عندما تم تعييني في أمن المطار، لم أعرف أن هذا العمل سيغيرني إلى الأبد، وسيعرِّفني على جزء مخبوء من نفسي، في أعماق سحيقة. كانت مهمتي تنحصر في تفتيش أجساد النساء العابرات قبل سفرهن، وأثناء عودتهن، كنت أقوم بإدخالهن، منفردات، إلى كابينة مغلقة، وأقوم بتحسس أجسادهن للتأكُّد من خلوها من أي أسلحة أو ممنوعات، وذلك بعد تخفيف أجسادهن من بعض ما يرتدينه من ملابس. أدهشني استمتاعي بالعمل، لدرجة كنت عندما آوي إلى فراشي ليلاً، أكون قادرة على استعراض كل الأجساد التي تحسستها، وقادرة على التعرف على نوع الإحساس الذي منحه لي كل جسد على حدة، بل والتعرف على خصائص كل جسد، من السهل الجاهز، إلى المتاح الممتنع.
من خلال هذه العملية الروتينية، اكتشفت أن الرؤية الخارجية للجسد لا تساوي شيئاً أمام تحسسه، وأن الجسد عالم له منطقه الخاص والغريب. كنتُ جاهزة دائماً لكي أحل مكان أي زميلة لها ظرف يمنعها العمل. كنت أقوم قبل موعد نوبتي، لأجهز نفسي للعمل، وبحيوية يحسدني عليها الآخرون. كنت أحرص على بعض الطقوس، قبل الذهاب إلى العمل، كالاستحمام، وارتداء أجمل ما عندي، وعمل ماكياج خفيف، وأخيراً نثر عطر أحرص على شرائه بمجرد تسلمي لراتبي الشهري. كان العمل ممتعاً، انتظار القادمات وتوديع المفارقات، كنت أقوم بتفحصهن أولاً، ومن ثم أدخلهن إلى الكابينة المخصصة، وأخيراً، الجزء الأهم من المسألة؛ عندما تمتد يدي لتتحسس أجسادهن، هنا كانت تبدأ المتعة الحقيقية للعمل، ردود أفعالهن أيضاً كانت جزءاً من متعة العمل، فهناك من تتعاطى مع جسدها ببلادة، فيبدو وكأنني أتحسس لوحاً من الخشب، وهناك من تجفل من أول لمسة فتعطي جسدها حياة موازية لمنظره الخارجي، وهذا النوع الأخير كان يعطي العمل متعة خاصة.
أجساد، أجساد، مرت من تحت يدي؛ المكتنزة البليدة، والمكتنزة المشبوبة، الممشوقة بلا حياة، والممشوقة بعطش، وأخيراً المتلهفة لأي لمسة، حتى لو كانت لمسة تفتيش بليد، وهؤلاء الأخيرات كانت تنتابني رغبة شديدة في أن أجذبهن إليَّ بشدة وأعانقهن بلطف، وأعبر لهن عن تعاطفي الشديد، وعن إحساسي بحرمانهن.
مرت أيام عملي بهدوء، إلى أن رأيتها، جسداً غريباً كنت دائماً أحلم به. وهي تقترب نحوي، تعرفت عليها عيني قبل يدي، نعومتها ولطفها كانا يعلنان عن نفسهما قبل أن تقترب مني، فقد أصبحت لديَّ خبرة في معرفة الأجساد بمجرد النظر إلى عيون أصحابها. نظرتها المنكسرة أغرتني بها، كانت في عينيها نظرة حزن تجعلك تبكي دون أن تعرف ما الذي يبكيك. أدخلتها الكابينة، وعندما مددت يدي لأتحسس جسدها، جفلت تلك الجفلة المحببة، كأنها كانت نائمة وأيقظتها فجأة. لم أستطع أن أمسك نفسي، كنت راغبة بشدة في تلك اللحظة، أن أحتضن حزنها لأضعه فوق حزني، وأن أضم ضياعها الذي بدا واضحاً في نظرة عينيها، إلى ضياعي. بضاضة جسدها في يدي أضاعت ما تبقى من عقلي، إلى درجة لم أشعر بمقدار القسوة التي أمسكتها بها، إلا عندما صرخت ملتاعة وأبعدت جسدها عني بقسوة وصدرها يتهدج، في لحظة خاطفة كلحظة الكشف، فهمت سبب هوسي بتحسس أجساد النساء، وفي نفس اللحظة فهمت سبب نفورها من تفتيشي، فقد تدحرج كيس الممنوعات الذي كانت تخبئه تحت ملابسها، ليقترب المزيد من حرس الأمن الداخلي نحونا.
* إعلامية وكاتبة فازت بجائزة الطيب صالح للابداع الكتابي
من مركز عبد الكريم ميرغني عن روايتها الغابة السرية
من خلال هذه العملية الروتينية، اكتشفت أن الرؤية الخارجية للجسد لا تساوي شيئاً أمام تحسسه، وأن الجسد عالم له منطقه الخاص والغريب. كنتُ جاهزة دائماً لكي أحل مكان أي زميلة لها ظرف يمنعها العمل. كنت أقوم قبل موعد نوبتي، لأجهز نفسي للعمل، وبحيوية يحسدني عليها الآخرون. كنت أحرص على بعض الطقوس، قبل الذهاب إلى العمل، كالاستحمام، وارتداء أجمل ما عندي، وعمل ماكياج خفيف، وأخيراً نثر عطر أحرص على شرائه بمجرد تسلمي لراتبي الشهري. كان العمل ممتعاً، انتظار القادمات وتوديع المفارقات، كنت أقوم بتفحصهن أولاً، ومن ثم أدخلهن إلى الكابينة المخصصة، وأخيراً، الجزء الأهم من المسألة؛ عندما تمتد يدي لتتحسس أجسادهن، هنا كانت تبدأ المتعة الحقيقية للعمل، ردود أفعالهن أيضاً كانت جزءاً من متعة العمل، فهناك من تتعاطى مع جسدها ببلادة، فيبدو وكأنني أتحسس لوحاً من الخشب، وهناك من تجفل من أول لمسة فتعطي جسدها حياة موازية لمنظره الخارجي، وهذا النوع الأخير كان يعطي العمل متعة خاصة.
أجساد، أجساد، مرت من تحت يدي؛ المكتنزة البليدة، والمكتنزة المشبوبة، الممشوقة بلا حياة، والممشوقة بعطش، وأخيراً المتلهفة لأي لمسة، حتى لو كانت لمسة تفتيش بليد، وهؤلاء الأخيرات كانت تنتابني رغبة شديدة في أن أجذبهن إليَّ بشدة وأعانقهن بلطف، وأعبر لهن عن تعاطفي الشديد، وعن إحساسي بحرمانهن.
مرت أيام عملي بهدوء، إلى أن رأيتها، جسداً غريباً كنت دائماً أحلم به. وهي تقترب نحوي، تعرفت عليها عيني قبل يدي، نعومتها ولطفها كانا يعلنان عن نفسهما قبل أن تقترب مني، فقد أصبحت لديَّ خبرة في معرفة الأجساد بمجرد النظر إلى عيون أصحابها. نظرتها المنكسرة أغرتني بها، كانت في عينيها نظرة حزن تجعلك تبكي دون أن تعرف ما الذي يبكيك. أدخلتها الكابينة، وعندما مددت يدي لأتحسس جسدها، جفلت تلك الجفلة المحببة، كأنها كانت نائمة وأيقظتها فجأة. لم أستطع أن أمسك نفسي، كنت راغبة بشدة في تلك اللحظة، أن أحتضن حزنها لأضعه فوق حزني، وأن أضم ضياعها الذي بدا واضحاً في نظرة عينيها، إلى ضياعي. بضاضة جسدها في يدي أضاعت ما تبقى من عقلي، إلى درجة لم أشعر بمقدار القسوة التي أمسكتها بها، إلا عندما صرخت ملتاعة وأبعدت جسدها عني بقسوة وصدرها يتهدج، في لحظة خاطفة كلحظة الكشف، فهمت سبب هوسي بتحسس أجساد النساء، وفي نفس اللحظة فهمت سبب نفورها من تفتيشي، فقد تدحرج كيس الممنوعات الذي كانت تخبئه تحت ملابسها، ليقترب المزيد من حرس الأمن الداخلي نحونا.
* إعلامية وكاتبة فازت بجائزة الطيب صالح للابداع الكتابي
من مركز عبد الكريم ميرغني عن روايتها الغابة السرية