يعتبر النص الأدبي منبع دلالات عديدة ومتنوعة، فكل شيء فيه جدير أن يكون دليلاً. والبناء العام للنص يشكل –بلا شك –أحد العناصر الأساسية التي تكوّن النصوص الأدبية السردية، بما تحمله من أبعاد دلالية ورمزية، يعتني المبدع في نسجها وهيكلتها أيما اعتناء، من أجل الإيحاء بها إلى معاني ودلالات خاصة.
والبحث البنيوي الحديث، يتناول النص الأدبي من الجانب البنائي، قصد معرفة الوظائف الداخلية التي تمارسها عناصر البنية، والتي بحركتها ينبني النص. ونحن في هذه الدراسة، سنحاول تفكيك الهيكل الخارجي لكليلة ودمنة وتفصيل الأبعاد الرمزية للبنية العامة التي تهيكل نسيج النص.
إن الملاحظ على البنية العامة في كليلة ودمنة، أنها تتشكل من عنصرين أساسين، ربما يعتبران سر شهرة الكتاب عبر العصور واستمرارية تلهف الناس على قراءته، هذان العنصران هما: أولاً، القصة الإطار بما تحتوي من أبواب أمثال لها مقوماتها السردية الخاصة بها، وثانياً، التداخل السردي الذي يتمظهر في شكل قصة داخل قصة، لها أيضاً مقوماتها السردية الخاصة بها. وقبل هذا وذاك فإن النص العام يتصدره عنوان رئيس، كما يتصدر كل باب مثل عنوان خاص به، وداخل كل باب أمثالاً ضمنية تتصدرها، هي الأخرى، عناوين خاصة بها. إن هذه التشكيلة البنيوية الخاصة بعناوين النصوص السردية في الكتاب نراها تستوقفنا بحدة لنستهل بها هذه الدراسة.
1-العنوان:
لا شك، أن العنوان يشكل بالنسبة إلى الدارس المفتاح الرئيس الذي يعينه على استكناه، وتفسير عالم النص الأدبي، فهو المنارة التي تضيء فضاء النص وتقود القارئ إلى فك رموزه وكشف غموضه باعتباره علامة دالة.
والجدير بالذكر، أن النقاد القدامى اعتنوا بدراسة "العنوان" وأدركوا أنه لازمة نصية، حيث بحثوا وظائفه ودلالاته، نذكر من بينهم في سبيل المثال، أبا القاسم الكلامي، في كتابه "إحكام صنعة الكلام" والذي تضمن فصلاً خاصاً بالعنوان، بحث صاحبه فيه المعاني اللغوية للفظ عنوان، كما بحث أهمية العنوان وقيمته الأدبية والفنية في إقامة النص. من هنا نستنتج أن العرب أدركوا أهمية العنوان في بناء النص وخلصوا إلى أنه قيمة لفظية دالة، من حيث أنه يؤدي الوظيفة الإشارية التي تميز النصوص عن بعضها بعضاً.
هذا عن القدماء، أما عن المحدثين فقد جاءت عناية النقاد والمنظرين الغربيين للعنوان ضمن عنايتهم بالتنظير للنص الأدبي عموماً، والسردي خصوصاً، ولقد جاء ذلك في أبحاث الشكلانيين الروس، وما أنبثق عنهم من مدارس نقدية كالبنيوية، والشعرية البنيوية، وغيرها. إن هذه المدارس النقدية تعتبر العنوان جزءاً لا يتجزأ من الكلية النصية، له وظائف بنيوية بالنسبة لهيكل النص الخارجي، وأخرى دلالية في علاقته بالمادة الحكائية أو الشعرية. من هذا المنطلق النظري نجد عبد الملك مرتاض يعرض خصائص العنوان في سياق دراسته لإحدى روايات نجيب محفوظ فيقول:
"إن هذا العنوان يرتبط ارتباطاً عضوياً بالنص الذي يعنونه، فيكمله ولا يختلف معه، ويعكسه بأمانة ودقة. فكأنه نص صغير يتعامل مع نص كبير..، وأي عنوان لأي كتاب يكون عبارة صغيرة تعكس عادة كل عالم النص المعقد الشاسع الأطراف" (1).
أما العنوان عند السيميائيين، فإنه يعد علامة أو إيقوناً يحمل معاني ودلالات تفيد القارئ في تأويل مضمون النص. ونظرتهم تلك جاءت بناء على تعريفهم للأدب "بأنه حدث علامي مرة، وأخرى بأنه نظام علامي. ويرتكز التعريفان على اختلافهما في كلمتي الحدث والنظام على ركيزة واحدة هي العلامة، ومعنى ذلك أن النص الأدبي علامة" (2). وبناء عليه، يبرز السؤال المنهجي الهام الذي سيدفع بالتحليل إلى غايته، والذي تتحدد صيغته على النحو التالي: كيف يمكننا قراءة عنوان "كليلة ودمنة" بوصفه جزءاً من النص وعلامة تدل عليه؟
نشير بدءاً إلى أننا سننطلق في مدارسة وتحليل العنوان من وجهتين اثنتين، الأولى نعتني فيها بتحليل العنوان في علاقته بالكلية النصية، ونعني بذلك العنوان الذي يتصدر واجهة النص المكتوب المتمثلة في الغلاف، وتبيين علاقته بالنصوص السردية الداخلية. ثم ننتقل بالقراءة في العناوين الداخلية، وهي العناوين الخاصة بالأبواب والأمثال الضمنية.
يحتل العنوان في الفضاء النصي "موقعاً استراتيجياً خاصاً، يشرف منه على النص، يحرسه ويضمن وحدته وعدم تفككه وذوبانه في نصوص أخرى" (3)، لهذه الأغراض الخاصة اختار ابن المقفع "كليلة ودمنة" عنواناً لمؤلفه الذي يتضمن سروداً خرافية متنوعة، جاء أغلبها على لسان الحيوان.
ومن أهم الوظائف التي يقوم بها العنوان، أنه يهيئ للمتلقي السبيل لمقروئية النص لأنه يكشف عما أراد الكاتب أن يبلغه إليه. فهل حقق "كليلة ودمنة" العنوان هذه الأغراض؟
إن العنوان هنا، يمثل الدال الذي يحقق من حيث التركيب اللساني العناصر الحاضرة وهو الدال اللغوي (كليلة ودمنة)، بينما المدلول، فإنه يشير إلى عناصر الغياب (المعنى العميق) وعلى القارئ أن يكشفها، بممارسة القراءة الفاعلة.
إننا لما نتأمل هذا العنوان "كليلة ودمنة" من حيث مظهره السطحي، نجده يتركب من اسمين لشخصين يربط بينهما تركيبياً حرف العطف "الواو".
وأول ما يوحي به هذا التركيب، أن هناك قصة معينة أبطالها هذا الثنائي الذي جاء اسمهما على ظهر الكتاب عنواناً له، لكنه لا يوحي بملامح أو خصوصيات هذه القصة. وإذا أردنا استقراء العنوان "كليلة ودمنة" نحوياً، فإننا نجده يتركب من جملة اسمية مبتدؤها ظاهر لكن خبرها مستتر، وكأن العنوان بهذا المظهر التركيبي، يحث القارئ على البحث عن خبر الجملة المستتر، عبر خرق فضاء النص بالقراءة الفاعلة لعله يحظى بالخبر المجهول.
لما يبدأ القارئ في قراءة النصوص السردية التي يتضمنها الكتاب، قراءة متتابعة، يدرك أن كليلة ودمنة العنوان، يدل على شخصيتين سرديتين محوريتين في إحدى أبواب الكتاب، وهو باب "الأسد والثور"، وهنا يبرز السؤال التالي: لماذا اختار المؤلف هاتين الشخصيتين بالذات عنواناً للكتاب دوناً عن غيرهما من الشخصيات السردية الأخرى؟
قبل أن نجيب على هذا التساؤل، لا بد لنا أن نتذكر قول ابن المقفع الذي جاء في تقديمه للكتاب؛ وهو: "وكذلك من يقرأ هذا الكتاب ولم يعلم غرضه ظاهراً وباطناً لم ينتفع بما بدا له من خطبه ونقشه. كما لو قدموا لرجل جوزاً صحيحاً لم ينتفع به إلاّ أن يكسره وينتفع بما فيه"(4).
إن بنية النص من منظور ابن المقفع، تشبه حبة الجوز في استعصاء إدراك لبها إلا بعد كسرها، كذلك الأمر مع النص الذي يحتاج إلى قارئ مثالي متمكن من أصول القراءة، ليتسنى له إدراك بناه العميقة. إن كلام ابن المقفع يوحي إلى وجود علامات مستترة في النص بدءاً من العنوان حيث لا يتم كشفها إلا بكسر حواجز النص. وإذا قرأ المتلقي أمثال الكتاب كما أراد ابن المقفع، فإنه –لا محالة –يدرك أن العنوان يتضمن علامتين مستترتين توحي إليهما شخصيتا كليلة ودمنة انطلاقاً من الأغراض السردية التي تؤديانها في النسيج السردي للنص، تمثل هاتان العلامتان في عنصري الخير والشر، ولقد تقدم اسم كليلة على دمنة في العنوان من منطلق تقديم الإيجابي على السلبي؛ فكليلة –كما نعلم –تمثل الجانب الخيّر في النص السردي، بينما دمنة تمثل الجانب الشرير. ولو نحاول إعادة تركيب العنوان، بناء على العلامتين المضمرتين نجده يأتي على النحو التالي، "الخير والشر".
إن الذي يدعم رؤيتنا التأويلية هذه، هو النظر إلى محتوى النصوص السردية التي يتضمنها الكتاب بدءاً من الأبواب إلى غاية أصغر مثل سردي ضمني، فإننا نجد أن البناء الدلالي لهذه السرود أو هذه المحكيات يقوم على الصراع القائم بين هذه الثنائية الضدية (الخير والشر)، وعن هذه الثنائية الضدية ذاتها ينبثق العديد من الثنائيات الضدية الأخرى. بمعنى آخر فإن المعنى الذي تضمّنه العنوان، ما هو إلا تركيب للدلالات المشحونة في النص الكلي انطلاقاً من الرؤية من الرؤية التوليدية للمعنى.
إن كليلة ودمنة النص، مبني إذن على ثنائيات ضدية كثيرة منبثقة أساساً –كما سبق وأن أشرنا –من المعنى الموجود في العنوان، تبين خلفيات الصراع وأسبابه إنها –في الحقيقة –نظرة ابن المقفع إلى العالم الإنساني المبني على هذه الثنائية الضدية ذاتها (الخير والشر)، والتي نتج عنها العديد من الثنائيات الضدية في السياقات السردية للأمثال من مثل: الحاكم والمحكوم، العدل والظلم، الحق والباطل، القوي والضعيف، السالب والمسلوب... إليخ.
إن هذه العلامات المتناقضة تحتل حيزاً كبيراً في البناء الدلالي (السردي) للكتاب، وتساهم بشكل فعال في البناء العام للنصوص السردية المتضمنة داخل الكتاب.
لنعود –الآن –إلى السؤال السالف الذكر، بعد أن توفرت لدينا المعطيات الكافية للإجابة، وهو كما سبق وأن طرحناه: لماذا اختار المؤلف كليلة ودمنة عنواناً للكتاب؟
إن كليلة ودمنة شخصيتان محوريتان في باب الأسد والثور الذي شغل أكبر مساحة في الفضاء النصي في كليلة ودمنة، والتي تقدر بنصف حجم الكتاب تقريباً. وهو باب يحمل الكثير من المعاني والدلالات والعبر. كما أنه يحتوي على أكبر عدد من الأمثال الصغرى، مقارنة مع الأبواب الأخرى.
ومن ثم، فإن الذي يقرأ كليلة ودمنة النص –على الأغلب –بعد انتهائه من القراءة، سيعلق بذهنه باب الأسد والثور والشخصيتين المحوريتين كليلة ودمنة. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن دلالة هذا الثنائي الباطنة، تظهر للقارئ عبر الانتشار السردي للنصوص في كتاب كليلة ودمنة ككل، وكل شخصية سردية تجسد الخير في تلك النصوص هي صورة لكليلة، والعكس صحيح، ولهذا كان من المنطق أن يصوغ المؤلف من اسمي الشخصيتين عنواناً لمؤلفه.
وهناك زاوية أخرى، نحاول أن ننطلق منها في قراءة العنوان وهي أن "كليلة ودمنة" العنوان هو إحالة على البنية السردية للكتاب، أو بعبارة أخرى مقومات السرد المتمثلة في سارد يبث السرد ومتلقي يستقبله ويتلقاه.
إننا لما نقرأ باب الأسد والثور نجد الشخصيتين كليلة ودمنة جسدتا في أكثر من موقع سردي الشخصية الساردة من جانب، والشخصية المتلقية من جانب آخر. ولما نطلع على كافة النصوص السردية التي يتألف منها الكتاب نجدها آخر. ولما نطلع على كافة النصوص السردية التي يتألف منها الكتاب نجدها قائمة على هذا الثنائي السردي (المانح للسرد والمتلقي) بدءاً من المشهد الاستهلالي إلى آخر مقطع من النصوص السردية. فالنص ككل، إذا تمتعنا فيه من هذه الزاوية نجده، رؤية إلى بنية السرد التقليدي، القائمة على مانح للسرد ومستقبل له.
لننظر –الآن –في العناوين الداخلية التي تتصدر الأبواب الأمثال، حيث نجد ابن المقفع قسم الكتاب إلى خمسة عشر باباً، كل باب خصه بعنوان معين يميزه عن باقي الأبواب، وذلك انطلاقاً من أن العنوان –كما رأينا سالفاً –يشكل إحدى مقومات النص وعلامة دالة عليه. ومن الأمور الملفتة للانتباه في تصميم شكل البناء النصي في كليلة ودمنة، خصوصية تدوين العناوين التي تترأس نص كل باب وتتمثل في تأطير العناوين الكبرى التي تشفع –داخل الإطار –بعبارة تحدد المضمون العام الذي سيجري في سياقه الباب المثل. فلماذا التأطير؟ وما الغرض منه؟
عرفنا من قبل أن العنوان هو جزء من النص، فهو يتصدر النص ليدل عليه ويميزه، ليضمن استمراريته عبر الزمن. ولمّا نجد عناوين الأبواب مؤطرة، فإنها علامة دالة على خصوصية الأبواب الأمثال لتؤكد استقلالها عن بعضها بعضاً، كما يعمل الإطار على تمييز الأبواب عن الأمثال الصغرى الضمنية التي تتميز هي الأخرى بعناوين خاصة بها. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التأطير يساعد المتلقي على الانتباه والتذكر، مما يجعله يدرك إيحاءات النص ودلالاته الخاصة؛ خصوصاً إذا كانت هذه الإطارات تمزج بها الألوان الدالة والرسومات الموحية، ولعل ميشيل بيتور M. Buttor خير من بين أهمية الرسوم في النصوص الأدبية بالنسبة للمتلقي. (5)
هذا عن الشكل، أما عن صياغة عناوين الأبواب، فإننا نلاحظ أنها تأتي مركبة من أسماء لشخصيات سردية في النص، من ذلك: "باب القرد والغيلم"، و"باب الناسك وابن عرس"، و"باب إيلاذ وشادرم وإبراخت"، وغيرها.. لقد عمد المؤلف وضع عناوين الأبواب على هذا الشكل التركيبي لأنها أكثر إيحاء إلى القارئ بوجود قصص معينة تمثل تلك الأسماء البارزة في العناوين أبطالها المحورية، فهذا بلا شك سيدفع المتلقي إلى قراءة تلك النصوص السردية لمعرفة ما حكاية تلك الشخوص. نستنتج من ذلك أن الشكل الخارجي للنص يشكل حافزاً إيجابياً على فعل القراءة.
ومن الخصائص الهامة التي يتميز بها كتاب كلية ودمنة، تركيبة عناوين الأمثال الضمنية في الأبواب. حيث نلفيها تعلن عن وجود نسيج سردي جديد له خصائصه ومقوماته السردية. وهي بهذا الشكل نجدها تختلف من حيث البنية التركيبية مع العنوان الرئيس للكتاب وعناوين الأبواب، فالمؤلف سلك نسقاً آخر في تشكيل عناوين الأمثال الضمنية حيث استعوض أسماء الشخوص بذكر بعض ملامح الأحداث التي تقوم عليها البنية الدلالية للمثل الضمني. من مثل ذلك، هذا العنوان: "مثل المرأة البائعة السمسم المقشور بغير المقشور"، فهو عنوان غريب ومشوق، يجعل المتلقي يتساءل ما الذي دفع بهذه المرأة أن تبيع السمسم المقشور بغير المقشور؟، إن هذا السؤال يشكل حافزاً كبيراً على قراءة المثل الضمني وربما تعمد المؤلف ذلك لأن كثرة السرود الصغرى قد تؤدي إلى ملل المتلقي فيتوقف عن متابعة القراءة، وحتى لا يحدث ذلك فإن المؤلف عمد إلى ذكر بعض ملامح أحداث المثل حتى يحفز المتلقي على القراءة عن طريق فعل التشويق. وهذه بعض العناوين التي جاءت على هذا الشكل: "مثل أصل العداوة بين الغربان والبوم"، و"مثل الناسك والفأرة المحولة جارية". وغيرها.
ويمكن في الأخير أن نبين العلاقة التي تربط العنوان الرئيس بالعناوين الداخلية (الأبواب)، والعلاقة التي تربط هذه الأخيرة بعناوين الأمثال الضمنية. حيث نجد أن العنوان الرئيس للكتاب يقوم على احتواء الأبواب الأمثال بعناوينها ونصوصها، وهذه الأخيرة تحتوي أيضاً الأمثال الصغرى بعناوينها مما يجعلنا نستنتج أن العلاقة التي تربط العناوين بعضها ببعض هي علاقة احتواء.
إننا لما نمعن النظر في هندسة النص، أي القواعد التي تحكم متن الكتاب وتشكل هيكل بنيته الخارجية، فإنه يحق لنا إعطاء تصور أو تأويل واضح بخصوص هذا الشكل. وهو أن الكتاب مقسم إلى عدة أبواب أمثال رئيسة لا رابط بينها سردياً، حيث إنها تشكل بالنسبة إلى النص انفتاحات سردية جديدة ومستقلة، فكل باب منها يطل على فضاء سردي تختلف بنيته السردية عن الباب السابق واللاحق له، ما عدا البابين الأولين فإنهما مرتبطان سردياً وهما (باب الأسد والثور، وباب الفحص عن أمر دمنة). إننا نجد معمارية القصر في كتاب كليلة ودمنة تبدو واضحة من خلال هندسة النص؛ فكما نعلم أن السرد في هذا النص جاء على لسان الفيلسوف بيدبا موجهاً إياه إلى المتلقي الملك دبشليم الذي جاء السرد بطلب منه. وهذا يعني أن عملية السرد حدثت في قصر الملك، فلماذا لا يكون السارد قد استوحى الشكل الهندسي لبناء الحكي من هندسة القصر؟. ولكي نوضح ذلك نقول، إن العنوان الرئيس للكتاب هو رمز للبوابة الرئيسة للقصر التي يلج منها الناس إلى داخل القصر، ولعل الغموض الذي يعتري القارئ لما يصادف العنوان، إنما هو إيحاء إلى صعوبة الدخول إلى قصر الملك فلكي يدخل أحد إلى القصر يجب أن يكون محصناً بمكانة تليق بمنزلة الملك وحاشيته، ولعل هذا التأويل يدعمه ما جاء في مقدمة ابن المقفع للكتاب حيث أكد من خلالها على أن الذي يقرأ هذا الكتاب يجب أن يكون على درجة من الوعي والفطنة حتى يدرك معانيه العميقة ودلالاته الكائنة وإلا فإنه لن يكون جديراً بقراءة كتاب كليلة ودمنة.
أما الأبواب الأمثال، فإنها تكتسي صبغة رمزية قوية لأنها تفصل بين المتون السردية للأبواب وتعمل على حفظها من الذوبان في متون سردية أخرى وتجعل كل باب يختص بعنوان يفصله عن باقي الأبواب. والأبواب الأمثال بذلك، ترمز إلى تلك الأبواب التي تشكل مداخل لدهاليز القصر المتعددة والتي يحيط بها الغموض من كل جانب، إن كل مدخل يؤدي إلى فضاء واسع مليء بالأسرار والحكايات المتنوعة، حكايات المكائد والوشايات التي لا تخلو القصور منها في كل زمان ومكان، وما الأمثال إلا تصوير واضح لحياة الإنسان المليئة بالتناقضات القائمة أساساً على الصراع بين الخير والشر. وكخلاصة لما سبق ذكره؛ إن المؤلف اعتمد في بناء هيكل النص على تصور جمالي أراده أن يكون دالاً على مقصديته المضمرة.
2-القصة الإطار:
لقد وظف ابن المقفع اللعبة السردية في كتابه كليلة ودمنة بشكل مميز في إنتاج قالب سردي جديد لم يعهده الأدب العربي من قبل، إن هذه القصة تؤطر خمسة عشر باباً، كل باب منها يحتوي عدداً من القصص والأمثال.
وهي بذلك تقوم مقام الإطار الذي يحيط بالصورة من الأنحاء الأربعة، وداخلها يتراءى لنا عالماً خاصاً، لا يكشف كنهه إلا قارئ بارع يملك وسائل القراءة العميقة.
إن بطلي هذه القصة –كما نعلم –هما الملك دبشليم، وبيدبا الفيلسوف، يقوم بين الاثنين حوار عقلاني، يسرد الفيلسوف في ضوئه أمثالاً سردية، تدور في عمومها حول الوضع النفسي والاجتماعي للإنسان بشكل عام.
والقراءة في الهيكل الخارجي للنص، كما أسلفنا –هي محاولة لمعاينة البناء العام للنص السردي، اعتباراً من أن الشكل الفني يعلن عن أشياء قد لا يعلن عنها الخطاب السردي بصيغة مباشرة.
تعد القصة الإطار بالنسبة للنص ككل، البوابة الرئيسة التي يلج القارئ من خلالها إلى الأبواب الأمثال المؤطرة داخلها، وللأهمية البنائية التي تحتلها القصة الإطار في الهيكل العام للكتاب، فإننا نجدها ترمز إلى المملكة بحصنها ورعاياها. وإذا تأملنا أكثر في خصوصية هذه القصة وأهميتها في بنية الكتاب، فإننا نتصور أن ابن المقفع يحاول أن يرسم لنا عبر هذه البنية العامة بناء آخر، هو بناء واقعي يخص المجتمع، فالقصة الإطار باحتوائها للأمثال الداخلية ترمز إلى المملكة باحتوائها للحاشية والرعية، بطبقاتها وانقساماتها. وإذا كانت الرعية تمثل دعامة الملك، فإن القصص الداخلية تمثل دعامة القصة الإطار.
3- القصة داخل القصة:
إن الإطار العام للشكل النصي في كليلة ودمنة، تنتظم في نطاقه بنيات عديدة صغرى، لعل أهمها يبرز في فضاء النص الداخلي، والذي يتمثل في القصة داخل القصة، هذه الخاصية التي تعتبر الأساس الثاني الذي يرتكز عليه البناء العام للكتاب. إنه بقراءة القصص الضمنية، بتداخلاتها وتراكيبها السردية، نجدها تحمل مضامين كثيرة متنوعة ومعاني عميقة تخص الإنسان، أو بعبارة أدق تخص النفس البشرية بتعقيداتها وتناقضاتها، خيرها وشرها، ضعفها وقوتها.. فلو نتأمل دلالية هذا البناء السردي، فإننا نجده يوحي لنا بتركيبة النفس البشرية ظاهرها وباطنها وتحولاتها؛ هذه النفس التي كثيراً ما حاول الإنسان المفكر قديماً أن يفك أسرارها ويعرف حقيقتها، بل إنه راح ينظر لها بنظريات فلسفية خاصة. فنحن نتصور أن تلك القصص المتداخلة باحتوائها لمضامين عديدة ورؤى مختلفة، تجسد النفس البشرية بتنوعها أيضاً، ومثلما يجد القارئ نفسه لما يقرأ تلك القصص المتوالدة عن بعضها بعضاً، في متاهة سردية، فكذلك الأمر بالنسبة للإنسان، الذي ما أن حاول فهم حقيقة هذه النفس، وجد نفسه في متاهة فكرية وفلسفية.
وإذا كنا خلصنا –من قبل –إلى أن القصة الإطار، هي رمز للمملكة ككل بحصنها وحاشيتها، فإننا لو نتأمل هذا التراكب الحكائي من هذه الزاوية بالذات (التداخل) نستوحي رمزيتها إلى بنية المجتمع داخل إطار السلطة الملكية. فهذا التراكب الحكائي هو رمز للتراكب الاجتماعي. وإذا كانت كل حكاية تبدو قائمة بذاتها مستقلة عن الحكايات الأخرى من حيث مضمونها وشخوصها، لكن هذا لا ينفي أن هناك ما يربطها بغيرها من الأمثال والحكايات، وتتمثل في الرابط البنيوي الذي يستند إلى التوالد السردي الذي يؤكد عدم انفصالها عن بقية الأمثال والحكايات. إننا ننظر إلى القصة داخل القصة من هذه الزاوية لنقرب صورة رمزها إلى بنية المجتمع بطبقاته الاجتماعية المختلفة (الغنية، والميسورة، والفقيرة) والمتكاملة. لأن كل طبقة منها تكمل معيشياً الطبقة الأخرى. وابن المقفع أوجد ذلك الشكل الحكائي ليحدث التكامل السردي. ويمكننا القول أيضاً، إن الترابط الموضوعي في بعض الأبواب بالأمثال الضمنية فإنه يوحي إلى رؤية السارد نحو الترابط الاجتماعي.
إننا ننتهي بعد هذه القراءة في خصائص البناء النصي في كليلة ودمنة، إلى أن النص السردي (كليلة ودمنة) عبارة عن بنية متعددة الدلالات، حاول ابن المقفع، من خلالها، أن يمارس رؤيته الخاصة نحو النفس البشرية في المجتمع الذي عاش فيه.
*المراجع المعتمدة
1-عبد الملك مرتاض، تحليل الخطاب السردي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995، ص 277.
2- محمد بلواهم، "علم العلامات والنص الأدبي" السيميائية والنص الأدبي، أعمال ملتقى معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة باجي مختار عنابة 15 –17 ماي 1995، منشورات جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر، ص ب 12. ص 42.
3-الطاهر رواينية، "شعرية الدال في بنية الاستهلال في السرد العربي القديم"، السيميائية والنص الأدبي (مرجع سابق) ص 141.
4-عبد الله ابن المقفع، كليلة ودمنة، دار المشرق، بيروت، ط12، سنة 1973، ص 52.
5-راجع ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، فريد أنطونيوس، منشورات عويدات بيروت، باريس، ط2، 1982.
نجاة عرب الشعبة - الجزائر
والبحث البنيوي الحديث، يتناول النص الأدبي من الجانب البنائي، قصد معرفة الوظائف الداخلية التي تمارسها عناصر البنية، والتي بحركتها ينبني النص. ونحن في هذه الدراسة، سنحاول تفكيك الهيكل الخارجي لكليلة ودمنة وتفصيل الأبعاد الرمزية للبنية العامة التي تهيكل نسيج النص.
إن الملاحظ على البنية العامة في كليلة ودمنة، أنها تتشكل من عنصرين أساسين، ربما يعتبران سر شهرة الكتاب عبر العصور واستمرارية تلهف الناس على قراءته، هذان العنصران هما: أولاً، القصة الإطار بما تحتوي من أبواب أمثال لها مقوماتها السردية الخاصة بها، وثانياً، التداخل السردي الذي يتمظهر في شكل قصة داخل قصة، لها أيضاً مقوماتها السردية الخاصة بها. وقبل هذا وذاك فإن النص العام يتصدره عنوان رئيس، كما يتصدر كل باب مثل عنوان خاص به، وداخل كل باب أمثالاً ضمنية تتصدرها، هي الأخرى، عناوين خاصة بها. إن هذه التشكيلة البنيوية الخاصة بعناوين النصوص السردية في الكتاب نراها تستوقفنا بحدة لنستهل بها هذه الدراسة.
1-العنوان:
لا شك، أن العنوان يشكل بالنسبة إلى الدارس المفتاح الرئيس الذي يعينه على استكناه، وتفسير عالم النص الأدبي، فهو المنارة التي تضيء فضاء النص وتقود القارئ إلى فك رموزه وكشف غموضه باعتباره علامة دالة.
والجدير بالذكر، أن النقاد القدامى اعتنوا بدراسة "العنوان" وأدركوا أنه لازمة نصية، حيث بحثوا وظائفه ودلالاته، نذكر من بينهم في سبيل المثال، أبا القاسم الكلامي، في كتابه "إحكام صنعة الكلام" والذي تضمن فصلاً خاصاً بالعنوان، بحث صاحبه فيه المعاني اللغوية للفظ عنوان، كما بحث أهمية العنوان وقيمته الأدبية والفنية في إقامة النص. من هنا نستنتج أن العرب أدركوا أهمية العنوان في بناء النص وخلصوا إلى أنه قيمة لفظية دالة، من حيث أنه يؤدي الوظيفة الإشارية التي تميز النصوص عن بعضها بعضاً.
هذا عن القدماء، أما عن المحدثين فقد جاءت عناية النقاد والمنظرين الغربيين للعنوان ضمن عنايتهم بالتنظير للنص الأدبي عموماً، والسردي خصوصاً، ولقد جاء ذلك في أبحاث الشكلانيين الروس، وما أنبثق عنهم من مدارس نقدية كالبنيوية، والشعرية البنيوية، وغيرها. إن هذه المدارس النقدية تعتبر العنوان جزءاً لا يتجزأ من الكلية النصية، له وظائف بنيوية بالنسبة لهيكل النص الخارجي، وأخرى دلالية في علاقته بالمادة الحكائية أو الشعرية. من هذا المنطلق النظري نجد عبد الملك مرتاض يعرض خصائص العنوان في سياق دراسته لإحدى روايات نجيب محفوظ فيقول:
"إن هذا العنوان يرتبط ارتباطاً عضوياً بالنص الذي يعنونه، فيكمله ولا يختلف معه، ويعكسه بأمانة ودقة. فكأنه نص صغير يتعامل مع نص كبير..، وأي عنوان لأي كتاب يكون عبارة صغيرة تعكس عادة كل عالم النص المعقد الشاسع الأطراف" (1).
أما العنوان عند السيميائيين، فإنه يعد علامة أو إيقوناً يحمل معاني ودلالات تفيد القارئ في تأويل مضمون النص. ونظرتهم تلك جاءت بناء على تعريفهم للأدب "بأنه حدث علامي مرة، وأخرى بأنه نظام علامي. ويرتكز التعريفان على اختلافهما في كلمتي الحدث والنظام على ركيزة واحدة هي العلامة، ومعنى ذلك أن النص الأدبي علامة" (2). وبناء عليه، يبرز السؤال المنهجي الهام الذي سيدفع بالتحليل إلى غايته، والذي تتحدد صيغته على النحو التالي: كيف يمكننا قراءة عنوان "كليلة ودمنة" بوصفه جزءاً من النص وعلامة تدل عليه؟
نشير بدءاً إلى أننا سننطلق في مدارسة وتحليل العنوان من وجهتين اثنتين، الأولى نعتني فيها بتحليل العنوان في علاقته بالكلية النصية، ونعني بذلك العنوان الذي يتصدر واجهة النص المكتوب المتمثلة في الغلاف، وتبيين علاقته بالنصوص السردية الداخلية. ثم ننتقل بالقراءة في العناوين الداخلية، وهي العناوين الخاصة بالأبواب والأمثال الضمنية.
يحتل العنوان في الفضاء النصي "موقعاً استراتيجياً خاصاً، يشرف منه على النص، يحرسه ويضمن وحدته وعدم تفككه وذوبانه في نصوص أخرى" (3)، لهذه الأغراض الخاصة اختار ابن المقفع "كليلة ودمنة" عنواناً لمؤلفه الذي يتضمن سروداً خرافية متنوعة، جاء أغلبها على لسان الحيوان.
ومن أهم الوظائف التي يقوم بها العنوان، أنه يهيئ للمتلقي السبيل لمقروئية النص لأنه يكشف عما أراد الكاتب أن يبلغه إليه. فهل حقق "كليلة ودمنة" العنوان هذه الأغراض؟
إن العنوان هنا، يمثل الدال الذي يحقق من حيث التركيب اللساني العناصر الحاضرة وهو الدال اللغوي (كليلة ودمنة)، بينما المدلول، فإنه يشير إلى عناصر الغياب (المعنى العميق) وعلى القارئ أن يكشفها، بممارسة القراءة الفاعلة.
إننا لما نتأمل هذا العنوان "كليلة ودمنة" من حيث مظهره السطحي، نجده يتركب من اسمين لشخصين يربط بينهما تركيبياً حرف العطف "الواو".
وأول ما يوحي به هذا التركيب، أن هناك قصة معينة أبطالها هذا الثنائي الذي جاء اسمهما على ظهر الكتاب عنواناً له، لكنه لا يوحي بملامح أو خصوصيات هذه القصة. وإذا أردنا استقراء العنوان "كليلة ودمنة" نحوياً، فإننا نجده يتركب من جملة اسمية مبتدؤها ظاهر لكن خبرها مستتر، وكأن العنوان بهذا المظهر التركيبي، يحث القارئ على البحث عن خبر الجملة المستتر، عبر خرق فضاء النص بالقراءة الفاعلة لعله يحظى بالخبر المجهول.
لما يبدأ القارئ في قراءة النصوص السردية التي يتضمنها الكتاب، قراءة متتابعة، يدرك أن كليلة ودمنة العنوان، يدل على شخصيتين سرديتين محوريتين في إحدى أبواب الكتاب، وهو باب "الأسد والثور"، وهنا يبرز السؤال التالي: لماذا اختار المؤلف هاتين الشخصيتين بالذات عنواناً للكتاب دوناً عن غيرهما من الشخصيات السردية الأخرى؟
قبل أن نجيب على هذا التساؤل، لا بد لنا أن نتذكر قول ابن المقفع الذي جاء في تقديمه للكتاب؛ وهو: "وكذلك من يقرأ هذا الكتاب ولم يعلم غرضه ظاهراً وباطناً لم ينتفع بما بدا له من خطبه ونقشه. كما لو قدموا لرجل جوزاً صحيحاً لم ينتفع به إلاّ أن يكسره وينتفع بما فيه"(4).
إن بنية النص من منظور ابن المقفع، تشبه حبة الجوز في استعصاء إدراك لبها إلا بعد كسرها، كذلك الأمر مع النص الذي يحتاج إلى قارئ مثالي متمكن من أصول القراءة، ليتسنى له إدراك بناه العميقة. إن كلام ابن المقفع يوحي إلى وجود علامات مستترة في النص بدءاً من العنوان حيث لا يتم كشفها إلا بكسر حواجز النص. وإذا قرأ المتلقي أمثال الكتاب كما أراد ابن المقفع، فإنه –لا محالة –يدرك أن العنوان يتضمن علامتين مستترتين توحي إليهما شخصيتا كليلة ودمنة انطلاقاً من الأغراض السردية التي تؤديانها في النسيج السردي للنص، تمثل هاتان العلامتان في عنصري الخير والشر، ولقد تقدم اسم كليلة على دمنة في العنوان من منطلق تقديم الإيجابي على السلبي؛ فكليلة –كما نعلم –تمثل الجانب الخيّر في النص السردي، بينما دمنة تمثل الجانب الشرير. ولو نحاول إعادة تركيب العنوان، بناء على العلامتين المضمرتين نجده يأتي على النحو التالي، "الخير والشر".
إن الذي يدعم رؤيتنا التأويلية هذه، هو النظر إلى محتوى النصوص السردية التي يتضمنها الكتاب بدءاً من الأبواب إلى غاية أصغر مثل سردي ضمني، فإننا نجد أن البناء الدلالي لهذه السرود أو هذه المحكيات يقوم على الصراع القائم بين هذه الثنائية الضدية (الخير والشر)، وعن هذه الثنائية الضدية ذاتها ينبثق العديد من الثنائيات الضدية الأخرى. بمعنى آخر فإن المعنى الذي تضمّنه العنوان، ما هو إلا تركيب للدلالات المشحونة في النص الكلي انطلاقاً من الرؤية من الرؤية التوليدية للمعنى.
إن كليلة ودمنة النص، مبني إذن على ثنائيات ضدية كثيرة منبثقة أساساً –كما سبق وأن أشرنا –من المعنى الموجود في العنوان، تبين خلفيات الصراع وأسبابه إنها –في الحقيقة –نظرة ابن المقفع إلى العالم الإنساني المبني على هذه الثنائية الضدية ذاتها (الخير والشر)، والتي نتج عنها العديد من الثنائيات الضدية في السياقات السردية للأمثال من مثل: الحاكم والمحكوم، العدل والظلم، الحق والباطل، القوي والضعيف، السالب والمسلوب... إليخ.
إن هذه العلامات المتناقضة تحتل حيزاً كبيراً في البناء الدلالي (السردي) للكتاب، وتساهم بشكل فعال في البناء العام للنصوص السردية المتضمنة داخل الكتاب.
لنعود –الآن –إلى السؤال السالف الذكر، بعد أن توفرت لدينا المعطيات الكافية للإجابة، وهو كما سبق وأن طرحناه: لماذا اختار المؤلف كليلة ودمنة عنواناً للكتاب؟
إن كليلة ودمنة شخصيتان محوريتان في باب الأسد والثور الذي شغل أكبر مساحة في الفضاء النصي في كليلة ودمنة، والتي تقدر بنصف حجم الكتاب تقريباً. وهو باب يحمل الكثير من المعاني والدلالات والعبر. كما أنه يحتوي على أكبر عدد من الأمثال الصغرى، مقارنة مع الأبواب الأخرى.
ومن ثم، فإن الذي يقرأ كليلة ودمنة النص –على الأغلب –بعد انتهائه من القراءة، سيعلق بذهنه باب الأسد والثور والشخصيتين المحوريتين كليلة ودمنة. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن دلالة هذا الثنائي الباطنة، تظهر للقارئ عبر الانتشار السردي للنصوص في كتاب كليلة ودمنة ككل، وكل شخصية سردية تجسد الخير في تلك النصوص هي صورة لكليلة، والعكس صحيح، ولهذا كان من المنطق أن يصوغ المؤلف من اسمي الشخصيتين عنواناً لمؤلفه.
وهناك زاوية أخرى، نحاول أن ننطلق منها في قراءة العنوان وهي أن "كليلة ودمنة" العنوان هو إحالة على البنية السردية للكتاب، أو بعبارة أخرى مقومات السرد المتمثلة في سارد يبث السرد ومتلقي يستقبله ويتلقاه.
إننا لما نقرأ باب الأسد والثور نجد الشخصيتين كليلة ودمنة جسدتا في أكثر من موقع سردي الشخصية الساردة من جانب، والشخصية المتلقية من جانب آخر. ولما نطلع على كافة النصوص السردية التي يتألف منها الكتاب نجدها آخر. ولما نطلع على كافة النصوص السردية التي يتألف منها الكتاب نجدها قائمة على هذا الثنائي السردي (المانح للسرد والمتلقي) بدءاً من المشهد الاستهلالي إلى آخر مقطع من النصوص السردية. فالنص ككل، إذا تمتعنا فيه من هذه الزاوية نجده، رؤية إلى بنية السرد التقليدي، القائمة على مانح للسرد ومستقبل له.
لننظر –الآن –في العناوين الداخلية التي تتصدر الأبواب الأمثال، حيث نجد ابن المقفع قسم الكتاب إلى خمسة عشر باباً، كل باب خصه بعنوان معين يميزه عن باقي الأبواب، وذلك انطلاقاً من أن العنوان –كما رأينا سالفاً –يشكل إحدى مقومات النص وعلامة دالة عليه. ومن الأمور الملفتة للانتباه في تصميم شكل البناء النصي في كليلة ودمنة، خصوصية تدوين العناوين التي تترأس نص كل باب وتتمثل في تأطير العناوين الكبرى التي تشفع –داخل الإطار –بعبارة تحدد المضمون العام الذي سيجري في سياقه الباب المثل. فلماذا التأطير؟ وما الغرض منه؟
عرفنا من قبل أن العنوان هو جزء من النص، فهو يتصدر النص ليدل عليه ويميزه، ليضمن استمراريته عبر الزمن. ولمّا نجد عناوين الأبواب مؤطرة، فإنها علامة دالة على خصوصية الأبواب الأمثال لتؤكد استقلالها عن بعضها بعضاً، كما يعمل الإطار على تمييز الأبواب عن الأمثال الصغرى الضمنية التي تتميز هي الأخرى بعناوين خاصة بها. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التأطير يساعد المتلقي على الانتباه والتذكر، مما يجعله يدرك إيحاءات النص ودلالاته الخاصة؛ خصوصاً إذا كانت هذه الإطارات تمزج بها الألوان الدالة والرسومات الموحية، ولعل ميشيل بيتور M. Buttor خير من بين أهمية الرسوم في النصوص الأدبية بالنسبة للمتلقي. (5)
هذا عن الشكل، أما عن صياغة عناوين الأبواب، فإننا نلاحظ أنها تأتي مركبة من أسماء لشخصيات سردية في النص، من ذلك: "باب القرد والغيلم"، و"باب الناسك وابن عرس"، و"باب إيلاذ وشادرم وإبراخت"، وغيرها.. لقد عمد المؤلف وضع عناوين الأبواب على هذا الشكل التركيبي لأنها أكثر إيحاء إلى القارئ بوجود قصص معينة تمثل تلك الأسماء البارزة في العناوين أبطالها المحورية، فهذا بلا شك سيدفع المتلقي إلى قراءة تلك النصوص السردية لمعرفة ما حكاية تلك الشخوص. نستنتج من ذلك أن الشكل الخارجي للنص يشكل حافزاً إيجابياً على فعل القراءة.
ومن الخصائص الهامة التي يتميز بها كتاب كلية ودمنة، تركيبة عناوين الأمثال الضمنية في الأبواب. حيث نلفيها تعلن عن وجود نسيج سردي جديد له خصائصه ومقوماته السردية. وهي بهذا الشكل نجدها تختلف من حيث البنية التركيبية مع العنوان الرئيس للكتاب وعناوين الأبواب، فالمؤلف سلك نسقاً آخر في تشكيل عناوين الأمثال الضمنية حيث استعوض أسماء الشخوص بذكر بعض ملامح الأحداث التي تقوم عليها البنية الدلالية للمثل الضمني. من مثل ذلك، هذا العنوان: "مثل المرأة البائعة السمسم المقشور بغير المقشور"، فهو عنوان غريب ومشوق، يجعل المتلقي يتساءل ما الذي دفع بهذه المرأة أن تبيع السمسم المقشور بغير المقشور؟، إن هذا السؤال يشكل حافزاً كبيراً على قراءة المثل الضمني وربما تعمد المؤلف ذلك لأن كثرة السرود الصغرى قد تؤدي إلى ملل المتلقي فيتوقف عن متابعة القراءة، وحتى لا يحدث ذلك فإن المؤلف عمد إلى ذكر بعض ملامح أحداث المثل حتى يحفز المتلقي على القراءة عن طريق فعل التشويق. وهذه بعض العناوين التي جاءت على هذا الشكل: "مثل أصل العداوة بين الغربان والبوم"، و"مثل الناسك والفأرة المحولة جارية". وغيرها.
ويمكن في الأخير أن نبين العلاقة التي تربط العنوان الرئيس بالعناوين الداخلية (الأبواب)، والعلاقة التي تربط هذه الأخيرة بعناوين الأمثال الضمنية. حيث نجد أن العنوان الرئيس للكتاب يقوم على احتواء الأبواب الأمثال بعناوينها ونصوصها، وهذه الأخيرة تحتوي أيضاً الأمثال الصغرى بعناوينها مما يجعلنا نستنتج أن العلاقة التي تربط العناوين بعضها ببعض هي علاقة احتواء.
إننا لما نمعن النظر في هندسة النص، أي القواعد التي تحكم متن الكتاب وتشكل هيكل بنيته الخارجية، فإنه يحق لنا إعطاء تصور أو تأويل واضح بخصوص هذا الشكل. وهو أن الكتاب مقسم إلى عدة أبواب أمثال رئيسة لا رابط بينها سردياً، حيث إنها تشكل بالنسبة إلى النص انفتاحات سردية جديدة ومستقلة، فكل باب منها يطل على فضاء سردي تختلف بنيته السردية عن الباب السابق واللاحق له، ما عدا البابين الأولين فإنهما مرتبطان سردياً وهما (باب الأسد والثور، وباب الفحص عن أمر دمنة). إننا نجد معمارية القصر في كتاب كليلة ودمنة تبدو واضحة من خلال هندسة النص؛ فكما نعلم أن السرد في هذا النص جاء على لسان الفيلسوف بيدبا موجهاً إياه إلى المتلقي الملك دبشليم الذي جاء السرد بطلب منه. وهذا يعني أن عملية السرد حدثت في قصر الملك، فلماذا لا يكون السارد قد استوحى الشكل الهندسي لبناء الحكي من هندسة القصر؟. ولكي نوضح ذلك نقول، إن العنوان الرئيس للكتاب هو رمز للبوابة الرئيسة للقصر التي يلج منها الناس إلى داخل القصر، ولعل الغموض الذي يعتري القارئ لما يصادف العنوان، إنما هو إيحاء إلى صعوبة الدخول إلى قصر الملك فلكي يدخل أحد إلى القصر يجب أن يكون محصناً بمكانة تليق بمنزلة الملك وحاشيته، ولعل هذا التأويل يدعمه ما جاء في مقدمة ابن المقفع للكتاب حيث أكد من خلالها على أن الذي يقرأ هذا الكتاب يجب أن يكون على درجة من الوعي والفطنة حتى يدرك معانيه العميقة ودلالاته الكائنة وإلا فإنه لن يكون جديراً بقراءة كتاب كليلة ودمنة.
أما الأبواب الأمثال، فإنها تكتسي صبغة رمزية قوية لأنها تفصل بين المتون السردية للأبواب وتعمل على حفظها من الذوبان في متون سردية أخرى وتجعل كل باب يختص بعنوان يفصله عن باقي الأبواب. والأبواب الأمثال بذلك، ترمز إلى تلك الأبواب التي تشكل مداخل لدهاليز القصر المتعددة والتي يحيط بها الغموض من كل جانب، إن كل مدخل يؤدي إلى فضاء واسع مليء بالأسرار والحكايات المتنوعة، حكايات المكائد والوشايات التي لا تخلو القصور منها في كل زمان ومكان، وما الأمثال إلا تصوير واضح لحياة الإنسان المليئة بالتناقضات القائمة أساساً على الصراع بين الخير والشر. وكخلاصة لما سبق ذكره؛ إن المؤلف اعتمد في بناء هيكل النص على تصور جمالي أراده أن يكون دالاً على مقصديته المضمرة.
2-القصة الإطار:
لقد وظف ابن المقفع اللعبة السردية في كتابه كليلة ودمنة بشكل مميز في إنتاج قالب سردي جديد لم يعهده الأدب العربي من قبل، إن هذه القصة تؤطر خمسة عشر باباً، كل باب منها يحتوي عدداً من القصص والأمثال.
وهي بذلك تقوم مقام الإطار الذي يحيط بالصورة من الأنحاء الأربعة، وداخلها يتراءى لنا عالماً خاصاً، لا يكشف كنهه إلا قارئ بارع يملك وسائل القراءة العميقة.
إن بطلي هذه القصة –كما نعلم –هما الملك دبشليم، وبيدبا الفيلسوف، يقوم بين الاثنين حوار عقلاني، يسرد الفيلسوف في ضوئه أمثالاً سردية، تدور في عمومها حول الوضع النفسي والاجتماعي للإنسان بشكل عام.
والقراءة في الهيكل الخارجي للنص، كما أسلفنا –هي محاولة لمعاينة البناء العام للنص السردي، اعتباراً من أن الشكل الفني يعلن عن أشياء قد لا يعلن عنها الخطاب السردي بصيغة مباشرة.
تعد القصة الإطار بالنسبة للنص ككل، البوابة الرئيسة التي يلج القارئ من خلالها إلى الأبواب الأمثال المؤطرة داخلها، وللأهمية البنائية التي تحتلها القصة الإطار في الهيكل العام للكتاب، فإننا نجدها ترمز إلى المملكة بحصنها ورعاياها. وإذا تأملنا أكثر في خصوصية هذه القصة وأهميتها في بنية الكتاب، فإننا نتصور أن ابن المقفع يحاول أن يرسم لنا عبر هذه البنية العامة بناء آخر، هو بناء واقعي يخص المجتمع، فالقصة الإطار باحتوائها للأمثال الداخلية ترمز إلى المملكة باحتوائها للحاشية والرعية، بطبقاتها وانقساماتها. وإذا كانت الرعية تمثل دعامة الملك، فإن القصص الداخلية تمثل دعامة القصة الإطار.
3- القصة داخل القصة:
إن الإطار العام للشكل النصي في كليلة ودمنة، تنتظم في نطاقه بنيات عديدة صغرى، لعل أهمها يبرز في فضاء النص الداخلي، والذي يتمثل في القصة داخل القصة، هذه الخاصية التي تعتبر الأساس الثاني الذي يرتكز عليه البناء العام للكتاب. إنه بقراءة القصص الضمنية، بتداخلاتها وتراكيبها السردية، نجدها تحمل مضامين كثيرة متنوعة ومعاني عميقة تخص الإنسان، أو بعبارة أدق تخص النفس البشرية بتعقيداتها وتناقضاتها، خيرها وشرها، ضعفها وقوتها.. فلو نتأمل دلالية هذا البناء السردي، فإننا نجده يوحي لنا بتركيبة النفس البشرية ظاهرها وباطنها وتحولاتها؛ هذه النفس التي كثيراً ما حاول الإنسان المفكر قديماً أن يفك أسرارها ويعرف حقيقتها، بل إنه راح ينظر لها بنظريات فلسفية خاصة. فنحن نتصور أن تلك القصص المتداخلة باحتوائها لمضامين عديدة ورؤى مختلفة، تجسد النفس البشرية بتنوعها أيضاً، ومثلما يجد القارئ نفسه لما يقرأ تلك القصص المتوالدة عن بعضها بعضاً، في متاهة سردية، فكذلك الأمر بالنسبة للإنسان، الذي ما أن حاول فهم حقيقة هذه النفس، وجد نفسه في متاهة فكرية وفلسفية.
وإذا كنا خلصنا –من قبل –إلى أن القصة الإطار، هي رمز للمملكة ككل بحصنها وحاشيتها، فإننا لو نتأمل هذا التراكب الحكائي من هذه الزاوية بالذات (التداخل) نستوحي رمزيتها إلى بنية المجتمع داخل إطار السلطة الملكية. فهذا التراكب الحكائي هو رمز للتراكب الاجتماعي. وإذا كانت كل حكاية تبدو قائمة بذاتها مستقلة عن الحكايات الأخرى من حيث مضمونها وشخوصها، لكن هذا لا ينفي أن هناك ما يربطها بغيرها من الأمثال والحكايات، وتتمثل في الرابط البنيوي الذي يستند إلى التوالد السردي الذي يؤكد عدم انفصالها عن بقية الأمثال والحكايات. إننا ننظر إلى القصة داخل القصة من هذه الزاوية لنقرب صورة رمزها إلى بنية المجتمع بطبقاته الاجتماعية المختلفة (الغنية، والميسورة، والفقيرة) والمتكاملة. لأن كل طبقة منها تكمل معيشياً الطبقة الأخرى. وابن المقفع أوجد ذلك الشكل الحكائي ليحدث التكامل السردي. ويمكننا القول أيضاً، إن الترابط الموضوعي في بعض الأبواب بالأمثال الضمنية فإنه يوحي إلى رؤية السارد نحو الترابط الاجتماعي.
إننا ننتهي بعد هذه القراءة في خصائص البناء النصي في كليلة ودمنة، إلى أن النص السردي (كليلة ودمنة) عبارة عن بنية متعددة الدلالات، حاول ابن المقفع، من خلالها، أن يمارس رؤيته الخاصة نحو النفس البشرية في المجتمع الذي عاش فيه.
*المراجع المعتمدة
1-عبد الملك مرتاض، تحليل الخطاب السردي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995، ص 277.
2- محمد بلواهم، "علم العلامات والنص الأدبي" السيميائية والنص الأدبي، أعمال ملتقى معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة باجي مختار عنابة 15 –17 ماي 1995، منشورات جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر، ص ب 12. ص 42.
3-الطاهر رواينية، "شعرية الدال في بنية الاستهلال في السرد العربي القديم"، السيميائية والنص الأدبي (مرجع سابق) ص 141.
4-عبد الله ابن المقفع، كليلة ودمنة، دار المشرق، بيروت، ط12، سنة 1973، ص 52.
5-راجع ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، فريد أنطونيوس، منشورات عويدات بيروت، باريس، ط2، 1982.
نجاة عرب الشعبة - الجزائر