كليلة و دمنة أيمن أبو الشعر - كليلة ودمنة

لم يكن صدفة أن يحظى كتاب كليلة ودمنة بهذه الشهرة الكبيرة والانتشار الهائل وأن يحقق هذه الجاذبية لدى القراء بمختلف اللغات حتى اليوم رغم أنه كتب منذ قرابة عشرين قرنا أو ربما يزيد، ولو قدر لي أن أرسل بهدية معنوية إلى العديد العديد من زعماء العالم وسياسييه لأرسلت هذا الكتاب بالذات خاصة أنه يحمل طابع القص للكبار والصغار على حد سواء ومعظم هؤلاء الزعماء من الأطفال - الأطفال المشاكسين غير المثقفين - الذين يقعون بأخطاء جسام تعود بالضرر والوبال على شعوب وأمم كثيرة[

وكليلة ودمنة كما هو معروف يعتمد ألأسلوب السهل، واللقطة الذكية والمفارقات التي تشكل انعطافا دراماتيكيا يعمق من الحكمة المنشودة والتوجيه التعليمي لتهذيب النفوس والتوجيه نحو التحلي بالروية والتعقل لدى العامة والخاصة من أولي الأمر. وقد كتب هذا المؤلف الفيلسوف الهندي بيدبا باللغة السنسكريتية، وكان هدفه الـأثير على شخصية الملك دبشليم الذي طغى وتجبر على العباد. ونقله إلى العربية عن الفارسية عبد الله بن المقفع


والكتاب أشهر من أن نعرض مضامينه، أو نتحدث عن صياغته وأجوائه المثيرة للمتعة والفائدة بغض النظر عن بعض التقييمات المتنوعة في هذا المجال. ما يعنينا هنا هو أن الكثير من الحكم والمقولات والأفكار التي حواها هذا المؤلف الشهير ظلت بعيدة رغم شهرتها الهائلة ورغم تناولها في العديد من الأعمال الإبداعية المعاصرة وخاصة في الشعر الحديث إسقاطا، وفي كثير من أوجه الحياة استشهادا ظلت بعيدة – كما يبدو – كل البعد عن عدد كبير من الزعماء ورجال السياسة في العالم عموما، وخاصة في الظروف الاستثنائية التي تتخذ فيها القرارات الحساسة حتى ليبدوالكثير منهم أغرارا تماما، بل وكثيرا ما يكررون أخطاءهم أو أخطاء غيرهم، ولو أنهم قرأوا بإمعان كليلة ودمنة لعدلوا - ربما - عن قراراتهم أو- ربما - استفادوا من حكم الكتاب وتجاربه التي يتناولها القاص بسهولة محببة

في الأصل القديم لهذا الكتاب اثنا عشر بابا، وفي الترجمة العربية واحد وعشرون بابا ما يهمنا منها في هذا السياق أنها منذ قرون حاولت تنبيه الإنسان على لسان الحيوان في معظم الأحايين ليكون فاعلا وذكيا وغير اتكالي، وتكرس في بعض قصصها جانبا بالغ الأهمية بالنسبة للعلاقات مع الواقع في كل عصر مما يبدو بالغ الدلالة بالنسبة لعصرنا الراهن ومنطقتنا العربية، وهو عدم الاستسلام للأمر الواقع حتى وإن كان الخصم أقوى وأضخم من الضحية مئات المرات. هذا الجانب بالذات توليه حكايا كليلة ودمنة اهتماما كبيرا ويرد في أكثر من موضع في جوهر واحد تقريبا نعتمد منها حكايا الطير كونه الكائن الأكثر وداعة ومسالمة، ناهيك عن اعتماد المؤلف توالد قصة من قلب قصة لتؤكد الجوهر التعليمي المقصود مقدمة في الآن نفسه كثيرا من العبارات الحكيمة الواعظة للجوء إلى الحيلة والذكاء لمواجهة العدو الباطش القوي. فالطيور الضعيفة الواهنة تتغلب على الفيل الجامح الذي يطحن بأقدامه أعشاشها وصغارها عندما توحد صفوفها وتنقر عينيه ثم تعمد للاستعانة أيضا بمخلوقات ضعيفة جدا – الضفادع – لتقوده بنقيقها نحو الهاوية.. ومما يجري في عبارته مجرى الأمثال أن الريح العاتية لا تعبأ بضعيف الحشيش لكنها تحطم طوال النخيل وعظيم الشجر.. كما يدرك السرطان حين ينقله العلجوم – ذكر البط - في الجو إلى وعد خادع بعيش وافر الطعام - من رؤية حسك وبقايا الأسماك - أن سماع نصائح العدو يقود إلى التهلكة، وأن الرجل إن لقي عدوه في المواطن التي يعلم فيها أنه هالك لا محالة سواء أقاتل أم لم يقاتل فعليه أن يقاتل.. وأن العاجز في قصة السمكات الثلاث هو الذي يقضي على نفسه بعجزه.. وأنا هنا واثق أن القارئ يستطيع ببساطة قراءة ما وراء هذه السطور إسقاطا على واقعنا من جهة والعلاقات الدولية بما يخص قضايانا من جهة ثانية دونما حاجة إلى طرح انعكاس هذه الإسقاطات التي يجريها ذهن المتلقي عفوي

وتضيف قصة الحمامة المطوقة بعدا جميلا آخر وهو الوصول إلى الخلاص والانتصار بالفداء والغيرية إلى جانب التعاون، وليس عبر محاولة النجاة الفردية، فحين تعلق الحمامة المطوقة مع سربها في شرك الصياد، ويصبح الموت محتما تتحول الحمامة المطوقة إلى قائد مفعم بالمسؤولية في موقفين مصيريين الأول في شحذ همم الحمامات بحيث لا تتخبط وتخبط بأجنحتها طلبا للنجاة كل واحدة على حدة بل بتوحيد الرفيف الذي يقتلع شبكة الصياد. تقول الحمامة المطوقة: لا تخاذلن في المعالجة، ولا تكن نفس إحداكن أهم إليها من نفس صاحبتها، ولكن لنتعاون جميعا فنقلع الشبكة. وتطير الحمامات بها حاملة قيدها الذي ترفضه نحو تدميره والخلاص منه، وحين تنادي صديقها الجرذ (زيرك) للمساعدة ويبدأ بقضم الحبال قربها تطلب منه أن يتركها حتى الأخير ليقضم الحبال التي تلف على الحمامات الأخريات، وبهذا تحديدا يتم إنقاذها جميعا.. ترى ألا يذكرنا ذلك بأحداث كثيرة في واقعنا المعاصر تحدث حينا ولا تحدث أحيانا؟ وهناك شئ هام جدا يأتي في هذا السياق وهو أن الصياد – العدو هنا – حين ينثر الحب للطير فإنه لا يقوم بذلك ودا وتعاطفا مع الطيور بل لكي يحقق مآربه في إيقاعها بحبال الشبكة التي نصبها لهم.. مرة أخرى دون تفصيل وتدخل، ترى ألا تبصر عيون بعض المتحمسين لالتقاط الحب والفتات - الذي ينثره الصيادون الجدد - الشرك والحبال على موائد الأطروحات والمؤتمرات الوادعة الماكرة[

وحتى حين يمزج بيدبا الحكيم الحكاية بالأسطورة مستخدما شخصيات خرافية تماما كو_كيل البحر والعنقاء، حين يبطش وكيل البحر بفراخ طائر(الطيطوى)، يعاود العزف على أوتار توحيد الجهود واللجوء إلى معشر الطير للانتقام – أبناء الجلدة الواحدة - ويبرز هنا جانب آخر وهو أن وكيل البحر كشخصية خرافية جبارة تحتاج إلى مثيل لها فتلتجأ الطيور إلى الطائر الخرافي العنقاء الذي يعد العدة لمواجهة وكيل البحر مع معشر الطير، فيرعوي وكيل البحر ويعيد الفراخ .. ولعمري أن معشر الطير هنا ترميز للمقهورين الضعفاء في الأرض الذين ينتصرون تحديدا بتوحيد قواهم ، واللجوء إلى الذكاء والحيلة لا الخنوع والرضوخ للأمر الواقع

إشارة أخيرة، يقال: إن هذا الكتاب بات مطلبا أغلى من كل مطلب للملوك والأمراء وأولي الأمر للاطلاع على حكمه وتوجيهاته للاستفادة منها في الحكم والحياة، حتى أن ملك الفرس أنوشروان أرسل مبعوثا سريا له هو برزويه إلى بلاد الهند حيث خاض مغامرة خطيرة كان يمكن أن تودي به إلى التهلكة، وعانى معاناة كبيرة أسقمت جسده إلى أن استطاع نسخ الكتاب والعودة به إلى أنوشروان.. والمعضلة في أجوائنا المعاصرة هي أنك لو قدمت هذا الكتاب دون مغامرة ومخاطرة لمن عنيتهم في البداية، فإنهم قد لا يقرأونه، وإن قرأوه، فقد لا يستوعبون حكمه، وإن استوعبوها فقد لا يعملون بها لغاية في نفس يعقوب اسمها المصالح.


كليلة ودمنة.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى