كليلة و دمنة محمود الزيباوي - كليلة ودمنة

"كليلة ودمنة" كتاب يضم قصصاً وُضعت على ألسنة الحيوانات والطير، وتدور حول ما يجب أن يتحلى به الحكام في حكمهم وسياسة دولهم، كما أنها تهدف إلى التمسك بالقيم السامية ومكارم الأخلاق. ويُجمع الباحثون على أن هذه القصص هندية الأصل في غالبيتها، مصدرها الأثر السنسكريتي المعروف باسم " بنج تنترا"، أي الأبواب الخمسة. وقد تُرجمت هذه القصص في القرن السادس الميلادي إلى الفهلوية، لغة الفرس الوسطى، ومنها نقلها عبد الله بن المقفع إلى العربية في عهد الخليفة المنصور، مضيفاً إليها فصولاً جديدة. وقد حظي هذا الكتاب حظوة قلما بلغها كتاب من الكتب التي تعود إلى العصر العباسي الأول. يشهد لذلك العدد الكبير من المخطوطات التي وصلتنا منه. النسخ المزوقة عديدة، من أقدمها مخطوط في المكتبة الوطنية الفرنسية يحمل الرقم 3465 ويعود إلى مطلع القرن الثالث عشر. تزين هذه النسخة مجموعة كبيرة من المنمنمات، منها تسع صور خُصصت لباب مقدمة الكتاب، وفيه يثير ابن المقفع إشكالية علاقة الفكر بالسلطة عبر حكاية يروي فيها كيف وضع رأس البراهمة بيدبا كتابه بطلب من دبشليم ملك الهند، وكيف قام رأس أطباء فارس الحكيم برزويه بنسخ هذا الكتاب بأمر من كبير ملوك الفرس كسرى أنوشروان.
تدور الأحداث في الحقبة التي تلت سيطرة الإسكندر الأكبر على الهند. بعدما أقام الفاتح الرومي رجلاً من ثقاته سيّداً على هذه البلاد، ثار الخاصة والعامة من الشعب على هذا الحاكم الذي لم يكن منهم ولا من أهلهم فخلعوه وملّكوا عليهم رجلاً من أولاد ملوكهم هو دبشليم. ما إن استقر المُلك لهذا الحاكم الجديد، حتى تجبّر وطغى وعبث برعيته واستصغر أمرها، وهذا ما دفع بالفاضل الحكيم يبدبا، وهو فيلسوف من البراهمة، إلى وجوب التحرك لصرف الملك عما آل إليه من السوء ورده إلى طريق العدل والحكمة والإنصاف. قصد الفيلسوف الملك، فوقف بين يديه وسجد أمامه ثم نهض وبقي صامتاً في حضرته، مما أثار الحيرة في نفس دبشليم الذي سارع بالإفساح له في الكلام، إيماناً منه بحكمته وحسن موعظته. حكى بيدبا للحاكم عن ملك جمع أربعة علماء ودعاهم إلى الحديث عن أصل الأدب، ثم تكلم عن لقاء جمع في بعض الزمان ملك الصين وملك الهند وملك فارس وملك الروم، حيث دُعي كل منهم أن يتكلم " بكلمة تُدوّن عنه على غابر الدهر"، مشيراً عبر هذين المثلين إلى قيمة الصمت. وبعدما ذكّر الملك بأنه هو من أفسح له مجال الكلام وأوسع له فيه، راح بيدبا يحدّث دبشليم بكلام قاطع حول ما آل إليه حكمه، متهما إياه بأنه ابتعد عن الحق وبأنه طغى وبغى وأساء السيرة، موضحاً أنه جاء إليه لا ابتغاء بعرض أو بمعروف منه، بل ناصحاً له ومشفقاً عليه. غضب الملك وأمر بقتل الفيلسوف وصلبه، ثم عاد واكتفى بسجنه وتقييده.

وفي ليلة من ليالي السهد، راح بيدبا يفكر في ما كلّمه به الفيلسوف، فندم على ما صنعه به، وأمر رجاله بأن يأتوا به إليه. جيء بالحكيم الأسير إلى الحاكم الذي طلب منه أن يعيد على مسمعه كل ما قاله من دون أن يحذف منه أي حرف، " فجعل بيدبا ينثر كلامه، والملك مصغ إليه"، مستعذبا ما جاء فيه من صدق. أمر دبشليم بحل قيود الأسير وألقى عليه من لباسه قبل أن يعلمه بأنه قرر توليته على جميع مملكته. طلب بيدبا من الملك إعفاءه من هذا الأمر، إلا إن الملك أصر على موقفه. فتسلم الفيلسوف السلطة وحكم بالعدل والإنصاف، " ورد المظالم، ووضع سنن العدل، وأكثر من العطاء والبذل". ومع استقرار الأوضاع في المملكة، صرف دبشليم همته إلى البحث في الكتب الفلسفية الهندية، واستعدى بيدبا ليطلب منه أن يؤلف كتابا بليغاً "يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية على طاعة الملك وخدمته". انصرف الحكيم الفاضل إلى تأليف هذا الكتاب، فخلا في مقصورة مع واحد من تلامذته، " ولم يزل هو يملي وتلميذه يكتب، ويرجِّع هو فيه، حتى استقر الكتاب على غاية الإتقان والأحكام".


المواجهة بين الحاكم والحكيم

المنمنمات التي تصوّر هذه الأحداث عددها ست. تقع الأولى منها على وجه الورقة العاشرة من المخطوط وتمثل ملكا يجلس أرضاً على عرش خفيض أمام جمع من أربعة أفراد تحت قوسين مزينتين بالنقوش. ثمة كتابة أُدخلت في مرحلة لاحقة على الرسم تسمّي " الملك دبشليم"، " بيدبا" و" تلامذته"، إلا أن الرجوع إلى النص المرافق يشير إلى أن الحدث المصور هو المثل الذي يستهل به الفيلسوف حديثه مع الملك. هم العلماء الأربعة الذين اجتمعوا في مجلس ملك للتكلم عن أصل الأدب.
"فقال أحدهم: "أفضل خلة العلماء السكوت.
وقال الثاني: "إن من أنفع الأشياء للإنسان أن يعرف قدر منزلته من عقله.
وقال الثالث: أنفع الأشياء للإنسان ألا يتكلم بما لا يعنيه.
وقال الرابع: أروح الأمور على الإنسان التسليم للمقادير".

المنمنمة الثانية تقع على ظهر الورقة الحادية عشرة وفيها نرى الحكيم ملقى في السجن. تظهر هنا خصائص مدرسة بلاد الرافدين بشكل بديع. المشهد خارجي وداخلي في آن واحد. وفقا للتقليد المتبع، يصور المصور المبنى الخارجي على شكل بناء تعلوه ثلاث قبب. وسط هذا السجن يظهر بيدبا جالساً على الأرض وقد قُيّدت قدماه بالسلاسل. لا تخضع المقاييس هنا للمنطق الطبيعي، فحجم السجين أكبر من مساحة السجن، وفي هذا ما يعمّق تعبيرية الصورة. وتتجلى الحلة العباسية في إدخال غصن مؤسلب يرتفع عند الطرف الأيسر للمبنى. وتعلو هذا الغصن زهرة تجريدية الطابع يحوطها طائران يهمّان بنقرها.

على ظهر الورقة الثانية عشرة، نشهد المواجهة الثانية بين الحاكم والحكيم حيث يجلس الملك أرضاً خلف وسادة عريضة تحت قوس المجد، مديراً وجهه في اتجاه بيدبا. في حركة متوازية، يقترب خادم أمرد من الملك المتوج فيما ينحني السجان أمام الفيلسوف ليفك قيوده. مرة أخرى، يزيّن المصور مشهد الحدث بغصن أخضر تنفرد أوراقه المسطحة فوق هامة بيدبا. تتواصل الأحداث عبر ثلاث منمنمات تجمع بين بطلَي الحكاية. على ظهر الورقة الرابعة عشرة، يظهر الحاكم والحكيم بين ستارتين تلتفان على عمودين مذهبين: يندب الملك بيدبا لوضع " كتاب مشروح يُنسب إليه وتُذكر فيه أيامه كما ذُكر آباؤه وأجداده من قبله". على ظهر الورقة الخامسة عشرة، يرفع بيدبا نظره في اتجاه الملك الذي يجلس هنا على عرش ذي أربع قوائم مذهبة. يعهد الحاكم إلى " اللبيب العاقل " مهمة تأليف كتاب يشتمل " على الجد والهزل واللهو والحكمة والفلسفة ". على ظهر الورقة السابعة عشرة، يظهر الملك من جديد على عرشه الخفيض، و من خلفه خادمان فتيان يقفان عن طرفَي ظهر العرش وفقا لنموذج إيقونوغرافي عباسي شائع. " كفّر له بيدبا وسجد، وقال: قد أجبت الملك أدام الله أيامه إلى ما أمرني به، وجعلت بيني وبينه أجلا ". وفقا لما جاء في النص، يظهر الحكيم جاثيا على الأرض، خلف غصن زخرفي بديع يعلوه طائران يقفان ثابتين في الأفق المجرد.


من الهند إلى بلاد الفرس

لا تنتهي حكاية بيدبا ودبشليم هنا، إذ يليها فصل جديد بطلاه الملك كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز والطبيب الفاضل برزويه بن أزهر. يرغب الملك الذي استأثر بالأدب والعلم والكتب في الحصول على كتاب بيدبا ويبعث برزويه الطبيب ليخرجه من بلاد الهند ويثبته في خزائن بلاد الفرس. وفقا للأسلوب المتبع في تصوير الأحداث الأولى من " باب مقدمة الكتاب"، يظهر ملك فارس " الماجد الرشيد السعيد" على وجه الورقة التاسعة عشرة. أمامه يقف رجل ذو لحية بيضاء. هو بحسب النص المرافق الوزير بزرجمهر الذي أمره الملك بالعثور على " رجل كامل عالم أديب "، " عارفا بلسان الفارسية خبيراً باللغة الهندية، يكتبهما جميعاً ". على ظهر الورقة العشرين، يظهر برزويه، " كامل العقل والأدب "، واقفا في حضرة الملك كسرى دبشليم. يطلب الملك من الطبيب الفاضل أن يرحل إلى ارض الهند ليستخرج كتاب بيدبا من خزائن الهند " تاماً كاملاً مكتوباً بالفارسية". يستجيب برزويه الطلب ويسافر إلى بلاد الهند حيث "يطوف بباب الملك ومجالس السوقة ويجالس الحكماء ويسأل عن خواص الملك والأشراف من جلسائه والعلماء والفلاسفة".

يصادق الطبيب الفارسي واحداً من علماء الهند طمعاً بالوصول إلى الكتاب المنشود، إلا أن هذا الأخير يكتشف خدعته. يبقى الطبيب على تودده ويطلب من العالم الهندي أن يسعفه ويساعده في الحصول على كتاب بيدبا، وذلك لأن " الكلام إذا ألقي إلى الفيلسوف والسر إذا استودع اللبيب الحافظ فقد حُصن وبُلغ به نهاية أمل صاحبه، كما يحصن الشيء النفيس في القلاع الحصينة ". ينجح الطبيب الفارسي في إقناع العالم الهندي الذي هو خازن الملك، فيصل إلى الكتاب وينكب على تفسيره " ونقله من اللسان الهندي إلى اللسان الفارسي " ليعود بعدها ظافرا إلى بلاده.

على ظهر الورقة الثالثة والعشرين، يجلس الحاكم والحكيم الفارسيان جنبا إلى جنب تحت قوس المجد المجدولة. يتوجه برزويه بالكلام إلى كسرى أنوشروان: " أيها الملك لا تنظر إلى عنائي في رضاك وانكماشي في طاعتك، فإني أنا عبدك يلزمني بذل مهجتي في رضاك. ولو لم تجزني لم يكن ذلك عندي عظيما ولا واجبا على الملك، ولكن لكرمه وشرف منصبه عمد إلى مجازاتي، وخصني وأهل بيتي بعلو المرتبة ورفع الدرجة، حتى لو قدّر أن يجمع لنا بين شرف الدنيا والآخرة لفعل. فجزاه الله عنا أفضل الجزاء".


الحكاية وراويها

كرّم الملك دبشليم الفيلسوف بيدبا واستدعى تلامذته وأحسن لهم الجوائز. كذلك، توّج كسرى أنوشروان الحكيم برزويه وأجلسه على سريره تشريفاً وإجلالاً. على العكس، جاءت نهاية راوي الحكاية أليمة ومفجعة.

وُلد عبد الله بن المقفع وترعرع في بلدة جور الفارسيّة التي تُعرف اليوم باسم فيروزاباد. انتقل مع أبيه إلي البصرة، مجمع رجال العلم والأدب، فتشرَّب الثقافة العربية وقرأ كبار عصره من الرواة والشعراء واللغويين. عاش خمسة وعشرين عاماً في ظل الدولة الأموية، وستة عشر عاماً في ظل الدولة العباسية.

اتُّهِم بالزندقة، وأُلقي القبض عليه في البصرة بأمرٍ من الخليفة المنصور سنة 756، ومات وهو في السادسة والثلاثين من عمره، بعدما أذاقه الوالي سفيان بن معاوية الذي كان يمقته أشد أنواع العذاب. كانت التهمة بالزندقة تتخذ معنى إظهار الإسلام وإخفاء الكفر، أي اتهام ابن المقفع بأنه مسلم في الظاهر، ومجوسي في الباطن. إلا أن ما نقله الرواة حول هذه الواقعة يظهر بأن إعدامه لم يكن لسبب ديني، بل لغضب الخليفة منه وحقد والي البصرة عليه.

جاء في الجزء العاشر من "البداية والنهاية" لابن كثير " أن المنصور غضب على ابن المقفع فكتب إلى نائبه سفيان بن معاوية هذا أن يقتله، فأخذه فأحمى له تنوراً وجعل يقطعه أرباً أرباً ويلقيه في ذلك التنور حتى حرقه كله، وهو ينظر إلى أطرافه كيف تقطع ثم تحرق، وقيل غير ذلك في صفة قتله ". وفي " كتاب الوزراء والكتاب"، يروي أبو عبد الله الجهشياري كيف غضب المنصور من ابن المقفع لأنه تجرأ وأبداه النصيحة فقال له: " سأقتلك قتلةً لم يُقتَل بها أحد قط"، وحكم عليه بأن يقطع قطعا ثم يلقى في التنور وذلك ليحرقه " بنار الدنيا قبل نار الآخرة". وكانت آخر كلمات ابن المقفع لسفيان بن معاوية الذي نفذ فيه هذا الحكم: "والله إنك لتقتلني؛ فتقتل بقتلي ألف نفس، ولو قُتِل مائة مثلك لما وفُّوا بواحد".


نقلاً (بتصرّف) عن مقال محمود الزيباوي: " الحاكم والحكيم فـي باب مقدمة كتاب 'كليلة ودمنة' الجاهل المغتر والحازم اللبيب"

النهار 31/2/2005


كليلة ودمنة.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى