أدب أندلسي صلاح فضل - حب الجمال فرض

أحسب أن الشعر الأندلسي، والموشحات خصوصا، هي التي أبرزت قيمة الجمال باعتباره معنى كليا يتجسد في مظاهر عديدة، في البشر؛ خاصة النساء، وفي الطبيعة، بحيث يمكننا أن نقول إنه قد تفوق في ذلك على الشعر المشرقي، فهذا هو الأعمى التطيلي يقول في موشحته:
“حلو المجاني/ ما ضرّ لو أجناني
كما عناني/ شغلني به وعناني
حب الجمال/ فرض على كل حرّ
وفي الدلال/ عذر لخلاع عذر
هل في الوصال/ عون على طول هجر
أو في التداني/ شيء يفي بأشجاني
وفي ضماني/ أن ينتهي من لحاني”

فهو يتغزل في محبوبه باعتباره حلو الثمرات، ولا يضيره في شيء أن يتيح له التنعم بجناها، كما أنه مشغول بعشقه بكل طاقته، ثم يطلق هذا الشعار الفريد في الشعر العربي: “حب الجمال/ فرض على كل حر”.

فينتقل إلى مستوى فكري وفلسفي رفيع، فهو لا يتعلق بشخص المحبوب ولا بذاته، بل بهذا الجمال الإنساني الذي يتجسد فيه، ثم يستمر في استعراض بعض متعلقات هذا الحب في الطباع الإنسانية، فمن طبيعة الجميل أن يتيه بحسنه ويصبح الدلال عذرا لمن ينتهكون كل الأعذار، كما يصبح الوصال والود والألفة هو الذي يعين على أيام الهجر والقطيعة، وهو يريد أن يضمن بذلك كف لائميه في الهوى، ويلاحظ على هذا التقطيع الإيقاعي المتميز في الموشحة أنه يضفي صبغة موسيقية غامرة للأبيات، تسمح للجوقة بترديدها وللمنشد بتكرارها، وللمتلقي بتذوقها، كما تتيح للكلمات المفاتيح أن تحتل مركز الثقل في المنظومة، حتى لتصبح القطعة مرشحة للتلاوة المفعمة بالنغم، وعلى رأس هذه الكلمات كلمة الجمال المقرونة بالحب، فهي المقابل للدلال، وهي الغرية بالوصال. ثم يقول صاحبنا في الفقرة الثانية، أو الغصن الثاني كما كانوا يطلقون عليه:
“وكيف السبيل/ إلى اختلاس التلاقي
جاش الغليل/ فالنفس بين التلاقي
أين الغذول/ من لوعتي واشتياقي
وما أراني/ إلا سأثني عناني
عن الغواني/ فليس لي قلب ثاني”

وقد كنت أتصور أن عمر الخيام الشاعر الفارسي هو أكبر من تعشق الجمال في قوله:
“القلب قد أضناه عشق الجمال
والصدر قد ضاق بما لا يطال
يارب هل يرضيك هذا الظمأ
والماء ينساب أمامي زلال”

حتى وجدت الأعمى التطيلي قد سبقه إلى الإلحاح على هذا التوق المحرق، وتفوق عليه في اعتبار هذا العشق فريضة، وجسد ذلك في هذا المقطع الذي يعبر فيه عن جيشان نفسه بهذا الحب حتى تصبح روحه بين التراقي من شدة اللوعة والاشتياق، ثم تلك المفاجأة الطريفة التي يخرج بها في البيت الأخير من أن أشد ما يخشاه على نفسه أن ينكص عن هذا العشق للحسان أو يكف عنه، فيؤكد تعلقه بالجمال في إطلاقه، بعد أن لم يعد في قلبه متسع، لامتلاك قلب آخر يعينه على هذا العشق.

صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى