فنون بصرية بلند الحيدري - الإسلام وتحريم التصوير

أذكر أنني وقعت قبل سنوات عديدة خلت، على قول للدكتور طه حسين يصحح به سوء ظنة أخذت الكاتب الفرنسي " أندريه جيد" بالإسلام فيقول له: " لقد عرفت المسلمين ولم تعرف الإسلام"، ومثل هؤلاء المسلمين الذين عرفهم " أندريه جيد"، فقاس الإسلام على مقاساتهم الضيقة، عرفناهم في غير فترة من فترات تاريخنا، وعرفنا مدى ما عانى الإسلام منهم، ومدى ما عانينا ومدى ما سنعاني، بأثر من تزمتهم وحرصهم على تحنيطه وتأطيره في جمل مأثورة حولوها إلى أسيجة من قوانين ثابتة لا يطولها زمن جديد أو واقع جديد وعلينا ألا نخرج عنها ولا عليها ولا أن نسعى لإدراك أنفسنا في الذي جد على واقعنا في عصرنا من جديد لكي نتطور به ويتطور بنا.

لقد خرج الإسلام من البادية العربية، عقيدة، تفاعلت مع عقائد أخرى ضمن ما يشد ما بين العاجلة والآجلة من وشائج لا يعود بها العدم المحيط بالإنسان فراغا هملا، بل رؤية ظنية مملوءة بكل ما نهابه في الرهبة من الجحيم، وما نرجوه في الرغبة من الجنة، ومما جعل من حياتنا في الأرض مسربا إلى واحدة منهما، شأنه في ذلك شأن ما سبقه من العقائد، التي استلهم منها شيئا وأضاف إليها أشياء ليتمم للناس دينهم، غير أن الإسلام الذي خرج من البادية عقيدة، سرعان ما صار حكما ودولة وقوانين وشرائع، لا يمكن أن يستتب بها مفهوم حضاري ما لم تدرك نفسها في عصرها، ولنا في المائة سنة الأولى من عمر الإسلام ما نحتج به شهادة له، فقد كان على مقربة من حضارتين اغتنتا بما كان لهما، ثم اعتراهما الهرم، وإن عليه أن يفيد منهما، فمد بيديه إليهما مستلفا ما يمكن أن يصبح من بعض تراثه، بعد أن يحور فيهما إلى ما لا يخرج به على جوهر عقيدته وسنته، وأن القرآن إذ أوسع لغته للعديد من لغات القبائل، أوسع كذلك المجال وسعا لاستضافة العديد من المفردات الأجنبية، كما يشير إلى ذلك كتاب " اللغات في القرآن" المسنود إلى عبدالله بن عباس الملقب بحبر الأمة - توفي عام 687م -، ويؤكده بدر الدين الزركشي - توفي 1392م - في كتابه " البرهان في علوم القرآن" بكونها ألفاظا جاءت " بغير لسان العرب في الأصل فلما لفظت بها العرب بألسنتها فعربتها صارت عربية، فهي عربية في هذه الحال، أعجمية الأصل"، وذهب أبوعلي الفارسي - توفي عام 987م -، من الرؤية إلى ما يقوم قانونا في الانفتاح على لغات الآخرين إذ قال: " فكل ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب" وبقدر ما اتصل الأمر بالقرآن، من شأن في اللغة العربية وشأن في الكتابة والخط العربي، بقدر ما اتسعت اللغة واغتنت واستقامت لها مقومات جديدة، وبقدر ما كان للخط أن ينتصر على ما يستعجم به الكلام، بالنقاط والحركات ثم بحسن الخط لأن الخط الحسن كما يقول الإمام علي " يزيد الحق وضوحا" ووصولا إلى ما يحقق المجانسة والمواءمة ما بين المعنى الجميل والشكل الجميل في الكلمة المسموعة والكلمة المطبوعة وحيثما كان للخط أن استقر ورحل كان يزيد بما وقع إليه رشاقة ورهافة، ويوم أن وصل إلى الصين أخذ من الخط الصيني ما زاده شفافية وخفة، وقل مثل ذلك يوم أن وصل الأندلس. وبقدر ما تطورت اللغة وتطور الخط بقدر ما صار لهما أن ينفتحا على الحضارات العالمية، وأصبح التنادي إلى الانفتاح من بعض روح المغامرة التي بشر بها النبي محمد في البحث عن " علم ينفع" وبما يتناسب مع خصائص الإنسان المسلم، وأن عليه أن يطلبه " ولو في الصين" وفي حديث آخر أن " الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها" وفي بعض الأثر ورد " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" ببعدي الكلمة في الحكم وفي السلطان بمعنى في الحجة في البرهان، وإن قدرة الإسلام على الانفتاح واستيعاب الحقائق المحيطة به والتفاعل معها، هي من بعض ما مهد لانتشاره، حتى أن المؤرخ الإسباني مانويل مورينو يقول في كتابه عن " الفن الإسلامي في إسبانيا" إن الحضارة العربية الإسلامية " فور أن تحتضن حضارة في أول الأمر، حتى يصير كل شيء عربيا بعد فترة قصيرة".


التراث والسياج

غير أن الأمر لم يكن كذلك دائما، فالثقة بالنفس إذا ضعفت، تحول مفهوم التراث إلى أسوار وأسيجة، وصار الانكفاء إلى داخله ضرورة تستلزمها حماية النفس، وصارت المبالغة في ذلك مسعى لتحويله إلى سجن وليس زاد طريق نستعين به للوصول إلى مراحل جديدة توائم ما بين عصرنا وواقعنا فيه، وأصبح لكل ما ورثناه حرمة لا تمس ولا تجس، فالتراث مشاجب علينا أن نعلق عليها جلابيب أجدادنا وكوفياتهم وأن نسجد أمامها كل يوم، حتى غدا من يقول منا بجديد نأخذه أو نستلفه من الحضارات الأخرى متهما في دينه وقوميته. وإذا كان الإمام علي قد أدرك أهمية تفاوت الأزمان من جيل إلى جيل في قوله " لا تعلموا أولادكم ما تعلمتم فقد ولدوا في زمن غير زماننا" فإن المتزمتين من المسلمين فرضوا على الناس ألا يعلموا أولادهم إلا ما تعلموا والويل والثبور لكل من يخرج على ذلك، وإذا كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالسؤال طريقا للمعرفة وكما ورد في بعض الأثر فإن " العلم خزائن ومفتاحها السؤال"، فإن التساؤل يجر إلى جريرة لا تغتفر، وقد أثر هذا الانكفاء إلى الداخل في جوانب متعددة من حياتنا الاجتماعية واستخدم الدين كأداة قمعية، توزعتها طبقات وإرادات ومصالح مختلفة وضمن رؤية سلفية حالت دون أن يتواصل المجتمع العربي حتى مع آثار علمائه، وإذا كانت بعض مآسينا على جانب كبير من الفداحة من كوننا ما زلنا نعيش في مجتمع متقوقع على ذاته، ويجتر ماضيه بنشوة قاتلة، وأن جميع تلفزيوناتنا وإذاعاتنا والكثير من صحفنا ومجلاتنا ما زالت مفتوحة، وعلى كل مصاريعها لمن يتنادون إلى قتل الحرية وخنق صوت المفكر الحر وأسر الكتاب المثير لأي تساؤلات، أقول إذا كانت بعض مآسينا متأتية عن ذلك، فإن ما هو أكبر فداحة ومأساوية هو أن نحرم حتى من السماح لنا بدراسة الجوانب الإيجابية في الإسلام والتي كانت من بعض مقومات نهضته في سنواته الأولى، وإذا كان النبي محمد عليه السلام يدعونا لأن نأخذ العلم " حتى ولو في الصين" صار لنا من يقول بأن علمكم هو الذي قال به فقهاؤكم، وليت هؤلاء الفقهاء أعانونا على أن نقرأ تاريخنا بكل ما له وعليه، وقد عانى الفن التشكيلي العربي من اضطهاد القائلين بتحريمه الكثير من العنت والتعسف فأوردونا بذلك إلى قرابة سبعة قرون عجاف لم نعرف فيها من الفن غير ما تتنا قله الفئات البسيطة من الناس وعلى شكل أعمال يدوية بدائية.

وإذا كنا مع بعض الذين قالوا إن توجه المسلمين نحو الفن الزخرفي يعبر عن صدق التعبير عن حس جمالي متأصل في النفس العربية كما هو رأي الدكتور بشر فارس الوارد في كتابه " سر الزخرفة الإسلامية" مؤكدا أن " خروج التصوير الإسلامي على أصول الهيئة البشرية إنما تستدعيه نية مستقرة بالطبع"، وإذا كنا أيضا مع بعض القائلين بأن اليهود قد سبقوا المسلمين إلى الدعوة لتحريم الرسم كما جاء في سفر الخروج " لا تضع لك صورة منحوتة أو أي تشبيه لأي شيء في السماء فوقك أو لأي شيء تحتها أو في الماء الذي تحت الأرض"، وقد نذهب مذهب القائلين بأن بعض من أسلم من اليهود كعبدالله بن سلام، أستاذ أبي هريرة - توفي 678م -، وأبي إسحاق كعب الأحبار - توفي عام 652م -، كان لهما دور في هذا التوجه نحو التحريم، وهو ما يقول به المستشرق البلجيكي هنري لامنس " 1862م - 1937م"، أقول إذا كنا مع هؤلاء وهؤلاء في الذي ذهبوا إليه، فإن لنا من المصادر التاريخية ما يدل على أن المجتمع الإسلامي الأول لم يكن معاديا للتصوير على مثل ما حدث بعد ذلك بدءا من القرن الثاني للهجرة، وقد أوردت تلك المصادر أمثلة عديدة نحتج بها، فسعد بن أبي وقاص - توفي عام 675م - لم يمح الصور التي كانت تزين القصر الأبيض في المدائن - مجموعة مدن في جنوب العراق احتلها سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية 637م، بل إنه بني فيه مصلى للمسلمين، ومن ذلك أيضا أن النبي سمح لعائشة بنت أبي بكر - توفيت عام 678م بأن تقتني الدمى، ويروي بعض كتاب السير بأن زوجات النبي كن يرتدين الملابس المزخرفة بصور للإنسان أو للحيوان، ويقول أحمد بن محمد الأزرقي فيما كتبه عن فتح مكة إن النبي محمدا رأى صورة عيسى بن مريم وأمه ولم يطلب من أحد محوها، وغير ذلك كثير مما يدل على أن التصوير لم يكن محرما إلا ما كان منه في الضفة المناوئة للإسلام. وإن القرآن لم يقل بنص صريح يمنع التصوير وما يورد في مجال الميل إلى التحريم هي خمس آيـات: في سورة الحشر الآيـة ( هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى )، ومن سورة آل عمران ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) ، ومن سورة الأعراف ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ومن سورة غافر ( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ) ، ومن سورة المائدة ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون )، وكل هذه الآيات لا تقول بتحريم واضح وصريح وما ذهب إليه المتزمتون من الفقهاء كان من باب التأويل المشير إلى أن صفة "المصور" هي من صفات الله ومن أسمائه الحسنى وما كان له من الصفات لا يكون لغيره، أما المنع الوارد صراحة في سورة المائدة فإن المعاجم العربية لا ترى في النصب إلا معنى الصنم، كما ينص على ذلك معجم " متن اللغة" للشيخ أحمد رضا، والذي هو " كل ما عبد من دونه تعالى وكانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده فيحمر بالدم"، ومع ذلك فإن حرية الفنان ظلت مهددة باسم الدين وبمن أولوا ما وقعوا عليه من الأحاديث النبوية حسب أمزجتهم، وربما اختلقوا البعض منها، خاصة أن تدوين الأحاديث لم يجر إلا بعد وفاة النبي محمد بثلاثة قرون وأن سيل الطعون بالكثير منها لم ينقطع إلى يومنا هذا. ويعلق الإمام محمد عبده 1849م - 1905م " على تأويل قول النبي ( إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون ) على أنه قرار في التحريم بأن هؤلاء قد فاتهم "أن الحديث ينصرف إلى ذلك التصوير الذي شاع في الوثنية والذي كان القصد فيه إلى تأليه بعض الشخصيات، أما ما جاء لغير ذلك من تصاوير قصد فيها إلى المتعة والجمال فلا يحمل قول الرسول عليه" ويضيف في مكان آخر ما يؤكد هذا المعنى في قوله: " إن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم"، وتلك آراء تتواصل مع آراء أبي علي بن أحمد الفارسي المتوفى عام 987م في قوله: " فإن قال قائل فقد جاء في الحديث - يعذب المصورون يوم القيامة، وفي بعض الحديث، فيقال لهم أحيوا ما خلقتم، قيل: يعذب المصورون يكون على من صور الله تصوير الأجسام وأما الزيادة فمن أخبار الآحاد التي لا توجب العلم فلا يقدح لذلك في الإجماع على ما ذكرناه.

مسارات الفن الإسلامي

وقد أتاح اختلاف الأمكنة والأزمنة واختلاف اجتهادات الفقهاء المتباينة إلى شيء من الحرية للفنان المسلم، وإن ظل اسمه مهملا لا يؤبه به كثيرا وليس على مثل ما لاقى الخطاطون من إكرام وتبجيل، هي حرية تفاعلت عفويا مع ما هو قائم من آثار الحضارات التي سبقت الإسلام إلى المنطقة وعبر موازنة دقيقة بين ما يمكن أن يستلف منها وما يمكن أن يحور فيها من خلال ثلاثة مسارب اجتهاد رئيسية:

أولا: إباحة رسم الحيوانات الخرافية بعد تجريدها من دلالاتها المعنوية والعقيدية القديمة العالقة بها، وقد مال إليها الفنان المسلم لعدم ارتباطها بطبيعة شيئية في مفهوم الخلق ولكون الواقع الحقيقي لا يتماثل معها في شيء.

ثانيا: إباحة رسم الحيوانات، التي حلل الله للإنسان صيدها وطبخها وأكلها، والتي أبيح له استخدامها لأغراض الصيد كالطيور والغزلان والكلاب، مؤولين ذلك بأنها خلقت أصلا من أجل الإنسان، وإن حياتها مرهونة بمشيئته وأن الله إذ أباح له قتلها والإفادة من لحمها وجلدها وتسخيرها لأغراضه، لا بد أن يكون قد أباح له ضمنا تصويرها.

ثالثا: إباحة رسم الحيوانات المركبة التي تقوم على مزج ما بين أعضاء لكائنات مختلفة كأن يكون الرأس رأس إنسان والجسم جسم حصان والقدمان لغزال، وهي ما ألفتها الحضارات القديمة وعلى مثل ما هو موجود في جدران بابل من تنانين وثيران وطلاسم سحرية، وذلك لأنها فقدت أصولها الرمزية فاستحالت مجرد إيقاعات تزيينية لا تمت بأي صلة للواقع، وربما ذلك ما شفع لآثار بابل أن تظل قائمة ولأبي الهول أن يظل حيا.

ويعزو عدد من دارسي الفن الإسلامي والمؤرخين له، في تفسير الحرية التي اتسمت بها بعض الأعمال الفنية ولهذه الفترة الزمنية وتلك إلى الطبيعة الخلقية ذات النزعة الثائرة والتي خصت بها بعض المناطق كبلاد فارس وبلاد ما بين النهرين، ويورد جورج مارسيه في كتابه " الفن الإسلامي" مدينة " سامراء" العراقية مثلا على ذلك فيقول " لقد قدمت سامراء العديد من نماذج هذا التزيين الذي تشغل الصور الآدمية والحيوانية فيه مكانا مهما مما يؤيد حرية الفكر التي كان يتمتع بها سادة هذه البلاد"، وهو جهد في العمل يمد بنفسه إلى اجتهاد فريق من العلماء في القول بإباحة الرسم وتجسيد الأشكال إن أمن الفنان من كل ما يوهم بأن عمله يدعو إلى الخروج على الدين والدعوة إلى الشرك وذلك باعتماد هؤلاء العلماء على ما ورد في الآية رقم 13 من سورة سبأ في الكلام عما يسره الله لسليمان بن داود ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ) ، وفي الرد عليهم قال الآخرون بأن هذه الإباحة هي في شريعة غير المسلمين. ومن المؤسف أن الكثير من الآثار التصويرية قد أتت عليها الأيام فلم يصلنا منها غير الرسوم الحائطية كالتي اكتشفت في "قصير عمره" والتي تعود إلى الربع الأول من القرن الثامن الميلادي، وغيرها في "سامراء" ونيسابور، وكثير من هذه الصور رسمت على جدران الغرف الخاصة بالحريم والتي هي محظورة على أي واحد غير رب البيت، وكذلك الحمامات ويرى الدكتور صلاح ستيتيه بأن " سبب استثناء الحمام من التحريم لأنه في نظر المسلمين السلفيين بأن هذا الجزء من البيت من شدة الاحتقار بحيث إن التصوير لا يشكل فيه أدنى ارتياب ولا أقل خطر روحاني ولذلك صارت الحمامات الأماكن المباحة للرسامين".


التصوير على الورق

أما التصوير على الورق، فعلى الرغم من أن العرب عرفوا صناعة الورق منذ بداية القرن الثامن الميلادي، فلم يصلنا منها شيء على الإطلاق مما يمكننا أن نحدد خطوط تطورها التي وصلت إلى ما وصلت إليه من دقة وإتقان على يد فناني المدرسة البغدادية خلال الفترة الممتدة ما بين 1150م و1400م، وهي الفترة التي يطلق عليها جورج مارسيه اسم " الفترة الثالثة"، حيث انعكست آثارها على العديد من الكتب الأدبية والعلمية، والتي أهمل فيها ذكر أسماء الفنانين باستثناء عدد قليل جدا منهم كاسم يحيى بن محمود الواسطي الذي نسخ " مقامات الحريري" بيده ورسم رسومها وأنهاها في " آخر نهار يوم السبت سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة حامدا الله تعالى". وبرغم ما نأخذه على الرسم الإسلامي في مثل هذه الفترات من خلوه من التعبير الذاتي عن انطباعات الفنان إزاء ما يقوم برسمه، وربما كان ذلك بأثر من أن الرسم لم يكن غير وسيلة تزيينية أو إيضاحية وفي الحالين على الفنان أن يظل أسير ما أوكل إليه من قبل طبيب أو جغرافي أو فلكي أو وراق أو أديب، وذلك ما يشير إليه البروفيسور ت. أرنولد بتعليقه على واحدة من هذه الصور بأن هؤلاء "الشخوص ينظرون إلى ما حولهم بوجوه لا أثر فيها للانفعال بما يجري حولهم أو الاهتمام به، سواء كانوا ملوكا أو سوقة، جنودا أو فلاحين، فالمحاربون في المعركة يتلقون الطعنات والجراح القاتلة وكأنهم لا يهتمون بها".. أقول برغم ذلك فإن الجمود الذي لقيه الفن التشكيلي الإسلامي والحدود القاسية التي أحيط بها قد فوت عليه فرصة نموه وتطوره ضمن خصوصياته في الرسم " بعين الطائر" أو الرسم من " خلال الجدران المخلوعة" أو الرسم من خلال " المنظور المتقاطع" إلى غير ذلك، إذ ما كدنا نقع إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي حتى ازدادت نبرة التحريم شدة وقسوة، من قبل العديد من الفقهاء الذين ناصبوا الفن التشكيلي العداء الشديد كيحيى بن شرف النووي " توفي عام 1277م"، وغيره ممن تمثلوا بقوله بأن " تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بالوعيد الشديد المذكور في الأحاديث". وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها. وليس غريبا ألا نعثر على شي ء من التصوير على الورق لهذه المرحلة من تاريخ الفن الإسلامي، بعد أن افتقدنا الكثير منها في الصور الجدارية، وبعد أن تعرضت المكتبات العربية لإبادات وإتلافات خلال فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي، غير أن ما يمكن أن نفترضه هو أن الرسم على الورق لا بد أن يكون قد سبق النماذج التي عثرنا عليها خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، ويشهد على ذلك ما أشار إليه عبدالله بن المقفع "توفي عام 759م" في ترجمته لكتاب " كليلة ودمنة" حيث يقول " وينبغي للناظر في هذا الكتاب ومقتنيه أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أقسام وأغراض أحدها.. والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الألوان والأصباغ ليكون أنسا لقلوب الملوك ويكون حرصهم عليه أشد للنزاهة في تلك الصور".. وإذا ما عدنا إلى الصور الجدارية فسنتلمس إلى أي حد بعيد استلهم الفنان المسلم في القرن الثامن الميلادي من الفنانين الأجانب، فالأشكال الزخرفية والمناظر المرسومة على جدران " قصير عمره" لتدل دلالة واضحة على التأثر بالأسلوب الهلنستي، وكذلك الرسوم الحائطية في القصر الذي عثر عليه في سامراء فإنها لتشير إشارة واضحة إلى تأثير الفن الساساني عليها، وقد نرى التأثيرين موجودين جنبا إلى جنب في بعض الأحيان، مضافا إليهما تأثيرات أخرى فالتأثيرات الهندية والصينية والإغريقية والرومانية، منفصلة أحيانا ومتداخلة في أحيان أخرى، وقد تبدو في طبيعة أدائية تارة وتارة أخرى في رمز استلهم كعامل تزييني كالأجنحة المتناظرة والأشرطة المتماوجة التي تدل على أنها استعيرت من تيجان الملوك والأكاسرة.


الفن والروح

ونحن إذ نقول إن نزعة التحريم تركت أثرا ملحوظا في تطور الزخرفة الإسلامية والتي صارت كما يقول شارل بودلير بأنها من " أشد الأشكال روحانية على الإطلاق"، وأنها قد كفلت للخط العربي أن يصبح من أبرز الفنون العربية، فإنه بلا شك قد حجب عنا فنا إنسانيا مهما ولفترة واسعة من التاريخ، وإن ما اتسعت له من مجالات في هذه الأرض من أرض المسلمين أو هذه الفترة من فترات تأريخهم، أو هذه الرغبة في التبشير الديني ظلت محاصرة برعب متوارث، وقد كان لسيطرة العثمانيين على البلدان العربية أن شددت من هذا الحصار حيث ازداد كما يقول ريتشارد ايتكنهاوزن في كتابه " فن التصوير عند العرب" بأن تصاعد " الاتجاه المعادي للتصوير في البلدان التي تتكلم العربية كان سببا في تضاؤل الاهتمام بالفن، كما كان سببه انحطاط القدرة الفنية في الأقطار العربية تحت الحكم العثماني وأدى الاجتماع المؤسف لهذين السببين المذكورين إلى انقراض رسم الصور انقراضا فعليا".. وعلى عكس ما كان يحدث في تركيا العثمانية وفي إيران التي عادت لاستلهام موروثها الفني للفترة التي سبقت دخولها في الإسلام.

إن الإسلام لم يحرم الرسم، ولكن المسلمين هم الذين حرموه وما زال بعضهم يحرمه إلى يومنا هذا.. وهؤلاء هم أشد عداء للإسلام من أعدائه.. وصح ما قاله محمد عبده " كنت في أوربا فالتقيت فيها مسلمين ولم ألتق الإسلام ووجدت في موطني إسلاما ولم أجد مسلمين".






بلند الحيدري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى