(1)
هل كان يذكر اسم ذلك الرجل، ثم طواه النسيان وما ران على ذاكرته من غبار السنين؟ قصارى ما يذكره أنهم كانوا ينادونه ويصفونه بسيد العناقريب. كان كفيفاً، وكان من أقاصي دارفور، دار مساليت أو دار برقو. كان يأتي إلى دارهم جزافاً، دون موعد مضروب، حاملاً حبالاً ومدىً، يسأل إن كان لديهم عنقريب في حاجة إلى إصلاح. ولا يتذكر مرة رجع فيها الرجل خائباً، فقد كان بالدار ضربة لازب، عنقريب في حاجة إلى نسيج أو كرّاب.
و العنقريب يرجع إلى أصول كوشية مغروسة على ضفاف النيل، واللفظة الدالّة عليه، قد تكون كوشية من عهود حضارتي مروي وكرمة، أو سابقة لتلك العهود، على أنّ من المؤكد أنّ الكلمة موجودة في النوبية، بلهجتيها الدنقلاوية والمحسية :(أنقري)، وعرّبت إلى عنقريب كما هو الأمر في كثير من مسميات الزراعة والريّ والطعام والشراب وأدوات الفلاحة وأثاث الدار، ممّا تزخر به عربية شمال السودان وغيرها من عربيات وادي النيل الأوسط الشماليّ. هل هي أصيلة في النوبية؟ أم انحدرت إليها من المروية التي ما زالت لغزاً طلاسمه لم تحل؟ هل هي موجودة في نوبية غرب السودان ولهجاتها العديدة في جبال ميدوب وجبل الحرازة وجبال النوبة؟ وهل من وشيجة تربط ما بين أنقري النوبية وأنقري البجاوية التي ينحصر معناها في الحصير "البرش" الذي يوضع على العنقريب؟، ومهما يكن من أمر، فإنّ كلمة عنقريب أو أنقري، ما تزال في حاجة إلى دراسة واستقصاء على المستويين اللغوي والآثاري، تلقي مزيداً من الضوء حولها.
والعنقريب سرير ذو قوائم خشبية تنتصب بهيئة الأرجل، تمتدّ منها في محور أفقيّ عوارض أربع، منهن اثنتان طويلتان، وتسميان بالمروق، ومفردها مرق، واثنتان قصيرتان ، وتسميان بالوسايد. وتشكل العوارض مع القوائم الأربع هيكل العنقريب، وتشدّ عليهن لحمة النسيج الممتدّة عرضاً، وسداته الممتدّة طولاً، من الحبال الرقيقة المجدولة من سعف الدوم أو النخيل، ويسمى هذا النسيج الذي يشبه السجادة (البحر) ويتّصل في أطرافه، بحبل غليظ مجدول يسمى (الحمار)، ويتّصل بالحمار حبل حلزوني رقيق، يسمى ( الكرّاب) وظيفته أن يشدّ غالب النسيج، الذي هو (البحر)، إلى إحدى الوسائد، إذا ما ارتخى في يوم من الأيام، من فرط الاستعمال.
ويتميّز عنقريب على عنقريب بنسبته إلى حدث من أحداث الحياة وصروفها، فعنقريب للجرتق، وهو طقس من طقوس الزواج في السودان، وعنقريب للنفاس، وعنقريب للطهور. أمّا عنقريب الجنازة، فوجوده لازم في كلّ بيت، ولا تغني عنه بأيّ حال من الأحوال، الأسرّة الحديدية والخشبية الحديثة المجلوبة التي نافست العنقريب في بيوت الطبقة الموسرة والمتوسطة، في أغراض الحياة، أمّا عند حمل الجنازة إلى مثواها الأبديّ، فلا غنىً عن العنقريب.
(2)
وإن أنت تتبّعت العنقريب، تجده في كلّ بقاع السودان، إلى حدود ودّاي، ويمتدّ وجوده إلى ما وراء ساحل البحر الأحمر،في الحجاز واليمن وأفغانستان وباكستان والهند، على هيئته المعروفة في سودان وادي النيل، ويبدو من قرائن عديدة وشواهد، أنّ ارتباطه بوادي النيل أقوى منه بأيّ مكان آخر، وآية ذلك ما ذكرناه من تاريخ ضارب في القدم وفي ثقافة القوم وتراثهم، وفي أفراحهم وأتراحهم، وما من شيء ألصق بالثقافة والتراث من طقوس الموت، وما من شيْ ألصق بطقس الموت في سودان وادي النيل من العنقريب، وما يزال أهل السودان يفسرون خروج العنقريب من الدار في منامهم، بخروج النعش. وكان من طقوسهم القديمة الموغلة في التاريخ، أن يسجى الميت على عنقريبه ويدفن على تلك الهيئة، وترجع شواهد ذلك إلى عهود مروي ونبتة في مدافن الملوك والملكات في أهرام الكرو والبجراوية، ومن مقتنيات متحف السودان عند مقرن النيلين بالخرطوم، عنقريب حسن الصنعة يرجع تاريخه إلى حضارة كرمة (2500-1600 ق.م.). ولقد كان من طقوس كرمة أن يسجّى الجثمان على عنقريب له وسادة تحت الرأس ومروحة من ريش النعام ونعلان. وتضمّ جبانة الكرو، وهي من أهمّ آثار حضارة نبتة (1000ق.م.-300م.) التي ورثت كرمة، جثامين ملوك وملكات يرقدون على الشقّ الأيمن على عنقريب. وحتى في حقبة ما بعد نبتة ومروي، فقد ظلّت الجبّانات النوبية تشهد على طقوس ما قبل المسيحية، ومن أبرزها الدفن على عنقريب.
وما يزال طقس الدفن على عنقريب حاضراً عند الدينكا، وربما عند غيرهم من النيليين في جنوب السودان، فمما قر في معتقدهم أن (صانع المطر)، وهو رجل منهم ذو قداسة، يجب ألا يترك ليطعن في سنه ويموت حتف أنفه، لئلا تحل لعنة الشيخوخة وأرذل العمر بالقبيلة، بل لا بد أن يستدرك الأمر بأن تحفر له حفرة عميقة، يسجى فيها على عنقريب من جلد البقر، يحف به المقربون من ذريته وأصحابه، ويحرم من الطعام والشراب حتى تنهار قواه، ثم يهال عليه التراب. ويدفنون معه ثوراً أو بقرة، ويصبون اللبن على قبره. ولا يخفى ما في هذا المشهد بطبيعة الحال، إلى جانب عنقريب الدفن، من ملامح وسمات لطقوس الدفن الكوشية في حضارة كرمة.
وممّا ذكره الشاطر بصيلي عبد الجليل في كتابه (معالم تاريخ سودان وادي النيل من القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر الميلادي)،أنّ "من طقوس تتويج ملك الفنج، وبعد أن يزوّجوه من نسل عين الشمس (الأونساب)، يحملونهما معاً في عنقريب إلى حوض الجندي ويحبسونهما معاً لمدّة سبعة أيّام، يخرجونهما بعدها إلى مكان معلوم لهم، تخرج لهم فيها عوايد يتفاءلون أو يتشاءمون بها"(ص.275).
وظلّ العنقريب من بين مفردات طقوس الملك والسلطان في عهد الدولة المهدية، فمّما جاء في خبر عبد الله التعيشي، خليفة المهدي، أنه كان "..يلبس في عنقه مسبحة كبيرة، وفي قدميه الخفّ الأصفر في الحذاء الأصفر، فإذا جلس خلع الحذاء وأبقى الخفّ وتربّع على عنقريب فوقه فروة من جلد الضأن وهي التي يصلّي عليها، وكان نظيفاً ويتطيّب، وعن يساره سيفه، وفي يمينه حربة قصيرة هدندوية" (عبد الله حسين، السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية، الجزء الأول، ص.298)
ومن بقايا هذه الطقوس القديمة، أنّ حمل نائم أو مريض أو شيخ كبير على عنقريب ممّا يتشاءم منه، وممّا يستدعي حاملي العنقريب، بعيد وضعه في مستقرّه وهما بعد على طرفيه، مصافحة بعضهما بعضاً، بكلتا اليدين، اليمنى مع اليمنى، واليسرى مع اليسرى، بهيئة قريبة من رسم الصليب.
وممّا يدخل في باب تشاؤم أهل السودان ونفورهم من حمل الأحياء على عنقريب، ما رواه العلامة عبد الله الطيب،في ذكرياته وهو بعد طفل، عن مشهد ".. بعض الناس على عناقريب يحملها رجال يعبرون بهم القاش، ونفرت نفسه من ذلك. كأن أهله نفروا من ذلك وتحدثوا، فهو يذكر ما كان من نفورهم. كأن العناقريب جنائز"! (من نافذة القطار، ص.112).
ومن بقايا هذه الطقوس القديمة، أن عنقريب الجنازة يوضع متكئاً على جدار معزول، ريثما تخبو جذوة الحزن، وقد لا يعود أهل الدار إلى استعماله، وإن عادوا فبعد زمان مديد، فكأنّهم حكموا عليه بالدفن شأن أجدادهم الكوشيين والمرويين.
وعلى خلاف الشعوب القديمة من فرس وإغريق ورومان ومصريين، في تمثّل مجموعة كواكب الدبّ الأكبر، وتصوّرها في هيئة ثور يحرث الأرض ويجرّه تمساح كبير، أو عربة صغيرة يدفعها رجلان، أو دبّ موثق، مقيّد بالسلاسل والأصفاد، فإن أهل السودان رأوا في مجموعة الدبّ الأكبر عنقريباً يحمل نعش شيخ، تشيّعه بناته الثلاث، الفتاة، أي العذراء، تتبعها الحامل، ثمّ العزباء، التي تقود طفلتها، ويسعين جميعاً في أثر الجدي المكتّف ويلهثن خلفه، أبد الدهر، ليأخذن بثأر أبيهنّ المسجّى على العنقريب.
وظلّ العنقريب رمزاً للموت في وجدان أهل السودان، واقترنت رؤيته في المنام بالنعش الذي يحمل الجنازة، على خلاف ما ساد في الثقافة العربية الإسلامية التي تفسّر السرير، إذا ما رؤي في المنام،ب زوجة الرائي وما يملك، ووجه السرير هو الزوج، ومؤخرته الزوجة.
(3)
ومن مأثورات الأدب الشعبي السوداني التي وردت فيها إشارة لعنقريب بنات نعش، كلمة إبراهيم ود الفرّاش (1847-1883) التي يقول فيها:
طلع العنقريب، نجماته خبّن
حلاة ضهر التلوب وقتين يخبّن
حسارهن في الضمير راقد مغبّن
طريت خمرة وجلاداً ليه كبّن
ووجد العنقريب موقعاً رمزيّاً في الأدب النوبي في جنوب مصر، بحسبانه أحد مفردات البيئة والثقافة النوبية الباقية في النوبة السفلى التي جار عليها الزمان وطواها النسيان وغمرتها مياه السدّ العالي، وصارت رمزا فلكلورياً يشدّ إلى ماض سلف، ويملأ النفوس بمشاعر الحنين والشجن.
ومن أوائل من احتفى بالعنقريب ووظّفه في الأعمال الأدبية الكاتب النوبي محمد خليل قاسم، صاحب رواية (الشمندورة)،الصادرة في 1964، ثمّ جاءت من بعده، الكاتبة النوبية حسناء الشريف، فجعلت من "العنجريب" عنوانا لروايتها الصادرة في2017، وجعلت منه رمزاً سالباً للجلوس والانتظار، وتجسيدا للمهدي المنتظر، رمز الخلاص الذي ينتظر الجميع قدومه حاملاً عصا النجاة السحرية، فلا يكلّف الخلق عناء الاجتهاد ولا عنت البحث عن مكامن المعرفة والإرادة والقوّة في النفس البشرية.
ولايبعد العنقريب في أغنية المغني النوبي محمد منير كثيراً عن رمزية الانتظار، ويقول فيها:
العنقريب اللي قنيته
تمان سنين استنيته
على الجريد اللي رميته
ح تظهر التمرة
واحتفى الشاعر الصعيدي هشام الجخّ أيضاً، بمفردة العنقريب، في قصيدته (إيزيس) التي يقول فيها:
نفسي أنام...فينك
يا امّ الرموش عنقريب
ما تدمّعيش عينك
الفرح جاي عن قريب
ولم يغفل الكاتب النوبي طارق فتحي حسين رمزية العنقريب في طقس الموت، في نص أدبي أسماه (بكاء ونحيب، بلا عنقريب) في رثاء قرية نوبية غمرتها مياه السد العالي، في وصف مشهد دفن غريب، غاب عنه العنقريب!: " كان المشهد أجل من أن يوصف. كيف يفترق الموت والحياة...كانت زيارتهم الأخيرة للمكان، رجال ونساء وأطفال، يبكون جميعاً...تلك المرة كان الصراخ والنحيب بلا عنقريب...لم يكن هناك جسد مسجى في طريقه ليوارى الثرى وينتصب فوقه شاهد...جاءوا للبكاء ليبللوا ثرى رفات آبائهم وأجدادهم للمرة الأخيرة بدموعهم....تغرق الشواهد والمشاهد والشهود، وتغرق النوبة إلى الأبد"
(4)
ولطالما كان الطفل أسير الدهشة والإعجاب من شدّة إتقان الرجل صناعته، ومهارته، وهو الكفيف، في إبراز أشكال هندسية بديعة متّسقة، في نسيج العنقريب، في معاورته ما بين اللحمة والسداة. ويذكر أنه جلس يوماً يرقب باندهاش البساط المزخرف، وهو يخرج كفعل السحرمن بين أنامل الرجل، فجاءت أخته، وكانت بعد طفلة تتعثّر الأحرف والكلمات في لسانها، فخاطبت الرجل في براءة وفضول: "عينك دي نقدودة؟" تريد مقدودة، أي مثقوبة، فأجاب الرجل ببديهة سريعة ترفع الحرج، لا يدري أذكراً يخاطب أم أنثى: " دهابه لقى الكلام" أي أن الطفل، ما يزال حديث عهد بالكلام، ؟
ودهابه (للمذكر)، ودهابها (للمؤنّث) هي لغة البقّارة في داب، ويا داب، المعروفة في لهجات سودان وادي النيل، وهي أداة تعني إفراغ الجهد في إدراك الشيء واللحاق به في صعوبة وعسر، وهنا موضع بيان قوله "دهابه لقى الكلام". كما قد تعني الوقوف عند حدّ الكفاية، ومن ذلك ما أثر عن أهل السودان: " الداب نفسه مقصّر" أي أنّ من لم يتجاوز خيره خويصة نفسه، وتفيض عطاياه على من حوله، فهو مقصّر في واجبه. والأف واللام الداخلتان على على "داب" تفيدان الموصولية، وتدخلان بتلك الصفة على الأفعال والأسماء والأدوات، وذلك من فصيح اللغة الذي لا يدرك ولا يعرف، والذي اندثر ولا تكاد تجد له أثراً إلا في عربية أهل السودان، تتميّز به وتكاد تنفرد به، ولذلك أصل في شاهد ابن عقيل المرويّ عن الفرزدق:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وممّا ورد من استعمال "داب" في عربية أهل السودان، بمعنى إفراغ الجهد والوقوف عند حدّ الكفاية، كلمة الحاردلو(1840-1916) في وصف جمال محبوبته آمنة، التي زهّدته في النساء جميعاً وذاع خطرها فتجاوز إقليم نهر الرهد ليعمّ وادي النيل قاطبة، ويدرك أقصى غايات مجراه:
جات آمنة سوت، مسخت علينا الجيل
طبلت قيدها "كع"، في العاصي والعنتيل
الشرباتة شتّت ...والعوافي تسيل
مي داب ود رهد، مدروك مجرّ النيل
ومن ذلك ما جاء في وصفه محبوبته زينب:
زينب في البنات مي "داب" سماحة الزي..
أي أن جمالها لا يقف عند حدود زينتها وثيابها فحسب.
ومن وظائف "داب" النحوية التي تكاد تنفرد بها عربية أهل السودان، التعبيرعن مقدار المهلة من الزمن عند تزامن حدثين في وقت واحد،وتلحق بها حينئذ "ما" الموصولية، وذلك في نحو قولهم: داب ما أفهم السؤال، كان الزمن انتهى، وهو استعمال قريب من "ريثما.
(5)
وإلى جانب داب ويا داب، تعرف لهجات السودان استعمال صيغة يا دوب، الشائعة في مصر وفي بلاد الشام والجزيرة العربية، وهو استعمال حديث، وافد من الجوار المصري في غالب الأمر، شائع بين أهل المدن. وتبدو صيغة داب السودانية أقدم استعمالاً وأقرب إلى الجذر اللغوي العربي الذي نرجّح أنّها تطورت منه، وهو (دأب) المهموزة و(داب ) المسهلة، والتي تحمل ظلالاً من معاني الصعوبة والعسر وإفراغ الجهد. وفي (التهذيب) 14/202- قال الليث: "الدأب المبالغة في السير، وأدأب الرجل الدابّة إدآباً إذا أتعبها، والفعل اللازم دأبت الناقة تدأب دءوباً. وقال الزجّاج: في (كدأب آل فرعون) أي كشأن آل فرعون وكأمر آل فرعون، كذا قال أهل اللغة. والقول فيه عندي أنّ دأب ههنا: اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبيّ صلى الله عليه وسلّم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام..." وقال الأزهري: "...يقال دأبت أدأب دأباً ودأُباً ودؤوباً إذا اجتهدت في الشيء..."
وواضح أن اللهجات العربية نظرت إلى معنى "إفراغ الجهد في إدراك الشيء واللحاق به"، الذي تشتمل عليه مادّة داب ونحت به نحو الوقت، وأوشك المعنى أن محصوراً في إدراك الوقت، وأمثلة ذلك، لا سيّما في الغناء العربي، كثيرة، نحو: "لسّة يا دوب الحلم بينّا بيتولد"، و "يا دوب مرّت عليّ، أربعة وعشرين ساعة"، و"أحنا يا دوب اتقابلنا".
وفي هذا السياق، يمكن تفسير كلمة دابا، في الدارجة المغربية، وهي ظرف لتأكيد الحال، وتفيد معني (الآن) حصراً، دون اقتران بمعنى إفراغ الجهد في اللحاق بالشيء وإدراكه، فذلك مما تعبر عنه الدارجة المغربية بالظرف الزماني (عاد)، في نحو قولهم: "عاد جا" في ما يقابل: "يادوب جا" و"دابه جا"، في لهجات أخرى مشرقية.
وأشار الدكتور محمد بنشريفة إلى أن (ذاب)، بالذال المعجمة، من"أشهر ظروف الزمان في العامية الأندلسية....وقد أشار إليها ابن هشام اللخمي في تقديم اللسان إذ يقول: ويقولون جئته ذاب، والصواب جئته الساعة أو الآن.." (اللهجات العربية، الفصحى والعامية، ج 1، ص. 141 ).
ويبرز معنى الوقوف عند حدّ الكفاية، دون اقتران بالوقت عند تتبّع مادّة داب ويا داب في العبارات السودانية المأثورة، نحو "الداب نفسه مقصّر"، وقد وقفنا على معناها، وقولهم "فلان داب رقبته"، في معرض التأنيب، والرمي بالتقصير، وقولهم " خيرك ماهو دابك" في معرض المدح والتنويه، و"يا داب الداب"، وتعني الحدّ الأدنى من الشيء، وينصرف معناها في غالب الأمر إلى الأشياء المادّية.
وممّا يدخل في باب معنى الوقوف عند حدّ الكفاية ما ورد في غناء تشادي، كتب له الذيوع في ثمانينات القرن الماضي، كلمات رقيقة، تخاطب فيها فتاة فتاها وتقول:
مشينا لينا، في قعير ضرّابة
لقينا لينا فريفير دهابه
فارش كمّه، بقري في كتابه
أمّه ميرم، جدّته حبّابة
وموضع الشاهد في هذه الكلمة، هو أنّ فتاها "فريفير دهابه"، لم يتخطّ بعد حدّ الصبا ونضارته. وممّا يدخل في هذا الباب أيضاً، في اللهجة المصرية عبارة مامون الشنّاوي المعروفة التي غنتها أمّ كلثوم :
"وصفوا لي الصبر، لقيته خيال وكلام في الحب يا دوب يتقال...".
وبعض ما ورد في ترنيمة الأقباط :
"....دخلت واحدة فقيرة عليه،
شايلة معاها،
كيس عطاياها،
كان واياها،
يا دوب فلسين...".
(6)
ومن المستحدثات التي تجري في ألسنة الصحفيين والكتاب وأقلامهم كلمة "بالكاد" في نحو قولهم " بالكاد استطعت إنجاز هذا العمل" وهي تقابل "داب" العامّية وأخواتها، وتطابقها في معناها. وهذا في غالب الأمر وجه من وجوه تأثير العاميات في الفصحى، وهو باب واسع. ولا يبعد أيضاً أن يكون وجهاً من وجوه تأثير اللغات الأجنبية في الفصحى، عند ترجمة تعابير وكلمات انجليزية وفرنسية، نحو barely ,hardly، في الإنجليزية، وà peine، في الفرنسية. وهو ممّا يدخل في باب الترجمة والتعريب.
* منقول عن:
تداعيات...في ذكرالعنقريب .. بقلم: د. مصطفى أحمد عليّ/الرباط
هل كان يذكر اسم ذلك الرجل، ثم طواه النسيان وما ران على ذاكرته من غبار السنين؟ قصارى ما يذكره أنهم كانوا ينادونه ويصفونه بسيد العناقريب. كان كفيفاً، وكان من أقاصي دارفور، دار مساليت أو دار برقو. كان يأتي إلى دارهم جزافاً، دون موعد مضروب، حاملاً حبالاً ومدىً، يسأل إن كان لديهم عنقريب في حاجة إلى إصلاح. ولا يتذكر مرة رجع فيها الرجل خائباً، فقد كان بالدار ضربة لازب، عنقريب في حاجة إلى نسيج أو كرّاب.
و العنقريب يرجع إلى أصول كوشية مغروسة على ضفاف النيل، واللفظة الدالّة عليه، قد تكون كوشية من عهود حضارتي مروي وكرمة، أو سابقة لتلك العهود، على أنّ من المؤكد أنّ الكلمة موجودة في النوبية، بلهجتيها الدنقلاوية والمحسية :(أنقري)، وعرّبت إلى عنقريب كما هو الأمر في كثير من مسميات الزراعة والريّ والطعام والشراب وأدوات الفلاحة وأثاث الدار، ممّا تزخر به عربية شمال السودان وغيرها من عربيات وادي النيل الأوسط الشماليّ. هل هي أصيلة في النوبية؟ أم انحدرت إليها من المروية التي ما زالت لغزاً طلاسمه لم تحل؟ هل هي موجودة في نوبية غرب السودان ولهجاتها العديدة في جبال ميدوب وجبل الحرازة وجبال النوبة؟ وهل من وشيجة تربط ما بين أنقري النوبية وأنقري البجاوية التي ينحصر معناها في الحصير "البرش" الذي يوضع على العنقريب؟، ومهما يكن من أمر، فإنّ كلمة عنقريب أو أنقري، ما تزال في حاجة إلى دراسة واستقصاء على المستويين اللغوي والآثاري، تلقي مزيداً من الضوء حولها.
والعنقريب سرير ذو قوائم خشبية تنتصب بهيئة الأرجل، تمتدّ منها في محور أفقيّ عوارض أربع، منهن اثنتان طويلتان، وتسميان بالمروق، ومفردها مرق، واثنتان قصيرتان ، وتسميان بالوسايد. وتشكل العوارض مع القوائم الأربع هيكل العنقريب، وتشدّ عليهن لحمة النسيج الممتدّة عرضاً، وسداته الممتدّة طولاً، من الحبال الرقيقة المجدولة من سعف الدوم أو النخيل، ويسمى هذا النسيج الذي يشبه السجادة (البحر) ويتّصل في أطرافه، بحبل غليظ مجدول يسمى (الحمار)، ويتّصل بالحمار حبل حلزوني رقيق، يسمى ( الكرّاب) وظيفته أن يشدّ غالب النسيج، الذي هو (البحر)، إلى إحدى الوسائد، إذا ما ارتخى في يوم من الأيام، من فرط الاستعمال.
ويتميّز عنقريب على عنقريب بنسبته إلى حدث من أحداث الحياة وصروفها، فعنقريب للجرتق، وهو طقس من طقوس الزواج في السودان، وعنقريب للنفاس، وعنقريب للطهور. أمّا عنقريب الجنازة، فوجوده لازم في كلّ بيت، ولا تغني عنه بأيّ حال من الأحوال، الأسرّة الحديدية والخشبية الحديثة المجلوبة التي نافست العنقريب في بيوت الطبقة الموسرة والمتوسطة، في أغراض الحياة، أمّا عند حمل الجنازة إلى مثواها الأبديّ، فلا غنىً عن العنقريب.
(2)
وإن أنت تتبّعت العنقريب، تجده في كلّ بقاع السودان، إلى حدود ودّاي، ويمتدّ وجوده إلى ما وراء ساحل البحر الأحمر،في الحجاز واليمن وأفغانستان وباكستان والهند، على هيئته المعروفة في سودان وادي النيل، ويبدو من قرائن عديدة وشواهد، أنّ ارتباطه بوادي النيل أقوى منه بأيّ مكان آخر، وآية ذلك ما ذكرناه من تاريخ ضارب في القدم وفي ثقافة القوم وتراثهم، وفي أفراحهم وأتراحهم، وما من شيء ألصق بالثقافة والتراث من طقوس الموت، وما من شيْ ألصق بطقس الموت في سودان وادي النيل من العنقريب، وما يزال أهل السودان يفسرون خروج العنقريب من الدار في منامهم، بخروج النعش. وكان من طقوسهم القديمة الموغلة في التاريخ، أن يسجى الميت على عنقريبه ويدفن على تلك الهيئة، وترجع شواهد ذلك إلى عهود مروي ونبتة في مدافن الملوك والملكات في أهرام الكرو والبجراوية، ومن مقتنيات متحف السودان عند مقرن النيلين بالخرطوم، عنقريب حسن الصنعة يرجع تاريخه إلى حضارة كرمة (2500-1600 ق.م.). ولقد كان من طقوس كرمة أن يسجّى الجثمان على عنقريب له وسادة تحت الرأس ومروحة من ريش النعام ونعلان. وتضمّ جبانة الكرو، وهي من أهمّ آثار حضارة نبتة (1000ق.م.-300م.) التي ورثت كرمة، جثامين ملوك وملكات يرقدون على الشقّ الأيمن على عنقريب. وحتى في حقبة ما بعد نبتة ومروي، فقد ظلّت الجبّانات النوبية تشهد على طقوس ما قبل المسيحية، ومن أبرزها الدفن على عنقريب.
وما يزال طقس الدفن على عنقريب حاضراً عند الدينكا، وربما عند غيرهم من النيليين في جنوب السودان، فمما قر في معتقدهم أن (صانع المطر)، وهو رجل منهم ذو قداسة، يجب ألا يترك ليطعن في سنه ويموت حتف أنفه، لئلا تحل لعنة الشيخوخة وأرذل العمر بالقبيلة، بل لا بد أن يستدرك الأمر بأن تحفر له حفرة عميقة، يسجى فيها على عنقريب من جلد البقر، يحف به المقربون من ذريته وأصحابه، ويحرم من الطعام والشراب حتى تنهار قواه، ثم يهال عليه التراب. ويدفنون معه ثوراً أو بقرة، ويصبون اللبن على قبره. ولا يخفى ما في هذا المشهد بطبيعة الحال، إلى جانب عنقريب الدفن، من ملامح وسمات لطقوس الدفن الكوشية في حضارة كرمة.
وممّا ذكره الشاطر بصيلي عبد الجليل في كتابه (معالم تاريخ سودان وادي النيل من القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر الميلادي)،أنّ "من طقوس تتويج ملك الفنج، وبعد أن يزوّجوه من نسل عين الشمس (الأونساب)، يحملونهما معاً في عنقريب إلى حوض الجندي ويحبسونهما معاً لمدّة سبعة أيّام، يخرجونهما بعدها إلى مكان معلوم لهم، تخرج لهم فيها عوايد يتفاءلون أو يتشاءمون بها"(ص.275).
وظلّ العنقريب من بين مفردات طقوس الملك والسلطان في عهد الدولة المهدية، فمّما جاء في خبر عبد الله التعيشي، خليفة المهدي، أنه كان "..يلبس في عنقه مسبحة كبيرة، وفي قدميه الخفّ الأصفر في الحذاء الأصفر، فإذا جلس خلع الحذاء وأبقى الخفّ وتربّع على عنقريب فوقه فروة من جلد الضأن وهي التي يصلّي عليها، وكان نظيفاً ويتطيّب، وعن يساره سيفه، وفي يمينه حربة قصيرة هدندوية" (عبد الله حسين، السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية، الجزء الأول، ص.298)
ومن بقايا هذه الطقوس القديمة، أنّ حمل نائم أو مريض أو شيخ كبير على عنقريب ممّا يتشاءم منه، وممّا يستدعي حاملي العنقريب، بعيد وضعه في مستقرّه وهما بعد على طرفيه، مصافحة بعضهما بعضاً، بكلتا اليدين، اليمنى مع اليمنى، واليسرى مع اليسرى، بهيئة قريبة من رسم الصليب.
وممّا يدخل في باب تشاؤم أهل السودان ونفورهم من حمل الأحياء على عنقريب، ما رواه العلامة عبد الله الطيب،في ذكرياته وهو بعد طفل، عن مشهد ".. بعض الناس على عناقريب يحملها رجال يعبرون بهم القاش، ونفرت نفسه من ذلك. كأن أهله نفروا من ذلك وتحدثوا، فهو يذكر ما كان من نفورهم. كأن العناقريب جنائز"! (من نافذة القطار، ص.112).
ومن بقايا هذه الطقوس القديمة، أن عنقريب الجنازة يوضع متكئاً على جدار معزول، ريثما تخبو جذوة الحزن، وقد لا يعود أهل الدار إلى استعماله، وإن عادوا فبعد زمان مديد، فكأنّهم حكموا عليه بالدفن شأن أجدادهم الكوشيين والمرويين.
وعلى خلاف الشعوب القديمة من فرس وإغريق ورومان ومصريين، في تمثّل مجموعة كواكب الدبّ الأكبر، وتصوّرها في هيئة ثور يحرث الأرض ويجرّه تمساح كبير، أو عربة صغيرة يدفعها رجلان، أو دبّ موثق، مقيّد بالسلاسل والأصفاد، فإن أهل السودان رأوا في مجموعة الدبّ الأكبر عنقريباً يحمل نعش شيخ، تشيّعه بناته الثلاث، الفتاة، أي العذراء، تتبعها الحامل، ثمّ العزباء، التي تقود طفلتها، ويسعين جميعاً في أثر الجدي المكتّف ويلهثن خلفه، أبد الدهر، ليأخذن بثأر أبيهنّ المسجّى على العنقريب.
وظلّ العنقريب رمزاً للموت في وجدان أهل السودان، واقترنت رؤيته في المنام بالنعش الذي يحمل الجنازة، على خلاف ما ساد في الثقافة العربية الإسلامية التي تفسّر السرير، إذا ما رؤي في المنام،ب زوجة الرائي وما يملك، ووجه السرير هو الزوج، ومؤخرته الزوجة.
(3)
ومن مأثورات الأدب الشعبي السوداني التي وردت فيها إشارة لعنقريب بنات نعش، كلمة إبراهيم ود الفرّاش (1847-1883) التي يقول فيها:
طلع العنقريب، نجماته خبّن
حلاة ضهر التلوب وقتين يخبّن
حسارهن في الضمير راقد مغبّن
طريت خمرة وجلاداً ليه كبّن
ووجد العنقريب موقعاً رمزيّاً في الأدب النوبي في جنوب مصر، بحسبانه أحد مفردات البيئة والثقافة النوبية الباقية في النوبة السفلى التي جار عليها الزمان وطواها النسيان وغمرتها مياه السدّ العالي، وصارت رمزا فلكلورياً يشدّ إلى ماض سلف، ويملأ النفوس بمشاعر الحنين والشجن.
ومن أوائل من احتفى بالعنقريب ووظّفه في الأعمال الأدبية الكاتب النوبي محمد خليل قاسم، صاحب رواية (الشمندورة)،الصادرة في 1964، ثمّ جاءت من بعده، الكاتبة النوبية حسناء الشريف، فجعلت من "العنجريب" عنوانا لروايتها الصادرة في2017، وجعلت منه رمزاً سالباً للجلوس والانتظار، وتجسيدا للمهدي المنتظر، رمز الخلاص الذي ينتظر الجميع قدومه حاملاً عصا النجاة السحرية، فلا يكلّف الخلق عناء الاجتهاد ولا عنت البحث عن مكامن المعرفة والإرادة والقوّة في النفس البشرية.
ولايبعد العنقريب في أغنية المغني النوبي محمد منير كثيراً عن رمزية الانتظار، ويقول فيها:
العنقريب اللي قنيته
تمان سنين استنيته
على الجريد اللي رميته
ح تظهر التمرة
واحتفى الشاعر الصعيدي هشام الجخّ أيضاً، بمفردة العنقريب، في قصيدته (إيزيس) التي يقول فيها:
نفسي أنام...فينك
يا امّ الرموش عنقريب
ما تدمّعيش عينك
الفرح جاي عن قريب
ولم يغفل الكاتب النوبي طارق فتحي حسين رمزية العنقريب في طقس الموت، في نص أدبي أسماه (بكاء ونحيب، بلا عنقريب) في رثاء قرية نوبية غمرتها مياه السد العالي، في وصف مشهد دفن غريب، غاب عنه العنقريب!: " كان المشهد أجل من أن يوصف. كيف يفترق الموت والحياة...كانت زيارتهم الأخيرة للمكان، رجال ونساء وأطفال، يبكون جميعاً...تلك المرة كان الصراخ والنحيب بلا عنقريب...لم يكن هناك جسد مسجى في طريقه ليوارى الثرى وينتصب فوقه شاهد...جاءوا للبكاء ليبللوا ثرى رفات آبائهم وأجدادهم للمرة الأخيرة بدموعهم....تغرق الشواهد والمشاهد والشهود، وتغرق النوبة إلى الأبد"
(4)
ولطالما كان الطفل أسير الدهشة والإعجاب من شدّة إتقان الرجل صناعته، ومهارته، وهو الكفيف، في إبراز أشكال هندسية بديعة متّسقة، في نسيج العنقريب، في معاورته ما بين اللحمة والسداة. ويذكر أنه جلس يوماً يرقب باندهاش البساط المزخرف، وهو يخرج كفعل السحرمن بين أنامل الرجل، فجاءت أخته، وكانت بعد طفلة تتعثّر الأحرف والكلمات في لسانها، فخاطبت الرجل في براءة وفضول: "عينك دي نقدودة؟" تريد مقدودة، أي مثقوبة، فأجاب الرجل ببديهة سريعة ترفع الحرج، لا يدري أذكراً يخاطب أم أنثى: " دهابه لقى الكلام" أي أن الطفل، ما يزال حديث عهد بالكلام، ؟
ودهابه (للمذكر)، ودهابها (للمؤنّث) هي لغة البقّارة في داب، ويا داب، المعروفة في لهجات سودان وادي النيل، وهي أداة تعني إفراغ الجهد في إدراك الشيء واللحاق به في صعوبة وعسر، وهنا موضع بيان قوله "دهابه لقى الكلام". كما قد تعني الوقوف عند حدّ الكفاية، ومن ذلك ما أثر عن أهل السودان: " الداب نفسه مقصّر" أي أنّ من لم يتجاوز خيره خويصة نفسه، وتفيض عطاياه على من حوله، فهو مقصّر في واجبه. والأف واللام الداخلتان على على "داب" تفيدان الموصولية، وتدخلان بتلك الصفة على الأفعال والأسماء والأدوات، وذلك من فصيح اللغة الذي لا يدرك ولا يعرف، والذي اندثر ولا تكاد تجد له أثراً إلا في عربية أهل السودان، تتميّز به وتكاد تنفرد به، ولذلك أصل في شاهد ابن عقيل المرويّ عن الفرزدق:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وممّا ورد من استعمال "داب" في عربية أهل السودان، بمعنى إفراغ الجهد والوقوف عند حدّ الكفاية، كلمة الحاردلو(1840-1916) في وصف جمال محبوبته آمنة، التي زهّدته في النساء جميعاً وذاع خطرها فتجاوز إقليم نهر الرهد ليعمّ وادي النيل قاطبة، ويدرك أقصى غايات مجراه:
جات آمنة سوت، مسخت علينا الجيل
طبلت قيدها "كع"، في العاصي والعنتيل
الشرباتة شتّت ...والعوافي تسيل
مي داب ود رهد، مدروك مجرّ النيل
ومن ذلك ما جاء في وصفه محبوبته زينب:
زينب في البنات مي "داب" سماحة الزي..
أي أن جمالها لا يقف عند حدود زينتها وثيابها فحسب.
ومن وظائف "داب" النحوية التي تكاد تنفرد بها عربية أهل السودان، التعبيرعن مقدار المهلة من الزمن عند تزامن حدثين في وقت واحد،وتلحق بها حينئذ "ما" الموصولية، وذلك في نحو قولهم: داب ما أفهم السؤال، كان الزمن انتهى، وهو استعمال قريب من "ريثما.
(5)
وإلى جانب داب ويا داب، تعرف لهجات السودان استعمال صيغة يا دوب، الشائعة في مصر وفي بلاد الشام والجزيرة العربية، وهو استعمال حديث، وافد من الجوار المصري في غالب الأمر، شائع بين أهل المدن. وتبدو صيغة داب السودانية أقدم استعمالاً وأقرب إلى الجذر اللغوي العربي الذي نرجّح أنّها تطورت منه، وهو (دأب) المهموزة و(داب ) المسهلة، والتي تحمل ظلالاً من معاني الصعوبة والعسر وإفراغ الجهد. وفي (التهذيب) 14/202- قال الليث: "الدأب المبالغة في السير، وأدأب الرجل الدابّة إدآباً إذا أتعبها، والفعل اللازم دأبت الناقة تدأب دءوباً. وقال الزجّاج: في (كدأب آل فرعون) أي كشأن آل فرعون وكأمر آل فرعون، كذا قال أهل اللغة. والقول فيه عندي أنّ دأب ههنا: اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبيّ صلى الله عليه وسلّم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام..." وقال الأزهري: "...يقال دأبت أدأب دأباً ودأُباً ودؤوباً إذا اجتهدت في الشيء..."
وواضح أن اللهجات العربية نظرت إلى معنى "إفراغ الجهد في إدراك الشيء واللحاق به"، الذي تشتمل عليه مادّة داب ونحت به نحو الوقت، وأوشك المعنى أن محصوراً في إدراك الوقت، وأمثلة ذلك، لا سيّما في الغناء العربي، كثيرة، نحو: "لسّة يا دوب الحلم بينّا بيتولد"، و "يا دوب مرّت عليّ، أربعة وعشرين ساعة"، و"أحنا يا دوب اتقابلنا".
وفي هذا السياق، يمكن تفسير كلمة دابا، في الدارجة المغربية، وهي ظرف لتأكيد الحال، وتفيد معني (الآن) حصراً، دون اقتران بمعنى إفراغ الجهد في اللحاق بالشيء وإدراكه، فذلك مما تعبر عنه الدارجة المغربية بالظرف الزماني (عاد)، في نحو قولهم: "عاد جا" في ما يقابل: "يادوب جا" و"دابه جا"، في لهجات أخرى مشرقية.
وأشار الدكتور محمد بنشريفة إلى أن (ذاب)، بالذال المعجمة، من"أشهر ظروف الزمان في العامية الأندلسية....وقد أشار إليها ابن هشام اللخمي في تقديم اللسان إذ يقول: ويقولون جئته ذاب، والصواب جئته الساعة أو الآن.." (اللهجات العربية، الفصحى والعامية، ج 1، ص. 141 ).
ويبرز معنى الوقوف عند حدّ الكفاية، دون اقتران بالوقت عند تتبّع مادّة داب ويا داب في العبارات السودانية المأثورة، نحو "الداب نفسه مقصّر"، وقد وقفنا على معناها، وقولهم "فلان داب رقبته"، في معرض التأنيب، والرمي بالتقصير، وقولهم " خيرك ماهو دابك" في معرض المدح والتنويه، و"يا داب الداب"، وتعني الحدّ الأدنى من الشيء، وينصرف معناها في غالب الأمر إلى الأشياء المادّية.
وممّا يدخل في باب معنى الوقوف عند حدّ الكفاية ما ورد في غناء تشادي، كتب له الذيوع في ثمانينات القرن الماضي، كلمات رقيقة، تخاطب فيها فتاة فتاها وتقول:
مشينا لينا، في قعير ضرّابة
لقينا لينا فريفير دهابه
فارش كمّه، بقري في كتابه
أمّه ميرم، جدّته حبّابة
وموضع الشاهد في هذه الكلمة، هو أنّ فتاها "فريفير دهابه"، لم يتخطّ بعد حدّ الصبا ونضارته. وممّا يدخل في هذا الباب أيضاً، في اللهجة المصرية عبارة مامون الشنّاوي المعروفة التي غنتها أمّ كلثوم :
"وصفوا لي الصبر، لقيته خيال وكلام في الحب يا دوب يتقال...".
وبعض ما ورد في ترنيمة الأقباط :
"....دخلت واحدة فقيرة عليه،
شايلة معاها،
كيس عطاياها،
كان واياها،
يا دوب فلسين...".
(6)
ومن المستحدثات التي تجري في ألسنة الصحفيين والكتاب وأقلامهم كلمة "بالكاد" في نحو قولهم " بالكاد استطعت إنجاز هذا العمل" وهي تقابل "داب" العامّية وأخواتها، وتطابقها في معناها. وهذا في غالب الأمر وجه من وجوه تأثير العاميات في الفصحى، وهو باب واسع. ولا يبعد أيضاً أن يكون وجهاً من وجوه تأثير اللغات الأجنبية في الفصحى، عند ترجمة تعابير وكلمات انجليزية وفرنسية، نحو barely ,hardly، في الإنجليزية، وà peine، في الفرنسية. وهو ممّا يدخل في باب الترجمة والتعريب.
* منقول عن:
تداعيات...في ذكرالعنقريب .. بقلم: د. مصطفى أحمد عليّ/الرباط