عبد المتعال الصعيدي - الكميت بن زيد.. شاعر العصر المرواني

تمهيد

في الأدب اجتهاداً لم يغلق بابه كما أغلق في الفقه وغيره من علومنا الشرعية، وقد كان لامتياز الأدب بهذا على غيره من العلوم أثر كبير في ازدهاره في هذا العصر، وفي وصوله إلى ما لم يصل إليه في عصر من العصور السابقة، وهو في هذه النهضة المباركة شغل الطالب في معهده، والتلميذ في مدرسته، بل شغل الناس جميعاً على اختلاف أنواعهم ومذاهبهم. ولو أن غير الأدب من العلوم كان له حظه من فتح باب الاجتهاد لم يصر إلى هذا الجمود الذي صرف الناس عنه، وجعلهم يكرهون النظر فيه، ويخشون ما يصيبهم من العنت إذا خرجوا عن مألوفه

وللنفس حاجات في هذا الاجتهاد المغلق تجعلها تحن إليه الفينة بعد الفينة، فإذا خشيت العنت أو أصابها فيه شيء من العنت عدلت عنه إلى غيره حباً في المسالمة، أو يأساً من حال الناس في هذه الناحية؛ ولا تجد مثل الأدب في رحابة صدره للاجتهاد، وعدم ضيق أهله بأثر الاجتهاد فيه، فتلج بابه، وتسلى عنها به ما يصيبها من أذى الناس وجحودهم لفضل المخلصين العاملين فيهم

وهأنذا الآن بصدد الكتابة عن الكميت بن زيد الأسدي، وبصدد التنويه بالفتح الجديد الذي فتحه في الأدب العربي بهاشمياته، لأرفعه بها إلى درجة الزعامة على شعراء عصره (عصر بني مروان) ولأبعد جريراً والفرزدق والأخطل عن هذه الدرجة التي اتفق الناس على منحها لهم، ولا عليّ من مخالفة الناس فيما ذهبوا إليه في زعامة الشعراء في هذا العصر، فليس في الأدب كفر ولا إلحاد ولا غيرهما مما يرمي به الباحثون جزافاً في هذه الأيام

ونحن إذا بحثنا في هذه الزعامة الشعرية التي عرفها الناس لجرير والفرزدق والأخطل نجد أن ملوك بني مروان هم الذين روجوا لهذه الزعامة، وهم الذين شغلوا الناس بهؤلاء الشعراء عن الكميت وغيره ممن يخالف سياستهم، ويناوئ بشعره ملكهم، ويناصر به غيرهم من منافسيهم، وقد مضى عهد بني مروان ومضت بعده عهود وعهود، وكان لحب التقليد الذي مني به الإسلام والمسلمون أثره في بقاء الناس على هذه الزعامة الشعرية

وإنما روج ملوك بني مروان لجرير والفرزدق والأخطل لأنهم وجدوا في شعرهم انحرافاً عن الجادة التي يجب أن يكون الشعر عليها، ووجدوا فيه ما يخدم مآربهم في حكم الأمة الإسلامية حكماً مطلقاً لا يقيدهم فيه قانون سماوي أو وضعي، وفي الاستئثار لأنفسهم وأنصارهم بأموال هذه الأمة وخيراتها، يصرفونها في اقتناء القيان، وشراء الجوار الحسان، وإشباع شهواتهم في هذه الحياة، والقضاء على روح المقاومة للظلم في الأمة حتى تخضع لهم، وتستكين لحكمهم؛ ولا نستثني منهم في ذلك إلا الملك الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد سار في حكمه القصير على خلاف سيرتهم، وأشاح بوجهه عن أولئك الشعراء الذين كانوا يروجون لهم

ولم يكن مثل جرير والفرزدق والأخطل في ذلك إلا كمثل من يعيش منا الآن بعقول القرون الماضية، ولا يتأثر عقله بشيء من العصر الذي يعيش فيه، فهكذا كان أولئك الشعراء يعيشون بعد الإسلام بعقول الشعراء الذين لم يدركوا عهده، ولم تعمل في نفوسهم رسالته، ولم تؤثر في قلوبهم هدايته، ولم يهذبهم تقويمه وإصلاحه، فاستعملوا شعرهم في خدمة أغراضهم وقضاء مآربهم، وتملقوا به ملوك بني مروان طمعاً في أموالهم ودنياهم، ولم ينظروا فيه إلى الأمة وما تطلبه من الشعر الذي يوفظها من غفلتها، وينهض بها من كبوتها، ويحارب عوامل الفناء التي تعمل عملها فيها، بل ساعدوا خصومها عليها، وعملوا بشعرهم على تفريق كلمتها، والرجوع بها إلى حالة الجاهلية، فكان شعراً رجعياً جامداً بغيضاً، ولا تسري فيه روح الحياة، ولا يصح أن يمون صاحبه به زعيماً في الشعراء

فإذا نظرت في شعر الكميت بن زيد وجدته يمثل لك عصر بني مروان تمثيلاً صادقاً، لا أثر فيه للخداع والغش، ولا يشوهه الحرص الممقوت على الصلات والجوائز، وخيل إليك أنك تعيش في عصر بني مروان مع الذين عاشوا فيه، وأن ظلمهم وإفسادهم حاق بك كما حاق بهم، فأخذ قلبك يضطرب بالحقد عليهم، وأخذت نفسك تضطرم بالثورة على ملكهم، وتنشد في ملكاً آخر يسود فيه العدل، وينتصر الحق على الباطل، وتنهض به الأمة، وينتظم لها أمر دينها ودنياها

فهو شعر حي ناهض يدعو إلى الحياة والنهوض؛ أما شعر جرير والفرزدق والأخطل فهو شعر ميت جامد يدعو إلى الموت والجمود، ولم يكن الخضوع لزعامة هذا الشعر إلا أثراً من آثار الروح الشيطانية المستولية على النفوس منذ فقد في المسلمين الحكم الصالح، وأخذوا يعيشون عيشة آثمة جاهلية، يضيع فيها الحق، وينتصر عليها الباطل، وتنشر فيها أعلام الشر، وتطوى أعلام الخير، فأظلمت العقول، والتبست عليها الأمور، فصارت ترى الباطل حقاً، والشر خيراً، والإثم طاعة وبراً، وجمدت على هذا بطول الزمن حتى صارت حالها تدعو إلى اليأس في إصلاحها، وإزالة هذه الغشاوة عنها

على أني فيما أراه من زعامة الكميت على شعراء عصره أذهب في هذا مذهب بعض العلماء والشعراء كانوا يتعصبون له ويقدمونه في الشعر على غيره من الشعراء جميعاً. قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني محمد بن القاسم الأنباري، قال حدثني أبي، قال حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي، قال حدثنا احمد بن بكير الأسدي، قال حدثنا احمد بن أنس السلامي الأسدي، قال سئل معاذ الهراء: من أشعر الناس؟ قال: أمن الجاهليين أم من الإسلاميين؟ قالوا: بل من الجاهليين، قال: امرؤ القيس وزهير وعبيد بن الأبرص. قالوا: فمن الإسلاميين؟ قال: الفرزدق وجرير والأخطل والراعي. قال فقيل له: يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت؟ قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين

وقال أبو الفرج أيضاً: أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال حدثني احمد بن بكير، قال حدثني محمد بن أنس الأسدي السلامي، قال حدثني محمد بن سهل راوية الكميت قال: جاء الكميت إلى الفرزدق لما قدم الكوفة فقال له: إني قد قلت شيئاً فاسمعه مني يا أبا فراس، قال: هاته، فانشده قوله:

طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ ... ولا لعِباً مني وذو الشوق يلعبُ

ولكن إلى أهل الفضائل والتُّقَى ... وخير بني حوَّاَء والخير يُطْلَبُ

فقال له: قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا ما تركت أنت الطرب إليه

وفي رواية أخرى عن محمد بن علي النوفلي، قال سمعت أبي يقول: لما قال الكميت بن زيد الشعر كان أول ما قال الهاشميات فسترها ثم أتى الفرزدق بن غالب فقال له: يا أبا فراس إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي، قال له: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟ قال: نفث على لساني فقلت شعراً فأحببت أن أعرضه عليك، فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره، وكنت أولى من ستره عليّ. فقال له الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني ما قلت، فأنشده:

طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ

قال فقال لي: فبم تطرب يا ابن أخي؟ فقال:

ولا لعباً مني وذو الشوق يلعبُ

فقال: بلى يا ابن أخي فالعب فإنك في أوان اللعب، فقال:

ولم يُلهني دارٌ ولا رسم منزل ... ولم يتطرّبني بنانٌ مُخضَّبُ

فقال: ما يطربك يا ابن أخي؟ فقال:

ولا السانحات البارحات عشية ... أمر سليم القرن أم مر أغضب

فقال: أجل لا تتطير، فقال:

ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ... وخير بني حوَّاَء والخير يطلبُ

فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:

إلى النَّفر البيض الذين بحبِّهمْ ... إلى الله فيما نابني أتقرَّبُ

قال: أرحني ويحك من هؤلاء؟ قال:

بني هاشم رهط النبِّي فإنني ... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضبُ

خفضتُ لهم مني جناحي مودَّةً ... إلى كَنَفٍ عطفاه أهل ومرحبُ

وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا ... مُحباً على أني أُذمُّ وأغضبُ

وأُرَمى وأرْمِى بالعداوة أهلَها ... وإني لأُوذَى فيهمُ وأؤنَّبُ

فقال له الفرزدق: يا ابن أخي أذع ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى، وأشعر من بقى

وهذه الهاشميات من الدرر اللوامع في سماء الشعر العربي، وبها يسمو شعر الكميت على غيره من الشعر، وقد أجاد فيها في مدح بني هاشم والدعاية لهم، وتصوير حكم بني مروان تصويراً شنيعاً ينفر الناس منه، ويدعوهم إلى الثورة عليه، حتى هيأ النفوس إلى تلك الثورة التي قام بها بعده أبو مسلم الخراساني، فقضى على حكم المروانيين، وأقام بعده حكم العباسيين الهاشميين

ولاشك أن الشعر الذي يبلغ به صاحبه هذه المنزلة العالية ويستطيع به أن يقيم دولة ويقعد دولة، هو الشعر الذي يستحق به صاحبه الزعامة على شعراء عصره، لا ذلك الشعر الذي لا يعد وأمره أن يكون ألفاظاً جوفاء لا طائل تحتها، ولا ثمرة في هذه الحياة لها

وقد شهد الفرزدق شهادة أخرى لهذه القصائد، فقيل له: أحسن الكميت في مدائحه في تلك الهاشميات، فقال: وجد آجراً وجصاً فبنى
- 2 -

سيرته

ولد الكميت بالكوفة سنة ستين للهجرة، وهي السنة التي قتل فيها الحسين رضي الله عنه، وكان أهل الكوفة قد دعوه ليبايعوه في بدء عهد يزيد بن معاوية، فسار إليهم من مكة إلى أن وصل إلى كربلاء، فقتله فيها جيش عبيد الله ابن زياد

وكانت الكوفة عاصمة العراق وما إليه من بلاد فارس وما حواليها، وكانت أيضاً مهداً للتشيع العلوي من يوم أن اتخذها علي رضي الله عنه عاصمة لخلافته، كما كانت دمشق بالشام مهداً للتشيع الأموي بتأثير معاوية رضي الله عنه، ولعلهما بهذا أرادا أن يستغلا العصبية القديمة بين العراق والشام، فقد كانت هناك منافسة شديدة في الجاهلية بين عرب العراق وعلى رأسهم دولة المناذرة، وبين عرب الشام وعلى رأسهم دولة الغساسنة. ولم يترك علي (ض) المدينة التي كانت عاصمة الخلفاء قبله إلى الكوفة إلا ليكون له أهل العراق على معاوية وأهل الشام، ويساعدوه على أن تكون الخلافة بعاصمتهم، فتحيا بها بلادهم، ويكون خيرها لهم، ولا يستأثر به أهل الشام دونهم؛ وهذا إلى ما في العراق من الرجال والخصب، فيضاهي بهذا خصب الشام بالمال والرجال، ويجد من الحاقدين على معاوية وبني أمية ما لا يجده في مكة والمدينة

وقد كان الكميت من بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن معد بن عدنان، وهو الجد الأعلى للنبي عليه الصلاة والسلام، فنشأ بين من نزح من قبيلته من البادية إلى الكوفة، وأخذ عن علمائها من أهل الحضر علوم الدين والأدب، وكانت له جدتان أدركتا الجاهلية فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه عنه، فتأثر من هذا وذاك بثقافة البدو والحضر، واجتمع له علم غزير بلغات العرب وغريبها وأشعارها وأيامها ومفاخرها ومثالبها، وروى الحديث وغيره من العلوم الدينية، وقد ذكر صاحب الأغاني بعض رواياته في الحديث فليرجع إليها من يريدها

ولم يقصر الكميت نفسه على العلم والأدب، بل كان يأخذ نفسه بقول الشعر والاستماع إليه، ولكن ميله إلى هذا لم يكن يبلغ ميله إلى العلم والأدب. ويحكى أنه وقف وهو صبي على الفرزدق وهو ينشد أشعاره، فراع الفرزدق حسن استماع الكميت وأخذه الزهو والخيلاء، فلما فرغ من إنشاده أقبل على الصبي وقال له: هل أعجبك شعري يا بني؟ فأجاب الكميت: لقد طربت لشعرك طرباً لم أشعر بمثله من قبل، فانتشى الفرزدق، وأخذ العجب منه كل مأخذ، وقال للصبي في نشوة المفتون: أيسرك أني أبوك؟ فقال الكميت: أما أبي فلا أريد به بدلاً، ولكن يسرني أن تكون أمي. فحصر الفرزدق، وقال: ما مر بي مثلها

فلما أتم الكميت دراسته اشتغل بما كان يغلب ميله إليه من العلم والتعليم، فكان يعلم الصبيان بمسجد الكوفة، ولكن عشيرته من بني أسد كانت تريد منه أن يكون شاعرها الذي يعلي من شأنها، وينشر من مفاخرها، وينافح عنها أعداءها، وقد صار الشعر في الدولة المروانية كما كان في الجاهلية مفخرة القبائل العربية فتعلقت به تلك القبائل كما كانت تتعلق به في جاهليتها، فأخذ بنو أسد يرغبون الكميت في قول الشعر، ويحملونه على الانصراف إليه والتفرغ له، ويحكون في ذلك أن عمه وكان رئيس قومه أخذ الكميت يوماً وقال له: يا كميت لم لا تقول الشعر؟ ثم أخذه فأدخله الماء وقال: لا أخرجك منه أو تقول الشعر، فمرت به قنبرة فأنشد متمثلاً:

يالكِ من قُنْبُرَةٍ بِمَعْمَرِ ... خلا لكِ الجَوُّ فبيضي واصفري

ونَقِّري ما شئت أن تُنَقِّري

فقال له عمه ورحمه: لقد قلت شعراً فاخرج، فقال الكميت لا أخرج أو أقول لنفسي، فما رام حتى عمل قصيدته المشهورة، وهي أول شعره، ثم غدا على عمه فقال: اجمع لي العشيرة ليسمعوا فجمعهم له فأنشد:

طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ ... ولا لعباً منِّي وذو الشوق يلعبُ

وقد طعن الأستاذ زكي مبارك في صحة هذه القصة، وذكر أنه ليس بمعقول أن تكون هذه القصيدة أول شعره، لأن فيها من القوة ما يقطع بأنها ليست بداية شعرية، وإنما هي صرخة شاعر فحل طال منه الصيال

ولا وجه عندي لهذا الطعن في صحة هذه القصة، لأن هذه القصيدة: (طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطرَبُ) من قصائد الهاشميات، وقد ثبت من غير هذا الطريق أن هاشمياته على العموم وهذه القصيدة على الخصوص كانت أول ما قاله من الشعر، وواضح أنه لا يراد من هذا إلا أنها أول ما قاله من الشعر الجيد الذي يعتد به، فلا يمنع أن يكون له شعر قبل هذا الشعر ترقى فيه إلى أن وصل إلى درجة هذا الشعر الجيد

فلما أرادته عشيرته أن يكون شاعراً ينافح عنها ويصاول أعداءها، صرف نفسه إلى قول الشعر وتفرغ له حتى أجاد إنشاءه، وكان قد ورث التشيع لأهل البيت عن بيئته بالكوفة التي نشأ فيها، ولم يكن للشيعة في عهده شاعر يتعصب لها وينشر دعوتها كما كان لبني مروان من الشعراء الأخطل وغيره، وكما كان للخوارج الطرماح بن حكيم وعمران بن حطان، فرأى أن يكون هو شاعر الشيعة وناصر دعوتها، والمشيد بذكر أهل البيت والناشر لفضلهم

وقد كانت الشيعة في ذلك الوقت تعادي بني مروان والخوارج معاً؛ ولكن العداوة بين الشيعة والخوارج لم تكن تبلغ درجة العداوة بينها وبين بني مروان، لأن الخوارج كانوا قد اشتغلوا بعداوة بني مروان بعد أن صار لهم الأمر، وتناسوا عداوتهم للشيعة بعد انصراف الأمر عنهم، فاشترك كل من الشيعة والخوارج في مناهضة الدولة المروانية، ومناوأتها بسيوفهم وألسنتهم، وكان اشتراكهم في معارضة هذه الدولة سبباً في تخفيف ما بينهم من العداوة

ولهذا كان تعصب الكميت في شعره للشيعة موجهاً إلى بني مروان وحدهم، ولا يدخل في أولئك الخوارج الذين لقي الشيعة منهم ما لقوا في عهد علي رضي الله عنه، بل لم يمنع ذلك التعصب الكميت من إخلاص المودة للطرماح بن حكيم من شعراء الخوارج، فقد كان بينهما من الخلطة والمودة والصفاء ما لم يكن بين اثنين، حتى إن راوية الكميت قال: أنشدت الكميت قول الطرماح:

إذا قبضتْ نفسُ الطِّرمَّاح أخلقتْ ... عُرَى المجد واسترخى عنانُ القصائِد

فقال الكميت: إي والله، وعنان الخطابة والرواية وهذه الأحوال كانت بينهما على تفاوت المذاهب والعصبية والديانة، فقد كان الكميت شيعياً عصبياً عدنانياً من شعراء مضر متعصباً لأهل الكوفة، وكان الطرماح خارجياً صفرياً قحطانياً عصبياً لقحطان من شعراء اليمن متعصباً لأهل الشام، فقيل للكميت: فيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء؟ فقال: اتفقنا على بغض العامة

والعامة التي اتفقا على بغضها كانت في ذلك الوقت جمهور الأمة من خاصة الناس وعامتهم، فقد استكانوا لحكم بني مروان حين طال عليهم أمده، وخضعوا لظلمهم ولم يعنهم إلا أمورهم الخاصة، كشأن العامة في كل وقت وفي كل أمة، ولا يزال بغض الحكومات القائمة يقرب الآن بين معارضيها، وينسيهم ما بينهم من عداوات، واختلاف في المشارب والأهواء

فنصب الكميت نفسه لمناهضة بني مروان بشعره، وهم أصحاب الملك في الناس، وأخذ ينصر عليهم أهل البيت والأمر مدبر عنهم، وليس هناك مطمع فيهم، وإنما هو سبيل اتخذه لنفسه يرضي به عقيدته، وينأى بعلمه وشعره أن يتخذهما أداة كسب كما فعل ذلك غيره من الشعراء، فكان يقول الشعر للشعر ويتخذه وسيلة لإرضاء نفسه وعقيدته، ويجاهد به في إصلاح حال أمته، ويؤدي به ما يجب على الشاعر في عصره، ولا يهمه بعد هذا ما يفوته من دنيا الملوك، ولا ما يصيبه من عنتهم وإرهاقهم

وقد أراد ثراة أهل البيت أن يثيبوه على ما يقوم به من نصر دعوتهم، وإنشائه القصائد الطوال في مدحهم والإشادة بذكرهم، فكان يعرض عما يعرضونه عليه من الصلات والجوائز، ويذكر أنه يريد من ذلك وجه الله تعالى، ونصرة الحق الذي يدين به، وقد حدث صاعد مولى الكميت قال: دخلنا على أبي جعفر محمد ابن علي فأنشده الكميت قصيدته التي أولها:

مَنْ لقلبٍ متيَّم مستهامِ

فأمر له بمال وثياب، فقال الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكنني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها، وأما المال فلا أقبله، فرده وقبل الثياب

وحدث أيضاً فقال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهما، فقالت: هذا شاعرنا أهل البيت، وجاءت بقدح فيه سويق فحركته بيدها وأسقته للكميت فشربه، ثم أمرت له بثلاثين ديناراً ومركب، فهملت عيناه وقال: لا والله لا أقبلها، إني لا أحبكم للدنيا

وحدث محمد بن سهل صاحب الكميت قال: دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد في أيام التشريق فقال له: جعلت فداك ألا أنشدك؟ فقال إنها أيام عظام، قال إنها فيكم، قال هات، وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب، فأنشده فكثر البكاء حتى أتى على هذا البيت:

يصيبُ به الرَّامونَ عن قوس غيرهمْ ... فيا آخراً أسْدَى له الغيَّ أوّلُ

فرفع أبو عبد الله يديه وقال: اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، واعطه حتى يرضى
- 3 -

وقد كان لهذه القصائد في نصرة أهل البيت وتأليب الناس على بني مروان أثرها في النفوس، حتى لهج بها الخاصة والعامة، وصار الناس يتقربون إلى الله والرسول بحفظها وتلاوتها ويتناقلون في ذلك رؤى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان الكميت يرى بعضها، وكان غيره يرى بعضاً آخر منها، فارتفعت بهذا منزلة الكميت وعلت درجته بين قومه بني أسد حتى كانوا يعدونه من مفاخرهم، ويقولون: فينا فضيلة ليست في العالم، ليس منزل منا إلا وفيه بركة وراثة الكميت، لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال له أنشدني:

طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ

فأنشده فقال له: بوركت وبورك قومك

ويروي من طريق آخر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه وهو مختف بعد أن هرب من سجن بني مروان فيما سنذكره من سيرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مم خوفك؟ فقال: يا رسول الله من بني أمية، وأنشده:

ألم ترني من حُبِّ آل مُحمدٍ ... أروح وأغْدُو خائفاً أترقّبُ

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اظهر فإن الله قد أمنك في الدنيا وفي الآخرة

وحدث إبراهيم بن سعد الأسدي قال: سمعت أبي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: من أي الناس أنت؟ قلت: من بني أسد، قال: من أسد بن خزيمة؟ قلت: نعم، قال: أهلالي أنت؟ قلت: نعم، قال: أتعرف الكميت بن زيد؟ قلت: يا رسول الله عمي ومن قبيلتي، قال: أتحفظ من شعره شيئاً؟ قلت: نعم، قال أنشدني:

طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ

قال: فأنشدته حتى وصلت إلى قوله: فما لِيَ إلا آل أحمد شيعةً ... وما لِيَ إلاَ مشْعَب الحق مشعب

فقال لي: إذا أصبحت فاقرأ عليه السلام، وقل له قد غفر الله لك بهذه القصيدة

وحدث نصر بن مزاحم المنقري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ورجل بين يديه ينشده:

مَنْ لقلبٍ مُتيَّمٍ مستهامِ

قال: فسألت عنه، فقيل لي: هذا الكميت بن زيد الأسدي، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جزاك الله خيراً وأثنى عليه

وإذا كان الكميت قد نصر بشعره أهل البيت هذا النصر الذي كان له هذا الشأن، فإنه وهو الشاعر العالم لم يكن يتجاوز تأييدهم باللسان إلى تأييدهم بالفعل، وكان شأنه في هذا شأن القعدة من الخوارج كعمران بن حطان الشاعر وغيره، ولا غرابة في أن يكون للشيعة قعدة كما كان للخوارج قعدة، بل إن قعدة الشيعة كانوا أكثر من قعدة الخوارج لأخذ الشيعة بالتقية. وقد روى أبو الفرج الأصبهاني أنه لما خرج زيد بن علي كتب إلى الكميت: أخرج معنا يا أعيمش، ألست القائل:

ما أُبالي إذ أحفظتُ أبا لقا ... سم فيكم ملاَمةَ الُّلوَّامِ

فكتب إليه الكميت:

تجودُ لكم نفسي بما دونَ وَثْبَةٍ ... تظلُّ لها الغربانُ حوليَ تحجلُ

ولم يكن هذا منه يغضب أهل البيت عليه، بل كانوا هم أيضاً يضنون على نفسه ضنه عليها، ويحبون أن يبقى لهم بشعره الذي يفعل في هدم بني مروان ما لا يفعله بالسيف غيره

وكان على العراق في هذا العهد خالد بن عبد الله القسري، وعلى عرش بني مروان هشام بن عبد الملك، وقد اضطربت الروايات في وصول خبر الكميت وأشعاره إلى هشام اضطراباً كبيراً، فلنسق هذه الروايات المضطربة، ثم نأخذ بعد هذا في نقدها والترجيح بينها

قال أبو الفرج الأصبهاني: كان خالد بن عبد الله القسري فيما حدثني به عيسى بن الحسين الوراق قال: أخبرنا أحمد بن الحارث الفزاري عن ابن الأعرابي، وذكره محمد بن أنس السلامي عن المستهل ابن الكميت، وذكره ابن كناسة عن جماعة من بني أسد أن الكميت أنشد قصيدته التي يهجو فيها اليمن وهي:

ألا حُيِّيتِ عنا يا مدينا

فأحفظته عليه، فروى جارية حسناء قصائده الهاشميات، وأعدها ليهديها إلى هشام، وكتب إليه بأخبار الكميت وهجائه بني أمية وأنفذ إليه قصيدته التي يقول فيها:

فيا ربِّ هل إلاَّ بك النصر يُرْتجَى ... ويا ربِّ هل إلاَّ عليك المعوَّلُ

وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي وابنه الحسين بن زيد (كذا) ويمدح بني هاشم، فلما قرأها أكبرها وعظمت عليه واستنكرها، وكتب إلى خالد يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده، فلم يشعر الكميت إلا والخيل محدقة بداره، فأخذه وحبس في المحبس. وكان أبان بن الوليد عاملاً على واسط، وكان الكميت صديقه، فبعث إليه بغلام على بغل وقال له: أنت حر إن لحقته والبغل لك، وكتب إليه: قد بلغني ما صرت إليه وهو القتل إلا أن يدفع الله عز وجل، وأرى لك أن تبعث إلي حبي - يعني زوجة الكميت وهي بنت تكيف بن عبد الواحد وهي ممن يتشيع أيضاً - فإذا دخلت إليك تنقبت نقابها ولبست ثيابها وخرجت، فإني أرجو ألا يؤبه لك

فأرسل الكميت إلى أبى وضاح حبيب بن بديل وإلى فتيان من بني عمه من مالك بن سعيد، فدخل عليه حبيب فأخبره الخبر وشاوره فيه فسدد رأيه، ثم بعث إلى حبي امرأته فقص عليها القصة وقال لها: أي ابنة عم، إن الوالي لا يقدم عليك ولا يسلمك قومك، ولو خفته عليك لما عرضتك له، فألبسته ثيابها وإزارها وخمرته وقالت له: أقبل وأدبر، ففعل، فقالت: ما أنكر منك شيئاً إلا يبساً في كتفك، فاخرج على اسم الله، وأخرجت معه جارية لها، فخرج وعلى باب السجن أبو وضاح ومعه فتيان من أسد فلم يؤبه له، ومشى الفتيان بين يديه إلى سكة شبيب بناحية الكناس، فمر بمجلس من مجالس بني تميم، فقال بعضهم: رجل ورب الكعبة، وأمر غلامه فأتبعه، فصاح به أبو وضاح يا كذا وكذا لا أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم، وأومأ إليه بنعله فولى العبد مدبراً، وأدخله أبو وضاح منزله

ولما طال على السجان الأمر نادى الكميت فلم يجبه، فدخل ليعرف خبره، فصاحت به المرأة: وراءك لا أم لك. فشق ثوبه ومضى صارخاً إلى باب خالد فأخبره الخبر، فأحضر حبي فقال لها: يا عدوة الله احتلت على أمير المؤمنين وأخرجت عدوه. لأمثلن بك ولأصنعن ولأفعلن، فاجتمعت بنو أسد إليه وقالوا: ما سبيلك على امرأة منا خدعت؟ فخافهم فخلى سبيلها

قال: وسقط غراب على الحائط فنعب فقال الكميت لأبي وضاح: إني لمأخوذ، وإن حائطك لساقط، فقال له: سبحان الله! هذا ما لا يكون إن شاء الله، فقال له: لابد من أن تحولني، فخرج به إلى بني علقمة وكانوا يتشيعون، فأقام فيهم ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب

قال ابن الأعرابي قال المستهل: وأقام الكميت مدة متوارياً حتى إذا أيقن أن الطلب قد خف عنه خرج ليلاً في جماعة من بني أسد على خوف ووجل، وفيمن معه صاعد غلامه، فأخذ الطريق على القطقطانة وكان عالماً بالنجوم مهتدياً بها، فلما صار سحيراً صاح بنا: هوِّموا يا فتيان، فهوَّمنا وقام يصلي، قال المستهل: فرأيت شخصاً فتضعضعت له، فقال: ما لك؟ قلت: أرى شيئاً مقبلاً، فنظر إليه فقال: هذا ذئب قد جاء يستطعمكم، فجاء الذئب فربض ناحية فأطعمناه يد جزور فتعرقها، ثم أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه وارتحلنا، فجعل الذئب يعوي، فقال الكميت: ما له ويله؟ ألم نطعمه ونسقه؟ وما أعرفني بما يريد! هو يعلمنا أنا لسنا على الطريق: تيامنوا يا فتيان، فتيامنا، فسكن عواؤه، فلم نزل نسير حتى جئنا الشام فتوارى في بني أسد وبني تميم. وأرسل إلى أشراف قريش وكان سيدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص، فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض وأتوا عنبسة فقالوا: يا أبا خالد هذه مكرمة قد أتاك الله بها. هذا الكميت بن زيد لسان مضر، وكان أمير المؤمنين كتب في قتله فنجا حتى تخلص إليك وإلينا. قال فمروه أن يعوذ بقبر معاوية ابن هشام بدير حنيناء، فمضى الكميت فضرب فسطاطه عند قبره، ومضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام فقال له: له يا أبا شاكر مكرمة أتتك، بها تبلغ الثريا إن اعتقدتها، فإن علمت أنك تفي بها وإلا كتمتها، قال: وما هي؟ فأخبره الخبر، وقال: إنه قد مدحكم عامة وإياك خاصة بما لم يسمع بمثله، فقال: عليّ خلاصه فدخل على أبيه هشام وهو عند أمه في غير وقت دخول، فقال له هشام: أجئت لحاجة؟ قال: نعم، قال: هي مقضية إلا أن يكون الكميت فقال: ما أحب أن تستثني علي في حاجتي، وما أنا والكميت! فقالت أمه: والله لتقضين حاجته كائنة ما كانت، قال: قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قطريها، قال: هي الكميت يا أمير المؤمنين، وهو آمن بأمان الله عز وجل وأماني، وهو شاعر مضر، وقد قال فينا قولا لم يقل، قال: قد أمنته وأجزت أمانك له، فاجلس له مجلساً ينشدك فيه ما قال فينا. فعقد له وعنده الأبرش الكلبي، فتكلم بخطبة ارتجلها ما سمع بمثلها قط، ومدحه بقصيدته الرائية، ويقال إنه قالها ارتجالاً وهي قوله:

قِفْ بالديار وقوفَ زائِرْ

فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله:

ماذا عليك مِنَ الوقو ... ف بها وإنك غيرُ صاغِرْ

درجتْ عليها الغاديا ... تُ الرائحاتُ من الأعاصر

وفيها يقول:

فالآنْ صرتُ إلى أُمَيَّ ... ةَ والأمورُ إلى المصاير

وجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده فيقول: إسمع إسمع، ثم استأذنه في مرثية ابنه معاوية فأذن له فأنشد قوله:

سأبكيك للدنيا وللدين إنَّني ... رأيت يد المعروف بعدك شُلَّتِ

أدامتْ عليك بالسلام تحيةً ... ملائكةُ الله الكرامُ وصلَّتِ

فبكى هشام بكاء شديدا، فوثب الحاجب فسكته، ثم جاء الكميت إلى منزله آمناً فحشدت له المضربة بالهدايا، وأمر له مسلمة بعشرين ألف درهم، وأمر له هشام بأربعين ألف درهم، وكتب إلى خالد بأمانه وأمان أهل بيته، وأنه لا سلطان له عليهم. وجمعت له بنو أمية فيما بينها مالا كثيراً، وودع هشاماً وأنشده قوله فيه:

ذكر القلبُ إلْفَهُ المذكورَا

وهذه هي الرواية الأولى فيما كان بين الكميت وخالد بن عبد الله وهشام بن عبد الملك بسبب تلك القصائد السابقة
- 4 -

وأما الرواية الثانية في سبب المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله فقد نقلها أبو الفرج الأصبهاني من كتاب محمد بن يحي الخراز، قال حدثني احمد بن إبراهيم الحاسب، قال حدثني عبد الرحمن بن داود بن أبي أمية البلخي، قال كان حكيم بن عباس الأعور الكلبي ولعاً بهجاء مضر، فكانت شعراء مضر تجيبه ويجيبهم وكان الكميت يقول هو والله اشعر منكم. قالوا فاجب الرجل قال أن خالد بن عبد الله القسري محسن إلي فلا اقدر أن أرد عليه. قالوا فاسمع بإذنك ما يقول في بنات عمك وبنات خالك من الهجاء؛ وانشدوه ذلك، فحمى الكميت لعشيرته فقال المذهبة:

(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مَدِينا)

فاحسن فيها، وبلغ خالداً خبرها، فقال لا أبالي ما لم يجر لعشيرتي ذكر فانشدوه قوله:

ومن عجبٍ علي لَعَمْرُ أمٍّ ... غَذتْكَ وغير هتيَّا يمينا

تجاوزتَ المياهَ بلا دليلٍ ... ولا علم تَعَسُّفَ مخطئينا

فانك والتحوُّلَ من مَعَدٍّ ... كهيلةَ قبلنا والحالبينا

تخطتْ خيرهم حَلْباً ونَسْئاً ... إلى الوالي المغادر هاربينا

كعنزِ السُّوءِ تنطح عالفيها ... وترميها عِصىُّ الذابحينا

فبلغ ذلك خالداً فقال: فعلها والله لأقتلنه. ثم اشتري ثلاثين جارية بأغلى ثمن، وتخيرهن نهاية في حسن الوجوه والكمال والأدب، فرواهن الهاشميات، ودسهن من نخاس إلى هشام بن عبد الملك فاشتراهن جيمعاً. فلما انس بهن استنطقهن فرأى فصاحة وأدباً، فاستقرأهن القران فقرأن، واستنشدهن الشعر فأنشدنه قصائد الكميت الهاشميات، فقال: ويلكن من قائل هذا الشعر؟ قلن: الكميت زيد الأسدي، قال: وفي أي بدل هو؟ قلن: في العراق ثم بالكوفة، فكتب إلى خالد: أبعث إلي برأس الكميت بن زيد. فبعث خالد إلى الكميت في الليل فأخذه وأودعه السجن. ولما كان من الغد أقرأ من حضره من مضر كتاب هشام واعتذر إليهم من قُتله، وآذنهم في إنفاذ الأمر فيه في غد. فقال لأبان بن الوليد البجلي وكان صديقا للكميت: أنظر ما ورد في صديقك، فقال عز عليّ والله ما به. ثم قام أبان فبعث إلى الكميت فأنذره فوجه إلى امرأته، ثم ذكر الخبر في خروجه ومقامها مكانه كما ذكر من تقدمه، وقال فيه: فأتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به، فقال: إني أخشى ألا ينفعك جوراي عنده، ولكن استجر بابنه مسلمة بن هشام، فقال: كن أنت السفير بيني وبينه في ذلك، ففعل مسلمة وقال لابن أخيه: قد أتيتك بشرف الدهر، واعتقاد الصنيعة في مضر، وأخبره الخبر

فأجاره مسلمة بن هشام، وبلغ ذلك هشاماً فدعا به ثم قال: أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟ فقال: كلا ولكني انتظرت سكون غضبه. قال: أحضرنيه الساعة، فانه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت: إن أمير المؤمنين أمرني بإحضارك. قال: أتسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلا ولكني احتال لك. ثم قال له: إن معاوية بن هشام مات قريباً، وقد جزع عليه جزعاً شديداً، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا ابعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق فإذا دعا بك تقدمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، ويقولوا هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق من أجاره

فاصبح هشام على عادته متطلعاً من قصره إلى القبر. فقال: من هذا؟ فقالوا: لعله مستجير بالقبر. فقال: يجار من كان إلا الكميت، فإنه لا جوار له، فقيل: فإنه الكميت قال: يحضر أعنف إحضار، فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون: يا أمير المؤمنين، استجار بقبر أبينا وقد مات، ومات حظه من الدنيا فاجعله هبة له ولنا، ولا تفضحنا فيمن استجار به. فبكى هشام حتى انتحب، ثم اقبل على الكميت فقال له: يا كميت أنت القائل:

وإنْ لا تقولوا غيرها تتعرَّفوا ... نواصيها تردى بنا وهي شُزبُ

فقال: لا والله ولا أتان من أتن الحجاز وحشية، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال: أما بعد - فإني كنت أتدهدى في غمرة، وأعوم في بحر غواية، أخنى على خطلها، واستفزني وهلها، فتحيرت في الضلالة، وتسكعت في الجهالة، مهرعاً عن الحق، جائراً عن القصد، أقول الباطل ضلالاً، وأفوه بالبهتان وبالاً، هذا مقام العائذ مبصر الهدى، ورافض العماية، فأغسل عني يا أمير المؤمنين الحوبة بالتوبة، واصفح عن الزلة، واعف عن الجرمة، ثم قال:

كم قال قائلكم لعاً ... لك عند عثرته لعاثِرْ

وغفرتُمُ لذوي الذنو ... ب من الأكابر والأصاغر

أبني أُميَّةَ إنكم ... أهلُ الوسائل والأوامر

ثِقتي لكل مُلِمَّةٍ ... وعشيرتي دون العشائر

أنتم معادنُ للخلا ... فة كابراً من بعد كابر

بالتسعة المتَتَابعي ... نَ خلائفاً وبخير عاشر

والى القيامة لا تَزَا ... لُ لشافعٍ منكم وواتر

ثم قطع الإنشاد عاد إلى خطبته فقال: إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته مناط المنتجعين بحبله، من لا تحل حبوته لإساءة المذنبين، فضلاً عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين.

فقال له: ويلك يا كميت، من زين لك الغواية، ودلاك في العماية؟

قال: الذي أخرج أبانا من الجنة، وأنساه العهد فلم يجد له عزما

فقال: إيه أنت القائل:

فيا موقداً ناراً لغيرك ضوءُها ... ويا حاطباً في غير حبلك تحطبُ

فقال: بل أنا القائل:

إلى آل بيت أبي مالكٍ ... مُناخٌ هو الأرحب الأسهلُ

نَمُتُّ بأرحامنا الدَّاخلا ... ت من حيث لا يُنكرُ المدخل

بِمُرَّةَ والنَّضْر والمالك ... ين رهطٌ هم الأنبل الأنيل

وبارَي خزيمةَ بدرَ السما ... ءِ والشمسَ مفتاحُ ما نأمل

وجدنا قريشاً قريش البطا ... حِ على ما بنى الأوَّلُ الأوَّل

بهم صلح الناسُ بعد الفسا ... دِ وحيص من الفتق ما رَعبُلوا

قال له: وأنت القائل:

لا كعبد المليك أو كوليدٍ ... أو سليمانَ بعدُ أو كهشامِ منْ يمتْ فقيداً ومن يح ... يى فلا ذُو إلِّ ولا ذو ذمام

ويلك يا كميت، جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، فقال: بل أنا القائل يا أمير المؤمنين:

فالآن صرتُ إلى أُميَّ ... ةَ والأمور إلى المصايرْ

والآن صرت بها المصي ... ب كمهتدٍ بالأمس حائر

يا ابن العقائل للعقا ... ئل والجحاجحة الأخاير

من عبد شمس والأكا ... بر من أُميةَ فالأكابر

إن الخلافة والإلا ... ف برغم ذي حسد وواغر

دَلفا من الشرف التلي ... د إليك بالرِّفدِ الموافر

فحللتَ مُعتلجَ البطا ... ح وحلَّ غيرك بالظواهر

قال له: فأنت القائل:

فقل لبني أُمية حيث حلوا ... وإن خفَت المهندَ والقطيعا

أجاع الله من أشبعتموهُ ... وأشبع من بجوركم أُجيعا

بِمرْضِىِّ السياسة هاشميٍّ ... يكون حياً لأمته ربيعا

فقال: لا تثريب يا أمير المؤمنين إن أردت أن تمحو عني قولي الكاذب، قال بماذا؟ قال بقولي الصادق:

أورثتهُ الحَصانُ أمَّ هشام ... حسباً ثاقباً ووجهاً نضيرا

وتعاطى به ابن عائشة البد ... ر فأمسى له رقيباً نظيرا

وكساه أبو الخلائف مروا ... نُ سَنيَّ المكارم المأثورا

لم تجهم له البطاح ولكن ... وجدتها له معاناً ودورا

وكان هشام متكئاً فاستوى جالساً وقال: هكذا فليكن الشعر يقولها لسالم بن عبد الله بن عمر وكان إلى جانبه، ثم قال: قد رضيت عنك يا كميت. فقبل يده وقال: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تزيد في تشريفي، ولا تجعل لخالد عليّ إمارة، قال: قد فعلت وكتب له بذلك وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوباً هشامية وكتب إلى خالد أن يخلي سبيل امرأته، ويعطيها عشرين ألفاً وثلاثين ثوباً، ففعل ذلك وأما الرواية الثالثة فقد قال فيها أبو الفرج الأصبهاني: اخبرني احمد بن عبد الله بن عمار، قال حدثنا النوفلي علي بن محمد بن سليمان أبو الحسن، قال حدثني أبي قال: كان هشام بن عبد الملك قد اتهم خالد بن عبد الله، وكان يقال له إنه يريد خلعك فوجد بباب هشام يوماً رقعة فيها شعر، فدخل بها على هشام فقرأت عليه، وهي:

تألَّق برقٌ عندنا وتقابلت ... أثافٍ لِقِدْر الحرب أخشى اقتبالَهَا

فدونكَ قِدْرَ الحربِ وَهْيَ مُقرَّةٌ ... لكفَّيك واجعل دون قِدْرٍ جِعَالَهَا

ولن تنتهي أو يبلغَ الأمرُ حدَّهُ ... فَنَلْهَا برْسل قبل ألاّ تنالها

فَتَجْشمَ منها ما جَشمَتْ من التي ... بُسَورَاَء هَرَّتْ نحو حالكَ حالها

تَلاَفَ أمورَ الناس قبل تفاقُم ... بعُقْدَةِ حزمٍ لا تخاف انحلالها

فما ابرم الأقوامُ يوماً لحيلة ... من الأمر إلا قلَّدُوكَ احتيالها

وقد تخْبرُ الحربُ العوانُ بسرِّها ... وإن لم تَبُحْ من لا يريد سؤالها

فأمر هشام أن يجمع له من بحضرته من الرواة فجمعوا، فأمر بالأبيات فقرأت عليهم فقال شعر من تشبه هذه الأبيات؟ فأجمعوا جميعاً من ساعتهم أنه كلام الكميت بن زيد الأسدي، فقال هشام: نعم هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله، ثم كتب إلى خالد بخبره وكتب إليه بالأبيات، وخالد يومئذ بواسط فكتب خالد إلى واليه بالكوفة يأمره بأخذ الكميت وحبسه، وقال لأصحابه: أنه بلغني أن هذا يمدح بني هاشم ويهجو بني أمية فأتوني من شعره هذا بشيء فأتوه بقصيدته اللامية التي أولها:

ألا هل عَمٍ في رأيه متأمل ... وهل مدبر بعد الإساءة مقبل

فكتبها وأدرجها في كتاب إلى هشام يقول فيه: هذا شعر الكميت، فإن كان قد صدق في هذا، فقد صدق في ذاك

فلما قرئت على هشام اغتاظ، فلما قال:

فيا ساسة هاتوا لنا من جوابكم ... ففيكم لعمري ذو أَفانين مقول

اشتد غيظه، فكتب إلى خالد يأمره أن يقطع يدي الكميت ورجليه ويضرب عنقه، ويهدم داره ويصلبه على ترابها. فلما قرأ خالد الكتاب كره أن يستفسد عشيرته، وأعلن الأمر رجاء أن يتخلص الكميت، فقال: لقد كتب إلي أمير المؤمنين، وإني لأكره أن أستفسد عشيرته وسماه فعرف عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ما أراد، فأخرج غلاماً له مولداً ظريفاً، فأعطاه بغلة له شقراء فارهة من بغال الخليفة، وقال: إن أنت وردت الكوفة فأنذرت الكميت لعله أن يتخلص من الحبس فأنت حر لوجه الله والبغلة لك، ولك على بعد ذلك إكرامك والإحسان إليك فركب البغلة وسار بقية يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبحها، فدخل الحبس متنكراً، فخبر الكميت بالقصة، فأرسل إلى امرأته وهي ابنة عمه يأمرها أن تجيئه ومعها ثياب من لباسها وخفان ففعلت، فقال: ألبسيني لبسة النساء ففعلت، فخرج فمر بالسجان فظن انه المرأة فلم يعرض له، فنجا وانشأ يقول:

خرجتُ خروجَ القِدْحِ قدْحِ ابنُ مُقبِلٍ ... على الرًّغم من تلك النوابح والْمُشْلِ

علىَّ ثيابُ الغانياتِ وتحتها ... عزيمةُ أمرٍ أشبهتْ سَلَّةَ النّصْل

وورد كتاب خالد على والي الكوفة يأمره فيه بما كتب به إليه هشام، فأرسل إلى الكميت ليؤتى به من الحبس فينفذ فيه أمر خالد، فدنا من باب البيت فكلمتهم المرأة وخبرتهم أنها في البيت وأن الكميت قد خرج، فكتب بذلك إلى خالد فأجابه: حرة كريمة فدت ابن عمها بنفسها، وأمر بتخليتها، فبلغ الخبر الأعور الكلبي بالشام، فقال قصيدته التي يرمي فيها امرأة الكميت بأهل الحبس ويقول:

(إسْودِينَا وحْمِرِينَا)

فهاج الكميت ذلك حتى قال:

(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مدينَا)

وهي ثلاثمائة بيت لم يترك فيها حياً من أحياء اليمن إلا هجاهم وتوارى وطلب فمضى إلى الشام فقال شعره الذي يقول فيه:

(قِفْ بالديار وقوفَ زائِرْ)

ويقول:

يا مَسْلَمُ ابن أبي الولي ... د لَميِّتٍ إن شئتَ ناشر

اليوم صرتُ إلى أُمَيَّة والأمور إلى المصاير

فأذن له ليلاً، فسأله أن يجيره على هشام، فقال: إني قد أجرت على أمير المؤمنين فأخفر جواري، وقبيح برجل مثلي أن يخفر في كل يوم، ولكني أدلك فاستجر بمسلمة بن هشام وبأمه أم الحكم بنت يحيى بن الحكم، فإن أمير المؤمنين قد رشحه لولاية العهد، فقال الكميت بئس الرأي، أضيع دمي بين صبي وامرأة، فهل غير هذا؟ قال: نعم، مات معاوية بن أمير المؤمنين وكان يحبه، وقد جعل أمير المؤمنين على نفسه أن يزور قبره في كل أسبوع يوماً - وسمى يوماً بعينه - وهو يزوره في ذلك اليوم، فامض فاضرب بناءك عند قبره واستجر به، فإني سأحضر معه وأكلمه بأكثر من الجوار

فعمل ذلك الكميت في اليوم الذي يأتيه فيه أبوه، فجاء هشام ومعه مسلمة فنظر إلى البناء فقال لبعض أعوانه: انظر ما هذا؟ فرجع فقال: الكميت بن زيد مستجير بقبر معاوية بن أمير المؤمنين فأمر بقتله، فكلمه مسلمة وقال: يا أمير المؤمنين إن إخفار الأموات عار على الأحياء فلم يزل يعظم عليه الأمر حتى أجاره
- 5 -

وقد روى لنا أبو الفرج الأصبهاني هذه الروايات الثلاث في سبب المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، وكان عليه أن يبين لها وجه الصواب فيما تتعارض فيه من وجوه كثيرة، ولكن أبا الفرج رحمه الله لم يكن يعنى في الأكثر بنقد رواياته، وإنما كان يهمه جمعها وسردها، وعلى القارئ بعد هذا أن يحكم رأيه فيها

فالرواية الأولى تذكر أن سبب المنافرة بينهما قصيدته التي هجا فيها اليمن:

(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مَدِينا)

وقد اتفقت الرواية الثانية في هذا معها على خلاف قليل بينهما؛ أما الرواية الثالثة فتذكر أن سبب المنافرة بينهما شعر الكميت الذي حرض فيه هشاماً على خالد، واتهمه فيه بأنه يريد خلعه. وتفيد هذه الرواية أن قصيدة كميت التي هجا فيها اليمن كانت بعد سجنه لا قبله، وأنه قالها رداُ على الأعور الكلبي في قصيدته التي رمى فيها امرأة الكميت بأهل الحبس، ويقول فيها:

(أسْوِدِينَا واحمْرينَا)

والرواية الأولى تذكر أن خالداً روى الهاشميات جارية واحدة والرواية الثانية تذكر أنه رواها ثلاثين جارية

والرواية الأولى تذكر أن أبان بن الوليد البجلي عامل واسط هو الذي سعى في تهريب الكميت من السجن. وقد اتفقت الرواية الثانية في هذا معها على خلاف قليل بينهما، أما الرواية الثالثة فتذكر أن الذي سعى في تهريبه عبد الرحمن بن عنبسة ابن سعيد

والرواية الأولى تفيد أن خالد بن عبد الله كان بالكوفة حينما أمر بسجن الكميت. وهكذا تفيد الرواية الثانية، وإن كانت تفيد مع هذا أن خالداً قرأ على أبان بن الوليد كتاب هشام بقتل الكميت، مع أن أبان بن الوليد كان في ذلك الوقت بواسط. أما الرواية الثالثة فتذكر أ خالداً كان بواسط حينما أمر بسجن الكميت، وأنه كتب بسجنه إلى واليه بالكوفة

والرواية الأولى تذكر أن الكميت حينما أتى إلى الشام مشت رجالات قريش في أمره إلى عنبسة بن سعيد بن العاص، فمشى فيه إلى مسلمة بن هشام فأمنه وأجاز أبوه هشام أمانه؛ أما الرواية الثانية فتذكر أنه حينما أتى الشام قصد مسلمة بن عبد الملك، وتذكر أن مسلمة لا عنبسة هو الذي مشى فيه إلى مسلمة بن هشام، وأن مسلمة بن هشام أجاره فلم يجز أبوه جواره، فاحتال له بقبر أخيه معاوية وأولاده، وقد اتفقت الرواية الثالثة معها في هذا على خلاف قليل بينهما

والرواية الأولى تذكر أن الكميت حينما عرض عليه الالتجاء إلى مسلمة بن هشام رضي به، وقد اتفقت الرواية الثانية في ذلك معها على خلاف قليل بينهما، أما الرواية الثالثة فتذكر أنه لم يرض بالالتجاء إليه، وأنه قال لمسلمة بن عبد الملك حينما عرض ذلك عليه: بئس الرأي! أضيع دمي بين صبي وامرأة، فهل غير هذا؟

وهذه هي أهم وجوه الخلاف بين هذه الروايات المضطربة، وقد يكفي هذا عند بعض الناس لدفعها كلها، وعدم الوثوق بشيء منها، ولكن ما قيمة البحث في هذا العصر إذا كانت تقنعه هذه الغاية السهلة، ويكفيه في مثل هذا أن يقول إني أشك في هذه الرواية، أو نحو هذا مما لا يكلف الباحث عناء ولا تعباً؟ وإنما قيمة البحث الحديث في تمحيصه أمثال هذه الروايات، والاجتهاد في ترجيح بعضها على بعض، والوصول إلى الحقيقة بالتعمق في البحث

ونحن نرجع أن الهاشميات نفسها هي التي كانت سبباً في المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، لأنه لا يعقل أن يسكت خالد عن تبليغ أمرها إلى هشام بن عبد الملك، وهي من الخطورة بهذا الشأن الذي أقام هشاماً وأقعده حينما بلغته. وقد كانت هذه العهود مملوءة بالوشايات والدسائس، وكان ولاة بني مروان معرضين بهذا للنكبات الشديدة التي كانت تصيبهم منهم، ولا يخفى أمرها على من يعرف تاريخهم. ولا شك أن هذا كان يوجب على هؤلاء الولاة أن يحتاطوا لأنفسهم في مثل هذه الأمور، وألا يسكتوا عن تبليغ مثل الهاشميات إلى ملوكهم إلى أن تبلغ من غيرهم، ويتخذ بها أعداؤهم حجة عليهم عند ملوكهم

وقد يكون حديث الجاريات الحسان اللاتي رواهن خالد الهاشميات صحيحاً، ويكون هذا منه تلطفاً في الحيلة إلى تبليغها إلى هشام بن عبد الملك، أو تخلصاً من تبعة تبليغها عند قوم الكميت وأشياعه، لأن حال الولاة في مثل هذه العهود المضطربة يكون مضطرباً بين إرضاء ملوكهم وإرضاء الرعية الناقمة عليهم. والظاهر كما يؤخذ من بعض هذه الروايات أن خالداً هو الذي سهل للكميت سبيل الهرب من سجنه، وأنه كان يسلك بذلك كله موقفاً يخرجه من هذه المشكلة. وقد أرضى هشام بن عبد الملك وجعل لنفسه بعض العذر عند أنصار الكميت، إذ كان يؤثر في سياسته ملاينة الشيعة

أما المعارضة بين الكميت والأعور الكلبي فالظاهر أنها كانت بعد سجن الكميت ورضا هشام عنه، كما يؤخذ من الرواية الثالثة لأنه كان يمدح في قصيدته التي يعارضه فيها بني مروان ويفخر بهم عليه، وقد كان قبل سجنه يطعن فيهم أشد طعن، ويهجونهم في هاشمياته شد هجاء، فلا يعقل أن يجمع في هذا العهد بين هجائهم ومدحهم والافتخار بهم، وهو لم يلجأ إلى مدحهم إلا مضطراً بعد ما لقي من السجن والحكم عليه بالقتل

ومما يؤيد هذا ما رواه أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني عمي وابن عمار، قالا حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل: أن سبب هجاء الكميت أهل اليمن أن شاعراً من أهل الشام يقال له حكيم بن عياش الكلبي كان يهجو علي بن أبي طالب عليه السلام وبني هاشم جميعاً، وكان منقطعاً إلى بني أمية، فانتدب له الكميت فهجاه وسبه فأجابه ولج الهجاء بينهما، وكان الكميت يخاف أن يفتضح في شعره عن علي عليه السلام لما وقع بينه وبين هشام، وكان يظهر أن هجاءه إياه في العصبية التي بين عدنان وقحطان، فكان ولد إسماعيل بن الصباح بن الأشعث بن قيس وولد علقمة بن وائل الحضرمي يروون شعر الكلبي، فهجا أهل اليمن جميعاً إلا هذين، فإنه قال في آل علقمة:

ولولا آلُ علقمةَ اجتدعْنَا ... بقايا من أنوفِ مُصَلَّعينَا

وقال في إسماعيل:

فإن لإسماعيل حقاً وإنَّنا ... له شاعبو الصدعِ المقاربِ للشَّعْب

وكان لآل علقمة عنده يد، لأن علقمة آواه ليلة خرج إلى الشام، وأم إسماعيل من بني أسد، فكف عنهما لذلك فهذه الرواية صريحة في أن هذه المناقضة كانت بعد الذي وقع بين الكميت وهشام من عفوه عنه، فلا يصح أن تكون هي السبب في المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، وما جرته هذه المنافرة من السجن ثم العفو، بل الظاهر أن بني مروان بعد أن وصلوا إلى إسكات الكميت، عن المضي في هاشمياته أخذوا يعملون على إبطال أثرها في النفوس، فسلطوا الأعور الكلبي على مناقضتها، وهجاء علي عليه السلام وبني هاشم جميعاً

وأما ما ذكر في الرواية الثالثة من أن سبب المنافرة بين الكميت وخالد شعر الكميت في تحريض هشام على خالد، واتهامه إياه بأنه يريد خلعه - فهو أقرب إلى الصحة مما ذكر في الرواية الأولى والثانية، ولعل الكميت فعل هذا سعياً في إفساد الأمر بين بني مروان وولاتهم، لا حباً في هشام وإرادة النصح له. وما نريد بعد هذا أن نمضي في تمحيص ما تعارضت فيه تلك الروايات، لأن ثمرة هذا التمحيص لا توازي عناءنا فيه، ولا تذكر بجانب الملل الذي يصير بنا إليه

وقد أخذ الكميت بعد عفو هشام عنه يمدحه ويمدح ولاته ووجوه دولته، ويقبل في ذلك صلاتهم وجوائزهم، ولكن مدحه لهم في نظير ذلك كان مدحاً تجارياً كسائر ما مدحوا به من شعراء عصره، ولم يكن لغاية نبيلة كتلك الغاية التي مدح بها بني هاشم في هاشمياته

والحقيقة أنه لم يكن مخلصاً في مدح بني مروان مع ما كان يناله من دنياهم، وإنما كان يأخذ في ذلك بالتقية التي يأخذ بها الشيعة في مذهبهم جميعاً، ولم يكن ذهابه إلى هشام بالشام إلا برضا أهل البيت وشيعتهم ليحقنوا بذلك دمه، ويخلصوه مما كان يراد به

وإذا كان الكميت قد أجاد في مدح بني مروان فإنما كان ذلك منه لأنه كان شاعراً فحلاً لا يرضى أن يكون شعره في ذلك دون غيره، فكان بذلك يقضي حق شعره عليه، ولا يقضي حق بني مروان في عطائهم وبذلهم له، لأنه لم يكن من أولئك الشعراء الذين يمدحون للعطاء، كما سبق ذلك في رفضه عطاء بني هاشم على مدحه لهم. وقد قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني محمد بن خلف بن وكيع، قال حدثني أبو بكر الأموي، قال حدثني إسماعيل بن حفص، قال حدثنا ابن فضيل، قال سمعت ابن شبرمة قال: قلت للكميت إنك قلت في بني هاشم فأحسنت، وقلت في بني أمية أفضل، قال: إني إذا قلت أحببت أن أحسن فلم يكن الكميت إذن يمدح بني مروان عن عقيدة كما كان يمدح بني هاشم، ولم يكن إحسانه في مدحهم إلا لأنه إذا قال أحب أن يحسن قوله لئلا يؤخذ عليه من الناحية الشعرية؛ ولكنا نخالف ابن شبرمة فيما ذكره من أن ما قاله في مدح بني مروان أفضل مما قاله في مدح بني هاشم، لأن أشعاره في مدح المروانيين لا تمتاز عن سائر المدائح الجوفاء في الشعر العربي، ولا يصح أن تذكر بجانب الهاشميات التي سلك فيها الكميت ذلك المسلك الجديد في المدح، وقام بما يجب عليه لأمته من مقاومة ذلك الحكم الظالم

وهناك بعد هذا أخبار متوافرة تدل على ما ذكرناه من رضا بني هاشم بما سلكه الكميت مع بني مروان، وعلى أن هذا لم يقطع صلته بهم في السر والعلن، وقد كانوا مع رضاهم بمسلكه معهم يحاسبونه إذا أسرف في مدحهم، فلا يتركهم حتى يرضيهم بصرف هذا المدح عن ظاهره، فكان يؤوله على نحو ما يفعل بعض الباطنية من الشيعة في تأويلاتهم

قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني جعفر بن محمد بن مروان الغزالي الكوفي، قال حدثني أبي، قال حدثنا أرطاة بن حبيب عن فضيل الرسان عن ورد بن زيد أخي الكميت، قال: أرسلني الكميت إلى أبي جعفر فقلت له: إن الكميت قد أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع، فتأذن له في مدح بني أمية؟ قال: نعم، هو في حل، فليقل ما يشاء

وقال أيضاً: أخبرني محمد بن خلف بن وكيع، قال حدثني إسحاق بن محمد بن أبان، قال حدثني محمد بن عبد الله بن مهران، قال حدثني ربعي بن عبد الله بن الجارود بن أبي سيرة عن أبيه قال: دخل الكميت بن زيد الأسدي على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام فقال له: يا كميت أنت القائل:

والآن صرتُ إلى أمَيَّ ... ةَ والأمور إلى المصايرْ

قال: نعم قد قلت، ولا والله ما أردت به إلا الدنيا، ولقد عرفت فضلكم، قال: أما إن قلت ذلك إن التقية لتحل

وقال أيضاً: قال محمد بن أنس حدثني المستهل بن الكميت، قال: قلت لأبي: يا أبت إنك هجوت الكلبي فقلت:

ألا يا سلم مِنْ تِرْبِ ... أفي أسماَء من تِرْبِ

وغمزت عليه فيها ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليها بالكفر، فألا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم، فقال: يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية وهم أعداء علي عليه السلام، فلو ذكرت علياً لترك ذكري وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت علياً له، ولا أجد له ناصراً من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية وقلت: إن نقضها علي قتلوه، وإن أمسك عن ذكرهم قتلته غماً وغلبة، فكان كما قال، أمسك الكلبي عن جوابه، فغلب عليه وأفحم الكلبي

وإذا كان ذلك كله قد تم برضا بني هاشم وتدبيرهم لشاعرهم فلا يمكن أن يؤخذ عليه شيء فيه، أو يقدح به في عقيدته وإخلاصه، بل إن في ضن بني هاشم عليه بالقتل، وإيثارهم له مواراة بني مروان على بذل دمه في سبيلهم - لدلالة كبيرة على عظم تقديرهم له، وأنهم كانوا يثقون به إلى آخر حدود الثقة
- 6 -

وقد كان هناك من لا يعذر الكميت في مدحه بني مروان بعد بني هاشم، ويصفه في ذلك بالتردد والرياء والنفاق، وكأنه لا يرى في هذه التقية التي يأخذ بها جمهور الشيعة ما يبرر العذر، ويمنع من توجيه اللوم

وإني لا أنكر أن التقية تدل على شيء من ضعف النفس، وأن التاريخ يذكر بالإعجاب والتقدير تلك المواقف الباهرة التي لم يأخذ أصحابها بالتقية، وآثروا تضحية النفس على الإذعان للخصم، ولكني أرى من الضعف ما قد يكون أجدى من القوة، ولهذا مدحت الحيلة كما مدحت الشجاعة، ومدحت المداراة كما مدحت الصراحة، وقد يكون في المداراة رجولة حرة كريمة جديرة بالعطف والرحمة، بعيدة من اللوم والمؤاخذة، وقد رثى المتنبي لمثل هذه المداراة في قوله:

ومن نكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى ... عدوّاً له ما من صداقته بُدُّ

فيا نكد الدنيا متى أنت مُقصرٌ ... عن الحر حتى لا يكون له ضدُّ

يروحُ ويغدو كارهاً لوصاله ... وتضطرُّهُ الأيام والزمن النكدُ

وكان أبو مسلم الخراساني ممن يأخذ الكميت بهذا الإذعان لبني مروان، وقد دخل عليه المستهل بن الكميت يوماً فقال له: أبوك الذي كفر بعد إسلامه! فقال: كيف وهو الذي يقول:

بِخاتَمِكم كرهاً تجوزُ أمورهمْ ... فلم أَرَ غَصباً مثله حين يُغصبُ

فأطرق أبو مسلم مستحيياً منه

وذكر أبو الفرج الأصبهاني أن المستهل بن الكميت دخل على عبد الصمد بن علي فقال له: من أنت؟ فأخبره، فقال له: لا حياك الله ولا حيا أباك، هو الذي يقول:

فالآن صِرْتُ إلى أُميّ ... ة والأمور إلى المصاير

قال: فأطرقت استحياء مما قال، وعرفت البيت، قال ثم قال لي: ارفع رأسك يا بني، فلئ كان قال هذا فلقد قال:

بِخاتَمِكم كرهاً تجوز أمورهُم ... فلم أر غضباً مثله حينُ يغضبُ

قال: فسلى عني بعض ما كان بي، وحادثني ساعة ثم قال: ما يعجبك من النساء يا مستهل؟ قلت

غَرَّاء تسحب من قيامٍ فَرْعَها ... جَثْلاً يزيِّنه سوادٌ أفحمُ

فكأنها فيه نهار مشرق ... وكأنه ليل عليها مظلم

قال: يا بني هذه لا تصاب إلا في الفردوس، وأمر له بجائزة

والظاهر أن هذه الحادثة كانت قبل حادثة المستهل مع أبي مسلم الخرساني، وأن المستهل عرف من هذه الحادثة كيف يتخلص من أبي مسلم بهذا البيت الذي ذكره له عبد الصمد بن علي

وقد عرف المستهل بعد هذا كيف يؤول هذا البيت:

اليوم صرت إلى أمي ... ة والأمور إلى المصاير

حين عيره به أبو العباس فقال: أبي إنما أراد - اليوم صرت إلى أمية والأمور إلى مصايرها أي بني هاشم

ولا يبعد أن يكون الكميت قد أراد هذا المعنى الذي ذكره ابنه المستهل، فقد كان شاعراً عالماً يعرف مرامي الكلام، ولا يقول الشعر إلا بعد التأني والتدبر، وكان يصير في ذلك إلى الغرض البعيد، ويرمي إلى الغاية الخفية، ومن هذا ما ذكره محمد ابن أنس، قال: حدثني المستهل بن الكميت قال قلت لأبي يا أبت إنك هجوت الكلبي فقلت:

ألا يا سَلْم من تِرْبِ ... أفي أسماَء من ترب

وغمزت عليه فيها، ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليها بالكفر، فألا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم؟ فقال: يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية وهم أعداء علي عليه السلام، فلو ذكرت علياً لترك ذكري وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت علياً له ولا أجد له ناصراً من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية وقلت إن نقضها عليّ قتلوه، وإن أمسك قتلته غماً وغلبته، فكان كما قال، أمسك الكلبي عن جوابه، فغلب عليه وأفحم الكلبي

نعم إنه يمكن أن يؤخذ على الكميت أنه لم يكن يتعصب في شعره لأهل البيت إلا لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نوع من العصبية التي ينكرها الإسلام، وهو لا يهتم في حكم المسلمين إلا بمحاربة الظلم وإقامة دعائم العدل، ولا يهمه بعد هذا نظام الحكم الذي يحقق هذه الغاية، ولا أشخاص القائمين بهذا الحكم، فالناس سواء فيه، وكلهم صالحون له، ولا فرق فيه بين هاشمي وغير هاشمي، ولا بين عربي وعجمي

ولكن هذا لا يصح أن يؤخذ على الكميت أيضاً، لأنه لم يكن يدعو في شعره إلى أهل البيت من أجل تلك العصبية المنكورة في الإسلام، وإنما كان يدعو إليهم لأنهم كانوا أمثل الناس لحكم المسلمين في عصره، وإصلاح الفساد الذي ظهر في المسلمين بسبب حكم بني مروان الذي كان يقوم على تلك العصبية

فكان المسلمون في حاجة إلى حكم إسلامي ينظر إلى كل شعوبهم على السواء، ولا يقوم على أساس العصبية التي كان يقوم الحكم عليها عند الفرس والروم وغيرهم، وكان بنو هاشم أجدر الناس بالقيام بهذا الحكم الصالح، لأنهم كانوا ألين طباعاً من بني مروان، وأقرب منهم إلى فهم الغاية التي قام الإسلام من أجلها، والى السير بالحكم بين الناس على أنه وسيلة لا غاية

وقد حكم بنو العباس من بني هاشم بعد بني مروان فكان حكمهم أشبه بحكم الخلفاء الراشدين من حكمهم، ولم يفرقوا فيه بين عربي وعجمي، بل رفع الأعاجم فيه رؤوسهم حتى ساووا العرب وأخلصوا للإسلام إخلاصهم، وقد بذلوا في خدمة العلوم على اختلاف أنواعها ما يفتخر به المسلمون في عصرنا على غيرهم، وإذا كان لهم في حكمهم أيضا سيئات فإنها كانت قليلة بجانب حسناتهم.

ونعود بعد هذا كله إلى أمر الكميت بعد عفو هشام عنه، ورجوعه فائزاً بذلك على خالد بن عبد الله القسري، فقد فسد بعد هذا ما بينهما، وكان للكميت معه أخبار بعد قدومه إلى الكوفة بالعهد الذي كتبه هشام له، ولم يجعل فيه لخالد إمارة عليه، فكان خالد يلاينه حيناً ويقسو عليه حيناً، وكل منهما يخادع صاحبه، وينتظر السوء به. فلما أدبر أمر خالد وتحدث الناس بعزله عن العراق أظهر الكميت شماتته به، وقد مر عليه خالد يوماً فلما جاز به تمثل بهذا البيت:

أراها وإن كانت تحَبُّ كأنها ... سحابةُ صيفٍ عن قليل تَقشَّعُ فسمعه خالد فرجع وقال: أم والله لا تنقشع حتى يغشاك منها شؤبوب برد، ثم أمر به فجرد فضربه مائة سوط، ثم خلى عنه ومضى

وقد كان للكميت مدائح في خالد لعلها كانت قبل أن يفسد بذلك ما بينهما، أو لعلها كانت في بعض ما يزول فيه شيء من تلك الجفوة، وقد يكون هذا من تلك التقية التي أخذ بها نفسه بعد أن عفا هشام عنه، على أن خالداً كان للشيعة خيراً ممن ولي العراق بعده، وقد روى محمد بن كناسة أن الكميت دخل على خالد القسري فأنشده قوله فيه:

لو قيل للجود من حليفُكَ ما ... إنْ إلاَّ إليك يَنتسِبُ

أنت أخوه وأنت صورتهُ ... والرأسُ منه وغيرُك الذَّنب

أحرزتَ فضل النضال في مَهلٍ ... فكلَّ يوم بكفِّك القصب

لو أن كعباً وحاتماً نُشرا ... كانا جميعاً من بعض ما تَهَب

لا تُخلفُ الوعد إن وعدت ولا ... أنت عن المعتفين تحتجب

ما دونك اليوم من نوالٍ ولا ... خلفك للراغبين منقلبُ

فأمر له بمائة ألف درهم

وكان خالد قد ولي العراق سنة خمس ومائة، وقد طالت ولايته على العراق وتمتع الناس ببعض من الأمن في ولايته، ولم يكن شديداً على الشيعة كغيره، وكان إلى هذا جواداً كثيراً العطاء، خطيباً مقدوراً من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، ولكنه كان يتهم في دينه، وكانت أمه نصرانية فبنى لها كنيسة تتعبد فيها، وقد عزل عن العراق سنة عشرين ومائة. ويقال إن سبب عزله أن امرأة أتته فقالت: أصلح الله الأمير، إني امرأة مسلمة؛ وإن عاملك فلانا المجوسي وثب علي فأكرهني على الفجور وغصبني نفسي، فقال لها: كيف وجدت قلفته؟ فكتب بذلك حسان النبطي إلى هشام فعزله وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي، وهو ابن عم الحجاج بن يوسف، وأمره بمحاسبته ومحاسبة عماله، فأخذ يوسف خالداً وعماله وحاسبه وعذبه، ثم قتله في أيام الوليد بن يزيد سنة ست وعشرين ومائة

وقد تكون هذه التهم من اختلاق أعداء خالد عليه، وقد يكون السبب الحقيقي أن هشاما أراد أن يأخذ العراق بالشدة بعد أن فشا فيه التشيع على عهد خالد بن عبد الله، وجاهر به الكميت وغيره من شيعة أهل البيت، فاختار لهم ذلك الثقفي ليأخذهم بما أخذهم به قبله الحجاج ابن عمه، فسار فيهم سيرته. وكان من ضحاياه زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه

فاضطرب الكميت بعد هذا في أمره، وقد سبق أن زيداً دعاه إلى الخروج معه فلم يجب دعوته، ولكنه ندم على هذا بعد قتله، وقال يلوم نفسه:

دعاني ابنُ الرسول فلم أُجبْه ... أَلهْفي لَهْف للقلب الفَرُوق

حِذَارَ منِيَّةٍ لابُدَّ منها ... وهل دُون المنية من طريق

وقال يهجو يوسف بن عمر:

يعِزُّ على احمدٍ بالذِي ... أصاب ابنه أمس من يسُوف

خبيث من العصبة الأخبثين ... وإن قلتُ زَانِينَ لم أقْذف

وقد كان مع هذا يظهر التقرب إلى يوسف بن عمر، ولا يبخل عليه بشيء من المدح. روي أنه دخل عليه بعد قتله زيداً فأنشده قوله فيه:

خرجتَ لهم تمشي البراحَ ولم تكن ... كمن حِصْنُهُ فيه الرِّتاجُ المضبَّبُ

وما خالدٌ يستطعم الماء فاغراً ... بعدلِكَ والداعي إلى الموت يَنعب

يعرض بخالد وقد خرج عليه الجعفرية وهو يخطب على المنبر ينادون: لبيك جعفر، لبيك جعفر، وهو لا يعلم بهم، فدهش فلم يعلم ما يقول فزعاً، فقال: أطعموني ماء، ثم خرج الناس إليهم فأخذوهم

وكان الجند القائمون على رأس يوسف يمانية فتعصبوا لخالد، ووضعوا ذباب سيوفهم في بطن الكميت فوجئوه بها وقالوا: أتنشد الأمير ولم تستأمره! فلم يزل ينزفه الدم حتى مات، ولا يبعد عندي أن يكون هذا بتدبير يوسف ليتخلص منه، فليس من المعقول أن يجرؤ هؤلاء القوم على هذا مع ما سبق من عداوة يوسف لخالد

وقد مات الكميت سنة ست وعشرين ومائة، وكان وهو يجود بنفسه يقول: اللهم آل محمد، اللهم آل محمد. وقد أوصى ابنه المستهل أن يدفنه بموضع يقال له (مكران) غير ما يدفن الناس فيه بظهر الكوفة، فكان أول من دفن فيه من بني أسد

عبد المتعال الصعيدي حاشية: ذكرنا أن الأعور الكلبي رمى امرأة الكميت بقصيدة

يقول فيها (أسودينا وأحمرينا) وهذه رواية الأغاني، وقد وجدنا

هذا البيت في شرح الأشموني على ألفية ابن مالك:

فما وجدت نساء بني تميم ... حلائل أسودين وأحمرينا

وسنعود إلى ذكره في مناقضات الكميت مع الأعور الكلبي
- 7 -

منزلة الشعرية

كان الكميت شاعرا عالماً جمع من الثقافة العلمية ما لم يجتمع لشاعر في عصره، حتى قال بعضهم: كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر: كان خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخط، وكان نسابة، وكان جدلياً، وهو أول من ناظر في التشيع مجاهراً بذلك، وكان رامياً لم يكن في بني أسد أرمى منه، وكان فارساً، وكان شجاعاً، وكان سخيا دينا

وقال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني عمي، قال حدثني محمد بن سعد الكراني، قال حدثنا أبو عمر العمري عن لقيط، قال: اجتمع الكميت بن زيد وحماد الرواية في مسجد الكوفة، فتذاكرا أشعار العرب وأيامها، فخالفه حماد في شيء ونازعه، فقال له الكميت: أتظن أنك اعلم مني بأيام العرب وأشعارها؟ قال: وما هو إلا الظن، هذا والله هو اليقين، فغضب الكميت ثم قال له: لكم شاعر بصير يقال له عمرو بن فلان تروي؟ ولكم شاعر أعور أم أعمى اسمه فلان بن عمرو تروي؟ فقال حماد قولاً لم يحفظه، فجعل الكميت يذكر رجلاً رجلاً من صنف صنف ويسأل حماداً هل يعرفه؟ فإذا قال لا، أنشده من شعره جزءاً جزءاً حتى ضجرنا، ثم قال له الكميت: فأني سائلك عن شيء من الشعر، فسأله عن قول الشاعر:

طرحوا أصحابهم في ورطة ... قَذْفَكَ المقلةَ شطر المعترك

فلم يعلم حماد تفسيره، فسأله عن قول الآخر:

تدريننا بالقول حتى كأنما ... يدرين ولداناً تصيد الرهادنا

فأفحم حماد، فقال له: قد أجلتك إلى الجمعة الأخرى، فجاء حماد ولم يأت بتفسيرهما، وسأل الكميت أن يفسرهما له، فقال: المقلة حصاة أو نواة من نوى المقل يحملها القوم معهم إذا سافروا، وتوضع في الإناء ويصب عليها الماء حتى يغمرها، فيكون ذلك علامة يقتسمو بها الماء، والشطر النصيب، والمعترك الموضع الذي يختصمون فيه الماء، فيلقونها هناك عند الشرب، وقوله (يدريننا) يعني النساء، أي ختلتنا فرميننا، والرهادن طير بمكة كالعصافير.

وذكر ياقوت أن ابن عبدة النساب قال: ما عرف النُّسَّابُ أنساب العرب على حقيقة حتى قال الكميت النزاريات، فأظهر بها علماً كثيراً، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحداً أعلم منه بالعرب وأيامها.

وأخرج ابن عساكر أنه كان يقال: ما جمع أحد من علم العرب ومناقبها ومعرفة أنسابها ما جمع الكميت، فمن صحح الكميت نسبه صح، ومن طعن فيه وهن.

وقال أبو عكرمة الضبي: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان، ولا للبيان لسان.

وقد عنى ابن الأعرابي بدرس شعر الكميت، ولم يكن يعنى إلا بالشعراء الفحول الذين يعرفون النساب، أو يمتون بعرق إلى الأساليب الجاهلية؛ ولم يعن ابن الأعرابي بدرس شعر الكميت فحسب، بل كان يذكر به من يغفلون عنه حين يعرضون عليه ما عرفوا من معاني الشعراء.

وأخرج أبو عكرمة الضبي عن أبيه قال: أدركت الناس بالكوفة يقولون: من لم يرو:

(طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ)

فليس بهاشمي، ومن لم يرو:

(ذكر القلبُ إلْفَهُ المهجورَا)

فليس بأموي، ومن لم يرو:

(هلاَّ عرفتَ منازلاً بالأبرقِ)

فليس بمهلبي، ومن لم يرو:

(طَرِبْتَ وهاجَكَ الشوقُ الحْثِيثُ)

فليس بثقفي.

فهذا كله إلى ما نقلناه عن معاذ الهراء يظهر لنا كيف كانت طائفة كبيرة من العلماء والأدباء تتعصب للكميت وشعره إلى هذا الحد من التعصب، وما نظن أن نظرهم في هذا كان يجاوز جانب اللفظ والمعنى في شعر الكميت، فلا ينظرون إلى شيء آخر بعدهما يسمو به الشعر أكثر مما يسمو بهما، ويمتاز به الكميت ابن زيد على شعراء عصره جميعاً.

وكان يوجد إلى جانب هذه الطائفة المتعصبة للكميت طائفة أخرى من الأدباء والشعراء تتعصب عليه وتقدح في شعره، ومن هؤلاء المتعصبين عليه بشار بن برد، وكان يقول: ما كان الكميت شاعراً، فقيل له كيف وهو يقول:

أنصفُ امرئٍ منْ نصف حيٍ يسبني ... لعمري لقد لاقيتُ خطباً من الخطبِ

هنيئاً لكلبٍ أن كلباً تسبني ... وأني لم أرددْ جواباً على كلبِ

لقد بلغتْ كلبٌ بسبيَ حظوةً ... كفتها قديماتِ الفضائح والوصبِ

فقال بشار: لا بَلَّ شانئك، أتري رجلاً لو. . . ثلاثين سنة لم يستملح منه شيء؟

وقد كان مذهب بشار من الشعر إيثار اللفظ السهل على العويص، وكان في هذا قدوة من أتى بعده من الشعراء المولودين، والكميت يخالفه في هذا المذهب مخالفة تامة. قال محمد بن أنس الأسدي، حدثني محمد بن سهل راوية الكميت، قال سمعت الكميت يقول: إذا قلت الشعر فجاءني أمر مستو سهل لم أعبأ به حتى يجئ شيء فيه عويص فأستعمله.

ومن هنا يجئ تحامل بشار على الكميت. وعندي أنه لا يصح أن يقدح في الشعر أن تكون ألفاظه سهلة أو عويصة، فلكل من ذلك مقامة في طباع الشعراء وتمكنهم من اللغة وغريبها، وكذلك ما يحيط بالشاعر من ظروف الزمان والمكان وغيرهما.

وممن كان يتعصب على الكميت أيضاً رؤية بن العجاج، وقد ذكر المبرد عن رؤية أنه قال: قدمت فارس على أبان بن الوليد البجلي منتجعاً له، فأناني رجلان لا اعرفهما فسألاني عن شيء ليس من لغتي فلم أعرفه، فتغامزا بي، فتقبعت عليهما فهمدا. ثم كانا بعد ذلك يختلفان فيسمعان مني الشيء فيكتبانه ويدخلانه في أشعارهما، فعلمت انهما ظريفان، وسألت عنهما فقيل لي: هما الكميت والطرماح

وكان ذو الرمة يرى في الكميت ما يراه فيه رؤية بن العجاج، وقد أتى الكوفة فلقيه الكميت فقال له: إني قد عارضتك بقصيدتك، قال أي القصائد؟ قال: قولك:

ما بالُ عينك منها الماءُ ينسكبُ ... كأنه من كلى مفريةٍ سَربُ

قال: فأي شيء قلت؟ قال قلت:

هل أنتَ عن طلب الأيفاعِ منقلبُ ... أم كيف يحسن من ذي الشَّبية اللَّعِب حتى أتى عليها، فقال له: ما أحسن ما قلت، إلا أنك إذ شبهت الشيء ليس تجئ به جيداً كما ينبغي، ولكنك تقع قريباً، فلا يقدر إنسان أن يقول أخطأت ولا أصبت، تقع بين ذلك ولم تصف كما وصفت أنا ولا كما شبهت. قال: وتدري لم ذاك؟ قال: لا، قال: لأنك تشبه شيئاً قد رأيته بعينك، وأنا أشبه ما وصف لي ولم أره بعيني، قال: صدقت هو ذاك

وليس هذا من رؤية وذي الرمة إلا تعصباً على الكميت من اجل أنه حضرياً، وأنهما كانا بدويين يذهبان في الشعر مذهب أهل البدو. وقد ذكرنا أن الكميت كان يجمع في شعره بين أدب الحاضرة والبادية، فكان من جهة اللفظ والأسلوب كسائر شعراء البادية في الإسلام والجاهلية، وكان من جهة الغرض الذي يرمي إليه في شعره حضرياً يذهب في ذلك مذهباً جديداً يليق بشاعر مثقف بمثل ثقافته، وهو في هذا يخالف شعراء عصره إذ كانوا يذهبون في أغراض الشعر مذهباً بدوياً جاهلياً لا أثر فيه للثقافة الإسلامية، ولا تتفق غايته مع الغاية التي كان يجب أن تكون غاية الشعر في هذا العصر.

والشعر عندنا كما يوزن بألفاظه ومعانيه يوزن بأغراضه ومقاصده، فلا يصح أن يكون الشعر الذي له غاية سامية في الحياة كالشعر الذي لا يراد منه إلا اللهو والعبث، وليس جد الحياة كهزلها، ولا حقها كباطلها، فليكن جد الشعر فوق هزله، وليكن حقه فوق باطله، وليكن الكميت في هاشمياته فوق شعراء عصره جميعاً.
  • Like
التفاعلات: جعفر الديري

تعليقات

أعلى