جعفر الديري - في ذكرى نيقولا زيادة.. المؤرخ المثقف

غيّب الموت في بيروت، الجمعة 27 يوليو 2006، المؤرخ الكبير نقولا زيادة. وهو المؤرخ الفلسطيني الأصل واللبناني الجنسية الذي عني بأحوال الأمم والحضارات باحثاً عن خباياها مفسراً لأسباب نشوئها ونهوضها وزوالها والذي كان أستاذ الشرف في دائرة التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت.
تنقل زيادة بين فلسطين ودمشق والقدس وبيروت ولندن متلمسا عن قرب انتصارات العرب وهزائمهم ومات بعد أن أودع المكتبة العربية ذخيرة عظيمة من الأبحاث والمؤلفات منها: «رواد الشرق العربي في العصور الوسطى، مشرقيات، المسيحية والعرب». والترجمات منها: «الفكر اليوناني والثقافة العربية، بيزنطة والفتوحات الإسلامية المبكرة، وتاريخ البشرية لارنولد توينبي».
ولد زيادة في دمشق في 2 ديسمبر/ كانون الأول العام 1907 من أبوين فلسطينيين مات في بيروت وقد تخطى 99 عاماً شاهداً على التاريخ العربي الممزّق فبعد أن أمضى جل عمره باحثاً ومؤرخاً ومعاصراً للتاريخ العربي عن قرب كان قدره أن يموت وقد مض 18 يوماً على الاجتياح الإسرائيلي البربري للبنان الشقيق. في استطلاعنا الآتي نتلمس شيئا من حياة هذا المؤرخ الكبير كما نعرض آراء مؤرخين في البحرين لاسهاماته الكبيرة التي جعلت منه مؤرخاً عالمياً لا عربياً فحسب...
حميم صاحب نكته
السفير البحريني السابق حسين راشد الصباغ يتذكر شيئا من الذكريات التي جمعته بالراحل الكبير ويصفه بأنه كان ذا شخصية ملفتة.
يقول الصبّاغ: «التقيت بزيادة في بيروت في السبعينات من القرن الماضي وكان يلقي وقتها محاضرة في الجامعة الأميركية كما التقيت هناك بالمؤرخ عمر فروق وعادل زعيتر. وكان زيادة رجلا حميميا وصاحب نكته وهو يعد موسوعة في فلسطين ودمشق. كما التقيت به أيضا أثناء تأبين المرحوم ابراهيم العريض في فندق الخليح إذ كان حفلا كبيرا بدعم من الديوان الملكي، إذ تمت دعوة الكثير من المهتمين من خارج البحرين. لكن ما يؤسف له أن تأثير زيادة ظل في المحيط الثقافي فقط كشأن المثقفين العرب فهم يؤثرون في المحيط الثقافي لا غير. مع أنه من المفترض أن يكون له تأثيره الكبير في مجالات أخرى».
أثر عالمي
أما المؤرخ والأستاذ الجامعي سعيد هاشم فيصف زيادة بأنه كان ذا تأثير عالمي لا محلي أو اقليمي. يقول هاشم: «على رغم كون زيادة عالماً لبنانياً فإن مساهماته العلمية خرجت عن النطاق المحلي والاقليمي للعالمية. لقد بدأ زيادة كأستاذ للتاريخ الاسلامي في الجامعة الأميركية لكنه عمل أستاذا زائرا في جامعة هارفرد والجامعة الأردنية وقد خرج عن نطاق العربية الدينية الى نطاق التفكير الإنساني الى الرحاب الواسعة. واتصور أن العالم خسر عالماً كبيراً على نطاق عالمية تعدت لبنان.
ما يحز في النفس أنه مات خلال الحوادث المؤسفة وقد عاش عدة كوارث خلال عمره الذي امتد الى 99 بحيث مكنه ذلك من أن يتعايش مع كوارث الحربين العالميتين الأولى والثانية. وما زاد الطين بلة الاحتلال اللبناني في العام 1982 اذ عاش كل الكوارث وأخيراً يشهد الكارثة الأخيرة والتي فاقت كل الكوارث وهي كارثة الصمت العربي الرهيب. فهذا العالم الكبير لا يحتفى به بسبب ظروف الحرب والا لكان حظي بحضور علماء عالميين من جميع القارات».
كما يوضح هاشم الفرق بين المجتمع الغربي والمجتمع العربي بهذا الشأن بقوله: «هناك طاقات في الوطن العربي ولكنها تبقى طاقات في السر ولكنها طاقات غير مدعومة بسبب غياب الحريات بما فيها حرية الصحافة. وذلك بعكس ما تشاهده في بريطانيا مثلا فقد كنت في اسكتلندا قبل فترة ووجدت هناك تضامن الشعب الاسكتلندي في أدنبرة تجد ذلك التضامن في المسيرات وفي نطاق الصحافة فالمقالات التي نشرت مثلا بشأن العدوان الإسرائيلي في الصحافة العربية لا ترقى أي منها إلى مستوى المقالات في الغرب مما شهدته في الكلام الموضوعي لا مع «إسرائيل» ولا مع لبنان اذ كان منطلقها إنسانياً في نظرتها الى أن الامم المتحدة مغيبة بواسطة القوى الكبرى. ولذلك نبغ هناك مثل حنا بطاطو مثلا الفلسطيني المـتأمرك عالم الاجتماع وعلي الوردي وأيضا إدوارد سعيد وغيره وفاروق البارز ومجدي يعقوب».
محلل دقيق
ويدلي المؤرخ وأستاذ التاريخ بجامعة البحرين علي منصور بدلوه هنا بتأكيده أن زيادة كان عالماً حاد النظر وذا تحليل دقيق للتاريخ مكنه من خدمة أمته ووطنه.
يقول منصور: «هو علم من أعلام التاريخ أسهم اسهامات كبيرة في مجال التاريخ والرحلات التاريخية وقد التقيت به في أكثر من مؤتمر وعلى رغم عمره المتقدم استغربت من ذاكرته القوية وعلمة الغزير. وظل حتى سنواته الأخيرة بارزاً في المؤتمرات وله شخصيته المتميزة ويحظى بتقدير كبير عند العرب المؤرخين ويمتاز بالتحليل الدقيق وبلاشك نحن استفدنا من علمة في كتابة التاريخ وكان ملهما لكل من تخصص في كتابة التاريخ وله اسهامات عالمية معروفة ليس على مستوى العالم العربي».
ويضيف منصور: «فعلم التاريخ علم يخدم المستقبل فأنت تدرس التاريخ من أجل المستقبل فالمؤرخ الجيد لديه قدرة تحليلة تدرك أهمية هذا العلم وكيف يسخّر علم التاريخ سواء السياسي او الاجتماعي أو الاقتصادي كي نصل إلى خدمة وزيادة أحد هؤلاء الذين استعملوا المنهج التاريخي بتحليل شديد فكانت له فوائده الكبيرة».
مؤلفات زيادة
بنانيات تاريخ وصور
يستعرض زيادة في هذا الكتاب الأبعاد الإنسانية والثقافية والحضارية للتاريخ اللبناني من خلال ما قاله بعض المؤرخين من عصر الفراعنة وحتى القرن التاسع عشر للميلاد. كما ينبش الكثير من خبايا التاريخ اللبناني مستعرضاً عدداً كبيراً من المذكرات الشخصية لمجموعة من الشخصيات اللبنانية والعربية والأجنبية.
مشرقيات
نعثر في هذا الكتاب على فصول تتعلق بالماضي الذي نبشه علماء الآثار في بلاد الرافدين وما الى الشرق منها، والصلات التجارية بين المشرق العربي والدار الشرقية، وبعض أخبار بلاد العرب كما عرفها الصينيون وكذلك تطور الفكر العربي الاسلامي في بلاد الخلافة الشرقية.
في سبيل البحث عن الله
لقد شغلت قصة الخلق ومصدر الكون، الإنسان منذ القدم. وظل يفتش عن الذي أعطاه الحياة وخلق له الكون الذي يعيش فيه، إلى أن وصل، عبر رحلة طويلة، إلى المعرفة التي يتسلح بها اليوم.
والمؤرخ المرحوم زيادة يأخذنا في هذا الكتاب في جولة سريعة وغنية وموثقة تبدأ من تصور الإنسان الأول للخلق حتى اكتشافه الإيمان الذي قاده إلى صانع الكون، صاحب القوة الكبيرة القادرة على القيام بالخلق.
المسيحية والعرب
علاقة المسيحية بالعرب علاقة تاريخية شائكة، وبغية التوصل الى صورة موضوعية لهذه العلاقة في سياقها التاريخي من خلال استيضاح المعطيات التاريخية ووضع الأمور في نصابها، بحث المرحوم زيادة في كتابه «المسيحية والعرب» في تاريخ المسيحية ونشوئها ضمن رقعة جغرافية واسعة.
ويقول المرحوم زيادة عن هذا الكتاب: «قبل أعوام طلب مني الصديق جهاد الخازن، وكان يومها رئيس تحرير «الحياة» أن أضع بحثاً عن المسيحية والعرب، تلبية لرغبة صاحب السمو الملكي أمير الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز، لبيت الطلب، لكن البحث انتهى الى كتاب، أرسل في وقته الى سمو الأمير. وقد احتفظت بنسخة من الكتاب في ادراجي. وقد قرأه عدد لا يستهان به من أصدقائي، وفي ظني أن بعضهم صوره. وكان كل من هؤلاء يلح عليّ بنشره لتعم الفائدة من جهة، وكي يطلع عليه أهل المعرفة، فيصوبوا اخطاء قد اكون وقعت فيها. في نهاية الامر عدت الى المخطوطة فأجريت عليها بعض التبديل والتصحيح ما استطعت اليه سبيلا، ودفعت بها للنشر.
الفكر اليوناني والثقافة العربية
ترجم زيادة هذا الكتاب لمؤلفه ديمتري غوتاس. والكتاب يبحث في المجموعات الاجتماعية التي ساندت حركة الترجمة واستفادت منها، كما يدرس الدور الريادي الذي كان للتقليد العلمي والفلسفي الناشئ في علاقته التآلفية مع حركة الترجمة. وأخيراً فإنه يتعقب إرث حركة الترجمة في الأقطار الإسلامية وخارجها، إذ يرى صلة مباشرة بالإحياء الكلاسيكي الذي قام في القرن التاسع في بيزنطة. لذلك فهو تحليل وتوثيق لنقل الثقافة اليونانية القديمة إلى العصور الوسطى.
بيزنطة والفتوحات الإسلامية المبكرة
يقول مؤلف هذا الكتاب ولتر كيغي: لقد وضعت كتاب بيزنطة والفتوحات الإسلامية المبكرة، رغبة مني في فهم جزء من كلا التاريخين الإسلامي والبيزنطي، اشتد الخلاف بشأنه، وتوضيحه واتخاذ خطوة في سبيل توضيحه للآخرين. إنه مدعاة للسرور أن هذا الكتاب قد لقي من العناية ما يسوغ ترجمته إلى العربية. وهذا ما لم أتوقعه. إنني أشعر بدين كبير لنقولا زيادة للقيام بنقل هذا الكتاب من الإنجليزية إلى العربية، وقد غمرني سرور كبير شخصياً لأن هذا الكتاب قد ترجم ونشر في بلد ومدينة كانتا جزءاً أساساً من الحوادث التي حاولت التحقيق فيها في هذا الكتاب. إنني آمل أن تتاح لهذه الترجمة العربية إضافة مادة تعين على تبيان تلك الحوادث المهمة والمسيرة التاريخية.
تاريخ البشرية
يؤرخ المؤرخ البريطاني الكبير ارنولد توينبي في هذا الكتاب للحوادث التي صنعت تاريخنا منذ القرن الثالث حتى ايامنا الحاضرة. وفيه يدرس الحضارات الاولى في ما بين النهرين من سومرية وبابلية وفي بلاد الشام وبلاد فارس وفي مصر القديمة وبلاد الاغريق. ثم ينتقل الى الحضارة الميزواميركية، الرومانية، المسيحية الغربية، البيزنطية، الاسلامية، الفارسية، الصينية، الهندية، وقيام الحركات القومية في أوروبا. وفي الاقسام الاخيرة من الكتاب يبرز توينبي بوضوح «فلسفته التاريخية» ومفهومه «لاويكومين» العالم الجديد المندمج بفضل انفتاح الحضارات بعضها على بعض وتمازجها وتقاربها.
الوسط البحرينية العدد 1427 - الأربعاء 02 أغسطس 2006م الموافق 07 رجب 1427هـ
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى