المطر يُغْرق عمان...
سيول جارفة تنحدر من أعالي التلال لتنسكب في الوديان الضيقة، تجرف معها كل ما يقف في طريقها من بيوتٍ أو بشر...
المطر يغرق عمان...
وهي كفأر محشور في قفض زجاجيّ، تدور وتدور، النار في داخلها لا تنطفيء، تزداد تأجّجاً كلما ازداد ضباب المدينة كثافة، صوت الريح العاتية لا يخفف من ضجيج الأسئلة التي تضرب أسها كنواقيس خطر قادم لا محالة...
محود.. إنه بأمّس الحاجة إلى المساعدة الآن... لا شكّ أنه يغوص في مياه السيل لينقذ وأمّه الهرمة ما يمكن إنقاذه من أشياء البيت.
كيف يمكن أن تصل إليه؟ هل تضمن عدم خذلان سيارتها الصغيرة لها، فلا تتطّل وسط السيول، وتركها وحيدة وسط رعب العاصفة الليلية؟ وإن وصلت، كيف يمكن لجسدها الضئيل أن يقاومَ التّيار الهادر لتصل إلى الضفة الأخرى حيث محمود وأمه؟ هل تنتظر الغد؟ كيف سيكون شكل الغد بالنسبة لها ولمحمود؟ سيتهمها فوراً بالإنضمام إلى قافلة \"فاعلي الخير\" سيفعل ذلك بالتأكيد، فو لا ينفكّ مذ عرفها عن تذكيرها بالفوارق الطبقية وتأثيرها على المشاعر الإنسانية... حتى إنه لا يجد حرجاً من الهزءِ بها وبكل ما تطرح من آراء، ويزي في إحراجها عندما يتعلّق الأمر بإبداءِ رأي أو إتخاذ موقف، فتصير السيارة، وماكان الإقامة، حتى الإسم، حاجز الشكّ الكبير الذي يفصل بينهما ولا يستطيع أي منهما تجاوزه...
\"عامر.. أين عامر الآن وسط هذه اللجّة؟ هل يجلس مرسلاً نظره إلى المدى الغارق بالمطر والضباب، يحتضن صمته الأبدي...؟ لو ذهبت إليه الآن، هل يجود عليها بأكثر من كلمة أو كلمتين؟ هل يمكن للعاصفة أن تكسر حواجز الجليد بينهما، ليحتويها بين ذراعيه ويذيب البرد المتجمد في أعماقها؟ إنها تعيش إحساسه بها، بشفافية المرأة، تعرف أن وراء هذا الصمت القاتل بحورٌ من عواطف عاصفة، لكنه لا يريد البوح.. لماذا يا عامر؟ لماذا تتركها وحيدة تتخبّط في دوامة الأيام تأكل أعماقها نيران المشاعر الثائرة؟
\"ياسر...\" لا شكّ أنك تُنظّر الآن عن أهمية القحط في لعب دور أساسيّ في الصراع الاجتماعي القائم، حيث سيضطر الفلاح الجائع إلى الثورة، على المالك، وعلى السماء، وعلى كل شيء.. هل تستطيع يا هذا المُنظِّر الكبير، الثرثار الكبير، أن تحلّ هذه المعضلة الصغيرة..؟ ستفعل... ستفعل بالتأكيد... ستثرثر كثيراً عن أهمية ضبط النَفْس في هذه المرحلة الحرجة، والتحلي بالواقعية لإدراك البعد الموضوعي لكل الظروف التي نعيشها.. الواقعية وحدها قادرة على منحنا إمكانية الرؤية الصافية في هذا الجوّ المتلّبد... سحقاً لك، ولكل ثرثرتك الباردة... هل سيمنح كل هذا التنظير \"وردة\" – الوردة المقبلة على التفتح –بعض الحياة، وهي التي تنظر إليك كمخلّص؟
هل تستطيع أن تصارحها بأنك لستَ المخلّص العظيم؟ وهل تستطيع هي أن تبوح لوردة بسرّ كونها أضعف من ذبابة وقعت في شباك عنكبوت، وبأنها لم تعد تحتمل كل هذا \"الهراء\" الذي يحيط بها..؟
\"وردة\" ستنتظرها... ستأتي غداً، ستمل لها أخبار \"عليّ\" كلها، ستحكي لها كيف يقضي لياليه الطويلة الباردة بين جدران الزنزانة، وكيف يستعين بالشال الصوفي الذي نسجته \"وردة\" بيديها في ذكرى السنة الثالثة لسجنه، ستحكي لها الكثير... وستسمع.... وعندما تغادرها، سينفجر السؤال داخل رأسها ككلّ مرة تتحدثان فيها عن \"عليّ\"... من المساجين؟ نحن أم هم؟.....
المطر يغرق عمان...
والغرفة الصغيرة التي تحوّلت إلى قفص زجاجي، وحوّلتها إلى ما يشبه فأر التجارب، تجمعهم كلهم.. ابتسامة \"محمود\" تطلّ من لوحة سرياليّة لا تعني شيئاً، ولكنها ترتاح لفخامة موقعها وسط الجدار... \"عامر\" يُشيح بنظره عنها، يمنح دفء نظراته للحائط، يعطيه لذة الاستماع بحكايا شوقه الصامت.. \"وردة\" تطلّ من باقة البنفسج المروعة على طرف المكتبة، تقاوم كثافة دخان السجائر... \"عليّ\" اختصر نفسه في كتاب، واستلقى على السرير... وحده \"ياسر\" يتحرك على أرفف الكتب... يقفز من كتاب إلى كتاب، ويحدجها بنظراته القاسية.. كلهم يتجمّعون حولها.. ووحده صوت الريح يقطع حبال الصمت... هي تدور... ومع كل دورة يرتفع صخب الأسئلة.. وترتفع كومة الأوراق والقصاصات والكتب وسط الغرفة... القفص الزجاجي..
هي تدور، والأسئلة تزعق والورق ينهال على الأرض... تُشعل عود ثقاب.. ناره تزداد اشتعالاً... تمتد النار... المطر يغرق المدينة، لا يطفئ النار... فتلتفّ المدينة بغيمة من دخان كثيفٍ وضباب...
***
الأبيض يغرق كل شيء...
تحاول المباعدة ما بين جفنيها المطبقينْ، ينسلّ الأبيض عبر مساحة الرؤية الضيقة.. يتّسع الأبيض، ويتسّع معه إحساس بوخزة ألمٍ في مكانٍ ما.. همهمات خافتة تقطع محيطات الكرة الأرضية قبل أن تصل إلى أذنيها... المسافة ما بين جفنيها تتسّع... يتراجع الأبيض قليلاً... يزداد وخز الألم... شيءٌ ما يشدّ يدها..
شبحٌ متدثّر بالأبيض يقابلها... وإلى جانبه شبحٌ آخر لا لون له.. تنفرج شفتاها عن صوت يبدو أنه قادم من الأبدية.. لا تميز فيه صوتها، فينحني الشبح المتدثّر بالأبيض تتسرّب قطرات رطبة إلى فمها الجاف عبر شفتيها..
يتقدم الأبيض...
يتراجع الأبيض..
تتأرجح في متاهات واسعة.. تطير، يصغر كل ما حولها من أشباح.. تطير..
***
صباح بهيّ...
السبح الداكنة تراجعت لتفسح المجال لضوء الشمس، تنهمر حزمة منه على وجهها الغارق في الوسائد... تباعد ما بين جفنيها الملتصقينْ... يتراجع الأبيض حتى يلتصق بالحائط المقابل.. الشبح الذي لا لون له صار أكثر وضوحاً، أخذ شكل إنسان يستلقي على مقعد.. وخز الألم يزداد.. تحاول رفع رأسها، لكنه ثقيلٌ كجبل... تحاول تحريك يديها... تحسّهما مقيدّتينْ منذ الأبد...
أهة صغيرة تنزلق من بين شفيتها، فيصحو الشبح النائم على المقعد إلى جوارها، ينتصب واقفاً، فينحني فوق وجهها، يترك ابتسامة تسيل كدموع مراهقة عذراء، على وجهها.. فتغرقه...
***
-ماذا فعلت أيتها المجنونة؟
الأبيض يتقدّم... الأبيض يتسّع.. يغرق يديها والشبح.. وكل شيء... تفيض على وجهه المصفّر غيمة ذهول تام..
هذا هو الصباح الثالث... لقد أمضى ليلتين كاملتين بانتظار أن تصحو.. لم يصدّق عندما أخبروه أنها هنا.. جاءها بالرغم من العاصفة.. وكان ينوي أن يترك النيران المشتعلة في أعماقها منذ زمن بعيد لتقاوم العاصفة، وتوقف زحف البرد المتجمّد في نخاعيهما، وها هي الآن تصحو لتغيب، ولا يعرف شيئاً عما جرى، يتأمل جسدها الممدّد على السرير، مغمورة بالأبيض... وحده شعرها الأسود يتناثر على الوسادة ليكسر حدّة البياض من حولها... كم تعذّبتِ أيتها الصغيرة..؟
كم تعذبتُ من أجلك...؟ لن يكون هناك عذاب بعد الآن...
انتهت العاصفة.. وسنترك الفرح يتسلّل إلى حياتنا كما تتسلّل خيوط الشمس لتضيء وجهك البهيّ... يقطع سيل أفكاره وقُع خطىً تتوقف خلفه..
\"إنه الطبيب\" يهمس لنفسه..
-أحضروها في حالة إنهيار عصبي تام.. في مثل حالتها نخشى فقدان الذاكرة..
-نجتْ من المونت بأعجوبة...
-لو لم تمتْ حرقاً لماتت اختناقاً...
-نجتْ من موتٍ لتموت بشكلٍ آخر..
كهراواتٍ ثقيلة تنصّب الكلمات على رأسه.. يلتفت فيميّز وجه \"ياسر\" و \"محمود\" و \"وردة\" خلف وجه الطبيب الذي لا ينفكّ عن هزّ رأسه بحركةٍ تنمّ عن أسىً عميق..
-الحريق... كيف حدث؟
يصرخ بهم..
-لا نعرف، لكنه أتى على كل ما عرفتها من كتب وأوراق هامة، لنا ولها.
بصوت مخنوق يجيب \"ياسر\" فينتقل ببصره بين الوجوه الشاحبة والجسد الممدّد على السرير بلا حراك.. تتسمرّ نظراته على يديها المغطّاة باللفافات الطبيّة.. يقتر من حافة السرير، ينحني ليعانق بيديه وجهها. تتقدّم \"وردة\" لتضع أضمومة من الزهور في مكان ما مقابل السرير، بينما يتقدّم \"ياسر\" و \"محمود\" ليبعدا \"عامر\" عن الجسد الممدّد على السرير..
قبل أن يتمكنوا تسقط دمعة حارّة على الوجه الغارق في البياض...
* من مجموعة "المشنقة"
سيول جارفة تنحدر من أعالي التلال لتنسكب في الوديان الضيقة، تجرف معها كل ما يقف في طريقها من بيوتٍ أو بشر...
المطر يغرق عمان...
وهي كفأر محشور في قفض زجاجيّ، تدور وتدور، النار في داخلها لا تنطفيء، تزداد تأجّجاً كلما ازداد ضباب المدينة كثافة، صوت الريح العاتية لا يخفف من ضجيج الأسئلة التي تضرب أسها كنواقيس خطر قادم لا محالة...
محود.. إنه بأمّس الحاجة إلى المساعدة الآن... لا شكّ أنه يغوص في مياه السيل لينقذ وأمّه الهرمة ما يمكن إنقاذه من أشياء البيت.
كيف يمكن أن تصل إليه؟ هل تضمن عدم خذلان سيارتها الصغيرة لها، فلا تتطّل وسط السيول، وتركها وحيدة وسط رعب العاصفة الليلية؟ وإن وصلت، كيف يمكن لجسدها الضئيل أن يقاومَ التّيار الهادر لتصل إلى الضفة الأخرى حيث محمود وأمه؟ هل تنتظر الغد؟ كيف سيكون شكل الغد بالنسبة لها ولمحمود؟ سيتهمها فوراً بالإنضمام إلى قافلة \"فاعلي الخير\" سيفعل ذلك بالتأكيد، فو لا ينفكّ مذ عرفها عن تذكيرها بالفوارق الطبقية وتأثيرها على المشاعر الإنسانية... حتى إنه لا يجد حرجاً من الهزءِ بها وبكل ما تطرح من آراء، ويزي في إحراجها عندما يتعلّق الأمر بإبداءِ رأي أو إتخاذ موقف، فتصير السيارة، وماكان الإقامة، حتى الإسم، حاجز الشكّ الكبير الذي يفصل بينهما ولا يستطيع أي منهما تجاوزه...
\"عامر.. أين عامر الآن وسط هذه اللجّة؟ هل يجلس مرسلاً نظره إلى المدى الغارق بالمطر والضباب، يحتضن صمته الأبدي...؟ لو ذهبت إليه الآن، هل يجود عليها بأكثر من كلمة أو كلمتين؟ هل يمكن للعاصفة أن تكسر حواجز الجليد بينهما، ليحتويها بين ذراعيه ويذيب البرد المتجمد في أعماقها؟ إنها تعيش إحساسه بها، بشفافية المرأة، تعرف أن وراء هذا الصمت القاتل بحورٌ من عواطف عاصفة، لكنه لا يريد البوح.. لماذا يا عامر؟ لماذا تتركها وحيدة تتخبّط في دوامة الأيام تأكل أعماقها نيران المشاعر الثائرة؟
\"ياسر...\" لا شكّ أنك تُنظّر الآن عن أهمية القحط في لعب دور أساسيّ في الصراع الاجتماعي القائم، حيث سيضطر الفلاح الجائع إلى الثورة، على المالك، وعلى السماء، وعلى كل شيء.. هل تستطيع يا هذا المُنظِّر الكبير، الثرثار الكبير، أن تحلّ هذه المعضلة الصغيرة..؟ ستفعل... ستفعل بالتأكيد... ستثرثر كثيراً عن أهمية ضبط النَفْس في هذه المرحلة الحرجة، والتحلي بالواقعية لإدراك البعد الموضوعي لكل الظروف التي نعيشها.. الواقعية وحدها قادرة على منحنا إمكانية الرؤية الصافية في هذا الجوّ المتلّبد... سحقاً لك، ولكل ثرثرتك الباردة... هل سيمنح كل هذا التنظير \"وردة\" – الوردة المقبلة على التفتح –بعض الحياة، وهي التي تنظر إليك كمخلّص؟
هل تستطيع أن تصارحها بأنك لستَ المخلّص العظيم؟ وهل تستطيع هي أن تبوح لوردة بسرّ كونها أضعف من ذبابة وقعت في شباك عنكبوت، وبأنها لم تعد تحتمل كل هذا \"الهراء\" الذي يحيط بها..؟
\"وردة\" ستنتظرها... ستأتي غداً، ستمل لها أخبار \"عليّ\" كلها، ستحكي لها كيف يقضي لياليه الطويلة الباردة بين جدران الزنزانة، وكيف يستعين بالشال الصوفي الذي نسجته \"وردة\" بيديها في ذكرى السنة الثالثة لسجنه، ستحكي لها الكثير... وستسمع.... وعندما تغادرها، سينفجر السؤال داخل رأسها ككلّ مرة تتحدثان فيها عن \"عليّ\"... من المساجين؟ نحن أم هم؟.....
المطر يغرق عمان...
والغرفة الصغيرة التي تحوّلت إلى قفص زجاجي، وحوّلتها إلى ما يشبه فأر التجارب، تجمعهم كلهم.. ابتسامة \"محمود\" تطلّ من لوحة سرياليّة لا تعني شيئاً، ولكنها ترتاح لفخامة موقعها وسط الجدار... \"عامر\" يُشيح بنظره عنها، يمنح دفء نظراته للحائط، يعطيه لذة الاستماع بحكايا شوقه الصامت.. \"وردة\" تطلّ من باقة البنفسج المروعة على طرف المكتبة، تقاوم كثافة دخان السجائر... \"عليّ\" اختصر نفسه في كتاب، واستلقى على السرير... وحده \"ياسر\" يتحرك على أرفف الكتب... يقفز من كتاب إلى كتاب، ويحدجها بنظراته القاسية.. كلهم يتجمّعون حولها.. ووحده صوت الريح يقطع حبال الصمت... هي تدور... ومع كل دورة يرتفع صخب الأسئلة.. وترتفع كومة الأوراق والقصاصات والكتب وسط الغرفة... القفص الزجاجي..
هي تدور، والأسئلة تزعق والورق ينهال على الأرض... تُشعل عود ثقاب.. ناره تزداد اشتعالاً... تمتد النار... المطر يغرق المدينة، لا يطفئ النار... فتلتفّ المدينة بغيمة من دخان كثيفٍ وضباب...
***
الأبيض يغرق كل شيء...
تحاول المباعدة ما بين جفنيها المطبقينْ، ينسلّ الأبيض عبر مساحة الرؤية الضيقة.. يتّسع الأبيض، ويتسّع معه إحساس بوخزة ألمٍ في مكانٍ ما.. همهمات خافتة تقطع محيطات الكرة الأرضية قبل أن تصل إلى أذنيها... المسافة ما بين جفنيها تتسّع... يتراجع الأبيض قليلاً... يزداد وخز الألم... شيءٌ ما يشدّ يدها..
شبحٌ متدثّر بالأبيض يقابلها... وإلى جانبه شبحٌ آخر لا لون له.. تنفرج شفتاها عن صوت يبدو أنه قادم من الأبدية.. لا تميز فيه صوتها، فينحني الشبح المتدثّر بالأبيض تتسرّب قطرات رطبة إلى فمها الجاف عبر شفتيها..
يتقدم الأبيض...
يتراجع الأبيض..
تتأرجح في متاهات واسعة.. تطير، يصغر كل ما حولها من أشباح.. تطير..
***
صباح بهيّ...
السبح الداكنة تراجعت لتفسح المجال لضوء الشمس، تنهمر حزمة منه على وجهها الغارق في الوسائد... تباعد ما بين جفنيها الملتصقينْ... يتراجع الأبيض حتى يلتصق بالحائط المقابل.. الشبح الذي لا لون له صار أكثر وضوحاً، أخذ شكل إنسان يستلقي على مقعد.. وخز الألم يزداد.. تحاول رفع رأسها، لكنه ثقيلٌ كجبل... تحاول تحريك يديها... تحسّهما مقيدّتينْ منذ الأبد...
أهة صغيرة تنزلق من بين شفيتها، فيصحو الشبح النائم على المقعد إلى جوارها، ينتصب واقفاً، فينحني فوق وجهها، يترك ابتسامة تسيل كدموع مراهقة عذراء، على وجهها.. فتغرقه...
***
-ماذا فعلت أيتها المجنونة؟
الأبيض يتقدّم... الأبيض يتسّع.. يغرق يديها والشبح.. وكل شيء... تفيض على وجهه المصفّر غيمة ذهول تام..
هذا هو الصباح الثالث... لقد أمضى ليلتين كاملتين بانتظار أن تصحو.. لم يصدّق عندما أخبروه أنها هنا.. جاءها بالرغم من العاصفة.. وكان ينوي أن يترك النيران المشتعلة في أعماقها منذ زمن بعيد لتقاوم العاصفة، وتوقف زحف البرد المتجمّد في نخاعيهما، وها هي الآن تصحو لتغيب، ولا يعرف شيئاً عما جرى، يتأمل جسدها الممدّد على السرير، مغمورة بالأبيض... وحده شعرها الأسود يتناثر على الوسادة ليكسر حدّة البياض من حولها... كم تعذّبتِ أيتها الصغيرة..؟
كم تعذبتُ من أجلك...؟ لن يكون هناك عذاب بعد الآن...
انتهت العاصفة.. وسنترك الفرح يتسلّل إلى حياتنا كما تتسلّل خيوط الشمس لتضيء وجهك البهيّ... يقطع سيل أفكاره وقُع خطىً تتوقف خلفه..
\"إنه الطبيب\" يهمس لنفسه..
-أحضروها في حالة إنهيار عصبي تام.. في مثل حالتها نخشى فقدان الذاكرة..
-نجتْ من المونت بأعجوبة...
-لو لم تمتْ حرقاً لماتت اختناقاً...
-نجتْ من موتٍ لتموت بشكلٍ آخر..
كهراواتٍ ثقيلة تنصّب الكلمات على رأسه.. يلتفت فيميّز وجه \"ياسر\" و \"محمود\" و \"وردة\" خلف وجه الطبيب الذي لا ينفكّ عن هزّ رأسه بحركةٍ تنمّ عن أسىً عميق..
-الحريق... كيف حدث؟
يصرخ بهم..
-لا نعرف، لكنه أتى على كل ما عرفتها من كتب وأوراق هامة، لنا ولها.
بصوت مخنوق يجيب \"ياسر\" فينتقل ببصره بين الوجوه الشاحبة والجسد الممدّد على السرير بلا حراك.. تتسمرّ نظراته على يديها المغطّاة باللفافات الطبيّة.. يقتر من حافة السرير، ينحني ليعانق بيديه وجهها. تتقدّم \"وردة\" لتضع أضمومة من الزهور في مكان ما مقابل السرير، بينما يتقدّم \"ياسر\" و \"محمود\" ليبعدا \"عامر\" عن الجسد الممدّد على السرير..
قبل أن يتمكنوا تسقط دمعة حارّة على الوجه الغارق في البياض...
* من مجموعة "المشنقة"