كليلة و دمنة أحمد درويش - البانشاتانترا الجَدُّ الهندي لكليلة ودمنة العربية

يعدُّ كتاب "البانشاتانترا" الذي دوّن باللغة السنسكريتية في الهند في القرن الثالث الميلادي وكتاب "كليلة ودمنة" الذي كتبه ابن المقفع بالعربية في القرن الثامن الميلادي، من أشهر المؤلفات التي تجسِّد جنس "القصص على ألسنة الحيوانات" في الآداب العالمية، وتعدُّ العلاقة بينهما نموذجاً للتعاون الوثيق الذي تمَّ بين تراث الحضارة الهندية القديمة وتراث الحضارة العربية الإسلامية، التي تفتحت على حضارة الهند، قراءة وتمثلاً واستيعاباً وترجمة ومناقشة يسودها في أحوال الاتفاق والاختلاف روح المودة والتواصل الحضاري.
كان الكتاب الهندي قد كتبه الحكيم "بيدبا" الذي اشتق اسمه من كلمة في اللغة السنسكريتية معناها "أستاذ المعرفة" وقد تمَّ من خلال الكتاب تجميع أقاصيص وأساطير في الحكمة، وكانت شائعة قبل ذلك بنحو ستة قرون، واختارت الحكايات الهندية قالب الحوار بين الحكيم والحاكم، ممثلين في شخصية "بيدبا" وحواره مع الملك "دبشلم" وهو الحوار الذي وقفت وراءه قصة أسطورية تدور حول مدى إمكانية تحقيق روح العدل والإصلاح من خلال التعاون بين القوة والحكمة، ومدى عاقبة الظلم والفساد وحينما يطغى جانب القوة والاستبداد بالرأي على جانب النصيحة والشورى.
وتحكي القصة أن الحكيم "بيدبا" نصح الملك دبشلم بما رأى أنه في صالح الأمّة، فألقى به الملك في غياهب السجن زمناً، ثم تدارك الأمر، فأخرجه من السجن وجعله وزيراً له، وتعاون الحكيم والحاكم فصلحت الأمّة، واستقرّ أمرها، ورغب الملك في أن ينقل خلاصة هذه التجربة، لتكون نبراساً للأجيال القادمة.
وطلب من الحكيم بيدبا أن يصوغها بطريقة مشوقة تبيّن عاقبة الظلم والعدل، والمصارحة والالتواء، والاستقامة والمكر، وغيرها من الخصال، فكتب الحكيم خمس حكايات على ألسنة الحيوانات يتحقق من خلالها هذا الهدف في أسلوب قصص ممتع يصلح لأن تقبل عليه كلّ الأعمار وكلّ المستويات الفكرية ويستوعب كلّ منها بقدر طاقته وأطلق على هذه الحكايات اسم "الحكايات الخمس" أو "البانشاتانترا".
وتقول الرواية أو الأسطورة، إن حكماء الهنود سعدوا كثيراً عندما استمعوا إلى هذا الكتاب ورأوا فيه مفتاح الحكمة والقوة، وأوصوا بأن يظلَّ الاطلاع على هذا الكتاب حكراً على حكام الهنود وحكمائهم، وألا يسمح للآخرين، وخاصة الفرس، أعداء الهنود في ذلك الوقت، بالاطلاع عليه حتى لا يهتدوا إلى أسرار القوة التي تحدث من تعاون الحكيم والحاكم.
وظلَّ الكتاب في مكتبة ملك الهند، لا يطّلع عليه إلا صفوة علمائهم، لكن الفرس وقد سمعوا كثيراً عن أهمية "البانشاتانترا" تحايلوا حتى استطاعوا الوصول إليه في القرن السادس الميلادي، وترجمه إلى الفارسية القديمة واحد من علمائهم، يسمى "برزوية" وقد أضاف إلى الحكايات الخمس، حكاية مغامرته هو في الوصول إلى الكتاب وترجمته، فأصبحت الحكايات ستاً، وأصبح اسم "البانشاتانترا" الذي يعني الحكايات الخمس غير مناسب، وتمَّ اختيار اسم الثعلبين الأخوين اللذين يمثلان رمز الطيبة والدهاء في الكتاب، لكي يكون عنواناً للحكايات، فأصبح العنوان "كليلة ودمنة" متضمناً ستة أبواب.
ثم جاءت ترجمة عبد الله بن المقفع، للكتاب إلى اللغة العربية في القرن الثامن الميلادي فزادت كثيراً في المقدمات والأبواب والتفاصيل، حتى أصبح الكتاب في صورته العربية تسعة عشر باباً.
وقد شاءت الأقدار أن يختفي الجدّ الهندي والأب الفارسي لحكايات كليلة، وأن يظلَّ الحفيد العربي، ممثلاً في ترجمة ابن المقفع، هو الذي يحمل إلى آداب العالم كلّه، من القرن الثامن وحتى الآن، صورة هذا الجنس الأدبي العظيم، القصص على ألسنة الحيوانات.
وقد ترجمت كليلة ودمنة العربية إلى أكثر من سبعين لغة بطريقة مباشرة عن العربية، أو غير مباشرة عن إحدى الترجمات منها، ومن أشهر الترجمات ما تمَّ إلى اللغات القديمة مثل الفارسية والسريانية والعبرية واللاتينية، وهي ترجمات كانت بدورها منطلقاً للترجمات إلى لغات أُخرى مثل الإسبانية والفرنسية والإيطالية والبرتغالية والإنكليزية والتركية والألمانية والصينية، وأحدثت هذه الترجمات تأثيرات واسعة في الآداب العالمية، لعل من أشهرها، تأثر الشاعر الفرنسي الكبير جون دي لافونتين (1621-1695) بترجمة نقلت إلى الفرنسية عن اللغة الفارسية بعنوان "كتاب الأنوار أو رشد الملوك" وهي الترجمة التي اعترف لافونتين بتأثيرها المباشر على حكاياته عندما كتب في مقدمة حكاياته قائلاً: "إنني أقول عرفاناً بالجميل: إنني مدين بالجزء الأكبر من هذه الحكايات للحكيم الهندي "بيدبا" وكتابه الذي ترجم إلى كلِّ اللغات".
وإذا كانت البانشاتانترا القديمة، قد ظلت مختفية قروناً طويلة فإن البحث عنها والشوق إليها لم يتوقف، فها هو العالم الإسلامي أبو الريحان البيروني (973- 1048) قد أعلن في كتابه الشهير "تحقيق ما للهند من مقولة" أنه يود لو تمكن من تحقيق بانشاتانترا ومطابقتها على ترجمة ابن المقفع لها".
وها هي بحوث العلماء المعاصرين، تنتهي إلى اكتشاف ما يظنُّ أنه أصول للبانشاتانترا القديمة، ومن هذه الاكتشافات، ما قدمه العالم الألماني تيودور (1809-1881) من ترجمة لكتاب عن السنسكريتية يظنُّ أنه أصل البانشاتانترا، وما قدمه العالم فرانكلين أوجرثون أستاذ الأدب السنسكريتي، في جامعة بيل وهو الكتاب الذي تولى ترجمته إلى العربية الأستاذ الدكتور عبد الحميد وصدر في مصر عن الهيئة العامة للكتاب 1980 بعنوان " البانشاتانترا أو الأسفار الخمسة "، وهي ترجمة تفتح الباب من جديد للحوار حول الصلة الوثيقة بين الجدّ الهندي البانشاتانترا والحفيد العربي كليلة ودمنة لابن المقفع.

الدكتور أحمد درويش


كليلة ودمنة.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى