ياسين طه حافظ - أوراق أوكرانية.. المحارب القديم

لم يكن الخريف قد حسم أمره ببدء الفصل. هو يرسل نسماتٍ باردة، خفقاتٍ، لمساتٍ عنيفةً لبعض أوراق الشجر. لكن لا خريف بعد. ثمة ورقة مصفرة في هذه الشجرة واثنتان بأخرى بعيدة، والسماء راضية بالرمادي الذي يبدو أثقل كل يوم.

ما تزال النزهات في الحدائق مطلوبة، ما يزال شغفٌ لإضاءة النفس في فضاءات خضر وممرات ورد وعزلات عشاق. وما يزال أولئك المتفردون بعيداً، كأن يخفون حالاً، يرتشفون زجاجاتهم كما ليطفؤا أو ليقتلوا كامناً كريهاً فيهم. حين تعبتُ من التجوال اخترت مصطبة لا هدأ، لأتامل الناس وانظر للعالم الذي يتهيأ لاستقبال رياح جديدة.
أشارت لي سيدة بالسماح لها بمشاركتي المصطبة، أفرحتني لأني أريد أن استنطق الضائعين، المتعبين، الذين سئموا أو لا يدرون ما يفعلونه بعد في الحياة. علمت أن لها أولاداً غادروا، أحدهم قتله الرصاص الألماني، أخر مات بعيداً عني، يقولون مرض، لكن لماذا لم يشفَ؟ هو كان في المستشفى يقولون . أنا بقية من عائلة كانت لها شقة في ظاهر المدينة وتعيش بين حياتين، الريف والمدينة الحديثة، لكن كما تراني، أنا بقية باقية لا أنتمي للريف. لا أنتمي للمدينة، أنتمي لمصاطب الحدائق!
قالتها واختلطت في وجهها حالتا ابتسامِ أسىً وسخرية مرة، فلا هو ابتسام ولا هي ضحكة ولكن وجهاً دمرّته في لحظات هجمةُ واقعٍ معيب هي فيه، "لكن لا بأس"، "قالت، وفجأة صاحت" "البيرت"!
التفت رجل شيخ، يرتدي قبعة رمادية وقمصلة سوداء يبدو عليها قدم، يعضل قليلاً، باتجاهنا. قالت لي، مثل من يريد أكمال قصة، "هذا عسكري قديم. قاتل الألمان، وقعَ في الأسر، أهانوه وضربوه ثم فَلَتَ منهم، أو حررهُ الروس، وهو يحمل ثلاثة أوسمة، لا أدري هل ما يزال يحتفظ بها، بعضهم باع أوسمته – الحياة أحياناً مزعجة جداً.
وفسحت له مكاناً ليتوسطنا. قال لي ضاحكاً دعك قرب حبيبتك، ما جئت لافرق بينكما. شاركَتْنا هي الضحك وكما شباب جديد تدفق في وجهها كامدِ الاحمرار "لا أريد الحديث عن أيام الحرب، ذلك الجنون الناري العاصف. تصور سيدي الأجنبي، نحن نقاتلهم نرى انهم على خطأ ومجرمين وهم يقاتلوننا يروننا على خطأ ومجرمين، هكذا تُدمرَّ الأخطاءُ البشريةَ ، افتقاد الصواب وراء المتاعب ...".
"لكني اريدك تخبرني عن أخلاق العسكري، فرداً، أعني عن الأفراد ببزاتهم العسكرية أو من دونها، في تلك الأيام، أيام الكلاب كما يقول كاتب ألماني...".
"سيدي، الناس جمعاً، جيشاً، متظاهرين، أو فريقاً، أفضل مما هم أفراداً، هنالك رصْدٌ للخطأ، للنشاز . الأطمئنان يمسح الحياة. في الانفراد تظهر السيئات المقموعة من خوف أو خجل .. نعم بعضٌ حين لا يرى لا يرمي، لا يقاتل لكي لا تطلق عليه النار، نعم بعضهم كان يتمنى الهرب، ويفتش في الغابة عن ممرّ بعيد عن الرصد، نعم بعضهم كان خسيساً، الفضائل ليست أصيلة دائماً، هذا شيء مؤسف، أليس كذلك؟ لكن هي الحال .. بعد انتهاء الحرب، من يملكون مالاً عاشوا برفاه، وجدوا أسواقاً ورواجاً – نحن أبناء القرى الفقراء كنا مجندين – والآن نحن مجندون بلا ثياب عسكرية ولا واجبات أو أوامر بالقتل. نحن نشهد انفسنا نُعْوِز، نمرض. نريد أن نشتري ولا مال او نشرب ونعلم أن ما يريحنا في الليل، يؤلمنا في النهار، النقود أقل في جيوبنا، كنا في الجبهات معاً أمام الموت، بعد الحرب، لسنا معاً أمام الحياة، نحن ما نزال، كما بدأنا، ابناء قرى في المدينة، فقراء ...، دعنا من كل هذا، من الحياة كلها، لولا أني ...، لمسحت المرارة برشفة فودكا طويلة، ربما لكي لا تعود الحرب، لكن، لا نعود للبيانات واقتراب شروق المستقبل والحياة الجديدة الآمنة بعد طرد العدو .. طُرِد العدو وها أنا على مصطبة في حديقة عامة أرثي الناس وأرثي نفسي، أمسَ بعتُ الأوسمة الثلاثة!".
قلت له مواسياً، حسناً أنتم أديتم الواجب الوطني، واجهتهم الأعداء وخسرتم عمراً وتحملتم رعباً. الآن الناس آمنون في الحدائق بفضلكم ولا أعداء .. أليست مناسبة لنأكل شيئاً، لنشرب قبل ذلك شيئاً، ولنذكر الذين قاتلوا من أجل الناس الذين اليوم في الحدائق، هي دعوة من غريب عن البلاد سعادتي في تقبلها!.."
رفع قبعته وهتف: تحيا الحياة الجميلة والناس الطيبون.
كنا ثلاثة وكانت جلسة خصبة ثرية تفيض عواطف وسعادة إنسانية وفرحاً قال لي : هذه ليلة نطرد بها ذكريات سيئة، سأحتفظ بها حارساً من الشر، آن الآن أملك شيئاً مهمّاً..."
نسي شيخوخته، سحبني إليه وقبلني من رأسي وأبقى يدي بين يديه طويلاً ... وحتى وقفنا لنتجه الى المطعم القريب. كنا في وسط الكون تلك الليلة حميمين نتمتع بما تريده الإنسانية من محبة، من تعارف، من أرواح وعواطف. في تلك الليلة وجدت الإنسانية بيننا فرصة لتنتصر!


* مجلة المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى