وميض خاطف يلفني، يحاصرني. أكاد أسقط أرضاً، أختنق، طيف لسماوات عظام يظللني، يخطفني بعيداً وجسدي يرتشف غيوم المكان، ضجيج يعمر الصالة التي انحنى في جذعها، جلبة نساء فاجرات تضرب جدران رأسي، همهمة لفتيات يافعات في انتظار الرقص على تهاويم الميت.
في صباي كنت ساذجاً كما أنا الآن، لكنني اللحظة أشد من ذي قبل، لم أدر كيف أفعل في هذا الحصار؟ فلم تكن الجلبة وحدها التي تخنقني، بل صوت أخواتي من حولي أيضاً، وزوجتي التي تجلس بقربي هنا، ساعة كئيبة هذه التي تزورني، اليوم بت مدركاً أنه عام الجزع والحزن.
وعلى موتها أغني.
في الصالة ازدادت حدة الهمس والصفير، ازداد الفزع والخوف، بدأ الصوت يأخذ ارتفاعاً شاهقاً كأعمدة النور في عالمي، وقفت النساء واحدة تلو الأخرى للرقص على جسدي الميت، وعبر شقوق الألم أنتصب تائهاً، أبكي فزعاً على موتها، أصرخ علّني أتيه في ومضة وجهها الغجري.
يوماً كنت صبياً، وكانت هي كذلك، كنت ساذجاً، وقحاً ولم تكن مثلي أبداً، تبعتها فاختبأت فأدركت الفرصة، بحثت عنها، تهت في دروب المخيم، أزقته التي لا تعرف الاعتدال، وفي ثنايا الكون الرابض بي وجدتها، عثرت عليها، أهديتها خاتماً ورثته عن أبي، ثم اختفيت واختفت..وعدنا نبحث عن كلينا، تهت في دهاليزي، ولم أهتد إليها، جلت دروب المنافي، مردوانات السجون، مشرداً مطارداً كما أشقائها الذين كانوا حلقة الوصل بيننا، وحين عدت كانت قد سافرت مع الضباب واختفت. في صباي الساذج مثلي كان وميضها يلفني، يخطفني من بين فلول الأطفال، نجري، ألطمها على خديها، كما كان يفعل أبي بأمي، أصرخ بها كما يفعل بي إخوتي الكبار، وتصبر، ثم تهرب وأنا أتوسل إليها أن تعود، أرجوها أن تمكث معي على تلال الرمل الأصفر لكنها كأن لم تسمعني، وفي الصباح تعود، نلعب فيتكرر المشهد من جديد.وكانت قد تزوجت.
هكذا دون أن أعرف، دون أن تخبرني، ودون أن أصفعها كما كنا قبلاً.
وجدتها تسير مع رجل أنيق، شاربه كث غير مرتب، كان يذكرني بأبي، بأمي التي كانت تكره الشارب الذي طلّقه أبي مئات المرات، وعلى شاربه كانت تنكفئ، ضخم كما سرير الموت خاصتهما، رأيتها وقد كانت تحمل الرضيع بين كفيها، يغني ويبكي.
رأيتها ولم ترني بداية الأمر، لكنها عندما أدركتني، تشممت عطر الماضي، مساحة البوح فسقطت أرضاً، لحظتها لم أعرف ماذا أفعل؟ هربت، نعم هربت أبحث عن مأوى ينجيني من هول الكارثة التي طوحتني.. كيف لي أن أنساها بعد ذلك؟ ونسيتها ثم عدت.
وعلى موتها أنتهي.
عندما ولجت منزلي وجدتها منكفئة على وجهها. ارتعدت فرائصي، هوت بي الدهشة، هل هي حقاً؟ أم أنها ضرب من الخيال؟ ولم أكن أعرف أنها قد أغلقت قلبي بمفاتيحها الجميلة، حلمت بها ليلتها كما رأيتها لكنها كانت بغير ذلك الخاتم، صعقت ولم أسألها عن مكانه. استيقظت من نومي وكان الخاتم في يدي، أعطيته لمجنونة جديدة تجلس بجواري الآن، وفي الصالة مع جلبة النساء سقط الخاتم أرضاً وسقطت معه أحلامي القرمزية.كانوا قد جاءوا بها جثة متفحمة ليلة أن فكرت بزيارتهم مع والديّ في المساء، ولجت الحارة الضيقة. كانت حدة القصف تروع السكان جميعهم، سرت تجاه الطريق الترابي الغائص بنفايات المخيم، وهناك كانت الجموع ترفرف حول أقبية الثكنة، سألنا وسألت عما جرى، ثم فجأة سقطت في موتي، إغفاءتي التي طوحتني أرضاً، كأنني لم أع ما كانوا يقولون، سقطت أرضاً وأنا أسمعهم، كان أحدهم يصرخ وقد غسل العرق جسده كحمامة طاهرة تغتصب السماء: لقد تهاوت مع صاروخ غادر صفع شارع المخيم بأكمله.. وانتهى مع الغبار.
في صباي كنت ساذجاً كما أنا الآن، لكنني اللحظة أشد من ذي قبل، لم أدر كيف أفعل في هذا الحصار؟ فلم تكن الجلبة وحدها التي تخنقني، بل صوت أخواتي من حولي أيضاً، وزوجتي التي تجلس بقربي هنا، ساعة كئيبة هذه التي تزورني، اليوم بت مدركاً أنه عام الجزع والحزن.
وعلى موتها أغني.
في الصالة ازدادت حدة الهمس والصفير، ازداد الفزع والخوف، بدأ الصوت يأخذ ارتفاعاً شاهقاً كأعمدة النور في عالمي، وقفت النساء واحدة تلو الأخرى للرقص على جسدي الميت، وعبر شقوق الألم أنتصب تائهاً، أبكي فزعاً على موتها، أصرخ علّني أتيه في ومضة وجهها الغجري.
يوماً كنت صبياً، وكانت هي كذلك، كنت ساذجاً، وقحاً ولم تكن مثلي أبداً، تبعتها فاختبأت فأدركت الفرصة، بحثت عنها، تهت في دروب المخيم، أزقته التي لا تعرف الاعتدال، وفي ثنايا الكون الرابض بي وجدتها، عثرت عليها، أهديتها خاتماً ورثته عن أبي، ثم اختفيت واختفت..وعدنا نبحث عن كلينا، تهت في دهاليزي، ولم أهتد إليها، جلت دروب المنافي، مردوانات السجون، مشرداً مطارداً كما أشقائها الذين كانوا حلقة الوصل بيننا، وحين عدت كانت قد سافرت مع الضباب واختفت. في صباي الساذج مثلي كان وميضها يلفني، يخطفني من بين فلول الأطفال، نجري، ألطمها على خديها، كما كان يفعل أبي بأمي، أصرخ بها كما يفعل بي إخوتي الكبار، وتصبر، ثم تهرب وأنا أتوسل إليها أن تعود، أرجوها أن تمكث معي على تلال الرمل الأصفر لكنها كأن لم تسمعني، وفي الصباح تعود، نلعب فيتكرر المشهد من جديد.وكانت قد تزوجت.
هكذا دون أن أعرف، دون أن تخبرني، ودون أن أصفعها كما كنا قبلاً.
وجدتها تسير مع رجل أنيق، شاربه كث غير مرتب، كان يذكرني بأبي، بأمي التي كانت تكره الشارب الذي طلّقه أبي مئات المرات، وعلى شاربه كانت تنكفئ، ضخم كما سرير الموت خاصتهما، رأيتها وقد كانت تحمل الرضيع بين كفيها، يغني ويبكي.
رأيتها ولم ترني بداية الأمر، لكنها عندما أدركتني، تشممت عطر الماضي، مساحة البوح فسقطت أرضاً، لحظتها لم أعرف ماذا أفعل؟ هربت، نعم هربت أبحث عن مأوى ينجيني من هول الكارثة التي طوحتني.. كيف لي أن أنساها بعد ذلك؟ ونسيتها ثم عدت.
وعلى موتها أنتهي.
عندما ولجت منزلي وجدتها منكفئة على وجهها. ارتعدت فرائصي، هوت بي الدهشة، هل هي حقاً؟ أم أنها ضرب من الخيال؟ ولم أكن أعرف أنها قد أغلقت قلبي بمفاتيحها الجميلة، حلمت بها ليلتها كما رأيتها لكنها كانت بغير ذلك الخاتم، صعقت ولم أسألها عن مكانه. استيقظت من نومي وكان الخاتم في يدي، أعطيته لمجنونة جديدة تجلس بجواري الآن، وفي الصالة مع جلبة النساء سقط الخاتم أرضاً وسقطت معه أحلامي القرمزية.كانوا قد جاءوا بها جثة متفحمة ليلة أن فكرت بزيارتهم مع والديّ في المساء، ولجت الحارة الضيقة. كانت حدة القصف تروع السكان جميعهم، سرت تجاه الطريق الترابي الغائص بنفايات المخيم، وهناك كانت الجموع ترفرف حول أقبية الثكنة، سألنا وسألت عما جرى، ثم فجأة سقطت في موتي، إغفاءتي التي طوحتني أرضاً، كأنني لم أع ما كانوا يقولون، سقطت أرضاً وأنا أسمعهم، كان أحدهم يصرخ وقد غسل العرق جسده كحمامة طاهرة تغتصب السماء: لقد تهاوت مع صاروخ غادر صفع شارع المخيم بأكمله.. وانتهى مع الغبار.