذات الزُّمَيْن، وكَثْرَة ذات اليد، ويد الدهر، وتخاوَصَت النجوم، ومَجَّت الشمسُ ريقها، ودَرأ الفيءَ، ومفاصل القول، وأتى بالأمر من فصِّه، وهو رَ حْب العَطَن، وغَمْرُ الرداء، ويخْلق، ويَفري، وهو ضيّق المَجَمّ، قلِق الوَضِين، رابط الجأش، وهو ألْوى، بعيد المُسْتَمَرّ، وهو شراب بِأنقع، وهو جُذَيْلُها المحكَّك وعُذَيقُها المُرَجَّب، وَمَا اشبه هَذَا من بارع كلامهم ومن الإيماء اللطيف والإشارة الدّالة. وَمَا فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من الخطاب العالي أكثر وأكثر، قال الله جلّ وعزّ: "ولكم فِي القصاص حياة" و "يحسبون كلَّ صَيْحة عليهم"، و "وأُخرى لن تَقْدروا عَلَيْهَا قَدْ أحاط الله بِهَا" و "إِن يتّبعون إِلاَّ الظَّنَّ وإن الظن لا يُغني من الحقّ شيئاً" و "إنما بَغيكم عَلَى أنفسكم"، "ولا يُحيق المكر السّيّئ إِلاَّ بأهله" وهو أكثر من أن نأتي عَلَيْهِ. وللعرب بعد ذَلِكَ كَلِم تلوح فِي أثناء كلامهم كالمصابيح فِي الدُّجى، كقولهم للجَموع للخير: قَثُوم، وهذا أمر قاتِم الأعماق، أسود النواحي، واقتحف الشرابَ كلّه، وَفِي هَذَا الأمر مصاعبُ وقُحَم، وامرأة حييّة قدِعة، وتَقَادَعوا تقادُعَ الفراش فِي النار، وَلَهُ قَدَم صِدق، وذا أمر أنت أردته ودبّرته، وتقاذَفَتْ بِنَا النَّوى، واشْتَفَّ الشراب، ولك قُرعة هَذَا الأمر خياره، وَمَا دخلت لفلان قريعة بيت، وهو يَبْهَر القرينة إِذَا جاذبته، وهم عَلَى قرو واحد أي طريقة، وهؤلاء قَرَابينُ الملك، وهو قشع إِذَا لَمْ يثبت عَلَى أمر، وقشبه بقبيح لطخه وصبي قصِع لا يكادُ يشبّ، وأقلت مَقاصِرُ الظلام، وقطَّع الفرسُ الخيلَ تقطيعاً إِذَا خلَّفها، وَلَيْسَ أقعَس لا يكاد يبرح، وهو منزول قفر. وهذه كلمات من قرحة واحدة، فكيف إِذَا جال الطرف فِي سائر الحروف فجالَه? ولو تقصينا ذَلِكَ لجاوزنا الغرض ولما حوته أجلاد وأجلاد. باب القول على أن لغة العرب هل يجوز أن يحاط بها? قال بعض الفقهاء: "كلام العرب لا يحيط بِهِ إِلاَّ نبيّ". وهذا كلامَ حَرِيٌّ أن يكون صحيحاً. وَمَا بلغنا أنّ أحداً ممن مضى ادعى حفْظ اللغة كلِها. فأما الكتاب المنسوب إِلَى الخليل وَمَا فِي خاتمته من قوله: "هَذَا آخر كلام العرب" فقد كَانَ الخليل أورع وأتقى لله جلّ ثناؤه من أن يقول ذَلِكَ. ولقد سمعت عليَّ بن مِهْرُوَيْهِ يقول: سمعت هرون بن هَزاري يقول: سمعت سُفيان بن عُيْينة يقول: "من أحبّ أن ينظر إِلَى رجل خُلق من الذّهب والمِسك فلينظر إِلَى الخليل بن أحمد". وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذَلِكَ المَصاحِفِي عن النَّضر بن شُمَيْل قال: "كنا نُمَيِّل بَيْنَ ابن عون والخليل بن أحمد أيُّهما تقدّم فِي الزّهد والعبادة فلا ندري أيهما نقدم" قال: وسمعت النضر بن شميل يقول: "مَا رأيت أعلم بالسُّنة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد" قال: وسمعت النضر يقول: "أُكلت الدنيا بأدب الخليل وكتبه وهو فِي خُصّ لا يُشعَر بِهِ". قلنا فهذا مكان الخليل من الدين، أفتراه يُقدم عَلَى أن يقول: "هَذَا آخر كلام العرب?". ثُمَّ أن فِي الكتاب الموسوم بِهِ من الإخلال مَا لا خفاء بِهِ عَلَى علماء اللغة، ومن نظر فِي سائر الأصناف الصحيحة علم صحة مَا قلناهُ.

باب القول فِي اختلاف لغات العرب
اختلاف لغات العرب من وجوه: أحدها: الاختلاف فِي الحركات كقولنا: "نَستعين" و "نِستعين" بفتح النون وكسرها. قال الفرَّاء: هي مفتوحة فِي لغة قريش، وأسدٌ وغيرهم يقولونها بكسر النون. والوجه الآخر: الاختلاف فِي الحركة والسكون مثل قولهم: "معَكم" و "معْكم" أنشد الفرّاء:

ومَنْ يتَّقْ فإنّ الله معْـهُ
ورزق الله مُؤْتابٌ وغادِ

ووجه أخر: وهو الاختلاف فِي إبدال الحروف نحو: "أولئك" و "أُولالِكَ". أنشد الفرّاء:

أُلا لِك قومي لَمْ يكونوا أُشابَةً
وهل يعِظُّ الضِّلّيلَ إلا أُلالكا

ومنها قولهم: "أنّ زيداً" و "عَنّ زيداً". ومن ذَلِكَ: الاختلاف فِي الهمز والتليين نحو "مستهزؤن" و "مستهزُوْن". ومنه: الاختلاف فِي التقديم والتأخير نحو "صاعقة" و "صاقعة". ومنها: الاختلاف فِي الحذف والإثبات نحو "استحيَيْت" و "استحْيت" و "وصدَدْت" و "أَصْدَدْت". ومنها: الاختلاف فِي الحرف الصحيح يبدلُ حرفاً معتلاً محو "أما زيد" و "أَيْما زيد". ومنها: الاختلاف فِي الإمالة والتفخيم فِي مثل "قضى" و "رمى" فبعضهم بفخّم وبعضهم يُميل. ومنها: الاختلاف فِي الحرف الساكن يستقبله مثله، فمنهم من يكسر الأول ومنهم من يضمّ، فيقولون: "اشتَرَوُ الضلالة" و "اشتَرَوِ الضلالة". ومنها: الاختلاف فِي التذكير والتأنيث فإن من العرب من يقول "هَذِهِ البقر" ومنهم من يقول "هَذَا البقر" و "هَذَا النخيل" و "هَذَا النخيل". ومنها: الاختلاف فِي الإدغام نحو "مهتدون" و "مُهَدُّون". ومنها: الاختلاف فِي الإعراب نحو "مَا زيدٌ قائماً" و "مَا زيدٌ قائم" و "إنّ هذين" و "إنّ هذان" وهي بالألف لغة ل بني الحارث بن كعب يقولون لكلّ ياء ساكنة انفتح مَا قبلها ذَلِكَ. وينشدون:

تزوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أذنـاه ضـربةً
دَعَتْه إِلَى هابي التراب عقيمِ

وذهب بعض أهل العلم إِلَى أن الإعراب يقتضي أن يقال: "إِن هذان" قال: وذلك أن "هَذَا" اسم منهوك، ونُهْكهُ أنه عَلَى حرفين أحدهما حرف علة وهي الألف وها كلمة تنبيه ليست من الاسم فِي شيء، فلما ثُنّي احتيج إِلَى ألف التثنية، فلم يوصل إليها لسكون الألف الأصلية، واحتيج إِلَى حذف أحديهما فقالوا: إِن حذَفنا الألف الأصلية بقي الاسم عَلَى حرف واحد، وإن أسقطنا ألِفَ التثنية كَانَ فِي النون منها عوض ودلالة عَلَى معنى التثنية، فحذفوا ألف التثنية. فلما كَانَتْ الألف الباقية هي ألف الاسم، واحتاجوا إِلَى إعراب التثنية - لَمْ يغيروا الألف عن صورتها لأن الإعراب واختلافه فِي التثنية والجمع إنما يقع عَلَى الحرف الَّذِي هو علامة التثنية والجمع، فتركوها عَلَى حالها فِي النصب والخفض. قال: ومما يدلّ عَلَى هَذَا المذهب قوله جلّ ثناؤه: "فذانك برهانان من ربّك" لَمْ تحذف النون - وَقَدْ أضيف - لأنه لو حذفت النون لذهب معنى التثنية أصلاً، لأنه لَمْ تكن للتثنية ها هنا علامة إِلاَّ النون وحدها، فإذا حذفت أشبهت الواحد لذهاب علامة التثنية. ومنها: الاختلاف فِي صورة الجمع نحو "أسرى" و "أُسارى". ومنها: الاختلاف فِي التحقيق والاختلاس محو "يأمُرُكم" و "يأمُرْكم" و "عُفِيَ لَهُ" و "عُفْي لَهُ". ومنها: الاختلاف فِي الوقف عَلَى هاء التأنيث مثل "هَذِهِ أُمَّهْ" و "هَذِهِ أمَّتْ". ومنها: الاختلاف فِي الزّيادة نحو "أَنْظُرُ" و "أَنظورُ". أنشد الفراء:

الله يعلم أَنَّـا فِـي تـلـفُّـتـنـا = يوم الفراق إِلَى جيراننا صُـورُ
وأنَّني حَيْثُ مَا يَثْنِي الهوى بَصري = من حَيْثُ مَا سلكوا أدنو فأنظورُ

وكلّ هَذِهِ اللغات مسماة منسوبة إِلَى أصحابها، لكن هَذَا موضع اختصار، وهي وإن كَانَتْ لقوم دون قوم فإنها لما انتشرت تَعاوَرَها كلٌّ. ومن الاختلاف: اختلاف التضادِّ، وذلك قول حِمْيَر للقائم "ثبْ" أي اقعد. فحدثنا علي بن إبراهيم القطَّان عن المفسر عن القتيبي عن إبراهيم بن مسلم عن الزبير عن ظَمْياء بنت عبد العزيز بن مَوألة قالت: حدثني أبي عن جدّي موألة أن عامر بن الطُّفيْل قدم عَلَى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فَوَثَّبَهُ وِسادة، يريد فرشه إياه وأجلسه عَلَيْهَا. والوِثاب: الفراش بلغة حِمْيَر. قال: وهم يسمّون الملك إِذَا كَانَ لا يغزو "موثَبان" يريدون أن يطيل الجلوس ولا يغزو، ويقولون للرجل "ثب" أي اجلس. وروي أن زيد بن عبد الله بن دارِم وفد عَلَى بعض ملوك حِمْيَر فألْفاه فِي مُتَصَيَّد لَهُ عَلَى جبل مُشْرِف، فسلم عَلَيْهِ وانتسب له، فقال لَهُ الملك "ثب" أي اجلس، وظن الرجل أنه أمره بالوثوب من الجبل فقال: "لتجدني أَيُّها الملك مِطْواعاً" ثُمَّ وثب من الجبل فهلك، فقال: الملك: مَا شأنه? فخبّروه قصته وغلطه فِي الكلمة، فقال: "أما أنه ليست عندنا عربيّت: من دخل ظَفارِ حَمّر" وظفار المدينة الَّتِي كَانَ بِهَا، وإليها ينسب الجَزْع الظفَّاري. من دَخل ظفار فليتعلم الحميرية. باب القول فِي أفصح العرب أخبرني أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم بِقَزْوين، قال: حدثنا أبو الحسين محمدُ بن عباس الخُشْنِكي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي عُبَيد الله قال: أجمَعَ علماؤنا بكلام العرب، والرُّواةُ لأشعارهم، والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومَحالّهم أن قُرَيشاً أفصحُ العرب ألْسنةً وأصْفاهم لغةً. وذلك أن الله جل ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبيَّ الرحمة محمداً صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم. فجعل قُريشاً قُطَّان حَرَمِه، وجيران بيته الحرام، ووُلاتَهُ. فكانت وُفود العرب من حُجاجها وغيرهم يَفِدون إِلَى مكة للحج، ويتحاكمون إِلَى قريش فِي أُمورهم. وَكَانَتْ قريش نعلّمهم مَناسكَهم وتحكُمُ بَيْنَهم. ولن تزل العرب تَعرِف لقريش فضلها عليهم وتسمّيها أهل الله لأنهم الصَّريح من ولد إسماعيل عَلَيْهِ السلام، لَمْ تَشُبْهم شائبة، وَلَمْ تنقُلْهم عن مناسبهم ناقِلَة، فضيلةً من الله - جلّ ثناؤه - لهم وتشريفاً. إذ جعلهم رَهط نبيّه الأذْنَيْنَ، وعِتْرته الصالحين. وَكَانَتْ قريش، مع فصاحتها وحُسن لغاتها ورِقَّة ألسنتها، إِذَا أتتهُم الوُفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع مَا تخيّروا من تِلْكَ اللغات إِلَى نَحائرهم وسَلائقهم الَّتِي طُبعوا عَلَيْهَا. فصاروا بذلك أفصح العرب. ألا ترى أنك لا تجد فِي كلامهم عَنْعَنَة تَميم ولا عَجْرفيّة قَيْس ولا كَشْكَشَة أسَد ولا كَسْكَسة رَبيعةَ ولا الكَسْر الَّذِي تسمَعه من أسدَ وقَيْس مثل: "تعلِمون" و "نِعلَم" ومثل "شعير" و بِعير"?. باب اللغات المذمومة أما العَنْعَنة الَّتِي تُذكِر عن تَميم - فقلبهم الهمزة فِي بعض كلامهم عيناً. يقولون: "سمعتُ عَنَّ فلاناً قال كذا" يريدون "أَنَّ". ورُوي فِي حديث قَيْلَة: "تَحسب عَنِّي نائِمَةٌ" قال أبو عُبيد: أرادت تَحْسب أني، وهذه لُغة تميم. قال ذو الرمّة:

أَعَنْ ترسَّمت من خَرقاء مَنْزِلةً
ماءُ الصَّبابة من عَيْنيك مَسْجُومُ

أراد "أأن" فجعل مكان الهمزة عيناً. وأما الكَشْكَشة الَّتِي فِي أسَد - فقال قوم: إنهم يبدلون الكاف شيناً فيقولون: "عَلَيْشَ" بمعني "عَلَيْكَ". ويُنشدون:

فَعَيْناشِ عيْناها، جيدُشِ جيدُها
ولَوْنُشِ إِلاَّ أنها غيرُ عاطلِ

وقال آخرون: يَصِلون بالكاف شيناً، فيقولون: "عَلَيكِش". وكذلك الكسكَسة الَّتِي فِي رَبيعة - إنما هي أن يَصِلوا بالكاف سيناً، فيقولون: "عَلَيْكِسْ". وحدثني عليُّ بن أحمد الصبَّاحيُّ، قال سمعت ابن دُرَيْد يقول: حروفٌ لا تتكلم بها العرب إِلاَّ ضرورة، فإذا اضطُرُّوا إِلَيْهَا حوَّلوها عند التكلم إِلَى أقرب الحروف من مخارجها. فمن تِلْكَ الحروفِ الحرفُ الَّذِي بَيْنَ الباء والفاء. مثل "بور" إِذَا اضطُروا. فقالوا: "فُور". ومثلُ الحرف الَّذِي بَيْنَ القاف والكاف والجيم - وهي لغة سائرة فِي اليمن - مثل: "جَمَل" إِذَا اضطرُّوا قالوا: "كَمَل". قال: والحرفُ الَّذِي بَيْنَ الشين والجيم والياء: فِي المذكر "غُلامِجْ" وَفِي المؤنث "غُلامِش". فأما بنو تميم فإنهم يُلحقون القاف باللَّهاة حَتَّى تَغْلظ جداً فيقولون: "القوم" فيكون بَيْنَ الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم. قال الشاعر:

ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوم قَدْ نضجت
ولا أكولُ لبابِ الدَّار مَكْفـولُ

وكذلك الياء تجعل جيماً فِي النَّسب. يقولون: "غُلامِجْ" أي "غلامي". وكذلك الياء المشدَّدة تحوَّل جيماً فِي النَّسب. يقولون: "بَصرِجّ" و "كُوفِجّ" قال الرَّاجِز: خالي عُويفٌ، وأبو عَلِجّ، المُطْعِمَانِ اللحمَ بالعَشِجِّ، وبالغَداةَ فِلَقَ الْبـرْنِـجِّ وكذلك مَا أشبهه من الحروف المرغوب عنها. كالكاف الَّتِي تُحوَّل شيناً. قلنا: أما الَّذِي ذكره ابن دُرَيد فِي "بور" و "فور" فصحيح. وذلك أن بور لَيْسَ من كلام العرب، فلذلك يحتاج العربيّ عند تعريبه إياه أن يُصيّره فاءً. وأما سائر مَا ذكره فليس من باب الضرورة فِي شيء. وأيُّ ضرورة بالقائل إِلَى أن يقلب الكاف شيناً، وهي ليست فِي سجع ولا فاصلة? ولكن هَذِهِ لغات للقوم عَلَى مَا ذكرناه فِي باب اختلاف اللغات. وأما من زعم أن ولدَ إسماعيل عَلَيْهِ السلام يُعيّرون وَلدَ قَحْطان أنهم ليسوا عرباً، ويحتجُّون عليهم بأنَّ لسانَهم الحِمْيريَّة وأنهم يُسَمُّون اللِّحية بغير اسمها - مع قول الله جلّ ثناؤه فِي قصة من قال: لا تأخذ بلِحْيتي ولا بِرَأْسي - وأنهم يُسمُّون الذّيب "القِلوْبَ" - مع قوله: "وأخاف أن يأكله الذّئب" - ويسمون الأصابع "الشنَّاتر" - وَقَدْ قال الله جلّ ثناؤه: "يحعلون أصابعهم فِي آذانِهم" - وأنهم يسمّون الصَّديق "الخِلْمَ" - والله جل ثناؤه يقول: "أَوْ صَديقِكم" - وَمَا أشبه هَذَا. فليس اختلافُ اللُّغات قادِحاً فِي الأنساب. ونحن وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات، فلسنا نُنكر أن يكون لكلّ قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرَب العارِبة، وأن مَن سواهم العرَب المَتَعَرِّبة، وأن إسماعيل عَلَيْهِ السلام بلسانهم نَطق، ومن لغتِهم أخَذَ، وإنَّما كَانَتْ لغةُ أبيه صلى الله عليه وسلم العِبرية وَلَيْسَ ذا موضوعَ مفاخَرة فنَستَقصي. ومما يُفسد الكلام ويَعيبُه الخزْمُ ولا نريد بِهِ الخزْمَ المستعمل فِي الشعر، وإنما نريد قولَ القائل:
ولئنْ قومٌ أصابوا غِرَّةً = وأصِبْنا من زمان رَقَقا
لَلَقَدْ كُنَّا لدى أزمانـنـا = لِشَريجَيْنِ لباسٍ وتُقـى

فزاد لاماً عَلَى "لقد" وهو قبيح جداً. ويزعُم ناسٌ أن هَذَا تأكيد كقول الآخر:

فَلا والله لا يُلْفَى لِما بي = ولا لِلِما بهم أبداً دَوَاءٌ

فزاد لاماً عَلَى "لِمَا" وهذا أقبح من الول. فأما التأكيد فإن هَذَا لا يزيد الكلام قُوة، بل يقبّحه. ومثله قول الآخر: وصالياتٍ كَكَما يؤثْفَيْن شوكل ذا من أغالِيطِ من يغلَط، والعرَب لا تعرِفهُ.

باب القول فِي اللغة الَّتِي بِهَا نزل القرآن وأنه لَيْسَ فِي كتاب الله جلّ ثناؤه شيء بغير لغة العرب
حدَّنا أبو عليُّ بنُ إبراهيم القطَّان قال حدثنا عليُّ بن عبد العزيز عن أبي عُبيد عن شيخ لَهُ أنه سمع الكلبيّ يحدث عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن عَلَى سبعة أحرُف أَوْ قال بسبعِ لغات، منها خمسٌ بلغة العَجْزِ من هَوازن وهم الذين يقال لهم علُيا هَوازن وهي خمس قبائل أَوْ أربع، منها سَعدُ بن بكر وجُشَمُ بن بكر ونَصْر بن مُعاوية وثَقيف. قال أبو عُبيد: وأحسب أفصَحَ هؤلاء بني سعد بن بكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصَح العَرَب مَيْد أني من قريش وأني نشأت فِي بني سعد بن بكر" وَكَانَ مُسْتَرْضَعاً فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العَلاء: أفصح العرب عُليا هَوازِن وسُفْلى تميم. وعن عبد الله بن مسعود أنه كَانَ يَستَحبُّ أن يكون الذين يكتبون المَصاحف من مُضر. وقال عمر: لا يُمْلِيَنَّ فِي مَصاحِفِنا إِلاَّ غلمان قريش وثَقيف. وقال عثمان: اجعلوا المُمليَ من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف. قال أبو عبيد: فهذا مَا جاءَ فِي لغات مُضر وَقَدْ جاءت لغاتٌ لأهل اليَمن فِي القرآن معروفةٌ. منها قوله جلّ ثناؤه "مُتَّكِئين فِيهَا عَلَى الأرائك" فحدّثنا أبو الحسن علي عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال حدثنا هُشَيْم أخبرنا منصور عن الحسن قال: "كُنا" يقال إنها بالحبشية. وقوله "هَيْتَ لَكَ" يقال إنها بالحوْرانيَّة. قال: فهذا قول أهل العلم من الفُقهاء. قال: وزعم أهل العَربية أن القرآن لَيْسَ فِيهِ من كلام العجَم شيء وأنه كلَّه بلسانٍ عربيّ، يتأوَّلون قوله جلّ ثناؤه "إنا جعلناه قرآناً عربياً" وقوله "بلسان عربيّ مبين". قال أبو عبيد: والصواب من ذَلِكَ عندي - والله اعلم - مذهب فِيهِ تصديق القوْلين جميعاً. وذلك أنَّ هَذِهِ الحروف وأصولها عجمية - كما قال الفقهاء - إِلاَّ أنها سقَطَت إِلَى العرب فأعرَبَتها بألسنَتها، وحوَّلتها عن ألفاظ العجم إِلَى ألفاظها فصارت عربيَّة. ثُمَّ نزل القرآن وَقَدْ اختَلَطت هَذِهِ الحروف بكلام العَرَب. فمن قال إنها عَرَبية فهو صادق، ومن قال عجمية فهو صادق. قال: وإنما فسَّرنا هَذَا لئلا يُقدِمَ أحد عَلَى الفقهاء فَيَنْسَبهم إِلَى الجهل، ويتوهَّم عليهم أنهم أقدموا عَلَى كتاب الله جَلَّ ثناؤه بغير مَا أرداهُ الله جلَّ وعزَّ، وهم كانوا أعلمَ بالتأويل وأشدَّ تعظيماً للقرآن. قال أحمد بن فارس: لَيْسَ كل من خالف قائلاً فِي مقالته فقد نَسَبه إِلَى الجهل. وذلك أن الصدر الأول اختلفوا فِي تأويل آي من القرآن فخالف بعضهم بعضاً. ثُمَّ خَلَفَ من بعدهم خلف، فأخذ بعضهم بقولٍ وأخذ بعض بقول، حسب اجتهادهم وَمَا دلَّتهم الدَّلالة عَلَيْهِ. فالقول إذن مَا قاله أبو عبيد، وإن كَانَ قوم من الأوائل قَدْ ذهبوا إِلَى غيره. فإن قال قائل: فما تأويل قول أبي عبيد، فقد أعظم وأكبر? قيل لَهُ: تأويله أنه أتي بأمر عظيم وكبير. وذلك أن القرآن لَوْ كَانَ فِيهِ من غير لغة العرب شيء، لتوهَّم متوهْمِ أن العرب إنما عَجَزت عن الإتيان بمثله لأنه أتي بلغات لا يعرفونها، وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ. وإذا كَانَ كذا فلا وجه لقول من يجيز قراءة القرآن فِي صلاته بالفارسية لأن الفارسية ترجمة غير مُعْجِزة. وإنَّما أمر الله جلّ ثناؤه بقراءة القرآن العربي المعجز. ولو جازت القراءة بالترجمة الفارسية لكانت كتُب التفسير والمصنّفات فِي معاني القرآن باللَّفظ العربيّ أولى بجواز الصَّلاة بِهَا، وهذا لا يقوله أحد. ?باب القول فِي مأخذ اللغة تؤخذ اللغة اعتياداً كالصبي العربيّ يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم عَلَى مَرّ من الأوقات. وتؤخذ تلقُّناً من ملقّن. وتؤخذ سماعاً من الرُّواة الثقات ذوي الصدق والأمانة، ويُتَّقى المظنون. فحدثنا عليُّ بن إبراهيم عن المَعْدَانيّ عن أبيه عن معروف بن حسان عن اللَّيْث عن الخليل قال: إن النَّحارير رُبَّما أدخلوا عَلَى الناس مَا لَيْسَ من كلام العرب إرادة اللَّبْس والتَّعْنِيت. قلنا فَليَتَحرّ آخذ اللغة وغيرها من العلوم أهل الأمانة والثقة والصدق والعدالة. فقد بلغنا من أمر بعض مشيخة بغداد مَا بلغنا. واللهَ جل ثناؤه نستهدي التوفيق، وإليه نرغب فِي إرشادنا لسُبُل الصدق، إنه خير موفق ومعين. باب القول فِي الاحتجاج باللغة العربية لغةُ العرب يحتج بِهَا فيما اختلفُ فيه، إِذَا كَانَ "التنازع في اسم أو صفة أو شيءو مما تستعمله العرب من سننها في حقيقة ومجاز، أو ما أشبه ذلك مما يجيء في كتابنا هذا إن شاءَ الله. فأما الذي سبيله سبيل الاستنباء، أو ما فيه لدلائل العقل مجال - فإن العرب وغيرهم فيه سواء؛ للآن سائلا لو سأل عن دلالة من دلائل التوحيد أو حجة في أصل فقه أو فرعه - لم يكن الاحتجاج فيه بشيء من لغة العرب، إذ كان موضوع ذلك على غير اللغات. فأما الذي يختلف فيه الفقهاء - من قوله جل وعز: )أو لامستُم النِساء)
وقوله: ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قُروء)
وقوله جل وعز: (ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم) وقوله: )ثم يعودون لما قالوا( - فمنه ما يصلح الاحتجاج فيه بلغة العرب، ومنه ما يوكل إلى غير ذلك.

باب القول في حاجة أهل الفقه والفتيا إلى معرفة اللغة العربية
أقول: إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لاغناء بأحد منهم عنه. وذلك أن القرآن نازلٌ بلغة العرب، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، عربي. فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جل وعز، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب - لم يجر من العلم باللغة بُدّا. ولسنا نقول: إن الذي يلزمه من ذلك الإحاطة بكل ما قالته العرب؛ لأن ذلك غير مقدور عليه، ولا يكون إلا لنبي، كما قلناه أولاً. بل الواجب علم أصول اللغة والسنن التي بأكثرها نزل القرآن وجاءت السنة. فأما أن يكلف القارئ أو الفقيه أو المحدث معرفة أوصاف الإبل وأسماء السباع ونعوت الأسلحة، وما قالته العرب في الفلوات والفيافي، وما جاء عنهم من شواذ الأبنية وغرائب التصريف - فلا. ولقر غلط أبو بكر بن داود أبا عبد الله محمد بن إديس الشافعي، في كلمات ذكر أنه أخطأ فيها طريق اللغة. وليس يبعر أن يغلء في مثلها مثله في فصاحته. لكن الصواب على ما قاله أصوب. فأما الكلمات فمنها: إيجابه ترتيب أعضاء الوضوء في الوضوء، مع إجماع العربية أن الواو تقتضي الجمع المطل لا التوالي. ومنها: قوله في التزويج: إذا قال الولي: زوجتك فلانة، فقال المزوج: قد قبلتها - : إن ذلك ليس بنكاح حتى يقول: قد تزوجتها أو قبلت تزويجها. قال: ةمعلوم أن الكلام إذا خرج جواباً فقد فهم أنه جواب عن سؤال، قال الله جل وعز: )فهل وجد نم ما وعد ربكم حقاً قالوا: نعم ( وقال: ) ألست بربكم قالو بلى ( فاكتفى من المحبين بهذا، وما كلفوا أن يقولوا: بلى أنت ربنا. قال: ومنها تسمية البكر التي لا توطأ حائلا. وابن داود يقول: إنما تسمى حائلا إذا كانت حاملاً مرة، أو توقع منها حمل فحالت. ومنها قوله في الطائفة: إنها تكون ثلاثة وأكثر. وقد قال مجاهد: الطائفة تقع على الواحد. ومنها قوله في قول الله جل وعز: )ذلك أدنى ألا تعولوا( أي لا يكثر من تعولون. والعرب تقول في كثرة العيال: أعال الرجل فهو معيل. ومنها قوله في القروء: إنها الأطهار. فإن القرء من قولهم: يقرى الماء في حوضه. قال والعرب تقول: لا تطأ جاريتك حتى تقريها.
وقال صلى الله عليه وسلم: دعى الصلاة" أيامَ أقْرائِكَ. قال أبو بكر: ومن العظيم أنَّ علياً وعمرَ رضي الله عنهما قَدْ قالا "القُرْؤُ الحَيضُ" فهل يُجْتَرا عَلَى تجهيلهما باللغة? ومنها قوله فِي قوله جلّ ثناؤه "حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال" أنه أرادَ الذكور دون الإناث. قال: وهذا من غريب مَا يَغلَط فِيهِ مثله. يقول الله جلّ ثناؤه "يَا بني آدم!" أفَتُراه أراد الرِّجالَ دون النساء? قال ابن داود: وإنَّ قبيحاً مُفْرِط القَبَاحة بمن يعيب مالك لن أنسٍ بأنه لَحَنَ فِي مخاطَبَةِ العامَّة بأن قال: "مُطرنا البارحة مطراً أيَّ مطراً" أن يرضَى هو لنفسه أن يتكلم بمثل هَذَا. لأن النَّاس لَمْ يزالوا يلحنون ويَتَلاحَنُون فيما يخاطب بعضُهم بعضاً اتِّقَاءً للخروج عن عادة العامة فلا يَعيبُ ذَلِكَ من يُنْصِفِهم من الخاصة، وإنّما العيب عَلَى من غلِط من جهة اللغة فيما يغير بِهِ حكَم الشريعة والله المستعان. فلذلك قلنا: إنّ علم اللغة كالواجب عَلَى أهل العلم، لئلاَّ يحيدوا فِي تألبفهم أَوْ فتياهم عن سَنن الاستواء. وكذلك الحاجة إِلَى علم العربية، فإن الإعراب هو الفارق بَيْنَ المعاني. ألا ترى أن القائل إِذَا قال: "مَا أحسن زيد" لَمْ يفرّق بَيْنَ التعجب والاستفهام والذمّ إِلاَّ بالأعراب. وكذلك إِذَا قال: "رب أخوك أخانا" و "وَجْهُك وجهُ حُرّ" و "وجهُك وجهٌ حرٌّ" وَمَا أشْبَه ذَلِكَ من الكلام المشْتَبه. هَذَا وَقَدْ روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعْرِبوا القرآن". وَقَدْ كَانَ الناس قديماً يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أَوْ يقرأونه اجتنابَهم بعضَ الذنوب. فأما الآن فقد تجوزا حَتَّى أن المحدّث يحدث فليحن. والفقيه يؤلف فيلحن. فإذا نُبها قالا: مَا ندري مَا الإعراب وإنم انحن محدّثون وفقهاء. فهما يسران بما يُساء بِهِ اللبيب. ولقد كلمت بعض من يذهبُ بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العُليا فِي القياس، فقلت لَهُ: مَا حقيقة القياس ومعناه، ومن أي شيء هو? فقال: لَيْسَ عليَّ هَذَا وإنما علي إقامة الدَّليل عَلَى صحته. فقل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو. ونعوذ بالله من سوء الاختيار.

باب القول على لغة العرب هل لها قياس وهل يشتق بعض الكلام من بعض

أجمع أهل اللغة إلا من شذ عنهم أن لغة العرب قياساً وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض إقامة الدليل عَلَى صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري مَا هو. ونعوذ بالله من سوء الاختيار. وأن اسم الجنّ مشتق من الاجتنان. وأن الجيم والنون تدُلاَّن أبداً عَلَى الستر. تقول العرب للدّرع: جُنَّة. وأجَنة الليلُ. وهذا جنين، أي هو فِي بطن أمّه أَوْ مقبور. وأن الإنس من الظهور. يقولون: آنَسْت الشيء: أبصرته. وَعَلَى هَذَا سائرُ كلام العَرَب، عَلم ذَلِكَ من عَلِم وجَهِلَه من جهل. قلنا: وهذا أيضاً مبنيٌ عَلَى مَا تقدم من قولنا فِي التوقيف. فإن الَّذِي وقّفنا عَلَى أن الاجتنان التستر هو الَّذِي وقّفنا عَلَى أن الجنّ مشتق منه. وَلَيْسَ لَنَا اليوم أن تخترع ولا أن نقول غير مَا قالوه ولا أن نقيس قياساً لَمْ يقيسوه، لأن فِي ذَلِكَ فسادَ اللغة وبُطلان حقائقها. ونكنةُ الباب أن اللغة لا تؤخذ قياساً نَقيسهُ الآن نحن. باب القول عَلَى أن لغة العرب لن تنته إلينا بكليتها وأن الَّذِي جاءنا عن العرب قليل من كثير وأن كثيراً من الكلام ذهب بذهاب أهله ذهب علماؤنا أَوْ أكثرهم إِلَى أنّ الَّذِي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلّ. ولو جاءنا جميعُ ا قالوه لجاءنا شعرٌ كثيرٌ وكلام كثير. وأحر بهذا القول أن يكون صحيحاً. لأنّا نرى علماء اللغة يختلفون فِي كثير مما قالته العرب، فلا يكاد واحد منهم يُخبّر عن حقيقة مَا خولف فيه، بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان. ألا ترى أنَّا نسألهم عن حقيقة قول العرب فِي الإغراء "كَذَبك كذا" وعما جاء فِي الحديث من قوله: "كَذَبَ عليكم الحَجُّ" و "كَذَبَك العَسَلُ" وعن قول القائل:
كذبتُ عليكم أَوْعِدُوني وعَـلِّـلُـوا = بيَ الأرضَ والأقوامَ قِرْدانَ مَوْظَبَا

وعن قول الآخر:
كَذَبَ العَتِيقُ وماءُ شَنٍّ بـاردٌ = إِن كنت سائلتي غَبُوقاً فاذهبِ

ونحن نعلم أن قوله "كذب" يَبْعُدُ ظاهره عن باب الإغراء. وكذلك قولهم "عنْكَ فِي الأرض" و "عنك شيئاً" وقول الأفْوه:

عنكُم فِي الأرض إنَّا مَذْحِجٌ = ورُويداً يفضح الليلَ النهارُ

ومن ذَلِكَ قولهم: "أعَمَدُ من سيّد قتله قومُه?" أي "هل زاد?" فهذا من مشكل الكلام الَّذِي لَمْ يفسر بعدُ. قال ابن ميَّادة: وأعمَدُ من قوم كفاهم أخوهـم صدامَ الأعادي حينَ فُلَّتْ نيوبُها قال الخليل وغيره: "معناهُ هل زدنا علة أن كفينا?. وقال أبو ذْؤَيب: صَخِبُ الشوارِب لا يزالُ كأنه عبدٌ لآل أبي ربيعة مُسْـبَـعُ فقوله "مسْبَعٌ" مَا فُسّرَ حَتَّى الآن تفسيراً شافياً. ومن قول الأعشي:

ذاتُ غَرْب تَرمي المُقدَّم بالرَّدْ = ف إِذَا مَا تتـابـع الأرواق

وقوله فِي هَذِهِ القصيدة:

المِهِنينَ مَا لَهُ فِي زمان ال = جدب حَتَّى إِذَا أفاق أفاقوا

ومن هَذَا الباب قولهم "يَا عيد مَالَكَ" و "يَا هَيء مَالَكَ" و "يَا شَيْء مَالَكَ". وَلَمْ يفسّر قولهم "صَهُ" و "وَيْهَكَ" و "إنيْه" ولا قول القائل: بِخَاء بكَ الحَقْ يَهْتِفُونَ وحَيّ هَل ويقولون "خائِبكُما" و "خايبكُم". فأمَّا الزَّجرُ والدّعاء الَّذِي لا يُفْهم موضوعُه - فكثير. كقولهم: "حيِّ هَلاَ" و "بِعَيْنٍ مَا أرَيَنَّك" - فِي موضِع أعْجَل. و "هَج" و "هَجَا" و "دَعْ" و "دَعا" و "لَعاً" يدعون لَهُ. وينشدون:

ومَطيَّة حَمَّلتُ ظَهْرَ مَطـيَّةٍ = حَرَجٍ تُنَمَّى مِلْ عِثارِ بِدَعدَع

ويروى عن النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم أنه قال: "لا تقولوا: دَعْدَعْ ولا لَعْلَعْ، ولكن قولوا: اللهم ارْفَعْ وانْفَعْ". فلولا أن للكلمتين معنى مفهوماً عند القوم مَا كَرِههُما النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم. وكقولهم فِي الزّجر "أخِّرْ" و "أخِّري" و "ها" و "هَلا" و "هابِ" و "ارْحَبِي" و "عَدِّ" و "عاجِ" و "ياعاط" و "يعاطِ" وينشدون:
وَمَا كَانَ عَلَى الجيْءِ = ولا الهيءِ امتداحيكا

وكذلك "إِجْدِ" و "أجْدِمْ" و "حِدِّجْ" لا نعلم أحداً فسَّر هَذَا. وهو باب يَكثُرُ ويُصَحّحُ مَا قلناه. ومن المُشتَبِه الَّذِي لا يقال فِيهِ اليومَ إِلاَّ بالتقريب والاحتمال وَمَا هو بغريب اللفظ لكَنَّ الوقوف عَلَى كُهنِهِ مُعتاصٌ - قولنا: "الحِينُ" والزمان والدَّهرُ" و "الأوان" - إِذَا قال القائل أَوْ حلَف الحالف: "والله لا كلمته حيناً ولا كلمته زماناً أَوْ دهراً". وكذلك قولنا: "بِضْعَ سِنين" مُشتَبِه. وأكثر هَذَا مُشكل لا يُقْصَر بشيء منه عَلَى حدّ معلوم. ومن الباب قولهم فِي الغِنى والفَقْر وَفِي الشريف والكَريم واللئيم، إِذَا قال: "هَذَا لأغنياء أهلي" أَوْ "فقرائهم" أَوْ "أشرافهم" أَوْ "كرامهم" أَوْ "لئامهم". وكذلك أن قال: "امْنعُوه سفهاء قومي" لَمْ يمكن تحديد السَّفه. ولقد شاهدتُ منذ زمانٍ قريب قاضياً يريد حَجْراً عَلَى رجل مكْتَهِل. فقلت: "مَا السبب فِي حجره عليه?" فقال: "يَزْعم أنه يَتَصيَّدَ بالكلاب وأنه سفيه" فقرئ عَلَى القاضي قوله جلّ ثناؤه: "وَمَا عَلَّمتم من الجوارح مكَلِّبين تعلّمونهنَّ مما علّمكم الله، فكلوا مِمّا أمسكْنَ عليكم" فأمسكَ القاضي عن الحجر عَلَى الكَهْلِ. وكذلك إِذَا قال: "مَا لي لِذَوي الحسب" أَوْ "امنعوه السَّفِلَة" وَمَا أشبه هَذَا مما يطول الباب بذكره فلا وَجْهَ فِي شيء من هَذَا غير التقريب والاحتمال، وَعَلَى اجتهاد الموصى إِلَيْهِ أَوْ الحاكم فِيهِ. وإلا فإنَّ تحديدَه حَتَّى لا يجوز غيره بعيدٌ. وَقَدْ كَانَ لذلك كله ناس يعرفونه. وكذلك يعلمون معنى مَا نستغربه اليوم نحن من قولنا: "عُبْسُور" فِي الناقة: "وعَيْسَجور" و "امرأة ضِنانِّي" و "فرس أشَقُّ أمقُّ خِبَقٌ" ذهب هَذَا كله بذهاب أهله وَلَمْ يبق عندنا إِلاَّ الرسم الَّذِي تراه. وعلماء هَذِهِ الشريعة، وإن كانوا اقتصروا من علم هَذَا عَلَى معرفة رَسْمه دون علم حقائقه؛ فقد اعتاضوا عنه دقيقَ الكلام فِي أصول الدين وفروعه من الفقه والفارئض. ومن دقيق النحو وجليله. ومن علم العروض الَّذِي يربي بحسنه ودقته واستقامته عَلَى كل مَا يبجح بِهِ الناسبون أنفسهم إِلَى الَّتِي يقال لَهَا: الفلسفة. ولكل زمان علم، وأشرف العلوم علم زماننا هَذَا والحمد لله. باب انتهاء الخلاف فِي اللغات تقع فِي الكلمة الواحدة لُغتان. كقولهم: "الصِّرام" و "الصَّرام". و "الحِصاد" و "الحصاد". وتقع فِي الكلمات ثلاث لُغات. نحو: "الزُّجاج" و "الزِّجاج" و "الزَّجاج" و "وَشْكانَ ذا" و "وُشْكانَ ذا" و "وِشْكان ذا". وتقع فِي الكلمة أربع لُغات. نحو: "الصِّداق" و "الصَّداق" و "الصَّدُقة" و "الصُّدْقة". وتكون منها خمس لُغات. نحو: "الشَّمال" والشَّمِل" و "الشَّمَل" و "الشَّأْمَل" و "الشَّمْل". وتكون فِيهَا ست لُغات: "قُسْطاس" و "قِسْطاس" و "قُصْطاس" و "قُسْتاس" و "قُسَّاط" و "قِسَّاط". ولا يكون أكثر من هَذَا. والكلام بعد ذَلِكَ أربعة أبواب: الباب الأول: المجمع عَلَيْهِ الَّذِي لا علة فيه، وهو الأكثر والأعم. مثل: الحمد والشكر، لا اختلاف فِيهِ فِي بناء ولا حركة. والباب الثاني: مَا فِيهِ لغتان وأكثَر إِلاَّ أن إحدى اللُّغات أفصح. نحو: "بَغْداذ" و "بَغْدادَ" و "بَغْدانَ" هي كلّها صحيحة، إِلاَّ أن "بَغْدادَ" فِي كلام العرب أصحّ وأفصح. والثالث: مَا فِيهِ لُغتان أَوْ ثلاث أَوْ أكثر، وهي متساوية، ك "الحَصاد" و "الحِصَاد". و "الصَّداق"، فأيَّا مَا قال القائل: فصحيح فصيح. والباب الرابع: مَا فِيهِ لغة واحدة، إِلاَّ أن المُوَلَّدينَ غَيَّروا فصارت ألسنتهم بالخطأِ جاريةً. نحو قولهم: "أصْرَف الله عنك كذا" و "إنْجاص" و "إِمرأة مُطاعةٌ" و "عِرْق النِّسا" بمسر النون، وَمَا أشبه ذا. وَعَلَى هَذِهِ الأبواب الثلاثة بنى أبو العباس ثعلب" كتابه المسمّى فصيح الكلام أخبرنا بِهِ أبو الحسن القَطَّان عنه. باب مراتب الكلام فِي وُضوحه وإشكاله أما واضح الكلام - فالذي يفهمه كلّ سامع عرَف ظاهرَ كلام العرب. كقول القائل: شربت ماءً ولَقيت زيداً. وكما جاء فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من قوله: "حُرِّمَتْ عليكم المَيْتَةُ والدمُ ولحمُ الخِنْزير" وكقول النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أحدُكم من نومه، فلا يَغْمِسْ يدَه فِي الإِناء حَتَّى يَغْسِلَها ثلاثاً". وكقول الشاعر:
إن يحسدوني فإني غـير لائِمِهم = قبلي من الناس أهلُ الفَضل قَدْ حُسِدُوا

وهذا أكثر الكلام وأعمُّه. وأما المشكل، فالذي يأتيه الإشكال من غَرابة لفظه، أَوْ أن تكون فِيهِ إشارة إِلَى خبر لَمْ يذكره قائلهُ عَلَى جهته، أَوْ أن يكون الكلام فِي شيء غير محدود، أَوْ يكون وَجيزاً فِي نفسه غير مَبْسوط، أَوْ تكون ألفاظه مُشتركةً. فأما المُشكلِ لغرابة لفظه - فقول القائل: "يَمْلَخُ فِي الباطل ملخاً يَنْقُضُ مِذْرَوَيه" وكما أنه قيل: "أيُدْالكُ الرجل المَرْأَة?" قال: "نعم، إِذَا كَانَ مُلْفَجاً" ومنه فِي كتاب الله جلُّ ثناؤه "فلا تَعْضُلوهن"، "ومِن الناس من يعبُد الله عَلَى حَرف"، "وسَيِّداً وحَصُوراً"، "ويُبْرئُ الأكْمَهَ" وغيرُهُ مما صَنَّف علماؤنا فِيهِ كتَبَ غريب القرآن. ومنه فِي حديث النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم: "عَلَى التِّيعَةِ شاة. والتِّيمة لصاحبها. وَفِي السُّيُوبِ الخُمُس لا خِلاطَ ولا وِراطَ ولا شِناقَ ولا شِغارَ. من أجْبى فقد أرْلى" وهذا كتابُه إِلَى الأقيال العَبَاهِلة. ومنه فِي شعر العرب: وقـاتِـم الأَعْــمَـــاق شَأزٍ بِـمَـــنْ عَـــوَّه مَضْبُورَةٍ قَرْواءَ هرْجَابٍ فُنُق زفي أمثال العرب: "باقِعَةٌ" و "شرَاب بأَنْقُع" و "ومُخْرَنْبِقٌ لِيَنْباع". والذي أشكل لإيماء قائله إِلَى خبر لَمْ يُفصح بِهِ - فقول القائل: "لَمْ أفِرَّ يومَ عَيْنَيْنِ" و "رُويداً سَوْقَكَ بالقوارير" وقول امرئِ القيس: دع عنك نهباً صِيح فِي حَجَراته وقول الآخر: إِن العصا قُرِعَت لِذِي الحِلْمِ وَفِي كتاب الله جلّ ثناؤه مَا لا يعلم معناه إِلاَّ بمعرفة قصته، قوله جلّ ثناؤه: "قل مَن كَانَ عَدُوّاً لجِبْريل فإنّه نَزَّله عَلَى قلبك بإذن الله" وفغي أمثال العرب: "عَسَى الغُوَيْر أبْؤُساً". والذي يشكل لأنه لا يُحَدُّ فِي نفس الخطاب - فكقوله جلّ ثناؤه: ""أقيموا الصلاة" فهذا مجمّل غير مفصل حَتَّى فَسَّره النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم: والذي أشكل لوجَازة لفظه قولهم: الغَمَراتِ ثُمَّ يَنْجَلِينَا والذي يأتيه الإشكال لاشتراك اللفظ - قول القائل: وضَعوا اللُّجَّ عَلَى قَفيَّ. وَعَلَى هَذَا الترتيب يكون الكلام كلُّه فِي الكتاب والسُّنة وأشعار العرب وسائر الكلام.

باب ذكر مَا اختصت بِهِ العرب
من العلوم الجليلة الَّتِي خصت بِهَا العرب - الإعرابُ الَّذِي هو الفارق بَيْنَ المعاني المتكافِئَة فِي اللفظ، وبه يعرف الخبر الَّذِي هو أصل الكلام، ولولاه مَا مُيّز فاعل من مفعول، ولا مضاف من مَنْعوت، ولا تَعَجُّبٌ من استفهام، ولا صَدْر من مصدَر، ولا نعتٌ من تأكيد. وذكر بعض أصحابنا أن الإعراب يختص بالأخبار، وَقَدْ يكون الإعراب فِي غير الخبر أيضاً. لأنّا نقول: "أزيدٌ عندك?" و "أزيداً ضربت?" فقد عَمِل الإعراب وَلَيْسَ هو من باب الخبر. ورغم ناس يُتَوقفُ عن قبول أخبارهم أن الذين يُسمَّون لفَلاسِفة قَدْ كَانَ لهم إعرابٌ ومؤلَّفاتُ نحوٍ. قال أحمد بن فارس: وهذا كلام لا يَعَرَّجُ عَلَى مثله. وإنما تَشَبّهَ القوم آنفاً بأهل الإسلام، فأخذوا من كتب علمائنا، وغَيَّروا بعض ألفاظها، ونسبوا ذَلِكَ إِلَى قوم ذَوي أسماء منكرةٍ بتراجمَ بَشِعَةٍ لا يكاد لسان ذي دين ينطق بِهَا. وادَّعوا مع ذَلِكَ أن للقوم شعراً، وَقَدْ قرأناه فوجدناه قليل الماءِ، نَزْرَ الحَلاوة، غير مستقيم الوزن. بلى، الشِّعر شِعر العرب، ديوانُهم وحافظ مآثِرهم، ومُقيّدُ أحسابهم، ثُمَّ للعرب العَروض الَّتِي هي ميزان الشِّعر، وبها يُعرف صحيحه من سقيمه. ومن عرف دقائقه وأسراره وخفاياه علم أنه يُربي عَلَى جميع مَا يبَجَحُ بِهِ هؤلاء الَّذِين يَنْتَحلون معرفة حقائق الأشياء من الأعداد والخطوط والنقط الَّتِي لا أعرف لَهَا فائدة غير أنها مع قلة فائدتها تُرِقّ الدّين، وتنتج كل مَا نعوذ بالله منه. وللعرب حفظ الأنساب وَمَا يُعلم أحدٌ من الأمم عُني بحفظ النسب عناية العرب. قال الله جلّ ثناؤه: "يَا أَيُّها الناس إنّا خَلَقناكم من ذكر وأُنْثى. وجعلناكم شعوباً وقبائلِ لِتَعارفوا" فهي آية مَا عَمِل بمضمونها غيرُهم. ومما خصَّ الله جلَّ ثناؤه بِهِ العَرب طهارتُهم ونَزاهَتُهم عن الأدناس الَّتِي استباحها غيرهم من مخالَطَةِ ذوات المحارِم. وهي منقبة تَعْلو بِجَمالها كلَّ مأثرةٍ والحمد لله.

باب الأسباب الإسلامية
كَانَتْ العربُ فِي جاهليتها عَلَى إرثٍ من إرث آبائهم فِي لُغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقَرابينهم. فلما جاءَ الله جلّ ثناؤه بالإسلام حالت أحوالٌ، ونُسِخَت دِيانات، وأبطلت أمورٌ، ونُقِلت من اللغة ألفاظ من مواضعَ إِلَى مواضع أخَر بزيادات زيدت، وشرائع شُرعت، وشرائط شُرطت. فَعفَّى الآخرُ الأوّلَ، وشُغِل القوم - بعد المُغاوَرات والتّجارات وتَطَلُّب الأرباح والكدْح للمعاش فِي رحلة الشتاء والصَّيف، وبعد الأغرام بالصَّيْد والمُعاقرة والمياسرة - بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بَيْنَ يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد، وبالتَّفقُّه فِي دين الله عزّ وجلّ، وحفظ سنن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلّم، مع اجتهادهم فِي مجاهدة أعداء الإسلام. فصار الَّذِي نشأ عَلَيْهِ آباؤهم ونشأوا عَلَيْهِ كَأَن لَمْ يكن وحتى تكلَّموا فِي دقائق الفقه وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة وتأويل الوحي بما دُوّن وحُفِظ حَتَّى الآن. فصاروا - بعدما ذكرناه - إِلَى أن يُسأل إمامٌ من الأئمة وهو يخطب عَلَى منبره عن فريضة فَيُفْتي ويَحْسُبُ بثلاث كلمات. وذلك قول أمير المؤمنين عليّ صلوات الله عَلَيْهِ حين سُئل عن ابنتين وأبوين وامرأة: "صار ثُمْنُها تُسعاً" فسميت: المنبريَّة. وإلى أن يقول هو صلوات الله عَلَيْهِ علي منبره والمهاجرون والأنصار متوافرون: "سلوني، فوالله مَا من آية إِلاَّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم فِي سهل أم فِي جبل" وحتى قال صلوات الله عَلَيْهِ وأشار إِلَى ابنيه: "يَا قوم، استنبطوا منّي ومن هذين علمَ مَا مضى وَمَا يكون". وإلى ان يتكلم هو وغيره فِي دقائق العلوم بالمشهور من مسائلهم فِي الفرض وحده، كالمشتركة، ومسألة المباهلة والغَرَّاء، وأُمّ الفَرُّوخ، وأُمّ الأرامل، ومسألة الامتحان، ومسألة ابن مسعود، والأكدريّة، ومختصرة زيد، والخرقاء، وغيرها ممّا هو أغْمَضُ وأدقُّ. فسبحان من نقل أولئك فِي الزمن القريب بتوقيفه، عمّا ألفوه ونشأوا عَلَيْهِ وغذوا بِهِ، إلى مثل هَذَا الَّذِي ذكرناه. وكلّ ذَلِكَ دليل عَلَى حقّ الإيمان وصحة نُبوة نبيّنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. فكان مما جاء فِي الإسلام - ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق. وأنَّ العرب إنَّما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق. ثُمَّ زادت الشريعة شرائطَ وأوصافاً بِهَا سُمِيَ المؤمن بالإطلاق مؤمناً. وكذلك الإسلام والمسلم، إنّما عَرَفت منه إسلامَ الشيء ثُمَّ جاء فِي الشَّرع من أوصافه مَا جاء. وكذلك كَانَتْ لا تعرف من الكُفر إِلاَّ الغِطاء والسِّتْر. فأما المنافق فاسمٌ جاء بِهِ الإسلام لقوم أَبْطنوا غير مَا أظهروه، وَكَانَ الأصل من نافقاء اليَرْبوع. وَلَمْ يعرفوا فِي الفِسْق إِلاَّ قولهم: "فَسَقَتِ الرُّطبة" إذَا خرجت من قِشرها، وجاء الشرع بأن الفِسق الأفحاش فِي الخروج عن طاعة الله جلّ ثناؤه. ومما جاء فِي الشرع الصلاة وأصله فِي لغتهم: الدُّعاء. وَقَدْ كانوا عَرفوا الركوعَ والسجودَ، وإن لَمْ يكن عَلَى هَذِهِ الهيئة، فقالوا:

أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيّةٍ غَوَّاصُهـا = بَهِج متى يَرَها يُهِلَّ ويَسْجُدِ

وقال الأعشى:
يُراوِحُ من صلوات الملـيك = طَوْراً سجوداً وطوراً جُؤاراً

والذي عرفوه منه أيضاً مَا أخبرنا بِهِ عليٌّ عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: قال أَبو عمروٍ: "اسْجدَ الرجلُ: طأطأ وانْحَنَى" قال حُمَيدُ بن ثور: فضول أزمَّتها أسْجَـدَت سجودَ النصارى لأربابها وأنشد: فقلن لَهُ أسْجِدْ لِلَيْلَى فأسجَدا يعني البعير إذَا طأطأ رأسه لتِرْكَبَهُ. وهذا وإن كَانَ فإن العرب لَمْ تعرِفه بمثل مَا أتَت بِهِ الشريعة من الأعداد والمَواقيت والتَّحريم للصلاة، والتَّحليل منها. وكذلك القيام أصله عندهم الإمساكُ ويقول شاعرهم: خَيلٌ صِيامٌ وأُخرى غير صائمة تَحْتَ العَجاج وخيلٌ تعلُكُ اللُّجُما ثم زادت الشريعة النِّية، وحَظَرَت الأكلَ والمُباشَرَة وغير ذَلِكَ من شرائع الصوم. وكذلك الحَجُّ، لَمْ يكن عندهم فِيهِ غير القصد، وسَبْر الجِراح. من ذَلِكَ قولهم: وأَشْهَدُ من عوفٍ حلُولاً كثـيرةً يَحجُّون سِبَّ الزِّبرِقان المُزْعْفَرا ثم زادت الشريعة مَا زادته من شرائط الحج وشعائره. وكذلك الزِّكاة، لَمْ تكن العرب تعرفها إِلاَّ من ناحية النَّماءِ، وزاد الشرع مَا زاده فِيهَا مما لا وجه لإطالة الباب بذكره. وَعَلَى هَذَا سائر مَا تركنا ذِكرَه من العُمْرة والجهاد وسائر أبواب الفِقه. فالوجه فِي هَذَا إذَا سُئل الإنسان عنه أن يقول: فِي الصلاة اسمان لُغويٌّ وشرعيٌّ، ويذكر مَا كانت العرب تعرفه، ثُمَّ مَا جاءَ الإسلام بِهِ. وهو قياسُ مَا تركنا ذكرَه من سائر العلوم، كالنحو والعَروض والشِّعر: كل ذَلِكَ لَهُ اسمان لُغوي وصِناعيٌّ. باب القول فِي حقيقة الكلام زعم قوم أن "الكلام مَا سُمع وفُهم" وذلك قولنا: "قام زيد" و "ذهب عَمْرو". وقال قوم: "الكلام حروف مُؤلَّفة دالة عَلَى معنى". والقولان عندنا مُتقاربان، لأن المسموع المفهوم لا يكاد يكون إِلاَّ بحروف مؤلَّفة تدل عَلَى معنى. وقال لي بعض فقهاء بغداد: إن الكلام عَلَى ضربين مهمَل ومستعمَل. قال: فالمهمل: "هو الَّذِي لَمْ يوضع للفائدة" والمستعمل: "مَا وضع ليفيد" فأعلمته أن هَذَا كلام غيرُ صحيح، وذلك أن المهمَل عَلَى ضربين: ضربٌ لا يجوز ائتلاف حروفه فِي كلام العرب بَتَّةً، وذلك كجيم تؤلَّف مع كاف أَوْ كاف تقدَّم عَلَى جيم، وكعين مع غين، أَوْ حاء مع هاء أَوْ غين، فهذا وَمَا أشبه لا يأتلف. والضرب الآخر مَا يجوز تألُّف حروفه لكن العرب لَمْ تَقُل عَلَيْهِ، وذلك كإرادة مريد أن يقول: "عضخ" فهذا يجوز تألُّفه وَلَيْسَ بالنافر، ألا تراهم قَدْ قالوا فِي الأحرف الثلاثة: "خضع" لكن العرب لَمْ تقل عضخ، فهذان ضربا المهمل. وله ضرب ثالث وهو أن يريد مريد أن يتكلم بكلمة عَلَى خمسة أحرف لَيْسَ فِيهَا من حروف الذَّلَقِ أَوْ الأطباق حرف. وأي هَذِهِ الثلاثة كَانَ فإنه لا يجوز أن يسمى: "كلاماً" لما ذكرناه من أنه وإن كَانَ مسموعاً مؤلفاً فهو غير مفيد. وأهل اللغة لَمْ يذكروا المهمل فِي أقسام الكلام وإنما ذكروه فِي الأبنية المهملة الَّتِي لَمْ تَقل عَلَيْهَا العرب. فقد صح مَا قلناه من خطأِ من زعم أن المهمل كلام. باب أقسام الكلام أجمع أهل العلم أن الكلام ثلاثة: اسم وفعل وحرف. فأما الاسم فقال سيبويه: "الاسم نحو رجل وفرس" وهذا عندنا تمثيل، وَمَا أراد سيبويهِ بِهِ التحديد، إِلاَّ أن ناساً حَكوْا عنه أن "الاسم هو المحدِّث عنه" وهذا شبيه بالقول الأول لأن "كيْفَ" اسم ولا يجوز أن يحدِّث عنه. وسمعت أبا عيد الله بن محمد بن داود الفقيهَ يقول سمعت: أبا العباس محمد بن يزيد المُبَرِّدَ يقول: مذهب سيبويه أن "الاسم مَا صَلَحَ أن يكون فاعلاً" قال: وذلك أن سيبويه قال: "ألا ترى أنك لَوْ قلت إن يضرب يأتينا وأشباهَ ذَلِكَ لَمْ يكن كلاماً، كما تقول إن ضاربك يأتينا" قال: فدل هَذَا عَلَى أن الاسم عنده مَا صَلَحَ لَهُ الفعل. قال: وعارضه بعضُ أصحابه فِي هَذَا بأن "كيْفَ" و "عندَ" و "حَيْثُ" و "أَيْنَ" أسماء وهي لا تصلح أن تكون فاعلة. والدليل عَلَى أن أَيْنَ وكيف أسماء قول سيبويه: "الفتح فِي الأسماء قولهم كيْفَ وأين" فهذا قول سيبويه والبحث عنه. وقال الكسائي: "الاسم مَا وُصِفَ" وهذا أيضاً مُعَارض بما قلناه من كيْفَ وأين أنهما اسمان ولا يُنعتان. وَكَانَ الفرّاء يقول: "الاسم مَا احتمل التنوين أَوْ الإضافة أَوْ الألف واللام" وهذا القول أيضاً مُعارَض بالذي ذكرناه أَوْ نذكره من الأسماء الَّتِي لا تنوَّن ولا تضاف ولا يُضاف إليها ولا يدخلها الألف واللام. وكان الأخفش يقول: "إذَا وجدت شيئاً يحسُنُ لَهُ الفعل والصفة نحو زيد قام وزيد قائم ثُمَّ وجدته يثنى ويُجمع نحو قولك: الزيدان والزيدون ثُمَّ وجدته يمتنع من التصريف فاعلم أنه اسم". وقال أيضاً: مَا حَسُن فِيهِ "يَنْفعني" و "يَضُرُّني". وقال قوم: مَا دخل عَلَيْهِ حرف من حروف الخفض. وهذا قول هشام وغيره. وله قول آخر: ان الاسم مَا نودي. وكلّ ذَلِكَ مُعارَض بما ذكرناه من كيْفَ وأين ومن قولنا: "إذَا" وإذا اسم لحِينٍ. فحدثني علي بن إبراهيم القطان قال: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد المبرّد يقول حدّثني أبو عثمان المازني قال: سألت الأخفش عن "إذَا". مَا الدليل عَلَى أنها اسم لحين? فلم يأتِ بشيء. قال: وسُئِلَ الجَرْمِيُّ فَشَغَّبَ. وسُئِلَ الرّياشيُّ فَجَوَّد وقال: الدليل عَلَى أنها اسم للحين أنه يكون ضميراً، ألا ترى أنك تقول: "القتال إذَا يقوم زيد" كما تقول" "القتال يوم يقوم زيد"? وَقَدْ أومأ الفراء فِي معنى "إذَا" إِلَى هَذَا المعنى. وعاد القول بنا إِلَى تحديد الاسم. فقال المبرِّد فِي كتاب المُقْتَضَب: كل مَا دخل حرف من حروف الجر فهو اسم فإن امتنع من ذَلِكَ فليس باسم. وهذا معارض أيضاً بكيف وإذا وهما اسمان لا يدخل عليهما شيء من حروف الجرّ. وسمعت أبا بكر محمد بن أحمد البصير وأبا محمد سَلْمَ بن الحسن يقولان: سُئِل الزَّجاج عن حد الاسم فقال: صوت مُقَطَّع مفهوم دالٌ عَلَى معنى غيرُ دال عَلَى زمان ولا مكان. وهذا القول معارض بالحرف وذلك أنا نقول "هل" و "بل" وهو صوت مُقَطَّع مفهوم دالٌّ عَلَى معنى غيرُ دال عَلَى زمان ولا مكان. وقل من قال: "الاسم مَا صَلَح أم ينادى" خطأ أيضاً لأَن كيْفَ اسم وأين وإذا، ولا يَصْلُحُ أن يقع عَلَيْهَا نداء. قال أحمد بن فارس: هَذِهِ مقالات القوم فِي حدّ الاسم يُعارضها مَا قَدْ ذكرته. وَمَا أعلم شيئاً مما ذكرته سلم من معارضة. والله اعلم أيُّ ذَلِكَ أصحّ. وذُكر لي عن بعض أهل العربية أن "الاسم مَا كَانَ مُسْتَقِرّاً عَلَى المسمّى وقت ذكرك إيَّاه ولازماً لَهُ" وهذا قريب. باب الفعل قال الكِسَائِيُّ: "الفعل مَا دَلَّ عَلَى زمان". وقال سيبويهِ: "أما الفعل فأمثلةٌ أُخِذت من لفظ أحْداثِ الأسماء وبُنيت لما مضى، وَمَا يكون وَلَمْ يقع، وَمَا هو كائن لَمْ ينقطع" فيقال لسيبويه: ذكرتَ هَذَا فِي أوَّل كتابك وزعمتَ بعدُ أنّ "لَيْسَ" و "عَسَى" و "نِعْمَ" و "بِئْسَ" أفعال، ومعلومٌ أنها لَمْ تُؤْخذ من مصادر. فإن قلت: إني حَدَدْتُ أكثر الفعل وتركت أقلَّه قيل لَكَ: إن الحد عند النُّظَّار مَا لَمْ يَزِد المحدود وَلَمْ يَنْقُصْهً مَا هو لَهُ. وقال قوم "الفعل مَا امتنع من التثنية والجمع". والرَّدُّ عَلَى أصحاب هَذِهِ المقالة أن يقال: إن الحروف كلها ممتنعة من التثنية والجمع وليست أفعالاً. وقال قوم: "الفعل مَا حَسُنَتْ فِيهِ التاء نحو قمتُ وذهبتُ"، وهذا عندنا غلط لأنا قَدْ نسميه فعلاً قبل دخول التاء عَلَيْهِ. وقال قوم "الفعل مَا حَسُنَ فِيهِ أمْسِ وغداً" وهذا عَلَى مذهب البصريين غيرُ مستقيم، لأنهم يقولون أنا قائم غداً، كما يقولون أنا قائم أمسِ. والذي نذهب إِلَيْهِ مَا حكيناه عن الكِسَائِيّ من أن "الفعل مَا دلّ عَلَى زمان كخرج ويخرج" دلَّنا بهما عَلَى ماضٍ ومستقبل. باب الحرف قال سِيبَوَيْهِ: وأما مَا جاء لمعنى، وَلَيْسَ باسم ولا فعل، فنحو "ثُمَّ" و "سَوْفَ" و "واو القسم" و "لام الإضافة". وكان الأخْفَشُ يقول: مَا لَمْ يحسُنْ لَهُ الفعل ولا الصفة ولا التثنية ولا الجمع وَلَمْ يَجُزْ أن يَتَصَرَّف - فهو حرف. وقد أكثر أهلُ العربية فِي هَذَا، وأقربُ مَا فِيهِ مَا قاله سيبويهِ، إنه الَّذِي يفيد معنىً لَيْسَ فِي اسم ولا فعل. نحو قولنا "زيدٌ منطلقٌ" ثُمَّ نقول "هل زيدٌ منطلق?" فافدْنا ب "هل" مَا لَمْ يكن فِي "زيد" ولا "منطلق". باب أجناس الأسماء قال بعض أهل العلم: الأسماء خمسة - اسم فارقٌ واسم مُفارِقٌ واسم مُشْتَقٌّ واسم مضاف واسم مُقْتَضٍ". فالفارق: قولنا "رجل" و "فرس"، فرقنا بالاسمين بَيْنَ شخصين. والمفارق: قولنا "طفل"، يفارقه إذَا كَبشر". والمشتق: قولنا "كاتب" وهو مشتق من "الكتابة" ويكون هَذَا عَلَى وجهين: أحدهما مَبْنِيَّاً عَلَى فَعَلَ وذلك قولنا "كتب فهو كاتب"، والآخر يكون مشتقاً من الفعل غيرَ مبنيٍّ عَلَيْهِ كقولنا "الرحمن" فهذا مشتق من "الرحمة" وغير مبني من "رحم". وكلّ مَا كَانَ من الأوصاف أبعدَ من بنية الفعل فهو أبلغُ، لأن "الرحمن" أبلغُ من "الرحيم" لأنا نقول "رَحِمَ فهو راحم ورحيم" ونقول "قَدَر فهو قادرٌ وقَدير" وإذا قلنا "الرحمن" فليس هو من "رَحِمَ" وإنَّما هو من الرَّحمة". وَعَلَى هَذَا تجري النعوت كلُّها فِي قولنا "كاتب" و "كَتَّاب" و "ضارب" و "ضَرُوب". والمضاف: قولنا "كلّ" و "بعض" لا بدَّ أن يكونا مضافَين. والمُقْتضي: قولنا "أَخ" و "شَريك" و "ابن" و "خَصْم" كلُّ واحد منها إذَا ذُكر اقتضى غيرَهُ، لأن الشريك مُقْتضٍ شريكاً والأخ مقتض آخر. وقال بعض الفقهاء: أسماءُ الأعيان خمسة: اسم لازمٌ واسم مُفارقٌ واسم مُشْتَقٌّ واسم مضاف واسم مُشَبِهٌ. فاللازم: "إنسان" و "سماء" و "أرض" لأن هَذِهِ الأسماء لا تنتقلُ من مُسَميَّاتها. قال: والمُفارِق: اللقب الَّذِي يُسمى نحو "زيد" و "عمرو". وَقَدْ يقع أيضاً بأنْ يقال: المفارق "الطفل" لأنه اسم يزول عنه بِكبَره. والمشتق: ك "دابَّة" و "كاتب". والمضاف: قولنا "ثوبُ عمرو" و "جزءُ الشيءِ". والمشبَّه: قولنا "رَجُلٌ حَديدٌ وأسَدٌ" عَلَى وجه التشبيه. قال: وجِماعُها أنها وُضِعت للدَّلالة بِهَا. قلنا: وهذه قسمة ليست بالبعيدة.

باب النعت
النَّعْتُ: هو الوصف كقولنا: "هو عاقل" و "جاهل". وذُكر عن الخليل أن النعت لا يكون إِلاَّ فِي محمود، وأن الوصف قَدْ يكون فِيهِ وَفِي غيره. والنَّعتُ: يجري مَجرَيَيْن: أحدهما تخليص اسم من اسم كقولنا "زيد العطَّار" و "زيد التَّمِيميّ" خلصناه بنعته من الَّذِي شاركه فِي اسمه. والآخر عَلَى معنى المدح والذم نحو "العاقل" و "الجاهل". وَعَلَى هَذَا الوجه تجري أسماء الله جلَّ وعزَّ، لأنه المحمود المشكور المثنَّى عَلَيْهِ بكلّ لسان، ولا سَمِيَّ لَهُ جلّ اسمُهُ - فيخلُصُ اسمه من غيره. باب القول عَلَى الاسم من أي شيء أُخذ قال قوم: الأسماء سِماتٌ دالَّة عَلَى المُسَميَّات، ليُعرَف بِهَا خطاب المخاطب. وهذا الكلام محتمِل وجهين: أحدهما أن يكون الاسم سِمَة كالعلامة والسِّيماء. والآخر أن يقال: إنه مشتق من "السِّمَة". فإن أراد القائل أنها سِمات عَلَى الوجه الأول فصحيح - وإن كَانَ أراد الوجه الثاني - فحدثني أبو محمد سَلْم بن الحسن البغدادي قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن السّري الزَّجَّاج يقول: معنى قولنا "اسمٌ" مشتق من "السموّ" والسموّ الرفعة. فالأصل فِيهِ "سِمْوٌ" عَلَى وزن حِمْل وجمعه "أسماء" مثل قولك قِنو وأقناء. وإنما جعل الاسم تنويهاً ودَلالة عَلَى المعنى لأن المعنى تَحْتَ الاسم. ومن قال: إن اسماً مأخوذ من "وَسَمْتُ" فهو غلط؛ لأنه لَوْ كَانَ كذا لكان تصغيره "وُسَيْمٌ" كما أن تصغير عِدَّة وصِلَة: وُعَيْدَة ووُصَيْلَة. قال أبو إسحاق: وَمَا قلناه فِي اشتقاق "اسم" ومعناه - قول لا نعلم أحداً فسَّرَه قبلنا. قلت: وأبو إسحاق ثقة. غير أني سمعت أبا الحسين أحمد بن عليّ الأحول يقول سمعت أبا الحسين عبد الله بن سفيان النحوي الخزاز يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد المبرّد يقول: الاسم مُشتق من "سما" إذَا علا. قال: وَكَانَ أبو العباس رُبما اختصني بكثير من علمه فلا يُشركني فِيهِ غيري. باب آخر فِي الأسماء قد قلنا فيما مضى مَا جاء فِي الإسلام من ذكر المسلم والمؤمن وغيرهما. وقد كَانَتْ حدثت فِي صدر الإسلام أسماء، وذلك قولهم لمن أدرك الإسلام من أهل الجاهلية "مُخَضْرَم". فأخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم قال: حدثنا محمد بن عباس الخُشْنَكِي عن إسماعيل بن أبي عبيد الله قال: المخضرمون من الشعراء: من قال الشعر فِي الجاهلية ثُمَّ أدرك الإسلام. فمنهم حسان بن ثابت ولَبيد بن ربيعة ونابغة بني جعدة وأبو زيد وعمرو بن شاس والزَّبْرقان بن بدر وعمرو بن معدي كرب وكعب بن زهير ومعن بن أوس. وتأويل المخضرم: من خَضْرَمَت الشيء أي قطعته، وخَضْرَم فلان عطيته أي قطعها، فسمّي هؤلاء "مخضرمين" كأنهم قطعوا من الكفر إِلَى الإسلام.وممكن أن يكون ذَلِكَ لأن رتبتهم فِي الشعر نقصت لأن حال الشعر تكامنت فِي الإسلام لمَا أنزل الله جلّ ثناؤه من الكتاب العربي العزيز. وهذا عندنا هو الوجه، لأنه لو كَانَ من القطع لكان كلُّ من قُطع إِلَى الإسلام من الجاهلية مخضرماً، والأمر بخلاف هَذَا. ومن الأسماء الَّتِي كَانَتْ فزالت بزوال معانيها قولهم: المِرباع، والنَّشِيطة، الفُضول، وَلَمْ نذكر الصَّفِيّ لأن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم قَدْ اصطفى فِي بعض غزواته وخُصَّ بذلك، وزال اسم الصَّفِي لما توفي رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم. ومما تُرك أيضاً: الأتاوة، والمَكْسَ، والحُلْوان. وكذلك قولهم: إِنْعَم صباحاً، وانْعم ظلاماً. وقولهم للملك: أبَيْتَ اللَّعن. وتُرك أيضاً قول المملوك لمالكه: ربّي. وَقَدْ كانوا يخاطبون ملوكهم بالأَرباب قال الشاعر:

وأَسْلَمْنَ فِيهَا رَ بَّ كِنْدَةَ وابنَـهُ = ورَبَّ معدٍّ بَيْنَ خَبْتٍ وعَرعَر

وتُرك أيضاً تسميةُ من لَمْ يَحُجَّ "صَرورَةً". فحدثنا علي بن إبراهيم عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد - فِي حديث الأعمش - عن عمرو بن مُرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم "لا صَرُورَة فِي الإسلام" ومعنى ذَلِكَ فيما يقال: هو الَّذِي يَدَعُ النكاح تَبَتُّلاً. حدثني علي بن أحمد بن الصَّبَّاح قال: سمعت ابن دُريْد يقول: أصل الصَّرُورة أن الرجل فِي الجاهلية كَانَ إِذَا أحدث حدثاً فلجأ إِلَى الحرم لَمْ يُهَجْ وَكَانَ إِذَا لقيه وليّ الدم فِي الحرم قيل: هو صَرورَة فلا تهجه. ثُمَّ كثر ذَلِكَ فِي كلامهم حَتَّى جعلوا المتعبّد الَّذِي يجتنب النساءَ وطيبَ الطعام: صرورة وصرورياً، وذلك عَنَى النابغة بقوله:

لو أنها عرضت لأشمط راهب = عبد الإله صَرورَةٍ متعـبّـد

أي منقبض عن النساء. فلما جاء الله جَل ثناؤه بالإسلام وأوجب إقامة الحدود بمكة وغيرها سمّي الَّذِي لَمْ يَحُجَّ "صَرورة" خلافاً لأمر الجاهلية، كَأَنَّهم جعلوا أن تركة الحجَّ فِي الإسلام كترك المُتَألِّه إِتيانَ النساء والتنعّم فِي الجاهلية. ومما تُرك أيضاً قولهم: الإبل تُساق فِي الصَّداق النَّوافِج. عَلَى أن من العرب من كَانَ يكره ذَلِكَ. قال شاعرهم:
وَلَيْسَ تِلادِي من وِراثة والدي = ولا شانَ مالي مُستفادُ النوافِجِ

وكانوا يقولون: "تَهْنِكَ النافِجةُ" مع الَّذِي ذكرنا من كراهة ذوي أقدارهم لَهَا وللعقول. قال جَنْدَلُ الطُّهَوِيّ:

وَمَا فَكَّ رِق ذاتُ خَلْق خَبَرْنَـجِ = ولا شانَ مالي صدقَةٌ وعقـولُ
ولكن نماني كلُّ أبيضَ صـارِمٍ، = فأصبحتُ أدري اليومَ كَيْفَ أقولُ

ومما كُره فِي الإسلام من الألفاظ قول القائل: "خَبُثَت نفسي" قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم: "لا يقولَنَّ أحدُكم خَبُثتْ نفسي". وكُرِه أيضاً أن يقال: استأثَر الله بفلان. ومما كرهه العلماء قول من قال: سُنة أبي بكر وعمر، إنما يقال: فَرْضُ الله جلّ وعزَّ وسُنَّتُه، وسنة رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وآله وسلم. ومما كَانَتْ العرب تستعمله ثُمَّ تُرك قولهم: حِجْراً محجوزاً. وَكَانَ هَذَا عندهم لمعنيين: أحدهما عند الحِرْمان إِذَا سُئِل الإنسان قال: حجراً محجوراً، فيعلم السائل أنه يريد أن يحرمه. ومنه قوله:

حَنَّتْ إِلَى النَّخلة القُصْوى فقلت لَهَا = حِجْرٌ حرام ألا تِلْكَ الـدَّهـارِيسُ

والوجه الآخر: الاستعاذة. كَانَ الإنسان إِذَا سافر فرأى من يخافه قال: حِجْراً محجوراً. أي حرام عَلَيْكَ التعرّض لي. وَعَلَى هَذَا فُسِّر قوله عزّ وجلّ "يوم يرَوْن الملائكة لا بُشرى يومئذ للمجرمين، ويقولون: حِجْراً محجوراً" يقول المجرمون ذَلِكَ كما كانوا يقولونه فِي الدنيا. باب مَا جرى مجرى الأسماء وإنما هي ألقاب ومما جرى مجرى الاسم وهو لقب قولهم: مُدْركة وطابخة. وذلك فِي العرب عَلَى ثلاثة أضرب: ضربٌ مدح، وضربٌ ذم، وضربُ تلقُّب الإنسان لفعل يفعله. فالمدح: تلقيبهم البَحْر والحَبْرَ والباقر والصادق والدّيباج وغيرهم. والذم: فكتلقيبهم بالوَزَغ ورَشْح الحَجَر وَمَا أشبه ذَلِكَ. وأما اللقب المأخوذ من فعل يُفعل - فكطابخة ومُدركة. وقوله جلّ ثناؤه "ولا تَنابَزُوا بالألقاب" فقال قتادة: هو أن تقول للرجل: يَا فاسق يَا منافق. وروى الشَّعبِيّ عن أبي جُبَيْرة بن الضحاك - وأبو جبيرة رجل من الأنصار من بني سلمة - قال: فينا أنزلت هَذِهِ الآية. وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم قَدِم علينا، وَلَيْسَ منا رَجُلٌ إِلاَّ لَهُ لقبان أَوْ ثلاثة فجعل بعضنا يدعو بعضاً بلقبه، فسمع ذَلِكَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل هو أحياناً يدعو الرجل ببعض تِلْكَ الألقاب، فقيل لَهُ" يَا رسول الله إنه يغضب من هذا، فأنزل الله جلّ ثناؤه "ولا تنابَزُوا بالألقاب". وأما تسمية العرب أولادها بكلب وقرد ونمر وأسد - فذهب علماؤنا إِلَى أن العرب كَانَتْ إِذَا ولد لأحدهم ابن ذكر سمّاه بما يراه أَوْ يسمعه مما يُتَفَأَّلُ به، فإن رأى حَجَراً أَوْ سمعه تأوّل فِيهِ الشدة والصلابة والبقاء والصبر. وإن رأى ذئباً تأوّل فِيهِ الفطنة والنُّكر والكسب. وإن رأى حماراً تأوّل فِيهِ طول العُمر والوقاحة. وإن رأى كلباً تأوّل فِيهِ الحراسة وبُعدَ الصوت والإِلْفَ. وَعَلَى هَذَا يكون جميع مَا لَمْ نذكره من هَذِهِ الأسماء. باب الأسماء التي تسمى بِهَا الأشخاص عَلَى المُجاوَرَة والسَّبب قال علماؤنا: العرب تسمّي الشيءَ باسم الشيءِ إِذَا كَانَ مجاوراً لَهُ أَوْ كَانَ منه بسبب. وذلك قولهم "التيمُّم" لَمَسْح الوجه من الصعيد، وإنما التيمّم الطلب والقصد. يقال" تيمّمتك وتأممتك أي تعمّدتك. ومن ذَلِكَ تسميتهم السحاب "سماءً" والمطر "سماء" وتجاوزوا ذلك إِلَى أن سموا النبتَ سماءً. قال شاعرهم:

إِذَا نَزَل السماءُ بأرض قوم

وربما سموا الشحم "ندىً" لأن الشحم عن النبت، والنبت عن الندى قال ابن أَحْمَرَ:

كثور العداب الفَرْد يَضْرِبه النَّدى = تَعَلَّى النَّدى فِي متنه وتَـحَـدَّرا

ومن هَذَا الباب قول القائل: قَدْ جعلتُ نفسي فِي أديمِ أراد بالنفس الماء وذلك قِوامَ النفس بالماء. وذكر ناس أنّ من هَذَا الباب قوله جلّ ثناؤه "أنزلَ لكُمْ من الأنعام ثمانية أزواج" يعني خلق. وإنما جاز أن يقول أنزل لأن الأنعام لا تقوم إِلاَّ بالنبات والنبات لا يقوم إِلاَّ بالماء، والله جلّ ثناؤه ينزل الماء من السماء. قال: ومثله "قَدْ أنزلنا عليكم لِباساً" وهو جلّ ثناؤه إنما أنْزَلَ الماء، لكن اللباس من القطن، والقطن لا يكون إِلاَّ بالماء. قال: ومنه جلّ ثناؤه "وليَسْتَعْففِ الَّذِين لا يجدون نكاحاً" إنما أراد والله أعلم - الشيء يُنْكَحُ بِهِ من مَهْر ونَفقة، ولا بد للمتزوج بِهِ منه. باب القول فِي أصول أسماء قِيسَ عَلَيْهَا وأُلحِقَ بِهَا غيرُها كَانَ الأصمعي يقول: أصل "الورِد" إتيان الماء، ثُمَّ صار إتيانُ كلِّ شيء ورْداً. و "القرَبَ" طلبُ الماء. ثُمَّ صار يقال ذَلِكَ لكل طلب، فيقال: "هو يَقْرَب كذا" أي يطلبه و "ولا تَقْرب كذا". ويقولون: "رَفَعَ عَقِيرَتَهُ" أي صوته، وأصل ذَلِكَ أن رَجُلاً عُقِرَتْ رجله فرفعها وجعل يَصيحُ بأعلى صوته فقيل بعد ذَلِكَ لكل من رفع صوته: رفع عقيرته. ويقولون" بَيْنَهما مسافة" وأصله من "السَّوف" وهو الشم. ومثل هَذَا كثير. قلنا: وهذا الَّذِي عن الأصمعي وسائر مل تركنا ذكره لشهرته فهو راجع إِلَى الأبواب الأُوَلِ، وكلّ ذَلِكَ عندنا توقيف عَلَى مَا احتججنا لَهُ. وقول هؤلاء: إنه كَثُرَ حَتَّى صار كذا، فعلى مَا فسرناه من أن الفرع مُوَقَّفٌ عليه، كما أن الأصل موقَّف عَلَيْهِ. باب الأسماء كَيْفَ تقع عَلَى المسميات يُسمَّى الشيئان المختلفان بالاسمين المختلفين، وذلك أكثر الكلام كرَجُل وفَرَس. ونُسمى الأشياء الكثيرة بالاسم الواحد، نحو: "عين الماء" و "عين المال" و "عين السحاب". ويسمى الشيء الواحد بالأَسماء المختلفة. نحو: "السيف والمهنّد والحسام". والذي نقوله فِي هَذَا: إن الاسم واحد وهو "السيف" وَمَا بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة منها فمعناها غير معنى الأخرى. وَقَدْ خالف فِي ذَلِكَ قوم فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظها فإنها ترجع إِلَى معنى واحد. وذلك قولنا: "سيف وعضب وحُسام". وقال آخرون: لَيْسَ منها اسم ولا صفة إِلاَّ ومعناه غيرُ معنى الآخر. قالوا: وكذلك الأفعال. نحو: مضى وذهب وانطلق. وقعد وجلس. ورقد ونام وهجع. قالوا: ففي "قعد" معنى لَيْسَ فِي "جلس" وكذلك القول فيما سواهُ. وبهذا نقول، وهو مذهب شيخنا أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب. واحتجُ أصحاب المقالة الأولى بأنه: لو كَانَ لكلّ لفظة معنىً غير معنى الأُخرى لما أمكن أن يعبّر عن شيء بغير عبارته. وذلك أنّا نقول فِي "لا ريب فِيهِ": "لا شك فِيهِ" فلو كَانَ "الرَّيْب" غير "الشَّكّ" لكانت العبارة عن معنى الرّيب بالشك خطأ. فلما عُبّرَ عن هَذَا بهذا علم أن المعنى واحد. قالوا: وإِنما يأتي الشعر بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد فِي مكان واحد تأكيداً ومبالغة. كقولهم: وهند أتى من دونها النأيُ والبُعدُ فقالوا: فالنأي هو البعد قالوا: وكذلك قول الآخر: عام الحبس والأصر إِن الحبس هو الأصْرُ ونحن نقول: إِن فِي قعد معنىً ليس فِي جلس. ألا ترى أَنَّا نقول "قام ثُمَّ قعد" و "أخَذَهُ المقِيمُ والمقْعِدَ" و "قَعَدَتِ المرأة عن الحيض". ونقول لناس من الخوارج "قَعَدٌ" ثُمَّ نقول: "كَانَ مضطجعاً فجلس" فيكون القعود عن قيام والجلوس عن حالة هي دون الجلوس لأن "الجَلْسَ: المرتفع" فالجلوس ارتفاع عما هو دونه. وَعَلَى هَذَا يجري الباب كلُّه. وأما قولهم: إِن المعنيين لو اختلفا لما جاز أن يُعَبَّر عن الشيء بالشيء. فإنا نقول: إنّما عُبّر عنه من طريق المشاكلة، ولسنا نقول إِن اللفظتين مختلفتان، فيلزمنا مَا قالوه. وإنما نقول إِن فِي كلّ واحدة منهما معنىً لَيْسَ فِي الأخرى. ومن سُنَن العرب فِي الأَسماء أن يسمّوا المتضادَّين باسم واحد. نحو "الجَوْن" للأسود و "الجَوْن" للأبيض. وأنكر ناس هَذَا المذهب وأن العرب تأتي باسم واحد لشيء وضدّه. وهذا لَيْسَ بشيء. وذلك أن الَّذِين رَوَوْا أن العرب تُسمي السيف مهنَّداً والفَرَسَ طِرْفاً هم الَّذِين رَوَوْا أن العرب تُسمِّي المتضادَّين باسم واحد. وَقَدْ جرَّدنا فِي هَذَا كتاباً ذكرنا فِيهِ مَا احتجوا به، وذكرنا ردَّ ذَلِكَ ونقصه، فلذلك لَمْ نكرّرِهُ.

باب الأسماء التي لا تكون إلا باجتماع صفات
وأقلها ثنتان من ذَلِكَ "المائدة" لا يقال لَهَا مائدة حَتَّى يكون عَلَيْهَا الطعام لأن المائدة من "مَادني يميدُني" إِذَا أعطاك. وإلاَّ فاسمها "خِوَان". وكذلك "الكأس" لا تكون كأساً حَتَّى يكون فِيهَا شراب. وإلا فهو "قدح" أَوْ "كوب". وكذلك "الحُلَّة" لا تكون إِلاَّ ثوبين: إزار ورداء من جنس واحد فإن اختلفا لَمْ تُدْعَ حُلَّة. ومن ذَلِكَ "الظَّعِنَة" لا تكون ظعينة حَتَّى تكون امرأة فِي هودج عَلَى راحلة. ومن ذَلِكَ "السَّجْل" لا يكون سجلاً إِلاَّ أن يكون دلواً فِيهِ ماء. و "اللِّحْيَة" لا تكون إِلاَّ شعراً عَلَى ذّقّن ولَحْيَيْن. ومن ذَلِكَ "الأرِيكَة" وهي الحَجْلة عَلَى السرير لا تكون كذا. فسمعت عليَّ بن إبراهيم يقول سمعت ثعلباً يقول: الأرِيكة لا تكون إِلاَّ سريراً مُتَّخَذاً فِي قبة شَوارُهُ ونجْدُهُ. وكذلك "الذنوب" لا تكون ذنوباً إِلاَّ وهِي ملأى، ولا تسمّى خالية ذَنوباً. ومن ذَلِكَ "القلم" لا يكون قلماً إِلاَّ وَقَدْ بُرِيَ وأُصلح، وإلاَّ فهو أُنْبوبة. وسمعت أبي يقول: قيل لأعرابي "مَا القلم?" فقال: "لا أدري" فقيل لَهُ "تَوَهَّمْهُ" فقال: "هو عود قُلِمَ من جانبيه كتقليم الأُظفور فسُمِّيَ قلما". ومن ذَلِكَ "الكوب" لا يكون إِلاَّ بلا عروة.? و"الكوز" لا يكون إِلاَّ بعُروة.

باب الاسمين المصطحبين
أخبرنا عليّ بن إبراهيم عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال، قال الأصمعي: إِذَا كَانَ أَخَوان أَوْ صاحبان وَكَانَ أحدهما أشهر من الآخر سُمّيا جميعاً باسم الأشهر، قال الشاعر:

ألا مَنْ مُبْلِغُ "الحُرَّيْنِ" عني = مُغَلْغَلَةً وخُصَّ بِهَا أُبـيَّا

وأحدهما هو الحُرّ. وكذلك الزَّهدَمان والثعلبتان. ويكون ذَلِكَ فِي الألقاب كقولهم لِقَيْسٍ ومُعاوية ابنَيْ مالك بن حَنْظَلة "الكُرْدوسان" ولِعَبْس وذُبْيان "الأَجربان". وذَكَر الأبواب بطولها. وإنما نذكر من كلّ شيء رسماً لشُهْرَته. باب فِي زيادات الأسماء ومن سُنن العرب الزّيادة فِي حروف الاسم، ويكون ذَلِكَ إما للمبالغة وإما للتشويه والتقبيح. سَمعت مَن أثِقُ بِهِ قال: تفعل العَرب ذَلِكَ للتشويه، يقولون للبعيد مَا بَيْنَ الطرفين المفرط الطول "طِرِمّاح" وإنما أصله من "الطَّرَح" وهو البعيد، لكنه لما أفرط طوله سُمي طرمّاحاً، فشُوّه الاسم لما شوهت الصورة. وهذا كلام غير بعيد. ويجيء فِي قياسه قولهم "رَعَشْنٌ" للذي يرتعش و "خَلْبَنٌ" و "زُرْقَمٌ" للشديد الزَّرق و "صِلْدِم" للناقة الصُّلْبة، والأصل صَلْد و "شَدْقَم" للواسع. ويكون من الباب قولهم للكثيرة التَّسَمُّع والتَّنظُّر "سِمْعَنَّةٌ، نِظْرَنَّة". ومن الباب: كبير وكُبار وكُبَّار. وطُوَال وطُوَّال.

باب الحروف
قال أحمد بن فارس: هَذَا باب يصلح فِي أبواب العربية، لكني رأيت فقهاءنا يذكرون بعض الحروف فِي كتب الأصول، فذكرنا منها مَا ذكرناه عَلَى اختصار. فأصل الحروف - الثمانيةُ والعشرون الَّتِي منها تأليف الكلام كلِّه. وتتولَّد بعد ذَلِكَ حروف كقولنا: "اصْطَبر" و "ادَكر" تولَّدن الطاء لعلّة، وكذلك الدال. فأول الحروف الهمزة، والعرب تنفرد بِهَا فِي عُرْض الكلام مثل "قرأ" ولا يكون فِي شيء من اللغات إِلاَّ ابتداءً. وممّا اختصت بِهِ لغة العرب الحاء والظاء. وزعم ناس أن الضاد مقصورة عَلَى العرب دون سائر الأمم. قال أبو عبيدة: وَقَدْ انفردت العرب بالألف واللام اللتين للتعريف، كقولنا: "الرجل" و "الفرس" فليسا فِي شيء من لغات الأمم غير العرب.

باب ذكر دخول ألف التعريف ولامه فِي الأسماء
تدخل ألف التعريف ولامهُ عَلَى اسمين: متمكن وغير متمكن فالذي هو غير متمكن "الَّذِي" و "الَّتِي". والمتمكن قولنا: "رجل" ثُمَّ يكون ذَلِكَ للجنس والتعريف. فالأول قولنا "رجل" لِمَنْكُورٍ، فإذا عُهد مرّة قيل "الرجل". والجنس قولنا "كثر الدينار والدِّرهم" وقوله والذئب أخشاه إن مررت بِهِ لا يريد بِهِ ذئباً بعينه، إنما يريد أنه يخشى هَذَا الجنس من الحيوان. ويكون الألف واللام بمعنى الَّذِي كقولنا "جاءني الضاربُ عَمْراً" بمعنى الَّذِي ضرب عمراً. وربما دَخلا عَلَى الاسم وضعاً، لا لجنس ولا لشيء من المعاني كقولنا "الكوفة" و "البصرة" و "البشْرُ" و "الثَّرثارُ". وربما دخلا للتفخيم نحو "العبّاس" و "الفضل. وهذان هما اللذان يدخلان فِي أسماء الله - جلّ وعزّ - وصفاتِهِ.

باب الألف المُبْتَدأ بِهَا
يقولون: ألِفُ أصْل، وألف وصل، وألف قَطْع، وألف استفهام، وألف المُخْبر عن نفسه. فالألف الَّتِي للأصل قولنا "أتى يأتي". وألف القطع مثل "أكرم". وألف الاستفهام نحو "أخَرجَ زيد?". وألف المُخْبِر عن نفسه نحو "أنا أخرجُ". وألف الوصل: تدخل عَلَى الأسماء والأفعال والأدوات. ففي الأسماء قولنا "اسم" و "ابن" وَفِي الأفعال قولنا "اضْربْ". والتي تدخل عَلَى الأدوات مختلف فِيهَا: قال قوم هي الألف فِي قولك "أَيم الله". والألف الَّتِي تدخل عَلَى لام التعريف مثل "الرجُل"، وهذا فِي مذهب أهل البصرة. وكثيراً مَا سمعت أبا سعيد السيْرافيّ يقول فِي ألف الرجل ألف لام التعريف. والكوفيون يقولون ألف التعريف ولامه وهما مثل "هل" و "بل". بابُ وُجوه دُخول الألف فِي الأفعال دخول الألف فِي الأفعال لوجوهٍ: أحدهما: أن يكون الفعل بالألف وغير الألف بمعنىً واحد نحو قولهم "رَمَيْتُ" عَلَى الخمسين" و "أَرْمَيْتُ" أي زدت و "عَنَدَ العِرْقُ" إذَا سال و "أَعْنَدَ". والوجه الآخر : أن يتغيَّر المعنَيَان، وإن كَانَ الفعلان فِي القياس راجعين إِلَى أصل واحد نحو "وَعَيْتُ الحديث" و "أَوْعَيْتُ المتاعَ فِي الوعاء". ومن هَذَا الباب "أَسْقَيْتُه" إذَا جعلت لَهُ سُقْياً و "سَقَيْتُهُ" إذَا أنت سقيته. والوجه الثالث: أن يتضادَّ المعنيان بزيادة الألف نحو "تَرِبَ" إذَا افْتَقرَ و "أَتْرَب" إذَا اسْتَغْنَى. والوجه الرابع: أن يكون الفعلان لشيئين مختلفين، فيكون بغير ألف لشيء وبالألف لشيء آخر. من ذَلِكَ "حَيّى القومُ بعدَ هُزال" إذَا حسنت أحوالهم و "أَحْيَوْا" إذَا حيَّت دَوابُّهم. والوجه الخامس: أن يكون بالألف بمعنى العَرْض وبغير ألف لإنفاذ الفعل نحو "بِعْتُ الفرس" إذَا أمضيت بيعه و "أَبَعْتُه" إذَا عرضته لبيع. والوجه السادس: أن يكون بالألف إخباراً عن مجيء وقت نحو "أَحْصَدَ الزَّرعُ" حان لَهُ أن يُحْصَد. والوجه السابع: أن يكون دالاًّ عَلَى وجود شيء بصفة نحو "أَحْمَدتُ الرجُل" إذَا وجدته محموداً. والوجه الثامن: أن يدل عَلَى إتيان فعل نحو "أَخَسَّ الرجل" أتى بِخَسِيسِ. وتكون الألف للتعدية نحو "أذهبتُ زيداً". وربّما كَانَتْ هَذِهِ الألف للشيء نفسه، ويكون الفاعل ذلك بلا ألف نحو "أَقْشَعَ الغيمُ" و "قَشَعْته الريحُ"، و "أًَتْرَفَتْ البئرُ" ذهب ماؤها و "تَرَفْناها نحنُ" و "أنْسَلَ رِيشُ الطائر" سقط و "نَسَلته أنا"، و "أكبَّ عَلَى وجهه" قال الله جل ثناؤه: "أفمنْ يمْشي مكِبَّاً عَلَى وجههِ" و "كَبَّهُ اللهُ" قال الله جل ثناؤه: "فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ".

باب شرحُ جُملةٍ تقدَّمت فِي أَلِفات الوَصْل
ألفات الوصل - تكون فِي صدور الأسماء والأفعال والأدوات ويذكر أهلُ العربية أنها نَيّفٌ وأربعون ألفاً - عَلَى تكرير يقع فِي بعضها - لأن الَّذِي يذكر منها فِي المصادر مكرَّرٌ فِي الأفعال. فأما الَّتِي فِي الأسماء فَتِسْعَ عشرة ألفاً. وهي عَلَى ضربين: ألفٌ فِي اسم لَمْ يَصدُر عن فعل، فالألفات فِي الأسماء الَّتِي لَمْ تصدر عن الأفعال ثمان: ألف "ابن" و "ابنة" و "اثنين" و "اثنتين" و "امرئ" و "امرأة" و "اسم" وألف ثامنة. والألفات فِي الأسماء الصادرة عن الأفعال هي الَّتِي فِي "اقتطاع" و "استعطاف" و "ارتداد" و "احميرار" و "استحنكاك" و "اقشعرار" و "اخرِوَّاط" و "اعْريراء" و "اطّواف" و "اثيقال". وهذه تكون فِي الإدراج ساكنةً وإذا ابتدئ بِهَا كَانَتْ مكسورة. وأما الَّتِي فِي الأفعال - فثلاث: منها فِي الأمر بالفعل الثلاثي. مثل "اضْرِبَ، اعلمُ، اقْتُلُ". ومنها فِي للأفعال الماضية الَّتِي ذكرت عنها الأسماء المتقدّم ذكرها إحدى عشرة ألفاً وهي: أَفْتَعلَ، وانْفعَلَ، واسْتفعَل، وافْعلّ، وافْعَالَّ، وافْعلَّلَ، وافْعَوْعَلُ، وافْعلّل، وافَّعِلْ، وافّاعِلْ وقد ذكرنا ترجمة هذه الأمثلة ثم تقع هذه الألقاب بعينها في الأفعال المستعبدة المأمور بها وهي: افتعل وانفعل واستفعل وافعلل وافعالل وافعلل وافعول وافعوعل وافعلل وافعل وافاعل. وقد أعلمتُ أن فِيهَا تكريراً ليكون الباب أبلغ شرحاً. وأما الَّتِي تقع فِي الأدوات - فقليلة عَلَى اختلاف فِيهَا، وإنما هي فِي قولهم "أيمُ الله". والألف التي مع اللام فِي قولنا "الرجلُ". وموضع الاختلاف أن الألف فِي "أَيمُ" مقطوعة صحيحة. وهي بالهمزة أشبه منها بألفات الوصل، إِلاَّ أن نقول "إِيمُ الله" بالكسر فيكون حينئذ أشبه بألف الوصل. والألف الَّتِي مع اللام قَدْ تقدم ذكرها. باب الباء الباء من حروف الشفَّة. ولذلك لا تأتلف مع الفاء والميم: أما الفاء فلا تقارنها باء متقدمة ولا متأخرة. وأما الميم فلا تتقدم عَلَى الباء ملاصقةً لَهَا بوجهٍ. ومتأخّرةً كذلك إِلاَّ فِي قولنا "شَبمٌ". وَقَدْ يدخل بَيْنَهما دخيل فِي مثل "عَبَام" وهي عَلَى الأحوال يقِلّ تألُّقها معها.. وهي من الحروف الأصلية، وَمَا أعلمهم زادوها فِي شيء من أبنية كلامهم، إِلاَّ فِي حرف قاله الأغلب: فَلَّكَ ثدياها مع النتُوبِ أراد "النُّتُوء" فزاد الباء. والباء تكون للإلصاق، وللاعتمال، وَفِي موضع "عن"، وَفِي موضع "من"، وتكون للمصاحبة، وتقع موقع "مع". وتقع موقع "فِي" و "عَلَى"، وتكون للبدل، ولتعدية الفعل، وللسبب، وتكون دالَّة عَلَى نفس المُخْبِر عنه وظاهرها يُوهِم أن الإخبارَ عن غيره، ومنها المُلْصَقة بالاسم والمعنى الطرح، ومنها باء الابتداء، ومنها باء الْقَسَم. فالإلصاق - قولك "مسحت يدي بالأرض". ومن أهل العربية من يقول: "مررت بزيد" إنها للإلصاق، كَأَنَّه ألصق المرورَ بِهِ. وكذا إذَا قال: "هَزَأت بِهِ". والإِعْتِمال - قولنا "كتبت بالقلم" و "ضربت بالسيف". وذكر ناس أن هَذِهِ والتي قبلها سواء. والباء الواقعة موقع "عن" قولهم - "سألت بِهِ" إنما أردت عنه ومنه "سَأَلَ سائِلٌ بعذابٍ واقع". ومنه: وسائِلة بثعلبةَ بنِ سير والباء الواقعة موقع "من" - فِي قوله جل ثناؤه "عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عبادُ الله" أراد منها. و: شَرِبَتْ بماء الدُّحْرَضَيْنِ. وباء المصاحبة - "دخل فلان بثيابه وسيفه" وقوله عزّ وجلّ "وَقَدْ دخلوا بالكفر" ومنه "ذهبت بِهِ" لأنك تكون مصاحباً لَهُ. والباء الَّتِي فِي موضع "فِي" قوله: مَا بُكتْ الكبير بالأَطلال والتي فِي موضع "عَلَى" قوله: أربٌ يبول الثَّعْلُبانُ برأسه أراد "عَلَى". وباء البدل - قولهم "هَذَا بذاك" أي عوض منه. ومنه: قالت بما قَدْ أراهُ بصيراً وباء تعدية الفعل - "ذهبت بِهِ" بمعنى "أذهبته". وقوله جلّ ثناؤه "أٍسرى بعبده" لَيْسَ من ذا، لأن سرى وأسرى واحد. وباء السبب - قوله جلّ ثناؤه "والذين هم بِهِ مشركون" أي من أجله. فأما قوله جلّ وعزّ "وكانوا بشركائهم كافرين" فمحتمل أن يكونوا كفروا بِهَا وتبرأوا منها. ويجوز أن تكون باء السبب ، كَأَنَّه قال: "وكانوا من أجل شركائهم كافرين". والباء الدالّة عن نفس المُخبّر عنه والظاهر أنها لغيره - قولك: "لقيت بفلان كريماً" إنما أردته هو نفسه. ومنه قوله: وَلَمْ يَشْهَدِ الْهَيْجَا بأَلْوَثَ مُعْصِم. أراد نفسه. والزائدة: قولك "هَزْت برأسي" و "لا يَقْرَأْنَ بالسُّور". وباء الابتداء - قولك: "باسم الله" المعنى أبدأ باسم الله. وباء القسم: قولك "أُقْسِمُ بالله" ثُمَّ يحذف "أقسم" فيقال "بالله". فإن أرادوا أن يُقسموا بمُضْمَر لَمْ يقولوه إِلاَّ بالباء يقولون: "والله" فإذا أضمروا قالوا: "بِهِ لا فعلت" قال:

ألا نادَتْ أُمامَةُ بارْتِحـال = لِتُحْزِنَني، فلا بِكِ مَا أُبالي

فأما قوله جلّ ثناؤه "وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهنَّ"، "بقادر" فقال قوم الباء فِي موضعها وأن العرب تعرف ذَلِكَ وتفعله. قال امرؤ القيس:

فإن تَنْأَ عنها حقْبَةً لَمْ تُلاقِها = فإنَّك مما أَحْدَثَتْ بالمُجرَّبِ

وقال قوم: إنما هو "بالمُجَرِّبَ" بكسر الراء، ويكون معناه "كالمُجَرِّب" كما قال عديّ:

إِنني والله فاقبل حَلْفَتِي = بِأَبِيلٍ كُلَّما صَلَّى جَأَرْ

قالوا: معناه "كابيل" وهو الراهب وبمنزلته فِي الدين والتقوى. ومن روى بيت امرئ القيس بالفتح فالمعنى "بموضع التجريب" كما قال جلّ ثناؤه: "فلا تَحْسَبَنَّهُمْ بمفَازَةٍ من العذاب" أي بحيث يفوزون. وكذلك "بالمجرَّب" أي بحيث جُرِّبت وبحيث التجريب، والمُجَرَّب والتجريب واحد. كقولهم "مُمَزَّق" بموضع تمزيق فِي قوله جلَّ ثناؤه "ومَزَّقْناهُم كُلَّ مُمَزَّق". بابُ التاء التاء: تزاد فِي الكلام أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة: فزيادتها فِي الأسماء أُولى فِي نحو "تَنْضُب" و "تَتْفُل". وَفِي الفعل "تَفْعَل" وَمَا أشبهه. والثانية نحو "اقتدر". والثالثة "استفعل". والرابعة "سَنْبَتةٌ من الدهر" لأن الأصل "سَنْبَة". والخامسة مثل "عفريت". والسادسة مثل "عنكبوت". ومن التاء - تاء القسم نحو "تالله". قالوا: هي عِوَض من الواو كقولهم "تُجَاه" و "تُكْلان". وتقع فِي جمع المؤنث نحو "قائمات". وتكون بدلاً من الهاء فِي لغة من يقول: "ليست عندنا عربيت". وتاء - تدخل عَلَى "ثُمَّ" و "رُبَّ" و "لا"، كقولهم ثُمت ورُبَّتَ ولاتَ حِين. وناس يقولون: هي داخلة عَلَى "حين". وتاء المؤنث: نحو "هي تفعل". وتاء النفس: نحو "فَعلتُ" و "فعلتَ" فِي المخاطبة. و "فعلتِ" و "فَعَلَت" فِي الأخبار عن المؤنث. وتاء تكون بدلا من سين في بعض اللغات. أنشد ابن السكيت:

يَا قبح الله بني الـسـعْـلاتِ = عَمْرو بن مسعود شرارِ النات

وأما الثَّاءُ فلا أعرف لها عِلَّةً، ولا تقع زائدةً. وكذلك الجيم، إِلاَّ فِي الَّذِي ذكرناه من اللغات المستكرَهة. والحاء والخاء فلا أعرف لهما علّةً. والدال لا عِلَّة لَهَا إِلاَّ فِي لغة من يقلب التاءَ دالاً. فحدثنا عليّ عن محمد بن فَرَح عن سَلَمَة عن الفَرَّاء قال: قوم من العرب يقولون: "أجدَبيكَ" فِي موضع "أَجتَبِيكَ" يجعلون تاء الافتعال بعد الجيم دالاً. ويقولون: "اجْدَمَعُوا" وأنشد:

فقلت لصاحِبي لا تحبسانا = بِنزْع أُصوله واحدْزّ شِيحا

والراء لا أعرف لَهَا علّة. وكذلك الزاي لا أعرف لها علة. وكذلك الزاي إلا في قولهم:"رازي" و"مروزي". وأما السين فإنها تزاد فِي "استفعل". ويختصرون "سَوْفَ أَفْعَلُ" فيقولون "سَأَفْعَلُ". ولا أعرف للشين علّة غير الَّذِي ذكرناه فِي الحروف المستكرهة وكذلك فِي الحروف الَّتِي بعدّها حَتَّى العين. وعِلة العين أنّها تقوم مقام الهمزة فِي لغة بني تميم يقولون: "علمت عَنَّ ذَاكَ" كأنما أراد "أَنَّ". وكذلك الحروف الَّتِي بعدها حَتَّى الفاء. باب الفاء قال البصريون "مررت بزيد فعمرو: الفاء أشركت بَيْنَهما فِي المرور وجعلت الأول مبدوءاً بِهِ". وكان الأخفش يقول: "الفاء تأتي بمعنى الواو" وأنشد: بسِقط اللَّوى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ وخالفه بعضهم فِي هَذَا فقال: لَيْسَ فِي جعل الشاعِر الفاء فِي معنى الواو فائدةٌ، ولا حاجة بِهِ إلى أن يجعل الفاءَ فِي موضع الواو ووزنُ الواو كوزن الفاء. قال: وأصل الفاء أن يكون الَّذِي قبلها علّةً لما بعدها. يقال: "قام زيد فقام الناس". وزعم الأخفش أن الفاء تُزاد، يقولون: "أخوك فَجَهدَ" يريد أخوك جَهَد، واحتجَّ بقوله جلَّ ثناؤه "فإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّم". وَكَانَ قُطْرُب يقول بِقَولِ الأخفش، يقول: إن الفاء مثلُ الواو فِي "بَيْنَ الدخول فَحَوْمَلِ". قال: ولولا أن الفاء بمعنى الواو لفسد المعنى، لأنه لا يريد أن يُصيِّره بَيْنَ الدَّخول أولاً ثُمَّ بَيْنَ حَوْمَل وهذا كثير فِي الشعر. وتكون الفاء جواباً للشرط. تقول: "إن تَأتني فحسَنٌ جميل" ومنه قوله جلّ ثناؤه: "والذين كفروا فتعساً لهم" دخلتِ الفاء لأنه جعل الكفر شريطة كَأَنَّه قال: ومن كفر فتعساً لَهُ. وأمّا القاف فلا أعلم لَهَا علّة إِلاَّ فِي جعلهم إيّاها عند التعريب مكان الهاء نحو "يَلْمَق". باب الكاف تقع الكاف مخاطبة: للمذكر مفتوحة، وللمؤنث مكسورة. نحو "لَكَ" و"لَكِ". وتدخل فِي أول الاسم للتشبيه فتخفض الاسم. نحو "زيد كالأسد" وأهل العربية يقيمونها مقام الاسم ويجعلون لَهَا محلاً من الإعراب، ولذلك يقولون: "مررت بِكالأسد" أرادوا بمثل الأسد. وانشدوا:

عَلَى كالخنيف السَّحق يدعو بِهِ الصدى = لَهُ قـلُـبٌ عـادِيَّةٌ وصُـحـــونُ

فأما الكاف فِي قوله جل ثناؤه: "أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عليّ?" فقال البصريون: هَذِهِ الكاف زائدة، زيدت لمعنى المخاطَبة. قال محمد بن زبد: وكذلك رُوَيْدكَ زيداً. قال: والدليل عَلَى ذَلِكَ أنّك إذَا قلت أرأيتَكَ زيداً? فإنما هي أرأيت زيداً? لأن الكاف لَوْ كَانَتْ اسماً لاستحال أن تُعَدَّى "أرأيت" إِلَى مفعولين إِلاَّ والثاني هو الأول. يريد قولهم "أرأيتَ زيداً قائماً?" لا يتعدى "رأيتَ" إلى مفعولين إِلاَّ إِلَى مفعول هو "زيد" ومفعول آخر هو "قائم" فالأول هو الثاني. قال: و "أرأيتَك زيداً?" الثاني غير الكاف، قال: وإن أردت رؤية العين لَمْ يتعدّ إِلاَّ إِلَى مفعول واحد. قال: ومع ذَلِكَ إن فعل الرجل لا يتعدى إِلَى نفسه فيتصل ضميراً إِلاَّ فِي باب "ظَنَنْت" و "عَلِمْت". فأمّا ضربتُني وضَرَبْتَك فلا يكون. وكذلك إذَا قلت: "رُوَيْدَكَ زيداً" إنما يُراد "أَروِدْ زيداً" قال الزجّاج: الكاف فِي هَذَا المكان لا موضع لَهَا لأنها ذكرت فِي المخاطبة توكيداً. وموضع هَذَا نصب ب "أرأيتَك?". وقال الكوفيون: إن محلّ هَذِهِ الكاف الرفع إذَا قلنا "لولاك" فهي فِي موضع رفع. ثُمَّ نقول: "لولا أنتَ" وإنما صَلَح هَذَا لأن الصورة فِي مثل هَذَا صورة واحدة فِي الرفع والنصب والخفض. وتكون الكاف دالة عَلَى البعد. تقول: "ذا" فإذا بُعد قلت "ذَاكَ". وتكون الكاف زائدة كقوله: "لَيْسَ كمثله شيء". وتكون للعجب نحو "مَا رأيت كاليوم ولا جِلْدَ مُخبَّاَة". باب اللام اللام: تقع زائدة فِي موضعين: فِي قولهم "عبدل" وَفِي قولهم "ذَلِكَ". واللام تكون مفتوحة ومكسورة: ففي المفتوحات لام التوكيد وربما قيل لام الابتداء نحو قوله جل ثناؤه: "لأَنْتُمْ أشَدَّ رَهْبَةً". وقال:

لَلُبْسُ عَبَاءة وتَقرَّ عـينـي = أحْبُّ إليَّ من لبس الشُّفُوف

وتكون خبراً ل "إن": إنَّ زيداً لقائمٌ. ولام التوكيد: إن هَذَا لأنت. وتكون فِي خبر الابتداء نحو: أم الحُلَيْس لعجوز شهربه وزعم ناس أنها تقع صِلةً لا اعتبار بِهَا. ويزعم أنه اعتبر ذَلِكَ من قراءة بعض القراء "إِلاَّ أنّهم لَيأكلون" ففتح "أن" وألغى اللامَ. وأنشد بعضُ أهل العربية:

وأعلمُ علماً لَيْسَ بالظَّـنّ أنّـهُ = متى ذَلَّ مولى المرء فهو ذليلُ
وأن لِسان المرء مَا لَمْ تكن لَـهُ = حصاة عَلَى عوراته لـدلـيل

واللام تكون جوابَ قَسَم "والله لأَقومَنَّ" وتلزمها النونُ فإن كَانَتْ للماضي لَمْ يُحْتَجْ إِلَى النون "والله لَقَامَ". ولام الاستغاثة نحو قولهم "يَا للنَّاس" فإن عَطَفْتَ عَلَيْهَا أُخرى كَسَرْتَ. يُنشِدون:

يُبْكيك ناءٍ بعيدُ الدّارِ مُغْتَرِبٌ = يَا للكهولِ وللشُّبَّانِ والشّيبِ

قال بعض أهل العلم: إِن لام الإضافة تجيء لمعان مختلفة: منها أن تصَيّرَ المُضاف للمُضَافِ إِلَيْهِ. نحو "ولله مَا فِي السماوات". ومنها أن تكون سبباً لشيء وعِلةً لَهُ. مثل إنّما نُطْعمُكم لِوَجه الله". ومنها أن تكون إرادة. نحو "قُمتُ لأَضرب زيداً" بمعنى قمت أريد ضَرْبَهُ. ومنها أن تكون بمعنى "عند" مثل قوله جل ثناؤه: "أقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي" و "لِوُلُوكَ الشمس" أي عنده. ومنها أن تكون بمنزلة "فِي". مثل قوله جلّ وعزّ "لأوَّلِ الحَشْر" أي فِي أول الحشر. ومنها أن تكون لمرور وقت. نحو قول النابغة:

تَوَهَّمْت آياتٍ لَهَا فعرفتها = لِسِتَّةِ أعوام وذا العامُ سابعُ

ومنه قولهم: "غلام لَهُ سنة" أي أتتْ عَلَيْهِ سنة. وتكون بمعنى "بعد" مثل قوله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وآله وسلم: "صوموا لِرُؤْيته" أي بعد رؤيته. وتكون للتخصيص. نحو "الحمد لله" وَفِي الكلام "الفصاحة لقريش والصباحة لبني هاشم". وتكون للتعجب. نحو "لله دَرُّه!" ويُنشدون:

لله يبقى عَلَى الأيَّام ذو حِيَدٍ = بمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ والآسُ

ويقولون: "يَا لِلْعَجَب!" معناه: يَا قوم تعالوا إِلَى العجب ولِلْعجب أدعو. وَقَدْ تجتمع الَّتِي للنداء والتي للعجب فيقولون:

ألا يالَ قوم لِطَيْف الخيال = يُؤَرّقُ من نازِحٍ ذي دلاَل

وتكون للأمر. نحو "ليَقْضُوا نَفَثَهُمْ" وربما حُذفت هَذِهِ فيقولون: محمد تَفْدِ نَفسكَ كلُّ نَفْسٍ وقالوا فِي لام الأمر: كَانَ الأصل "اذهب" فلما سقطت الألف لَمْ يوصل إِلَى الفعل إِلاَّ بلام، لأن الساكن لا يُبْدأ بِهِ. وقوله جل ثناؤه: "إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبيناً لِيغْفَر لَكَ الله" فقال قائل: لِمَ جاز أن تكون المَغْفِرة جزاءً لِما امُتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ وهو قوله: "إنا فتحنا لَكَ فتحاً"? فالجواب من وجهين: أحدهما أن الفتح وإن كَانَ من الله جلَّ ثناؤه فكل فعل يفعله العبد من خير فالله الموفق لَهُ والمُيَسّر، ثُمَّ يجازي عَلَيْهِ، فتكون الحسنة من العبد مِنةً من الله جلّ وعزّ عَلَيْهِ. وكَذلك جزاؤه لَهُ عنها منه. والوجه الآخر أن يكون قوله جلّ ثناؤه: "إِذَا جاء نَصرُ اللهِ والفتحُ ورأيتَ النَّاس يَدخُلون فِي دين الله أفْواجاً فَسَبّح بحمدِ ربّكَ واسْتَغْفِره" فأمَرَهُ بالاستغفار إِذَا جاء الفتح، فكأنه أعلمه أنه إِذَا جاء الفتح واستغفر غفر لَهُ مَا تقدم من ذنبه وَمَا تأخر، فكأن المعنى عَلَى هَذَا الوجه: إنا فتحنا لَكَ فتحاً مبيناً، فإذا جاء الفتح فاستغفر ربك ليغفر لَكَ الله مَا تقدم من ذنبك وَمَا تأخر. وقال قوم: فتحنا لَكَ فِي الدّين فتحاً مبيناً لتهتدي بِهِ أنت والمسلمون فيكون ذَلِكَ سبباً للغفران. ومن اللامات لام العاقبة. قوله جل ثناؤه: "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحَزَناً" وَفِي أشعار العرب ذَلِكَ كثير:

جاءت لتُطعمَه لحما ويَفْجَعَـهـا = بابنٍ فقد أطعمت لحماً وَقَدْ فجعا

وهي لَمْ تجيء لذلك، كما أنهم لَمْ يلتقطوه لذلك، لكن صارت العاقبة ذَلِكَ. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: "ربَّنا لِيَضلُّوا عن سَبِيلِكَ" أي: أتيتَهم زينةَ الحياة فأصارهم ذَلِكَ أن ضلُّوا. وكذلك قوله جلّ ثناؤه: "فَتَنَّا بعضهم ببعض ليقولوا..." هي لام العاقبة. وتكون زائدة. "هم لِرَبّهم يَرْهَبُون" و "للرُّؤْيا تَعْبُرون". باب زيادة الميم والميم تزاد أولى فِي مثل: مُفْعَل ومِفْعَل ومَفْعَل وغير ذَلِكَ. وتزاد فِي أواخر الأسماء. نحو: زُرْقُم وشَدْقم. باب زيادة النون وتزاد أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة. فالأولى: "نَفْعَل". وقالوا: "نَرْجِس" وَلَيْسَ نرجس من كلام العرب، والنون لا تكون بعدّها راء. والثانية: نحو "ناقةٌ عَنْسَلٌ". والثالثة: فِي "قَلَنْسُوَة". والرابعة: فِي "رَعْشن". والخامسة: فِي "صَلتَان". والسادسة: فِي "زَعْفَرَان". وتكون فِي أول الفعل للجمع. نحو "نخرج". وعلامة للرفع فِي "يخرجان" فإذا قلنا الرجلان فقال قوم هي عوض من الحركة والتنوين. وقال آخرون: هي فرق بَيْنَ الواحد المنصوب والاثنين المرفوعين. وتقع فِي الجمع نحو "مسلمون" وربما سقطت فقالوا: الحافظو عورة العشيرة وتكون ثانية فعل المطاوعة نحو "انكسر" و "بَغيْتهُ فانْبغى". وتكون للتأكد مُخَفَّفة ومُثقَّلَة. نحو "اضْرِبْنَ" و "اضْرِبنَّ" إِلاَّ أنها تقلب عند التخفيف فِي الكتاب ألفاً. نحو "لَنَسْفعاً". وتكون للمؤنثة. نحو "تفعلين" وللجماعة "تفعلن". وتُلحق آخر الاسم فِي "زيدٌ خرج" فَرْق بَيْنَ المفرد والمضاف. ويقولون: فرقاً بَيْنَ مَا يجري وَمَا لا يجري. وقالت الجماعة إنما اختيرت النون لأنها أشبه بحروف الإعراب من جهة الغُنَّة. وَمَما تختص بِهِ النون من بين سائر الحروف انقلابُها فِي اللفظ إِلَى غير صورتها ضرورة، وذلك إِذَا كَانَتْ ساكنة وجاءت بعدها باء تنقلب ميماً "عنْبر" و "شَنْباء". باب زيادة الهاء تُزَاد فِي "يَا زَيْداه" وَفِي "سُلْطَانيهُ" وهم يسمونها استراحة وبيان حركة. وللوقف عَلَى الكلمة نحو "عِهْ" و "شِهْ" و "اقْتدِه". باب الواو لا تكون الواو زائدةً أولى وَقَدْ تزاد ثانيةً وثالثة ورابعة وخامسة. فالثانية نحو "كوثر" والثالثة نحو "جدول". والرابعة نحو "قَرنُوة". والخامسة نحو "قَمَحْدُوة". وتكون للنَّسَق، وهو العطف، نحو "زيد وعمرو". وتكون علامةَ رفع نحو "أخوك والمسلمون". فإذا قالوا: "يُعجبني ضَربُ زيدٍ وتَغْضَبَ" فقال قوم: نُصِبَ "تَغْضبَ" عَلَى إِضمار "أنْ" معناه وأن تغضب فيصيرُ فِي معنى المصدر. كأنك قلتَ "يعجبني ضَرْبُ زيد وغضَبُك" فتخرج بذلك من أن تكون ناسِقَةً فعلاً عَلَى اسم. ويقولون: للُبْس عباءة وتَقَرَّ عيني بمعنى وأن تقرّ عيني. فإن نَسَقْت فعلاً عَلَى فعل مجموعين فإعرابهما واحد هو "يقوم ويضرب زيداً" فإن لَمْ تُرِد الجمعَ بَيْنَهما نصبتَ الثاني فيقال نَصبَ بإضمار "أنْ" يقولون: "لا تأكلِ السمك وتشربَ اللبنَ" و: لا تَنْهَ عن خُلُق وتَأتيَ مِثْلَهُ وتكون بمعنى الباء فِي القَسَم نحو "والله". وتكون الواو مُضْمَرَة فِي مثل قوله جلّ ثناؤه: "ولا عَلَى الذينَ إِذَا مَا أتَوْكَ لِتَحْمِلهم قلت: لا أجِدُ مَا أَحْملُكم عَلَيْهِ تولوْا" التأويل: ولا عَلَى الذين - إِذَا مَا أَتوك لتحملهم وقلت: لا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ - تولوا. فجواب الكلام الأول تولّوا. وتكون بمعنى "رُبّ". نحو "وَقَاتِم الأعْماقِ...". وتكون بمعنى "مَعَ" كقولهم "اسْتَوى الماءُ والْخشَبة" أي مع الخشبة وأهل البصرة يقولون فِي قوله جلّ ثناؤه: "فأجْمعوا أمْرَكم وشُركاءَكم" معناها مع شركائكم. كما يقال "لو تُركت الناقة وفَصيلها" أي مع فصيلها. وقال آخرون: أجْمِعوا أمركم وادعوا شركاءكم، اعتباراً بقوله جلّ وعزّ "وادعوا من استطعتم". وتكون صِلةً زائدةً كقوله جلّ وعزّ "إِلاَّ ولَهَا كتابَ معلوم" المعنى إِلاَّ لَهَا. وتكون بمعنى "إِذ" كقوله جلّ وعزَ: "وطائفةٌ قَدْ أهَمَّتْهُم" يريد إذ طائفة. وتقول "جيئت وزيدٌ راكب" أي إذ زيد. وقال قوم: للواو معنيان: معنى اجتماع ومعنى تفرُّق نحو "قام زيد وعمرو". وإن كَانَتْ الواو فِي معنى اجتماع لَمْ تُبَل بأيّهما بَدأتَ. وإن كَانَتْ فِي معنى تَفَرُّق فعمرو قائم بعد زيد. وذهب آخرون إِلَى أن الواو لا تكون إِلاَّ للجمع. قالوا: إِذَا قلت: "قام زيد وعمرو" جاز أن يكون الأمر وقع منهما جميعاً معاً فِي وقت واحد وجاز أن يكون الأول تقدم الثاني، ونكتة بابِها أنَّها للجمع. وتكون الواو عَطْفاُ بالبناء عَلَى كلام يُتَوَهَّم، وذلك قولك - إِذَا قال القائل "رأيتُ زيدا عند عمرو" - قلتَ أنتَ "أَوْ هو ممن يُجالسه?". قال البصريون: معناهُ كَأَنَّ قائلاً قال: "هو ممن يجالسه" فقلتَ أنت "أوَ هو كذاك?". وَفِي القرآن "أوَ أمِنَ أهلُ القُرى?" وكذلك قوله جلّ ثناؤه: "إِنَّا لَمَبْعوثُون، أوَ آباؤنا الأولون?" فليس بأو إنما هي واو عطف دخل عَلَيْهَا ألف الاستفهام كأنه لما قيل لهم "إنكم مبعوثون وآباؤكم" استفهموا عنهم. وتكون الواو مُقحَمةً كقوله جلَّ ثناؤه: "فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنثْ" أراد - والله أعلم - فاضرب بِهِ لا تحنث، جزماً عَلَى جواب الأمر، وَقَدْ تكون نهياً والأول أجود. وكذلك "مكنّا ليوسُفَ فِي الأرض ولِنُعلّمِهُ" أراد "لنعلمه" وَقَدْ قيل: "ولنعلمه فعلنا ذَلِكَ". وكذلك "وحِفْظاً من كل شيطان" أي "وحفظاً فعلنا ذَلِكَ". وقوله: فَلمَّا أجَزْنا ساحة الحيِّ وانْتَحى قيل: هي مُقْحَمة. وقيل: معناه أجزنا وانتحى. باب الياء الياء: تُزاد أولى وثانيةً وثالثة ورابعة وخامسة. فالأولى "يَرْمعٌ" و "يرْبوعٌ". والثانية "حَيْدَرٌ". والثالثة "خَفَيدَدٌ". والرابعة "إِصلِيتٌ". والخامسة "ذَفاري". وتكون أولى فِي الأفعال نحو "يضرب". وللإضافة نحو "عِبَادي". وللتثنية والجمع نحو "الزَّيْدَين" و "الزَّيْدِينَ". وتكون علامة للخَفْض نحو "أخيك". وللتَّأنيث نحو "استَغْفرِي". وللتَّصْغير نحو "بُيَيْتٌ". وللنَّسَب نحو "كُوفِّي". باب القول عَلَى الحروف المفردة الدَّالَّةِ عَلَى المعنى وللعرب الحروف المفردة الَّتِي تدلُّ عَلَى المعنى. نحو التاء فِي "خَرَجْتُ" و"خَرَجْتَ". ونحو الياء و"ثَوْبي" و"فَرَسي". ومنها حروف تدلّ عَلَى الأفعال نحو "إزيداً" أي عِدْهُ. و"ح" من وحَيتُ. و"دِ" من وَدَيْتُ و"ش" من وَشيْتُ و"عِ" من وَعَيْتُ و"فِ" من وَفَيْتُ و"قِ" من وَقَيْتُ و"لِ" من وَلِيْتُ و"نِ" من وَنَيْتُ و"هِ" من وهيت. إلا أنَّ حذّاق النحويين يقولون فِي الوقف عَلَيْهَا "شِهْ" و"دِهْ" فيقفون عَلَى الهاء. ومن الحروف مَا يكون كناية ولَهُ مواضع من الإعراب نحو قولك: "ثوبه" فالهاء كنايةٌ لَهَا محلٌ من الإعراب. ومنه مَا يكون دَلالةً ولا محلّ لَهُ مثل "رأيتها" فالهاء اسم لَهُ محل والميم والألف علامتان لا محلّ لهما، فعلى هَذَا يجيء الباب. فأمّا الحروف الَّتِي فِي كتاب الله جلّ ثناؤه فواتحَ سور فقال قوم: كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسماء الله، فالألف من اسمه "الله" واللام من "لطيف" والميم من "مجيد". فالألف من آلاءه واللام من لطفه والميم من مجده. يُروَى ذا عن ابن عباس وهو وجه جيِّد، وَلَهُ فِي كلام العرب شاهد، وهو: قلنا لَهَا قفي فقالت قاف كذا ينشد هذا الشطر، فعبّر عن قولها:"وقفت" ب "قاف". وقال آخرون: إن الله جلّ ثناؤه أقسم بهذه الحروف أن هَذَا الكتاب الَّذِي يقرأه محمد صلى الله عليه وسلم الله تعالى عَلَيْهِ وسلم هو الكتاب الَّذِي أنزله الله جلّ ثناؤه لاشك فِيهِ. وهذا وجه جيد، لأن الله جلّ وعز دل عَلَى جلالة قدر هَذِهِ الحروف، إذ كَانَتْ مادَّة البيان ومباني كتب الله عزّ وجلّ المنزلة باللغات المختلفة، وهي أصول كلام الأمم، بِهَا يتعارفون، وبها يذكرون الله جلّ ثناؤه. وَقَدْ أقسم الله جل ثناؤه فِي كتابه بالفجر والطور وغير ذلك، فكذلك شأنُ هَذِهِ الحروف فِي القسم بِهَا. وقال قوم: هَذِهِ الأحرف من التسعة وعشرين حرفاً دارَتْ بِهَا الألْسِنة، فليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه جلّ وعزّ، وَلَيْسَ منها حرف إلا هو فِي آلائه وبلائه، وَلَيْسَ منها حرف إلا وهو فِي مدة أقوام وآجالهم: فالألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون. رواه عبد الله بن جعفر الرازي عن أبيه عن الرّبيع بن أنس وهو قول حَسَنٌ لطيف، لأنّ الله جلّ ثناؤه أنزل عَلَى نبيه محمد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم الفرقان فلم يدع نظماً عجيباً ولا علماً نافعاً إلا أودعه إيَّاهُ، عَلِم ذَلِكَ من عَلمَهُ وَجهِلهُ مَن جَهِلهُ. فليس مُنْكراً أن ينزل الله جلّ ثناؤه هَذِهِ الحروف مشتملة مع إيجازها عَلَى مَا قاله هؤلاء. وقولٌ رُوِي عن ابن عباس فِي "ألم": أنا الله أعلم. وَفِي "ألمص": أنا الله أعلم وأفضل. وهذا وجه يقرب مما مضى ذكره من دَلالة الحرف الواحد عَلَى الاسم التامّ والصفة التامّة. وقال قوم: هي أسماء للسُّور ف "ألم" اسم لهذه و"حم" اسم لغيرها. وهذا يُؤثَرُ عن جماعة من أهل العلم، وذلك أن الأسماء وضِعَت للتمييز، فكذلك هَذِهِ الحروف فِي أوائل السُّوَر موضوعة لتمييز تِلْكَ السُّور من غيرها. فإن قال قائل: فقد رأينا "ألم" افتتح بِهَا غير سورة، فأين التمييز? قلنا: قَدْ يقع الوفاق بَيْنَ اسمين لشخصين، ثُمَّ يميز مَا يجيء بعد ذَلِكَ من صفة ونعت كما قيل "زيد وزيد" ثُمَّ يميزان بأن يقال: "زيد الفقيهُ" و"زيد العربيُّ" فكذلك إذا قرأ القارئ "ألم ذَلِكَ الكتاب" فقد مّيزها عن الَّتِي أولها "ألم الله لا إله إلا هو". وقال آخرون: لكل كتاب سرٌّ وسرّ القرآن فواتح السور. وأظنّ قائل هَذَا أوراد أن ذَلِكَ من السرّ لا يعلمه إلا الخاص من أهل العلم والراسخون فِيهِ. وقال قوم: إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فِيهِ وقال بعضهم لبعض "لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فِيهِ" فأنزل الله تبارك وتعالى هَذَا النظم ليتعجبوا منه، ويكون تعجبهم من سبباً لاستماعهم، وأسماعهم لَهُ سبباً لاستماع مَا بعده، فترق حينئذ القلوب وتلين الأفئدة. وقول آخر: إن هَذِهِ الحروف ذكرت لتدل عَلَى أن القرآن مؤلف من الحروف الَّتِي هي أ ب ت ث فجاء بعضها مقطعاً وجاء تمامها مؤلفا ليدل القوم الذين نزل القرآن فيما بَيْنَ ظهريهم أنه بالحروف الَّتِي يعقلونها فيكون ذَلِكَ تقريعاً لهم ودلالة عَلَى عجزهم عن أن يأتوا بمثله بعد أن أعلموا أنه منزل بالحروف الَّتِي يعرفونها ويبنون كلامها منها. قال أحمد بن فارس: وأقرب القول فِي ذَلِكَ وأجمعه قول بعض علمائنا: إن أولى الأمور أن تُجعل هَذِهِ التأويلات كلّها تأويلاً فيقال: إن الله جلّ وعزّ افتتح السور بهذه الحروف إرادةً منه الدلالة بكل حرف منها عَلَى معان كثيرة لا عَلَى معنىً واحد منها مأخوذاً من اسم من أسماء الله جلّ ثناؤه، وأن يكون الله جل ثناؤه قَدْ وضعها هَذَا الموضع قَسَماً بها، وأن كل حرف منها فِي آجال قوم وأرزاق آخرين، وهي مع ذَلِكَ مأخوذة من صفات الله جلّ وعزّ فِي أنعامه وأفضاله ومجده، وأن الافتتاح بِهَا سبب لأن يستمع إلى القرآن من لَمْ يكن يستمع، وأن فِيهَا أعلاماً للعرب أن القرآن الدال عَلَى صحة نبوّة محمد صلى الله تعالى وسلم هو بهذه الحروف، وأن عجزهم عن الإتيان بمثله مع نزوله بالحروف المتعالمة بينهم دليل عَلَى كذبهم وعنادهم وجحودهم، وأن كلّ عدد منها إذا وقع فِي أول سورة فهو اسم لتلك السورة. وهذا هو القول الجامع للتأويلات كلّها من غير اطراح لواحد منها، وإنما قلنا هَذَا لأن المعنى فِيهَا لا يمكن استخراجه عقلاً من حَيْثُ يزول بِهِ العذر، لأن المرجع إلى أقاويل العلماء، ولن يجوز لأحد أن يعترض عليهم بالطعن وهم من العلم بالمكان الَّذِي هم بِهِ ولهم مع ذَلِكَ فضيلة التقدم ومزية السبق. والله أعلم بما أراد من ذَلِكَ. باب الكلام فِي حروف المعنى رأيتُ أصحابنا الفقهاء يضمّنون كتبهم فِي أصول الفقه حروفاً من حروف المعاني، وَمَا أدري مَا الوجه فِي اختصاصهم إيّاها دون غيرها. فذكرت عامّة حروف المعاني رسماً واختصاراً، فأوّل ذَلِكَ مَا كَانَ أوله ألف: باب أم أم: حرف عطف نائب عن تكرير الاسم أو الفعل نحو "أزيد عندك أم عمرو?". ويقولونك ربمّا جاءت لقطع الكلام الأوّل واستئناف غيره، ولا يكون حينئذ من باب الاستفهام. يقولون: "إنّها الإبِلٌ أم شاء". ويكون ههنا فِي قول بعضهم بمعنى "بل" كقوله جل ثناؤه: "أم يقولون شاعر" وينشدون:

كذبتك عينك أم رأيت بواسـط = غلس الظلام من الرّباب خيالا

وقال أهل العربية: أمررت برجل أم امرأة "أم" تُشرك بينهما كما أشركت بينهما "أو". وقال آخرون: فِي "أم" معنى العطف، وهي استفهام كالألف إلاّ أنها لا تكون فِي أول الكلام لأن فِيهَا معنى العطف. وقال قوم: هي "أو" أبدلت الميم من الواو لتحول إلى معنى، يريد إلى معنى "أو" وهو قولك فِي الإستفهام "أزيد قام أم عمرو?" فالسؤال عن أحدهما بعينه. ولو جيئت ب "أو" لسألت عن الفعل. وجواب أو "لا" أو "نعم" وجواب أم "فلان" أم "فلان". وقال أبو زيد: العرب تزيد "أم". وقال قوله جلّ ثناؤه "أم أنا خيرٌ من هَذَا الَّذِي هو مَهِينٌ": معناه "أنا خير". وَكَانَ سيبويهِ يقول: "أفلا تبصرون": أم أنتم بصراء. وَكَانَ أبو عُبَيْدة يقول: "أم" يأتي المعنى ألف الاستفهام كقوله جلّ ثناؤه "أم تريدون أن تسألوا رسولكم"? بمعنى "أتريدون"?. وقال أبو زكريا الفرّاء: العرب تجعل "بل" مكان "أم" وأم مكان بل. إذا كَانَ فِي أول الكلمة استفهام. فقال:

فوالله مَا أدري أسلمى تغوّلتْ = أم النومُ أم كلٌّ إليَّ حبـيب

معناه "بل". فأما قوله جلّ ثناؤه: "أم حَسِبْتَ أن أصحابَ الكَهْفِ والرَّقيمِ كانوا من آياتنا عجباً"? فقيل: أظننت يَا محمد هَذَا، ومن عجائب ربك جل وعزّ مَا هو أعجب من قصة أصحاب الكهف? وقال آخرون: "أم" بمعنى ألف الاستفهام كأنه قال: "أحَسِبْت"? و"حسبت" بمعنى "علمت" ويكون الاستفهام فِي "حسبت" بمعنى الأمر كما تقول لمن تخاطبه "أعلمت أن زيداً خرج"? بمعنى أمر أي اعلم أن زيداً خرج. قال: فعلى هَذَا التدريج يكون تأويل الآية: إعلم يَا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً. باب أَوْ أو: حرف عطف يأتي بعد الاستفهام للشكّ: "أزيد عندك أو بكر?" تريد "أحدهما عندك?" فالجواب "لا" أو "نعم". وإذا جعلت مكانها "أم" فأنت مثبت أحدهما غير أنّك شاكٌ فِيهِ بعينه فتقول: "أزيد عندك أم عمرو" فالجواب "زيد" أم "عمرو". وتكون "أو" للتخير كقوله دلّ ثناؤه "فإطعامُ عشرة مَسَكينَ من أوْسَط مَا تُطعمِون أهْلِيكم، أو كِسْوتُهم، أو تَحْرِيرُ رَقبة". وتكون للإباحة تقول: "خذ ثوباً أو فرَساً". وأما قوله جلّ ثناؤه: "ولا تُطِعْ منهم آثِماً أو كَفُورا" فقال قوم: هَذَا يُعارَض ويُقابَلُ بِضدّه فيصح المعنى ويبين المراد، وذلك أنّا نقول: "أطِعْ زيداً أو عمراً" فإنما نريد أطع واحداً منهما، فكذا إذا نَهَيْناه وقلنا "لا تطع زيداً أو عمراً فقد قلنا لا تُطع واحداً منهما. وقوله جلّ ثناؤه: "إلى مائة ألف أو يزيدون" فقال قوم: هي بمعنى الواو "ويزيدون". وقال آخرون: بمعنى "بل". وقال قوم: هي بمعنى الإباحة كأنه قال: إذا قال قائل: "هم مائة ألف" فقد صدق. وقول القائل: "مررت برجل أو امرأة" فقد أشركَتْ "أو" بينهما فِي الخفض وأثبتت المرور بأحدهما دون الآخر. وتكون "أو"بمعنى "إلاّ أنْ" تقول "لألومنَّك أو تُعطيني حقي" بمعنى إلاّ أن تعطيني. قال امرؤ القيس:

فقلتُ لَهُ لا تبك عينُكَ إنَّمـا = نُحاول مُلكاً أو نموتُ فنُعذرا

وزعم قوم أن "أو" تكون بمعنى الواو ويقولون: كل حق لَهَا داخل فِيهَا أو خارج منها، وكل حق سميّناه فِي هَذَا الكتاب أو لَمْ نسمه وإن شئتَ قلت بالواو وأنشدو:

فذلكما شهرين أو نصفَ ثالث = إلى ذاكما مَا غَيَّبتني غيابـيا

وَكَانَ الفرّاء يقولون: فِي "مائة ألف أو يزيدون": بل يزيدون وقال بعض البصريين منكراً لَهَا: لو وقعت "أو فِي هَذَا الموضوع موقع "بل" لجاز أن تقع فِي غير هَذَا الموضع وكنا نقول "ضربت زيداً أو عمراً" عَلَى غير الشك لكن بمعنى "بل"، وهذا غير جائز قالوا: ووجه آخر أنَّ بل تأتي للإضراب بعد غلط أو نسيان وهذا منفي عن الله جل ثناؤه فإن أتي ثناؤه بها بعد كلام قد سبق من، وهذا غير القائل فالخطأ إنما لحِقَ كلام الأول نحو قَوله جلّ: "وقالوا: اتخَذ الرَّحمن وَلَداً" فهم أخطأوا فِي هَذَا وكفروا بِهِ فقال جلّ وعزّ "بل عباد مكرمون". وزعم قوم أن معناها "أو يزيدون عَلَى ذَلِكَ". قلنا: والذي قاله الفراء فقول قَدْ تقدمه فِيهِ ناس. وقول من قال: أن "بل" لا يكون إلاّ إضراباً بعد غلط أو نسيان فخطأ، لأن العرب تُنشد: بل مَا هاج أحزاناً وشجواً قَدْ شجا وهذا لَيْسَ من المعنيين فِي شيء. فأما قوله "أو أشَدُّ قَسْوةً" وَمَا أشبهه من قوله عزّ وجل "كلمح البصر أو هو أقرب" أن المخاطب يعلمه، لكنه أبهمه عَلَى المخاطَب وطواه عنه. وقال آخرون: بعضهما كالحجارة وبعضهما أشدَّ قسوة. أي هي ضربان: ضرب كذا أو ضرب كذا. باب إي وأي إي: فِي زعم أهل اللغة يكون بمعنى "نعم" تقول "إي وربّي" أي "نعمْ وربّي" قال الله جل ثناؤه "وَيستنبؤُنكَ أحقٌ هو? قل: إي وربي" وأي: معناها "يقول" ومثال ذَلِكَ أن تقول فِي تفسير "لا ريب فِيهِ": "أي لا شك فِيهِ"، المعنى يقول لا شك فِيهِ. وسمعتُ أبا بكر أحمد بن عليّ بن إسماعيل الناقد يقول سمعت أبا إسحاق الحربيّ يقول سمعت عمر بن أبي عمرو الشَّيْبانِيّ يقول: سألت أبي عن قولهم "أي" فقال: كلمةٌ للعرب تُشيِرُ بِهَا إلى المعنى. باب إنَّ وأنَّ وإنْ وأَنْ قال "الفَرّاء": "إنَّ" مقدرة لقسم متروك استُغْنيَ بِهَا التقدير: "والله إنّ زيداً عالمٌ". وَكَانَ ثعلب يقول: "إن زيداً لقائم" هو جواب مَا زيد بقائم ف "إنّ" جواب "مَا" و"اللام" جواب "الباء". وَكَانَ بعض النحويين يقولون: "إنّ" مُضارِعَة للفعل لفظاً ومعنىً: أما اللفظ فللفتحة فِيهَا كما تقول "قامَ". والمعنى فِي "أن زيداً قائم": ثبت عندي هَذَا الحديث. وقال سيبويه: سألت الخليل عن رجل سميناه ب "إن" كَيْفَ إعرابه? قال: بفتح الألف لأنه يكون كالاسم، وإذا كَانَ بكسر الألف لكان كالفعل والأداة، ولذلك نُصب فِي ذاته لأنه كالفعل ومعناه التثبيت للخبر الَّذِي بعده، ولذلك نصب بِهِ الاسم الَّذِي يليه. ومما يدل على أن "إن" للتثبيت قول القائل:

إن مَحَـلاًّ وإنَّ مُـرتَـحَـلا = وإنَّ فِي السَّفْرِ مَا مضوا مَهَلا

ونكون "إن": بمعنى "لَعَلّ" فِي قوله عزّ وجلّ: "وَمَا يشعركم أنّها إذا جاءت" بمعنى "لعلَّها إذا جاءت". وحكى الخليل: "إئتِ السوقَ أنْكَ تشتري لَنَا شيئاً" بمعنى "لعلَّك". و"أنّ" إذا كَانَتْ اسماً كَانَتْ فِي قولك "ظننت أو زيداً قائم" فيكون "أن" والذي بعدها قصةً وشأناً، نحو "ظننت ذَاكَ" فيكون محلّه نصباً، وإذا قلْت "بلغني أن زيداً عالمٌ" فهذا فِي موضع رفع. وإذا قلنا "عجبت من أنّ زيداً كلّمكَ" فمحله خفض عَلَى مَا رتبناه من أنه اسم. وأما "إن"ك فإنها تكون شرطاً، تقول: "إن خرجتَ خرجتُ". وتكون نفياً كقوله جلّ وعزّ: "إنِ الكافرون إلا فِي غُرور" وكقول الشاعر:

وَمَا إنْ طبُّنا جُبْنٌ ولكن = منايانا ودولة آخرينـا وتكون

بمعنى "إذْ" قال الله جلّ وعزّ: "وأنتم الأعْلونَ إنْ كنتم مؤمنين" بمعنى "إذا" لأنه جلّ وعزّ لَمْ يخبرهم بعلوّهم إلا بعدما كانوا مؤمنين. وزعم ناس أنها تكون بمعنى "لقد" فِي قوله جلّ ثناؤه: "وأن تصوموا خيرٌ لكم" بمعنى "والصوم خير لكم". وتكون بمعنى "إذ" تقول: "أعجبني أن خرجتَ" وفرحتُ أن دخلتَ الدار". وَقَدْ تُضْمَر فِي قوله: ألا أيُّهذا الزَّاجِرِيّ أحْضُرَ الوغا وتكون بمعنى "أي" قال الله جلّ ثناؤه: "وانطلق الملاُّ منهم أن امشُوا" بمعنى: أي امشوا. باب إلى تكون "إلى" بمعنى الانتهاء، تقول: "خرجتُ من بَغْدادَ إلى الكوفة". وتكون بمعنى "مع". قالوا فِي قوله جلّ ثناؤه: مَنْ أنصاري إلى الله?": بمعنى "مع الله" وقال قوم: معناها مَن يُضيف نُصرتَه إلى نصرة الله جلّ وعزّ لي? فيكون بمعنى الانتهاء، وكذلك قوله جلّ ثناؤه: "ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم". وربما قامت "إلى" مقام "اللام" قال "الشَّمَّاخ:

فالْحق بَبجلَةَ ناسِبْهُم وَكن مَعَهُـمْ = حَتَّى يُعيرُوك مجداً غيرَ مَوْطُودِ
واتركْ تُراثَ خُفافٍ إنهم هَلكوا = وأنت حَيٌّ إلى رِعْلٍ ومَطـرُودِ

يقول: اتركْ تُراث خفاف لرعل ومطرود. وخفافٌ ورعل ومطرود بنو أبٍ واحد. وأخبرنا عليّ ابن إبراهيم القطان عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال: ألقى عليَّ أعربيٌ هَذَا البيت فقل لي: مَا معناه? فأجبته بجواب، فقال لي: لَيْسَ هو كذا. وأجابني بهذا الجواب. وَكَانَ الَّذِي أجابهُ بهِ ابنُ الأعرابي أن خفافاً من غير رعِل ومطرود. باب أَلاَ "ألاَ" افتتاح كلام. وَقَدْ قيل: إن "الهمزة" للتنبيه و "لا" نفي لدعوى فِي قوله جلّ ثناؤه "إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون" فالهمزة تنبيهٌ لمخاطب و"لا" نفي للإصلاح عنهم. وَفِي كلام العرب كلمة أخرى تُشبهها لَمْ تجيء فِي القرآن وهي "أما" وهي كلمة تحقيق إذا قلت "أما إنّه قائمٌ" فمعناه "حقاً إنّه قائمٌ". باب إنما سمعت عليَّ بن إبراهيم القطّان يقول سمعت ثعلباً يقول سمعت سلمة يقول سمعت الفرَّاء يقول: إذا قلتَ "إنما قمت" فقد نفيتَ عن نفسكَ كلَّ فعل إلا القيام، وإذا قلت: "إنما قامَ أنا" فإنك نفيتَ القيامَ عن كلّ أحد وأثبتَّهُ لنفسك. قال الفرَّاء: يقولون: "مَا أنت إلاَ أخي" فيدخل فِي هَذَا الكلام الأفراد. كأنه ادّعى أنه أخٌ ومولىَّ وغير الأخوّة، فنفى بذلك مَا سواها. فال: وكذلك إذا قال: "إنما أنت أخي". قال الفرّاء: لا يكونان أبداً إلا ردّاً، يعني أن قولك "مَا أنت إلاّ! أخي" و"إنّما قام أنا" لا يكون هَذَا ابتداء أبداً وإنما يكون ردّاً عَلَى آخر، كأنّه ادّعى أنه أخٌ ومولىَّ وأشياء أخر، فنفاه وأقرّ لَهُ بالأخوة، أو زعم أنه كَانَتْ منكَ أشياء سوى القيام فنفيتها كلها مَا خلال القيام. وقال قوم: "إنما" معناه التحقير. تقول: "إنما أنا بشر" محقراً لنفسك. وهذا لَيْسَ بشيء: قال الله جلّ ثناؤه: "إنما الله إلهٌ واحد" فأين التحقير هاهنا? والذي قاله الفرّاء صحيح، وحجته قول صلى الله عَلَيْهِ وسلم الله تعالى عَلَيْهِ وسلم "إنّما الولاء لمن أعتق". باب إلاّ أصل الاستثناء أن تَستثني شيئاً من جملة اشتملت عَلَيْهِ فِي أول مَا لفظ به، وهو قولهم: "مَا خرج الناسُ إلا زيداً" فقد كَانَ "زيد" فِي جملة الناس ثُمَّ أُخرج منهم، ولذلك سمي "استثناءً لأنه ثُنِّيَ ذكره مرةً فِي الجملة ومرّة فِي التفصيل. ولذلك قال بعض النحويين: المستثنى خرج مما دخل فيه، وهذا مأخوذ من "الثِّنَا" والثِّنا الأمر يثَّنى مرّتين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ثِنا فِي الصدقة" يعني لا تؤخذ فِي السنة مرتين. قال أوس:

أفي جَنْب بَكْرٍ قطَّعَتْني ملامةً = لَعَمري لقد كَانَتْ ملامتها ثِنَا

يقول: لَيْسَ هَذَا بأولّ لومها، فقد فعلَتْه قبل هذا، وهذا ثِناً بعده. وقال بعض أهل العلم: "إلا" تكون استثناء لقليل من كثير، نحو "قام الناسُ إلا زيداً". وتكون محققة لفعلٍ مَنفيّ عن اسم قبلها، نحو "مَا قام أحد إلا زيد". وتكون بمعنى "واو العطف" كقوله:

وأرى لَهَا داراً بأغدرة السيِّ = دَانِ لَمْ يَدْرُس لَهَـا رسـمُ
لا رَماداً هامـداً دفـعـت = عنه الرِّياحَ خوالِدٌ سُـحْـمُ

أراد "ورماداً". وتكون بمعنى "بل" كقوله جلّ ثناؤه: "مَا أنزلنا عَلَيْكَ القرآن لتشقى، إلا تذكِرَةً بمعنى "بل تذكرة". ومنه قوله عزّ وجلّ: "والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم، إلا الذين آمنوا معناه والذين آمنوا لهم أجر غير ممنون". وتكون "إلا" بمعنى "لكن" وتكون من الَّذِي يسمونها الاستثناء المنقطع كقوله جل ثناؤه: "لستَ عليهم بمُسَيْطِر إلا من تولى معناه لكن من تولى وكفر". ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: "قل مَا أسألُكم عَلَيْهِ من أجر إلا من شاء" كَانَ الفرّاء يقول: استثنى الشيء من الشيء لَيْسَ منه عَلَى الاختصار، من ذَلِكَ هَذِهِ الآية. ثُمَّ قال: وَفِي كتاب الله جلّ ثناؤه: "والفواحش إلا اللمم" قال: هو مختصر، معناه "إلا أن يصيب الرجلُ اللمم" واللمم الذنوب. والله جلّ ثناؤه لا يأذن فِي قليل الذنب ولا كثيره. قال: ومما جاء فِي شعر العرب قول أبي خراش:

نجا سالم والنفس منه بشـدقـه = وَلَمْ ينجُ إلا جفنَ سيفٍ ومِئْزَرا

فاستثنى الجفن والمئزر وليسا من سالم، إنما هَذَا عَلَى الاختصار. وأنشد:

وبلدة لَيْسَ بِهَـا أنـيسُ = إلا اليعافير وإلا العيسُ

معناه "لكن فِيهَا" ومثله قوله جلّ ثناؤه: "فإنهم عَدُوّ لي، إلا رب العالمين" وأما قوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة، إلا الذين ظلموا" فقال قوم أراد: "إلا عَلَى الذين ظلموا فإن عليهم الحجة" ويكون حينئذ "اللذين" فِي موضع خفض ويكون أيضاً عَلَى "لكن الذين ظلموا فلا تخشوهم" تبتدئه. وقال: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا فهذا قَدْ انقطع من الأوّل ويجوز أن يكون عَلَى الاستثناء من أوله كأنه قال: "إلا الذين ظلموا فجادلوهم بالتي هي أسوأ من لسان أو يدٍ" أي أغلظ، يريد مشركي العرب. وقوله جلّ ثناؤه: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، إلا من ظُلم" قال قوم: إنما يريد المُكْرَه لأنه مظلوم فذلك عنه موضوع وإن نطق بالكفر. والاستثناء باب يطول. وَقَدْ يُستثنى من الشيء الموحَّد لفظاً وهو فِي المعنى جمع، نحو "إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا". واستثناء الشيء من غير جنسه لا معنى لَهُ مع الَّذِي ذكرناه من حقيقة الاستثناء. وإذا جَمع الكلام ضروباً من المذكورات وَفِي آخره استثناء، فالأمر إلى الدليل فإن جاز رجعه عَلَى جميع الكلام كَانَ عَلَى جميعه كقوله جلّ ثناؤه: "إنما جزاء الَّذِي يحاربون الله ورسوله ثُمَّ قال إلا الذين تابوا" والاستثناء جائز فِي كلّ ذَلِكَ والذي يمنع منه الدليل قوله جلّ ثناؤه: "فاجلدوهم ثمانِينَ جَلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً" فالاستثناء هاهنا عَلَى مَا كَانَ من حق الله جلّ ثناؤه دون الجلد. باب من الاستثناء آخر قال قوم: لا يُستثنى من الشيء إلا مَا كَانَ دون نصفه: لا يجوز أن يقال عشرة إلا خمسة. وقال قوم: يُستثنى القليل من الكثير ويستثنى الكثير مما هو أكثر منه. وهذه العبارة هي الصحيحة. فأما من يقول: يُستثنى الكثير من القليل فليست بالعبارة الجيدة، قالوا: "عشرة إلا خمسة" حَتَّى يبلغ التسعة. قالوا: ومن الدليل عَلَى أن نصف الشيء قَدْ يستثنى من الشيء قوله جلّ ثناؤه: "يَا أيها المزَّمِّلُ قُم الليلَ إلا قليلاً" ثُمَّ قال "نصفه" أفلا تراه سمّى النصف قليلاً واستثناه من الأصل?. قال أحمد بن فارس: واعترض قوم بهذا الَّذِي ذكرناه عَلَى أبي عبد الله مالك بن أنس فِي قوله فِي الجائحة لأن مالكاً يذهب إلى أن الجائحة إذا كَانَتْ دون الثلث لَمْ يوضع لأنها قليل بمنزلة مَا تناله العوافي من الطير وغيرها وَمَا تلقيه الريح، فإذا بلغت الجائحة الثلث وَمَا زاد فهي كثيرة ولزم وضعها للحديث المرويّ فِيهَا. قال المعترض عَلَى أبي عبد الله مالك رضي الله تعالى عنه: فقد دفع هَذَا الفصل المعنى الَّذِي ذهب إليه مالك، لأن قوله جلّ ثناؤه: قُمِ الليلَ إلا قليلاً" قَدْ جعل النصف قليلاً، فإذا كَانَ نصف الشيء قليلاً منه وجب أن يكون كثيرة مَا فَوْقَ النصف. فالجواب عن هَذَا أن مالكاً إنما ذهب فِي جعله الثلث كثيراً إلى حديث حدثناه عليّ بن إبراهيم عن محمد بن يزيد عن هشام بن عمار عن ابن عيينة عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال: "مرضت عامَ الفتح حَتَّى أشرفت، فعادَني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أي رسول الله إن لي مالاً وَلَيْسَ يرثني إلا ابنتي أفأتصدّق بثلثي مالي? قال: "لا". قلت: فالشطر? قال: "لا" قلت: فالثلث? قال: "الثلث كثير، إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالَةً يتكففون الناس" فبقول رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم أعلم بتأويل كتاب الله جلّ ثناؤه.

باب إِيَّا إيَّا كلمة تخصيص.
إذا قلت: "إياك أردتُ" وَكَانَ الأصل "أردتك" فلما قدمت الكاف كما تقدم المفعول بِهِ فِي "ضربت زيداً" لَمْ تستقم كاف وحدها مقدمة عَلَى فعل فوصل بِهَا "إيَّا". وَقَدْ تكون "إيَّا" للتحذير كقوله:

فإيّاكم وحـيّة بـطـن واد = هموز النّاب لَيْسَ لكم بسيىّ

باب إذا تكون "إذا" شرطاً فِي وقت موقت.
تقول: "إذا خرجتَ خرجتُ". وزعم قوم أن "إذا" تكون لغواً وفضلاً وذكروا قوله جلّ ثناؤه: "إذا السماء انشقت" قالوا: تأويله: "انشقت السماء" كما قال: "اقتربت الساعة" و"وأتى أمر الله". قالوا: وَفِي شعر العرب قوله:

حَتَّى إذا أسلكوهم فِي قتـائدَةٍ = شلاًّ كما تطرد الجمَّالةُ الشردا

المعنى: حَتَّى أسلكوهم. وأنكر ناس هَذَا وقالوا: "إذا السماء انشقت" لَهَا جواب مضمر. وقول القائل: "حَتَّى إذا أسلكوهم" فجوابه قوله: "مثلاً"، يقول: "أسلكوهم شَلّوهم شلاًّ" واحتج أصحاب القول الأول بقول الشاعر:

فإذا وذلك لا مَهاةَ لذكـره = والدهرُ يُعْقِب صالحاً بفساد

قالوا: المعنى "وذلك". وقال أصحاب القول الثاني: الواو مفحمة، المعنى "فإذا ذَلِكَ". وقولهم: "إذا فعلت كذا" يكون عَلَى ثلاثة أضرب: ضربٌ يكون المأمور بِهِ قبل الفعل: "إذا أتيتَ الباب فالبس أحسنَ لباس" ومنه قوله جلّ ثناؤه: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا". وضربٌ يكون مع الفعل كقولك: "إذا قرأت فترسَّلْ". وضربٌ يكون بعد الفعل نحو "إذا حللتم فاصطادوا" و"إذا نودي للصلاة فاسعوا". باب إذ إذ تكون للماضي تقول: "أتذكر إذ فعلتَ كذا?" فأما قوله جلّ ثناؤه: "ولو ترى إذ وقفوا عَلَى النار فقالوا: يَا ليتنا" ف "نرى" مستقبل و"إذا" للماضي، وإنما كَانَ كذا لأن الشيء كائن وإن لَمْ يكن بعد، وذلك عند الله جلّ ثناؤه، قَدْ كَانَ، لأن علمه بِهِ سابق وقضاءه بِهِ نافذ فهو كائن لا محالة، والعرب تقول مثل ذا وإن لَمْ تعرف العواقب. قال:

ستندم إذ يأتي عَلَيْكَ رعيلنـا = بأرعن جرار كثير صواهله

وقول جلّ ثناؤه: "وإذا قال اللَّهُ: يَا عيسى" فقال قوم: قال لَهُ ذَلِكَ لمّا رفعه إليه. وقال آخرون: "إذْا" و"إذا" بمعنىً. كقوله جلّ ثناؤه: "ولو ترى إذ فزعوا" بمعنى: "إذا". قال أبو النجم: ثُمَّ جزاهُ اللَّهُ عنّـا إذ جَـزَى

جنات عدن فِي العلالي العُلَى المعنى: "إذا جزى" لأنه لَمْ يقع. ومثله قوله الأسود:

الحافظ الناس فِي تَحُوط إذا = لَمْ يرسلوا تَحْتَ عائذ رُبَعَا
وهبّت الشمأل البلـيل وإذ = بات كَميعُ الفتاة مُلتَفِـعـا

قالوا: ف "إذا" و"إذ" بمعنىً. قال:

وندمانٍ يزيد الكأس طيباً = سقيت إذا تغوَّرتِ النجومُ

و"إذا" تكون بمعنى "حين" كقوله جلّ ثناؤه: "ولا تعملون من عمل إلاَّ كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فِيهِ أي "حين تفيضون". باب إذاً "إذاً" مجازاة عَلَى فعل، يقول: "أنا أقوم" فتقول: "إذاً أقوم معك". هَذَا هو الأصل. ومنه قوله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وآله وسلم: "فإني إذاً صائم" أي إذا لَمْ يحضر الطعام فإني صائم. وقال الشاعر:

أُزْجُر حِمارِي لا يرتعْ بروضَتِنا = إذاً يرد وقيد العير مـكـروبُ

باب أيٍّ أيٌّ تكون استفهاماً. تقول: "أيُّ الرجلين عندك?". وتكون للترجيح بَيْنَ أمرين تقول: "أيَّا مّا فعلت فلي كذا" أي إن فعلت هَذَا وإن فعلت هَذَا. وتكون للتعجب نحو: "أيُّ رجل زيدٌ!". باب أَنَّى "أنَّى" بمعنى "كَيْفَ" كقوله جلّ ثناؤه: "أنَّى يُحيي هذهِ اللَّه?". وتكون بمعنى: "مِنْ أينَ" كقوله: "أنَّى يكون لَهُ ولد?" أي من أين. والأجْودُ أن يقال فِي هَذَا أيضاً كَيْفَ. قال الكميت:

أنَّى ومن أَيْنَ آبَكَ الطـربُ = من حَيْثُ لا صَبْوةٌ ولا رِيَبُ

فجاء بالمعنيين جميعاً. باب أَيْنَ وأينما "أَيْنَ" تكون استفهاماً عن مكان. نحو "اين زيدٌ"?. وتكون شرطا لمكان. نحو "أَيْنَ لقيت زيداً فكلِّمْهُ" بمعنى فِي أي مكان. فأمّا "أَيْنَما" - فإنّما يكون شرطاً لمكان. نحو "أَيْنَما تَجْلِسْ أجْلِسْ" ولا يكون استفهاماً. باب أيّان "أيّانَ" بمعنى "متى" و "وأيَّ حين". قال بعض العلماء: نُرى أصلها "أيَّ أوان" فحذفت الهمزة وجعلت الكلمتان واحدة. قال الله جلّ ثناؤه: "أيّانَ يُبعثون?" أي متى و "أيّان يومُ الدين?" أي متى. باب الآنَ يقولون: "الآن" حدُّ الزمانين، حدّ الماضي من آخره وحدُّ المستقبل من أوّله. وَكَانَ الفرّاء يقول: بُني عَلَى الألف واللام لَمْ يُخلَعا منه وتُرى عَلَى مذهبِ الصِّفة لأنه صفة فِي المعنى واللفظ، كما فعلوا فِي "الَّذِي" و "الَّذِينَ" فتركوهما عَلَى مذهبِ الأداة، والألف واللام غير مفارِقين. ومثله قوله:

فإنَّ الأُولاءِ يَعلَمونكَ مِـنـهُـم = كعلميَ مُطَّنُّوكَ مَا دُمتَ أَشعَرا

فأدخل الألف واللام عَلَى "أُولاء" ثُمَّ تركها مخفوضة فِي موضع نصب كما كَانَتْ قبل أن يَدخلها الألف واللام ومثله:

وإنّي حُبِسْتُ اليومَ والأمسِ قبله = ببابكَ حَتَّى كادَتِ الشمسُ تغرُبُ

فأدخل الألف واللام عَلَى "أمس" ثُمَّ تركه مخفوضاً عَلَى جهته الأُولى. ومثله:

تَفَقَّأَ فَوْقَه الْقَلَعُ السَّوَارِي = وجُنَّ الْخَازِبازِ بِهِ جُنُونا

وأصل "الآن" إنما كَانَ "أوَان" حذفت منها الألف وغُيّرت واوها إِلَى الألف، كما قالوا فِي الراح "الرياح" أنشد الفَرَّاء أنشدني أبو القَمْقَام الأَسَدي:

كأنّ مَكَاكِيَّ الـجِـوَاءِ غُـدَيَّةً = نشاوَى تَسَاقَوا بالرِّيَاح المُفلْفَلِ

فجعل "الرياح" و "الأوان" مرةً عَلَى جهة "فَعَل" ومرة عَلَى جهة "فَعَال" كما قالوا: "زَمَن" و "زَمَان" وإِن شئتَ جعلتَ "الآن" من قولك "آن لَكَ أن تَفْعَل" أدخلتَ عَلَيْهَا الألف واللام ثُمَّ تركتها عَلَى مذهب فِعْل فأتى النصب من نصب "فَعَلَ" وهو وجه جيد. كما قالوا: "نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن "قيل وقال" و "الآن" فِي كتاب الله جلّ ثناؤه: "الآن وفد عَصَيْتَ قَبلُ"، "الآن وَقَدْ كنتم بِهِ تستعجلون" أي فِي هَذَا الوقت وهذا الأوان تتوب وَقَدْ عصيت قبل. قال الزجاج: "الآن" عند الخليل وسيبويه مبنيٌّ عَلَى الفتح تقول: "نحن من الآنَ نَصِيرُ إِلَيْكَ" فتفتح. لأن الألف واللام إنما تدخل لعهد، و "الآن" تُعْهَد قبلَ هَذَا الوقت، فدخلت الألف واللام للإشارة إِلَى الوقت. المعنى: "نحن من هَذَا الوقت نفعل" فلما تَضَمَّنَتْ معنى هَذَا وجب أن تكون موقوفة ففتحت للالتقاء الساكنين. باب إِما لا هما كلمتانِ "إِمّا" و "لا" تقول: "أُخرج" فإذا امتنع قلت: "إِمَّا لا فتكلَّمْ" أي "إِن لَمْ يكن منكَ خروج فليكن منك تكلّم". ف "إِمَّا" شرط و "لا" جَحْدٌ. كَأَنَّك قلت: "إِن لا". باب أمَّا وإِمَّا "أمّا" كلمة إخبار لا بدّ فِي جوابها من "وفاء". تقول: "أمّا زيد فكريم". "وإمّا" تكون تَخْييراً وإباحة. نحو إِشربْ إما ماءً وإمّا لَبناً. وَقَدْ تكون بمعنى الشرط، والأكثر فِي جوابها نون التوكيد. نحو: "إِمَّا تَرَيِنَّ مِن البَشَرَ أحَداً" و "قُل رَبِّ إِمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ" وَقَدْ يكون بلا "نون" نحو قوله: إمّا تَرَى رأسي عَلانِي أغْثَمُهْ ومما أوله باء بَلَى بَلَى - تكون إثباتاً لمنفيّ قبلها. يقال: "أما خرج زيدٌ?" فنقول: "بَلَى" والمعنى أنّها "بل" وُصِلَتْ بِهَا ألفٌ تكون دليلاً عَلَى كلام. يقول القائل: "أما خرج زيد?" فتقول: "بَلَى" ف "بل" رُجُوع عن جَحْد، و "الألف" دلالةُ كلام، كَأَنَّك قلت: "بل خرج زيد". وكذلك قوله جلّ ثناؤه: "ألستُ بربّكم? قالوا: بَلَى" المعنى والله أعلم: "بل أنت ربُّنا". بَلْ بَلْ - إِضرابٌ عن الأوّل وإثباتٌ للثاني. واختلف فِيهِ أهل العربيّة. فقال قوم: جائز "مررت برجل بل حمار" وَقَدْ يكون فِيهِ الرفع أي: "بل هو حمارٌ". والكوفيون لا يَنْسُقُون ب "بَلْ" إِلاَّ بعد نفيٍ. قال هشام: محالٌ: "ضَرَبتُ أخاكَ بَلْ أباك" لأن الأوّل قَدْ ثبَّتَّ لَهُ الضرب. والبصريون يقولون: لمَّا كَانَ "بل" تقع للإضراب، وكنَّا نُضرِب عن النفي وقعت بعد الإيجاب كوقوعها بعد النفي. و "لا بل" مثلها. وقال قوم: يكون "بَلْ" بمعنى "إِنَّ" فِي قوله جلّ ثناؤه: "ص. والقرآنِ ذي الذِّكْر، بل الَّذِين كفروا - معناه إِن الَّذِين كفروا - فِي عزة" قالوا: وذلك أنَّ القَسَم لا بُدّ لَهُ من جواب. ويزعُم ناسٌ أنها إِذَا جاءت فِي الإثبات كَانَتْ استدراكاً. تقول: "لقيتُ زيداً بل عمراً" وهذا عند الغلط. بَلْهَ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يقول الله جلّ ثناؤه: "أَعدَدْتُ لعبادِيَ الصَّالحينَ مَا لا عَينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعَتْ ولا خَطَر عَلَى قلبِ بَشَر، بَله مَا أطلَعْتُهُم عَلَيْهِ" قالوا: معناه "سِوى" و "دَعْ" كَأَنَّه قال: "سوى مَا أطلعتهم عَلَيْهِ" و "دَعْ مَا أطلعتهم" قال أبو زُبَيْد: تَمْشي القَطُوف إِذَا غَنَّى الحُدَاةُ لَهَامَشْيَ النَّجِيبَة بَلْهَ الْجِلَّةَ النُّجَبَا بَيْدَ قالوا: "بيد" بمعنى "غَيْرَ". قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "نحن الآخِرُونَ السابِقُون يومَ القيامة، بَيْدَ أنَّهم أُوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناهُ من بعدهم" أي "غيرَ أنهم" قال الشاعر:

عَمْداً فَعَلْتِ ذَاكَ بَيْدَ أنّي = إِخالُ لو هَلَكْتُ لَمْ تُرِنِّي

بينا وبينما هما لزمان غير محدود. واشتِقاقهما من قولنا: "بيني وبينه قِيدُ كذا" فإذا قلنا: "بَيْنَا نحنُ عِنْدَ زَيْدٍ أتانا فلان" فالمعنى "بَيْنَ أن حَصَلْنا عند زيد وبين زمان آخر أتانا فلان" قال:

فَبَيْنَا نحنُ نَرْقُبُه أتـانـا = مُعَلِّقَ شَكْوَةٍ وزِنَادَ رَاع

بَعْدُ يَدُلُّ عَلَى أن يَعقُبَ شَيْءٌ شيئاً. تقول: "جاء زيدٌ بعد عمرو" ويقولون: إنها تكون بمعنى "مع" يقال: "هو كريم وهو بعد هَذَا فقيه" أي: "مَعَ هَذَا" ويتأولون قول الله جلّ ثناؤه: "والأرض بعد ذَلِكَ دحاها" عَلَى هذا، بمعنى "مع ذَلِكَ". ومما أوله تاء تَعَالَ يقال: إنها أمرٌ أي "تَفاعلْ" من "عَلَوْتُ. تَعَالَى. يَتَعَالَى" فإذا أمرتَ قلت: "تَعالَ" كما تقول: "تَقاضَ". قالوا: وكثرت فِي الكلام حَتَّى صارت بمنزلة "هلَّم" حَتَّى يقال لمن هو فِي عُلوّ: "تَعالَ" وأنتّ تُرِيدُ: "اهبطْ". ولا يجوز أن تَنْهَى بِهَا. وَقَدْ تُصَرَّف فيقال: "تعالَيتُ" و "إِلَى أيّ شيءٍ أتَعالى?". ومما أوله ثاء ثُمَّ ثُمَّ - يكون لِتَراخي الثاني عن الأول: "جاء زيد ثُمَّ عمرو". وتكوم "ثُمَّ" بمعنى "واو عطف" قال الله جلّ ذِكرهُ: "فإلينا مرْجِعُهم ثُمَّ الله شهيد عَلَى مَا يفعلون" أي وهو شهيد. وتكون بمعنى التعجّب كقوله جلّ ثناؤه: "ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أزيد" و "ثُمَّ الذين كفروا بربهم يعدلون" وأنشد قطرب أن "ثُمَّ" بمعنى "الواو":

سألت ربيعةَ مَن خَيرُها = أباً ثُمَّ أمّاً فقالت لِمَـهْ

ومنه قوله جلّ ثناؤه: "ثُمَّ إنّ علينا بَيانُهُ" فأمّا قوله جلّ وعزّ: "ولقد خلقناكم ثُمَّ صوَّرناكم" فقال قوم معناها: "وصوّرناكم" وقال آخرون: المعنى "ابتدأنا خلقكم" لأنه جلّ ثناؤه ابتدأ خلق آدم عَلَيْهِ السلام من تُراب، ثُمَّ صَوَّره. وابتدأ خلق الإنسان من نُطْفَة ثُمَّ صَوَّره. قالوا: ف "ثُمَّ" علي بابها. قال الله جلّ ثناؤه: "يُوَلُّوكم الأدبار ثُمَّ لا يُنصَرون". وزعم ناس أن "ثُمَّ" تكون زائدة. قال الله جلّ ثناؤه: "وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُوا، حَتَّى إِذَا ضاقت عليهم الأرضُ بما رَحُبتْ -" إِلَى قوله جلّ ثناؤه - "ثُمَّ تاب عليهم" معناه: "حَتَّى إذا ضاقت عليهم الأرض تاب عليهم" وقوله جل ثناؤه: "خلقكم من طين ثُمَّ قضى أجلاً" وَقَدْ كَانَ قضى الأجل، فمعناه: "أُخْبِرُكم أنّي خليقتُه من طين، ثُمَّ أخبركم أنّي قضَيتُ الأجَل" كما تقول: "كلمتك اليومَ ثُمَّ قَدْ كلمتُك أمسِ" أي إني أخبرك بذاك ثُمَّ أُخبركَ بهذا. وهذا يكونُ فِي الجُملِ، فأما فِي عطف الاسم عَلَى الاسم، والفعل عَلَى الفعل فلا يكون إِلاَّ مرتّباً أحدُهما بعد الآخر. ثَمَّ و"ثمَّ" بمعنى "هُنالك" قال الله جلّ ثناؤه: "وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيتَ نعيماً وملكاً كبيراً". وقرئتْ: "فإلينا مرجعهم ثَمَّ اللهُ شهِيدٌ" أي: هنالك الله شهيد. ومما أوله جيم جَيْرِ يقولون: "جَيْرِ" بمعنى "حَقّاً" قال المُفَضَّل: هي خَفْضٌ أبداً، ورُبَّما نوّنوها. وأنشد المفضَّل:

ألا يَا طالَ بالغَرَباتِ لَيْلي = وَمَا تلْقَى بَنو أسَدٍ بِهِنَّـهْ
وقائِلةٍ أسِيتَ فقلت جَـيْرٍ = أسِيٌّ إنّه مـن ذَاكَ إنَّـهْ
أصابَهُمُ الْحِمَا وهمُ عَوافٍ = وكُنَّ عَلَيْهِمِ نَجْساً لُعِنّـهْ
فجيئت قبورَهم بَدْأَ ولمَـا = فَنَادَيتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
وكيف تجيبُ أصْداءٌ وَهامٌ = وأجْسَادٌ بُدِرْنَ وَمَا نُحِرْنَهْ

الحما: أراد الحِمَام وبُدِرْنَ: طعِنَّ فِي البوادِر. لا جَرَمَ قال: "جَرَمَ" بمعنى "حُقّ" قال:

ولقد طعنتُ أبا عُـيَيْنَة طَـعـنةً = جَرمَتْ فَزَارَةُ بَعدَها أن يَغْضِبُوا

وذكر ناس أنها بمعنى "لا بُدّ" و "لا مَحَالةَ". وأصلح مَا قيل فِي ذَلِكَ أن "لا" نفي لما ظَنُّوا أنه ينفعهم فِي قوله جل ثناؤه: "لا جَرَمَ أنهم فِي الآخرة هم الأخسرون" والمعنى "لا" أي "لا ينفعهم ظنهم" ثُمَّ يقول مبتدئاً: "جرَمَ أنهم فِي الآخرة هم الأخسرون" أي "كَسَبَهم ذَلِكَ" "حُقّ أنهم فِي الآخرة هم الأخسرون". قال أَيْنَ قتيبة: وَلَيْسَ قول من قال: "حُقَّ لفَزارة الغضب" بشيء، والأمر بخلاف مَا قاله، لأن الَّذِي يحصل من الكلمة مَا قلناه أنه بمعنى "حُقّ" فيكون عَلَى هَذَا "جَرَمت فَزَارة بعدَها أن يغضبوا" المعنى "أحَقَّتْ الطَّعنة لفزارة الغضبَ". ومنه قوله جل ثناؤه: "وتصِفُ ألسنتُهم الكَذِبَ أنَّ لهم الحسنى" - ثُمَّ قال - "لا" وهو ردّ عَلَيْهِم، وقال بعدها: "جَرَمَ أنّ لهم النارَ" أي حُقَّ وكسب. ومما أوله حاء حَتَّى تكون للغاية. قال الله جلّ ذكره: "وهي حَتَّى مطلع الفجر" بمعنى "إِلَى" وقال تبارك اسمه: "حَتَّى يبلغ الكتابُ أجَلَه". وتكون بمعنى "كَيْ" تقول: "أكلمه حَتَّى يرضى" أي "كي يرضى". ويقولون: إنها تكون بمعنى العطف، تقول: "قَدِمَ الجيشُ حَتَّى الأتباعُ". ومذهب أهل البصرة أنه لا يجوز أن يُعْطَف بِهَا حَتَّى يكون الثاني من الأول. قالوا: لو قلت: "كلَّمت العربَ حَتَّى العجم" لَمْ يجز. وقال الفرّاء لا يجوز "كلّمت أخاك حَتَّى أباك" وهو مثل الاستثناء، كما لا يجوز "كلمت أخاك إِلاَّ أباك". وأجاز الفرّاء: "إنه ليقاتل الرَّجَّاَلة حَتَّى الفرسانَ" و "إِن كلبي ليصيد الأرانبَ حَتَّى الظِّباء" خفضاً ونصباً، قال الفراء: لأن الظباء وإن كَانَتْ مخالفة للأرانب فإنها من الصيد وهي أرفع منها. وقال البصريون: هَذَا خطأ وفيه بطلان الباب. قالوا: لأن "حَتَّى" إنما جعلت لما تتناهى إِلَيْهِ الأشياء من أعلاها وأسفلها مما يكون منتهى فِي الغاية، فإذا قلت "ضربتُ القوم" جاز أن يتوهم السامع أن زيداً لَمْ يدخل فِي الضرب، إما لأنه أعلاهم أو لأنه أدونهم، فمعنى "إِلَى" فِيهَا قائم إِذَا كَانَتْ "إِلَى" منتهى الغاية. والكوفيون لا يجعلون "حَتَّى" حرف عطف، إنما يعربون مَا بعدها بإضمار. حاشا معناها الاستثناء، واشتقاقها من "الحشا" وهي "الناحية" تقول: "خرجوا حاشا زيدٍ" أي: إني أجعله فِي ناحية من لَمْ يخرج ولا أجعله فِي جملة مَن خرج. قال الشاعر: بأيِّ الْحَشَا أمْسَى الخليطُ المُباينُ ومن ذَلِكَ قولهم: "لا أحاشي بك أحداً" أي: لا أجعلك وإيّاه فِي حَشاً واحد، أي فِي ناحية واحدة بل أميّزك عنه. ومما أوله خاء خَلا وَمَا خَلا أصلهما من قولنا: "خلا البيت" و "خلا الإناء" إِذَا لَمْ يكن فِيهِ شيء. كذلك إِذَا قلنا: "خرج النّاسُ خلا زيدٍ" فإنّما نُريد: أنه خلا من الخروج، أَوْ خلا الخروجُ منه. وَعَلَى هَذَا التأويل فالنصب فِيهِ أحسن. ومنه قول العرب: "افعَلْ كذا وخلاك ذمّ" يريدون "عَدَاك الذَّمُّ" و "خلوت من الذمّ". ومما أوله ذال ذو وذوات "ذو" يدل على الملك. تقول:" هو ذو الثوب ". وقد يكون في غير الملك أيضا، بل يكون في صفة من صفاته نحو قولك:" هو ذو كلام " و" ذو عارضة ". فمن الملك قوله جل ثناؤه:" ذو العرش المجيد " وأما" ذات " فيكون في المؤنث ك " ذا ". وتكون لها معان أخر: تكون كناية عن ساعة من يوم أو ليلة أو غير ذلك، كقولك:" ذات يوم " و" ذات عشية ". وتكون كناية عن الحال كقوله:

وأهل خباء صالح ذات بينهـم = قد احتربوا في عاجل أنا آجله

ومن هذا قوله جل ثناؤه:" وأصلحوا ذات بينكم " أي الحال بينكم وأزيلوا المشاجرة. ومن الزمان قوله :

لما رأت أرقى وطول تقلبي = ذات العشاء وليلى الموصولا

وتكون للبنية تقول:" هو في ذاته صالح " أي: في بنيته وخلقته. وتكون للإرادة والنية كقوله جل ثناؤه:" والله عليم بذات الصدور " أراد السرائر. ومنه فيما ذكروا قوله :

محلتهم ذات الإلـه ودينـهـم = قويم فما يرجون غير العواقب

فقوله:" ذات الإله " أي إرادتهم الله تبارك اسمه. ومما أوله راء رُبّ يقولون: للتقليل، وهي مُناقِضة ل "كَمْ" الَّتِي للتكثير، تقول: "رُبّ رجلٍ لَقِيتُه". وقال قوم: وُضِعَت لتذكُّر شيء ماضٍ من خيرٍ أَوْ شرٍّ. قال:

رُبّ ركبٍ قَدْ أناخُوا حَوْلَنـا = يَشربونَ الخمرَ بالماء الزُّلال

قالوا: وَعَلَى هَذَا التأويل قوله جلّ ثناؤه: "رُبَّمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كفروا لو كانوا مسلمين". رُوَيْدٌ قالوا: هو تصغيرُ "رُود" وهو المهل. قال: كَأَنَّها مثل من يمشي عَلَى رُودِ وقال بعضهم: فِي قوله جلّ ثناؤه: "أمْهِلْهُمْ رُوَيْداً" أي قليلاً. ومما أوله سين سَوْفَ تكون للتأخير والتنفيس والأناةَ. سِوَى تكون بمعنى "غير" وهما جميعاً فِي معنى "بَدَل" وهي مقصورةٌ مكسورة فإذا مُدّتْ فُتح أوّلها. قال:

تَجَانفُ عن جَوِّ الْيَمَامَةِ ناقَتِي = وَمَا عدَلتْ عن أَهلِها لِسَوائِكا

أي: لغيرك. و "سَوَاء الجحيم" وسطها، فِي غير معنى الأول. وَقَدْ جاء "سِوَى" أيضاً. قال الله جلّ ثناؤه: "مَكاناً سِوَى". سِيَّما أصلُها "السّيُّ" وهو "المِثْلُ". تقول: "ولا سِيَّما كذا" أي "ولا سواءَ" قال: امرؤ القيس:

ألا رُبَّ يومٍ لكَ منّ صالحٍ = ولا سِيَّما يوماً بِدَارَةِ جُلْجلِ

وأصلُه راجع إِلَى "السّي" وهو المثل. يقولون: "هما سيان" قال "الحُطَيْئَة:
فإيّاكم وحـيّة بَـطـن وادٍ = هَمُوز النّابِ لَيْسَ لكم بِسِيِّ

وسمعت أبا الحسن المعروف بابن التركية يقول، سمعت ثعلباً يقول: من قاله بغير اللفظ الَّذِي قاله امرؤ القيس فقد أخطأ. ومما أوله شين شَتَّانَ أصلها من "شتَّ" ومن "التَّشتُّت" وهو التَّفرقُ والتباعد، تقول: "شَتَّانَ مَا هُما" أي: بَعُدَ مَا بَيْنَهما، ويقال: هَذَا هو الأفصح، وينشدون:

شَتَّانَ مَا يومي علي كُورِها = ويوم حَيَّانَ أخي جـابِـرِ

وربما قالوا: "شتان مَا بَيْنَهما" وَلَيْسَ بالفصيح. ومما أوله عين عَنْ يدلّ عَلَى الانحطاط والنزول، تقول: "نَزَلَ عن الجبل" و "عن ظهر الدّابة" و "أخذ العِلْمَ عن زيد" لأن المأخوذَ عنه أعلا رُتبةً من الآخذ. وتكون بمعنى "بَعْد" فِي قوله: لَمْ تنتطق عن تفضّل ولها وجوه والأصلُ مَا ذكرناهُ. عَلَى تكون للعلوّ، تقول: "هو عَلَى السطح". وتكون للعزيمة، كما تقول: "أنا عَلَى الحجّ العامَ". وتكون للثبات عَلَى الأمر تقول: "أنا عَلَى مَا عَرَفْتَني بِهِ". وتكون للخلاف، مثل "زيدٌ عَلَى عمرو" أي: مُخالِفُه. وهِي - وإن انْشَعَبَتْ - راجعة إِلَى أصل واحد. عَوْض "عوض" لزمان غير محدود ولا معلوم كنههُ، كما قلناه فِي "الحِين" و "الدهر". قال الأعشى:

رضيعَيْ لبانِ ثديِ أُمٍّ تقاسما = بأسحَمَ داج عَوض لا نتفرق

ويقولون: "لآتيك عوض العائضين". عَسَى للقرب والدُّنوّ، قال الله جلّ ثناؤه: "قُلْ عَسى أن يكونَ رَدِفَ لكم". والأفصح أن يكون بعدها "أَنْ" ورُبّما لَمْ يكن. قال:

عسى فَرَجٌ يأْتي بِهِ الله إنَّهْ = لَهُ كلَّ يوم فِي خَلِقته أمرُ

قال "الكِسَائي": كل مَا فِي القرآن من "عسى" عَلَى وجه الخبر فهو مُوَحَّد: "عسى أنْ يكونوا خيراً منهم" و "عسى أن يكنّ خيراً منهنَّ" و "عسى أنْ تَكرهوا شيئاً" وَوُحِّدَ عَلَى "عسى الأمر أن يكون كذا". وَمَا كَانَ عَلَى الاستفهام فإنه يُجْمَع كقوله جلّ وعزّ: "فهل عَسَيْتُم" قال أبو عُبَيْدة فِي قوله جلّ ثناؤه: "هَلْ عَسَيْتُم": هل عدوتم ذَاكَ، هل جُزتموه. ومما أوله غين غَيْر غَيْر - تكون استثناء، وتقوم مقامها إلا، تقول: خرج الناسُ غير زيد تريد إلاّ زيداً. أو تكون حالاً، وتقوم مقامها لا تقول: فعلت ذلك غير خائف منك أي لا خائفاً منك. ومما أوله فاء في زعموا أن في للتضمُّن، تقول: المال في الكِيس والماءُ في الجَرَّة. ويقولون: إنها تكون بمعنى على في قول جلّ ثناؤه: "ولأصُلِبَنَّكُمْ في جُذُوع النَّخْل". وإنها تكون بمعنى مع في قوله جلّ ثناؤه: "في تِسْعِ آيات". وكان بعضهم يقول: إنما "ولأصلبنّكم في جذوع النخل" لأن الجذع للمصلوب بمنزلة القبر للمقبور فلذلك جاز أن يقال فيه هذا. وأنشدوا:

هُمُ صلبوا العَبْديَّ في جِذْع نخلة = فلا عَطسَتْ شيبَانُ إلاَّ بأجْدَعـا

ومما أوله قاف قَدْ قَدْ - جواب لمتوقَّع، وهي نقيضُ "ما" التي للنفي، وليس من الوجه الابتداء بها إلا أن تكون جواباً للمتوقع، وقوله جل وعزّ: "قد أفلح المؤمنون" على هذا المعنى، لأن القوم توقعوا علمَ حالهم عندَ الله تبارك اسمه فقيل لهم: "قد أفلح المؤمنون" والحقيقةُ ما ذكرناهُ. ومما أوله كاف كَمْ موضوعة للتكثير في مقابلة رُبَّ تقول: كم رجل لقيت. وتكون استفهاماً، تقول: كم مالُكَ?. وقال الفَرَّاء: نُرى أن قول العرب كم مالك? أنها ما وُصِلتْ من أولها بكاف، ثم إن الكلام كير بِ "كم" حتى حُذِفَت الألف من آخرها وسكّنت ميمها، كما قالوا: لِمْ قلتَ ذاك? ومعناهُ: لِمَ ولِمَا قال قال:

يا أبا الأسْوَدُ لِمْ أسْلَمْتَنِي = لِهُمُوم طارِقَاتِ وَذِكَرْ

وقيل لبعض العرب مذ كم قعد فلان فقال كَمْذ أخذتَ في حديثك فزيادةُ الكاف في مُذْ دليل على أن الكاف في كم زائدة. وعابّ الزَّجَّاجُ على الفَرَّاء قوله في كم، وقال: لو كان في الأصل كما وأسقطت ألف الاستفهام لُتِركتْ على فتحها، كما تقول: بمَ وعَمَّ وفِيمَ أنت. والجوابُ عمّا قاله ما ذكره أبو زكريّاء وهو كثرة الاستعمال وحجته ما ذكره في لِمْ. كَيْفَ كيف سؤال عن حال، تقول: كَيْفَ? أي: بأيّ حال أنتَ? وقال بعض أهل اللغة: لها ثلاثة أوجُه: أحدها - سؤال محض عن حال، تقول: كَيْفَ زيدُ?. والوجه الآخر - حالٌ لا سؤال معه، كقولك: لأكْرِمَنّك كيف كنتَ أي: على أيّ حال كنت. والوجه الثالث - كيف بمعنى التعجيب، وعلى هذين الوجهين يُفَسَّر قوله: "فقُتِل كيف قَدَّر" قالوا: معناها "على أيّ حال قَدَّر" وتعجيب أيضاً. ومن التعجيب قوله جلّ ثناؤه: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم!". وقد يكون كيف بمعنى النفي. قال:

كيف يَرْجونَ سِقاطِي بعدمـا = لاحَ في الرَّأس مَشِيبٌ وَصَلَعْ

ومنه قوله جلّ ثناؤه: "كيف يكون للمشركينّ عهدٌ عند الله" و:كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم". وتكون توبيخاً، كقوله جلّ ثناؤه: "وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله". فأمّا قوله: "فكيف إذا جيئنا من كلّ أمة بشهيد" فهو توكيد لِمَا تقَدَّم من خبر وتحقيق لِمَا بعده، على تأويل: إن الله لا يظلم مثقالَ ذَرَّة في الدنيا فكيف في الآخرة. كادَ قال أبو عبيدة: "كاد للمقاربة في قوله جلّ ثناؤه: لَمْ يَكَدْ يراها" أي: لَمْ يَرَ. ولَمْ يُقارب. ومن المقاربة قول جرير:

حيُّوا المقام وحيّوا ساكن الدارِ = ما كدتَ تعرف إلا بعدَ إنكارِ

ويقولون: كاد النَّعامُ يَطير. فهذه المقاربة للشبه ولا يكون، وبيت جرير يكون. كَانَ كان يدلُّ على المُضِيّ، تقول: كانَ له مالٌ. وتكون بمعنى القُدْرة جلّ ثناؤه: "ما كان لكم أن تُنبتوا شجرها" أي ما قدرتم. وتكون بمعنى صار كقولك: إن كنتَ أبي فَصِلْني أي: إذا صِرتَ أبي. وأنشد:

أجَزت إلـيه حُـرَّة أرْحَـبِـيَّة = وقد كانَ لونُ الليل مثلَ الأرنْدَج

أي: صار. وتكون بمعنى الرهون، كقوله جلّ ثناؤه: "قُلْ سبحانَ ربيّ هل كنتُ إلا بشراً" أي: هل أنا إلا بشر وتكون بمعنى ينبغي قال الله جل ثناؤه "قلتم ما يكون لنا" أي ما ينبغي لنا وكان تكون زائدة كقوله: وجيران لنا كانوا كرام وفي كتاب الله جل ثناؤه: "قال وما علمي بما كانوا يعملون" أي بما يعملون لأنه قد كان عالماً بما عملوه وهو إيمانهم به. كأين كأين تكون بمعنى "كم" قال الله جل ثناؤه: "وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله" وفيها لغتان: كأين بالهمز والتشديد وكأين بالتخفيف وقد قرئ بهما جميعا قال الشاعر:

وكأين أرينا الموت من ذي تحية = إذا ما ازددنا أو أصر لمـأتـم

وسمعت بعض أهل العربية يقول: ما أعلم كلمة يثبت فيها التنوين خطأ غير هذه. كأن كلمة تشبيه قال قوم: هي إن دخلت عليها كاف التشبيه ففتحت وقد تخفف قال الله جل ذكره كأن لم يدعنا إلى ضرمه" إلا أنها إذا ثقلت في مثل هذا الموضع قرنت بها الهاء فقبل كأنّه لم يَدْعُنا. وقالت الخنساء في التخفيف:

كَأَن لم يكونوا حِمىً يُتّـقـى = إذا الناسُ إذ ذاكَ من عزّ بَزّا

أرادت: كأنّهم لم يكونوا. كلاَّ تكون ردّاً ورَدْعاً ونفياً لدعوى مُدَّعٍ إذ قال: لقيتُ زيداً قلتَ: كلاَّ. وربما كان صِلةً ليمين، كقوله جلّ ثناؤه "كَلاَّ والقمر". وهي - وإن كانت صِلةً ليمين - راجعةٌ إلى ما ذكرناهُ. قال الله جلّ ثناؤه: "كَلاَّ لا تُطعِهُ" فهي رَدْعٌ عن طاعةِ من نَهاهُ عن عبادة الله جلّ ثناؤه. ونكتة بابها النفي والنهي. وزعم ناس أن أصل كَلاَّ: كَلاَ ولاَ. قال:

أصابَ خَصَاصَةً فَبَدَا كَلِيلاً = كَلاَ وانْغَلَّ سائرُه انغِلاَلا

وهذا ليس بشيء. وكَلا كلمة موضوعة لما ذكرناه على صورتها في التثقيل، وقد ذكرناه وجوهّ كَلاَّ في كتاب أفردناه. فأما نقيض كَلاَّ فقال بعض أهل العلم: إن ذلك وهذا نقيضان ل لا. وأَن كذلك نقيض لِ كَلاَّ. قال: وقله جلّ ثناؤه: "ذلك ولو يشاء الله لاَنْتَصَر منهم" على معنى: ذلك كما قلنا وكما فعلنا. ومثله. "هذا وإن للطَّاغِينَ لَشَرّ مآب" بمعنى: هذا كما قلنا وإن للطاغين لشرّ مآب. قال: ويدل على هذا المعنى دخل والواو بعد قوله: ذلك وهذا لأن ما بعد الواو يكون مَنْسوقاً على ما قبله بها وإن كان مُضْمَراً. وقال جلّ ثناؤه: "وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَ عليه القرآنُ جملةً واحدة" - ثم قال - "كذلك" أي كذلك فعلناه ونفعله من التنزيل. ومثله في القرآن كثير. ومما أوله لام لَوْ ولَوْلا لَوْ - تدل على امِتناع الشيء لامتناع غيره، تقول: لو حَضَر زيدٌ لحضرت فامتنع هذا لامتناع هذا. وكان الفرّاء يقول: لو يقوم مقام إنْ، قال جلّ ذكره: "ولو كَرهَ الكافرون" بمعنى: وإن كره، ولولا أنها بمعنى أنء لاقتضت جواباً. لأنّ لو لا بدّ من جواب ظاهر أو مُضْمَر كقوله جلّ ثناؤه: "ولو نَزَّلْنا عليكَ كتاباً في قِرطَاسِ فَلَمَسوهُ بأيديهم لَقَالَ" وإنّما وُضِعت مقامَ أنْ لأنَّ في كل واحد منهما معنى الشرط، كما يقال في الكلام: لأكْرِمَنَّكَ وإنْ جَفَوْتَني - و - لو جفوتَني و لاَ عُطِينَّكَ وإنْ مَنَعْتَني - و - لو منعتني. وأمّا لَولا - فإنها تدل على امتناع الشيء لوجود غيره. تقول: لولا زيدٌ لضربتك فإنما امتنعت من ضربه لأجل زيد. وقد يكون لولا بمعنى هَلاَّ كقوله جلّ ثناؤه: "فلولا إذْ جاءَهم بأسْنا تَضَرّعوا" أي فَهلاَّ قال الشاعر:

تَعدُّونَ عقرَ النيب أفضلَ مجدكـم = بَني ضَوْطَرَى لولا الكميَّ المقَنَّعا

أي: هَلاَّ. وكذلك لَوْمَا، كقوله جلّ ثناؤه: "لَوْمَا تَأتِينَا بِالْمَلاَئكةِ" أي هَلاَّ تأْتينا. وأما لولا الأول فكقوله جلّ ثناؤه: "فلولا أنّه كان من المُسَبِّحين لَلَبِثَ في بطنه" وقوله جلّ وعزّ: "فلولا كانت قريةٌ آمَنَتْ" فلها وجها: أحدهما أن يكون بمعنى هَلاَّ والوجه الآخر أن يكون بمعنى لَمْ يقول: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قومَ يُونُسَ. ومثله: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقيةٍ يَنهَوْن عن الفساد في الأرض" بمعنى لم يكن. لمْ ولمّا لَمْ - تنفي الفعلَ المستقبل وتنقلُ معناهُ إلى الماضي. نحو لم يقم زيد تريد: ما قام زيد. فإن دخل عليها حرفُ جزاء لم تنقل معنى الاستقبال، تقول: إنْ لَمْ تَقُمْ ولا يحسنُ السكوت عليها إلا إذا كانت جواباً لمثَبت كأنَّ قائلاً قال: قد خرج زيد فتقول: لَمَّا. ولَمّا - لا تدخل إلاّ على مستقبل، تقول: جيئت ولما يجيء زيدٌ بعدُ فيكون بمعنى لمْ كقوله جلّ ثناؤه: "بل لما يذوقوا عذاب". فأمّا لمّا التي للزمان فتكون للماضي، تقول قصدتُكَ لَمّا وَرَدَ فلان. لَنْ "لن" تكون جواباً للمثبِت أمراً في الاستقبال، يقول: سيقوم زيد فتقول أنت لن يقومَ. وحكي عن الخليل أنّ معناها: لا أنْ بمعنى ما هذا وقت أن يكون كذا. لا "لا" حرف نَسَقٍ يَنفي الفعلَ المستقبلَ، نحو لا يخرجُ زيدٌ. ويُنهى به نحو لا تفعلْ. ويكون بمعنى لمْ إذا دخلتْ على ماض كقوله جلّ ثناؤه: فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى" أي: لم يُصِّدقْ ولم يُصلّ. وقال الشاعر:

وأي خميس لا أفأنا نِـهـابـه = وأسيافنا يقطرن من كبشه دماً

وأنشدني أبي:

إن تَغْفِرِ اللهمَّ تغفِرْ جَمّا = وأيُّ عبدٍ لَكَ لا أَلَمّـا

أي: أيُّ عبد لك لم يُلِمَّ بالذنب. وكان قُطرُب يقول: إن العرب تُدخل لا توكيداً في الكلام كما يُدخلون ما في مثل قوله جلّ ثناؤه: "فقليلاً مّا يؤمنون" و "فيما نقضهم" وكذلك "ما منعك ألاّ تسجُد" أي: ما منعك أن تسجد. وكذلك "لا أُقْسِم بيوم القيامة" المعنى: أُقْسم. وقد يجوز في لا أقسم أن يكون نَفَى بها كلاماً تقدَّم منهم، كأن قال: ليس الأمرُ كذا? ثم قال: أُقسم. وقال زُهَير في لا:

مُوَرَّثُ المَجْد لا يَغْتالُ هِمَّتـهُ = عن الرِيّاسة لا عَجْزٌ ولا سَأمُ

أي: لا يغتالها عجز. وقال: بيوم جَدودا لا فَضَحتُم أبـاكـمُ

وسالمتُمُ والخيلُ تَدْمَى نُحورُها يريد: فضحتم أباكم. وحَكى قطرب: ضربتُ لا زيداً وقال آخر: وقد حداهن بلا غير خُرُقْ وقال الهُذلي:

أفعنك لا برق كأنّ وميضه = غاب تسنّمه ضرام مُثقب

ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: "لئلاّ يعلم أهل الكتاب". قال أبو عبيدة في قوله جلّ ثناؤه: "غير المغضوب عليهم ولا الضّالين" قال: لا من حروف الزوائد لتتميم الكلام، والمعنى إلغاؤها. قال العجاجُ: في بئر لا حُورٍ سرى وما شعرْ أي: بئر حُور، أي هَلَكة. وقال أبو النجم: فما ألوم الْبِيضَ أن لا تَسْخَرا يقول فما ألومُهنَّ أن يَسْخَرْنَ. قال الشَّمّاخ:

أعائشَ ما لأهلـكِ لا أراهـم = يُضِيعون الهِجانَ مع المُضيعِ

يريد: أراهم يضيعون السَّوام، ولا إنما هي لغة. وقال:

ويلحينني في اللهو أن لا أُحبَّه = ولِلَّهو داعٍ دائبٌ غيرُ غافـلِ

المعنى: يلحينني في اللهو أن أحبه. وفي القرآن: "ما منعك أن - لا تسجد" أي: أن تسجد. قال أحمد بن فارس: أما قوله إنّ لا في ولا الضالين زائدة- فقد قيل فيه: إن لا إنما دخلت ها هنا مُزِيلةً لتوهُم متوهم أن الضّالين هم المغضوب عليهم، والعرب تنعت بالواو، يقولون: مررت بالظريف والعاقل فدخلت لا مُزِيلةً لهذا التوهم ومُعلمة أن الضّالين هم غير المغضوب عليه. وأما قوله في شعر الشمّاخ: إن لا زائدة في قوله: ما لأهلك لا أراهم فغلطٌ من أبي عبيدة لأن ظنّ أنه أنكر عليهم فساد المال، وليسَ الأمر كما ظنِّ، وذلك أن الشمّاخ احتجّ على امرأته بصنيع أهلها أنهم لا يُضيعون المالَ. وذلك أن امرأة الشمّاخ وهي عائشة قالت للشمّاخ: لِمَ تشدّد على نفسك في العيش حتى تلزَم الإبلَ وتعزبَ فيها فهِوّن عليك. فردّ على امرأته فقال: مالي أرى أهلك يتعهدون أموالهم ولا يضيعونها، بل يصلحونها، وأنت تأمرينني بإضاعة المال? فقال:

أعايشَ ما لأهلـكِ لا أراهـم = يُضيعون الهجانَ مع المُضيعِ
وَكيف يُضيع صاحبُ مُذْفَآت = على أثباجِهنّ من الصقـيعِ
لَمالٌ المرءِ يُصلحه فيُغِـنـى = مَفَاقِرَهُ أعفُّ من القُـنُـوع
ولا تنفي الاسمَ المنكور، نحو: لا رجلٌ عندكَ لات اختلف الناس فِيهَا: فمنهم من زعم أن التاء متصلة بــ لا وأنها بمنزله ليس على تأويل وليس حينَ مناصٍ نصَب حين. خير ليس وقال الأفواه وجعل لاتَ بمعنى حِين:

ترك الناسُ لنا أكتافَـهـم = وتولوا لاتَ لم يُغنِ الفرار لدُن

لدْنْ - بمعنى عِنْدَ. قال الله جلّ ثناؤه: "قد بلغتَ من لدُنِّي عذراً" وقال "لاتخذناهُ من لدْنّا" أي: من عندنا. وقد تحذف النون من لدن قال الشاعر: من لدُ لَحْيَيْهِ إلى منحورِهِ لدى ولدى بمعنى "لدن" قال الله جل ثناؤه:" وألفيا سيِّدها لدى الباب" لَيْسَ ليس - نفيٌ لفعل مستقبَل تقول: ليس يقوم. وزعم ناس أنهم من حروف النَّسَق نحو: ضربتُ عبد الله ليس زيداً وقام عبد الله ليس زيدٌ ومررت بعبد الله ليس بزيد، لا يجوز حذف الباء لأنك لا تضمر المرور والباءَ. ولو قلتَ: ظننت زيداً ليس عمراً قائماً جاز. قال لبيد:

وإذا جوزيت فرضاً فاجـزه = إنما يجزى الفتى ليس الجمل

والبصريون يقولون: لا يجوز العطف ب "ليس"، وهي لا تُشبه من حروف العطف شيئاً. ألا ترى أنه يبتدَأ بها ويضمَر فيها وروى سيبويه هذا البيت: إنما يجزي الفتى غيرَ الجمل قالوا: وخطأ رأيت زيداً ليس عمراً لأنه لا يكون على تقديرهم فعل بلا فاعل، وكان الكسائي يقول: أجريتْ ليس في النسق مجرى لا. لَعَلّ لَعَلَّ - تكون استفهاماً وَشَكّاً. وتكون بمعنى خليق. وحكي عن الكسائي أنّ لعلّما تأتي بمعنى كأنما وأنما وأنكر الفرّاء هذا، قال: لأن أنما معبرة عن أنْ ولا يجوز أن تُسقط ما منها أبداً. وأهل البصرة يقولون: لعلّ ترجٍّ. وبعضهم يقول: توقُّع. وتكون لعلّ بمعنى عسى. وتكون بمعنى كي. قال الله جلّ ثناؤه: "وأنهاراً وسبلاً لعلّكم تهتدون" يريد: لكي تهتدوا. لَكِن قال قوم: هي كلمة استدراك تتضمن ثلاثة معانٍ: منها لا وهي نفي والكاف بعدها مخاطبة والنون بعد الكاف بمنزل إن الخفيفة أو الثقيلة، إلا أن الهمزة حذفت منها استثقالاً لاجتماع ثلاثة معان في كلمة واحدة، ف لا تنفي خبراً متقدماً وإن تُثبت خبراً متأخراً، ولذلك لا تكاد تجيء إلا بعد نفي وجحد، مثل قوله جلّ ثناؤه: "وما رمَيْتَ إذا رميتَ ولكنّ الله رمى". ومما يدلّ على أن النون في لكن بمنزلة إن خفيفةً أو ثقيلة، أنك إذا ثقّلت النون نصبتَ بها وإذا خففتها رفعتَ بها. ومما أوله ميم مذْ ومنذُ هما ابتداءُ غايةٍ في زمان. نحو مُذُ اليومِ ومُنذُ الساعةِ. مَا أصلُ مَا أنها تكون لغير الناس. تقول ما مرَّ بك من الإبل?. فأمّا قوله جلّ ثناؤه: "وما خَلَق الذكر والأنثى" فقال أبو عبيدة: معناه ومَن خَلقَ الذكر والأنثى. وكذلك "والسماء وما بناها" أي من بناها وكذلك "ونفس وما سَوَّاها". قال: وأهل مكَّةَ يقولون إذا سمعوا صوتَ الرعد "سُبحانَ ما سبَحتَ له" وبعضهم يقرأ: "وما خلَقَ الذكرِ والأنثى" أي: وخلقِهِ الذكر والأنثى. وما تكون صِلةً، كقوله جلّ ثناؤه: "قليلاً مّا تذَكَّرون" المعنى: قليلاً تذكّرون. ولو كانت اسماً لارتفع فقلت: قليلٌ ما تذكرون أي قليلٌ تذكركم. وما تكون للتفخيم، كقوله جلّ ثناؤه: "الحاقّةُ ما الحاقّة" ومنه:

بَانَتْ لتَحزُننا عَفَـارَهْ = يا جارتا ما أنتِ جارَهْ

وذكر بعضهم أن ما هذه هي التي تذكر في التعجب إذا قلنا ما أحسنَ زيداً. وقد تكون ما مُضمَرةً، كقول جلّ ثناؤه: "وإذا رأيتَ ثَمَّ" أراد: ما ثَمّ. وكما قال: "هذا فِراقُ بيني وبينك" أي: ما بيني. و"لقد تقطَّعَ بينَكم" أي ما بينَكم. فإذا قلت: بينُكم فمعناه: وصلُكم. وتكون للنفي، نحو ما فعلتُ. وتكون لاستفهام، نحو ما عندك?. وزعم ناس في قولهم قَبْلَ عَيْرٍ وَمَا جرى أن ما للنفي وأنشدوا قول الشمّاخ:

أعَدْوَ الْقِمصَّى قَبْلَ عَيْرٍ وما جَرَىَ = ولم تدْرِ ما خُبرِي ولم أدرِ مالَها

يقول: نفرتْ هذه المرأة منّي مثل ما نفرت أتان من عَيْر من قبل أن يبلوَها ويعدوَها إليها. وما جرى، أي: لم يجرِ إليها. من من يُسميها أهل العربية ابتداءَ غاية. وتكون للجنس، نحو خاتمٌ من حديد. وتكون للتبعيض، نحو أكلت من الرَّغيف. وتكون رفعاً للجنس نحو ما جاءني من رجل. وتكون صِلةً، نحو قوله جلّ ثناؤه: "مِنْ خيرٍ من ربكم" وتكِفِّر عنكم مِن سيئاتكم". وتكون تعجّباً، نحو ما أنت من رجل وحَسْبُك من رجل. وتكون بمعنى على، قال الله جلّ ثناؤه: "ونصرناهُ مِن القوم". وكان أبو عبيدة يقول في قوله جلّ ثناؤه: "ومَن يعمل مِنَ الصالحات": إن مِن صلة. قال أبو ذُؤَيب:

جَزَيْتُكِ ضِعفَ الـوْدَ لَـمّـا أردتِـه = وما إن جزاك الضِعْفَ مِن أحد قبلي

وقال غيره: لا تزد من أمرٍ واجب، يقال: ما عندي من شيء وما عنده من خير وهل عندك من طعام?. فإذا كان واجباً لم يحسُن شيء من هذا: لا تقول عندك من خير. مَنْ اسم لِمَن يعْقل. تقول: لَقِيتُ مَن لقيتَ ومَن مَرّ بِك? في الاستفهام. وهو يكون في الواحد والاثنين والجميع. ويخرج الفعل منه على لفظ الواحد والمعنى تثنيه أو جمع قال:

تعالَ فإن عاهدتَني لا تخوننـي = نكن مثلَ مَن يا ذِئبُ يَصطحبانِ

وكذلك يَكون في المؤنث. قال الله جلّ ثناؤه: "ومَن يقنُتْ مِنكنَّ". ومن تضمَر. قال الله جلّ ثناؤه: "وإن مِن أهل الكتاب إلا يؤمِنَنَّ به" المعنى: إلاَّ مَنْ. ومثله "وما مِنّا إلا له مقامٌ أي إلا مَنْ. مَه و مَهما مَهْ - زجرٌ وإسكات وأمرٌ بالتوقّف عما يريده المريد، كأنّ قائلاً يريد الكلامَ بشيء أو فاعلاً يريد فعلاً فيُقال لهما مَهْ أي: قِف ولا تفعل. هذا مشهور في كلام العرب. قال:

مَهْ ماليَ الليلة مَهْ ما لِيهْ = يا راعيَ ذَوْدِي وأجما لِيهْ

ويكون هذا على أنّ أمراً تقدّم فردّ عليه القائل فقال: مَهْ ثم مرّ كلام نفسه. ومَهْمَا - بمنزلة ما في الشرط. قال الله جلّ ثناؤه: "وقالوا: ما تَأتنا بهِ مِن آية" وقال: إنّها ما أدخلت عليها ما قالوا: ما تكون إحداهما كالصلة كقوله جلّ ثناؤه: "أيِّامَا تدعو" فغُيّر اللفظ. مَتَى مَتَى - سؤالٌ عن وقت. تقول: متى يخرجُ زيد?. ومتى يكون شرطاً يقتضي التكرار. تقول: متى كلمتُ زيداً فعلى كذا سمعت علّياً يقول: سمعت ثعلباً يقول ذلك. فأما متى التي في لغة هُذَيْل فليست من هذا، لأنهم يقولون: وضعتُه متى كُمِّي يريدون: الوسَط وينشدون:

شَرِبْنَ بماء البحر ثُم تصعّدت = متى لُججٍ خضرٍ لهن نَـئيجُ

قالوا:معناه من لجج. وقالوا: بمعنى وَسط. ومما أوله نون نَعَمْ ونِعْمَ نَعَمْ - عدَة تصديق. ونِعْمَ - كلمة تنبيء عن المحاسِنِ كلّها. ومما أوله هاء هَلمَّ قالوا: معناها تعَالَ. وكان الفرّاء يقول: أصلها هل ضُمّ إليها أمَّ وتأويل ذلك أن يقال: هَلْ لكَ في كذا، أُمَّ أي: اقصُد وتَعالَ. وكان الفرّاء يقول: معنى اللهم يا الله أُمَّنا بخير. فكثرت في الكلام واختلطت وتُركت الهمزة. ها قالوا: معناها خذْ تَنَاوَل تقول: ها يا رجُل. ويُؤمر بها ولا يُنهى بها. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "هَاؤمُ اقْرؤا كتابِيَهْ". هَاتِ بمعنى أعْطِ على لفظ رَام وعَاطِ. قال الله جلّ ثناؤه: "قل هاتوا بُرهانَكم" قال الفرّاء: ولم يُسمع في الاثنين، إنّما يقال للواحد والجميع. ويقولون: أنا أُهاتِيك، وليس من كلامهم هاتَيْتُ، ولا يُنهى بها. وبلغني أن رجلاً قال لآخر: هات فقال: لا أُهاتِيكَ ولا أُؤَاتيك. هيهات قالوا: معنى "هيهات" بعد، كقوله عز وجل حكاية عن قوم:"هيهات هيهات لما توعدون" أي ما أبعد ما توعدون. ومما أوله واو وَيْكأَنَّ اختلف أهل العلم فيها. قال أبو زَيْد: معنى ويكأنّه ألَمْ تَرَ. وأنشد:

ألا وَيْكَ المسـرّةُ لا تـدومُ = ولا يبقى على الدّهر النعيمُ

وأنشد أبو عبيدة:

سَأْلَتاني الطِّـلاقَ أن رأتـانِـي = قَلَّ مالي قد جئتماني بِـنـكـرِ
وَيْكَانْ مَن يكُنْ لـه نَـشَـبٌ يُحْ = ببْ ومَنْ يفتِقر يَعِشْ عيشَ ضرِّ

وحدثني علي بن إبراهيم عن محمد بن فرج عن سلمة عن الفراء قال: هو في كلام العرب تقرير كما يقول القائل: أما ترى إلى صنع الله. وحكى الراء عن شيخ من البصريين قال: سمعت أعرابية تقول لزوجها: أين ابنُك? فقال زوجها: ويكأَنَّه وراء الباب. معناه: أما تَرَيْنَه وراء البَاب?. قال الفرّاء ويذهب بها بعض النحويين إلى أنهما كلمتان، يردي وَيْكَ إنما أراد ويلَكَ فحذف اللام ويجعل أنّ مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال: ويلك أعلم أن. وقال: إنما حذفوا اللام من وَيْلَكَ حتى صارت وَيْكَ، فقد تقول العرب ذلك لكثرتها في الكلام واستعمال العرب إياها. قال عنترة:

ولقدْ شفى نفسي وأبرأ سقُمَها = قِيلُ الفوارس وَيكَ عَنْتَرَ أَقْدِمٍ

وقال آخرون: ويكَ وَيْ منفصلة مِن كأنّ كقولك للرجل: أما ترى بين يديك. فقال وَيْ ثم استأنف كأنَّ الله وكأن في معنى الظن والعلم. وفيها معنى تعجب. قال: وهذا وجه مستقيم، ولم تكتبها العرب منفصلة. ويجوز أنّ يكون كثر بها الكلام فُوصلت بما ليس منه، كما اجتمعت العربُ على كتاب يا بْنَؤُمَّ فوصلوها لكثرتها. أوْلَى سمعت أبا القاسم عليَّ بن أبي خالد يقول: سمعت ثعلباً يقول أولى له أي: داناه الهلاك. وأصحابنا يقولون أوْلَى تَهَدُّدٌ ووعيدٌ. وهو قريب من ذلك. وأنشدوا:

ألْفِيَتَا عيناكَ عند الْقَـفَـا = أوْلَى فأوْلَى لك ذا واقيَهْ

وقال قوم - وأنا أبرأ مِن عهدته -: إن أوْلَى مأخوذ من الوَيْل. وكان للويلِ فِعْل وتصريف دَرَجَ ولم يبق منه إلا الويل قطُّ. قال جرير: يَعَمَلنَ بالأكبادِ وَيْلاً وآئِلا فقوله: أَوْلَى: أَفْعَلُ من الويل، إلاَّ أن فيه القلبَ. وقال قوم أَوْلَى: داناهُ الهلاك فليَحْذَرْ. قال:

أولى لكم ثم أولى أن تصيبَكُمُ = مِنِّي نَواقِرُ لا تبقى ولا تَذَرُ

ومما أوله ياء يا تكون للنداء، نحو: يا زيدُ. وللدعاء نحو يا اللهِ. وتكون للتعجّب، كقوله: يا لَهُ فارساً. وفي التعجب من المذموم: يا له جاهلاً. قال في المدح أنشد فيه القطّان عن ثعلب:

يا فارساً ما أبو أَوْفى إذا شُغِلتْ = كلتا اليدين كَروراً غَير فَرَّارِ

وفي الذمّ قول الآخر:

أبو حازم جارٌ لها وابنُ بُرْثٌنٍ = فيا لَكَ جارَيْ ذِلَّة وصغَارِ

ويا للتلهف والتأسف

نحو قوله جلّ ثناؤه: "يا حَسْرَةً على العباد". ويكون تنبيهاً كقوله:

يا شاعراً لا شاعرَ اليوم مثلُـه = جرير ولكنْ في كُليب تواضُعُ

وعلى هذا يتأوّلُ قوله جلّ ثناؤه: "ألا يسجدوا" وقد ذكرناهُ. ويا تكون للتلذُّذ نحو قوله يا بَرْدَها على الفؤاد لو يَقِفْ ?باب معاني الكلام وهي عند بعض أهل العلم عشرة: خبرٌ. واستخبار. وأمر. ونهي. ودُعاء. وطَلَب. وعَرْض. وتحْضيض. وتَمنّ وتعجّبٌ. فهذا: بابُ الخَبَرِ أما أهل اللغة فلا يقولون في الخبر أكثرَ من أنّه إعلامٌ. تقول أخبرتُه. أخُبِرْه" والخبر هو العلم. وأهل النظر يقولون: الخبر ما جاز تصديق قائله أو تكذيبه. وهو إفادة المخاطَب أمراً في ماضٍ من زمان أو مستَقبل أو دائم. نحو قام زيد ويقوم زيدا وقائم زيد. ثم يكون واجباً وجائزاً وممتنعاً. فالواجب قولنا: النار مُحرقة. والجائز وقولنا لقي زيد عمراً. والممتنع قولنا: حملت الجَبَل. والمعاني التي يحتملها لفظ الخبر كثيرة: فمنها التعجب نحو ما احسنَ زيداً. والمنّي نحو: ودِدتُكَ عندنا والإنكار: وما له عليَّ حق. والنفي: لا بَأسَ عليك. والأمر نحو قوله جلّ ثناؤه: "والمطلَّقات يتربَّصْنَ". والنهي نحو قوله: لا يَمَسُّهُ إلاّ المطهَّرون. والتعظيم نحو سبحان اللهِ. والدُّعاء نحو عفا الله عنه. والوعد نحو قوله جلّ وعزّ: "سنريهم آياتنا في الآفاق". والوعيد نحو قوله: "وسيَعلم الذين ظلموا" والإنكار والتبكيت نحو قوله جلّ ثناؤه: "ذُقْ إنّك أنتَ العزيز الكريم".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى