الدقائق التي تسبق الغروب، يعمه الاِرتباك، يستبد به خوف، يتقلص فيه اكثر من مكان، ويصل إلى هاوية الخذلان، وكأنه يودع شيئاً عزيزاً ..مبهما، يسارع إلى مقهاه المفضل حيث يتوسط شارع الأطباء، ليرقب كل حركة، ويفحص كل خلجة، ويحلل كل صوت.. سيارات وزعيق ومرضى، رجل مجنون يرمي الزبد من فمه، قدح شاي لم يزل محتواه يتحرك، وفقاعة في وسط القدح، يبدو أنها مجبرة على الحركة..ِ أحيانا تشاكس السائل، فتغير اتجاهها أو تبطيء من سرعتها، شغلته تلك الفقاعة حتى أنه تخيلها كائناً حياً فتابعها بعينين نهمتين جاحظتين، توافقتا مع مسارها الذي يفتقر إلى التوازن، لكن الذي آلمه هو رقتها وضألتها، أمسك بالملعقة كي يوقفها، أو يضع نهاية لهذا العبث الذي شغله واستولى على جل تفكيره، حاول أن يمس سطحها اٍلا أنها التصقت بالملعقة وبالكاد تخلصت منها لتعود إلى حالة العبث. ولم تستقر حتى توقفت حركة الشاي بالكامل، عندها اِتجهت اٍلى حافة القدح مشكلة قبة صغيرة سرعان ما غمرت القدح ثم تمددت لتغمر كيانه كله، ثم المقهى ، وما لبثت ان اتسعت حتى غطت كل شيء، شع محياه وتألقت خواطره ، فهو داخل هالة شفافة صامتة هادئة، يلون القزح سطحها ،تجري تحتها السواقي ، وتغرد في فضائها وعلى اشجارها أطيار لاحصر لها أولألوانها ، دون خوف من كاسر أو مخلب، يغيب فيها الترهل والتلوث ، ولا تسمع فيها همسا ولا لغوب، لا تحدث خطيئة أو تكهنات، لا نذر لوقوع حدث، أو تعنيف… دب فيه نشاط غريب وشرع يتحدث مع الأطيار ويناجي الألوان والنسيمات، يفتح ذراعيه ويركض، يقفز في الفراغ ثم يرمي نفسه على الأرض المخضرة، فالدنيا هنا تزخر بالغرائب، وتنفر من كل أمر مشين، لاعيون تتلصلص أو زفرات حاقدة…
ومن خلف الجدارالشفاف، مرت امرأة وهي تنوء بحملها، الذي قارب على النزول اٍلى أرض الله فابتسم وهو يتمتم:
أنا في دنيا ليس فيها حمل بالمطلق، واٍنما يأتي الناس على شكل برعم في شجرة أو ريشة تسقط من طائر، أو نسمة تهيم بين الخمائل. مضت المرأة دون أن تلتفت اٍليه، ولم يعرها أي اٍهتمام، كان مدلهاً حد الجنون ، جذلا ومبهوراً بتلك الألوان القزحية، وبهذا السلسبيل الذي ينساب تحت قدميه، وبين اجمات من الأزهار.
أحس بحركة غريبة لكنها لم تأخذ من وقته، اٍلا ما يأخذه وقت انطباق الجفن. علت وجهه ابتسامه حائرة، لم تلبث ان ذابت تحت تلك الهالة الشفافة، ترامت إلى أذنيه أصوات ناعمة لكنها ناشزة، ثم أصوات أكثر خشونة. هاله، وعكر مزاجه أن جدار تلك الفقاعة أخذ يزداد سمكاً، والوانها القزحية في طريقها إلى التضاؤل، مما ذهب ببعض مرحة ،فقطب قليلاً، وحرك راسه ليطرد ذلك الخاطر الشيطاني، ويخرج من مأزق طاريء، غير أن ضربة خفيفة على كتفه أحدثت له رعدة فزادت من امتعاضه ، وبدأ يتوارد اليه زعيق بشر وسيارات وأصوات باعة، وأدرك أن كل احتكاك مع كتفه أو صوت يتخلل أذنية يساهم في مضاعفة سمك جدار صومعته التي تزخر بعبق قدسي، فيتحرك رأسه حركة أشد، وتتقلص عضلات وجهه، حاول أن يصم اذنيه وأن يدور حول نفسه، ركض في اتجاهات لا يرغبها وهو يتلفت هلعا، لكن الأصوات وضربات الأكتاف تضاعفت بل اخذت تلاحقه، اعترضته في وسط الطريق كنبة متسخة، اختبأ خلفها لكن عيون كثيرة شامتة ،وابتسامات ساخرة، وأياد تهتز بعبثية وتشير باتجاهه، أهتز جسده ،أمسك بالملعقة ثانية وقرر أن يفجر جدار تلك الفقاعة ليرى ما خلفها ،ضربها ضربة حفيفة فالتصقت بالملعقة، قرب سبابته منها ثم سحبها فلم يجد لها أثراً، مد بصره اٍلى الشارع الذي كان يعج بالمارة والأصوات والعجلات التي تدور بلا توقف ، وقد خبا شفق المساء، وراحت بعض المصابيح ترسل أضويتها الواهنة، وقد سجى ليل كئيب
د. حميد نعمة عبد
د. حميد نعمة عبد : فقاعة
ومن خلف الجدارالشفاف، مرت امرأة وهي تنوء بحملها، الذي قارب على النزول اٍلى أرض الله فابتسم وهو يتمتم:
أنا في دنيا ليس فيها حمل بالمطلق، واٍنما يأتي الناس على شكل برعم في شجرة أو ريشة تسقط من طائر، أو نسمة تهيم بين الخمائل. مضت المرأة دون أن تلتفت اٍليه، ولم يعرها أي اٍهتمام، كان مدلهاً حد الجنون ، جذلا ومبهوراً بتلك الألوان القزحية، وبهذا السلسبيل الذي ينساب تحت قدميه، وبين اجمات من الأزهار.
أحس بحركة غريبة لكنها لم تأخذ من وقته، اٍلا ما يأخذه وقت انطباق الجفن. علت وجهه ابتسامه حائرة، لم تلبث ان ذابت تحت تلك الهالة الشفافة، ترامت إلى أذنيه أصوات ناعمة لكنها ناشزة، ثم أصوات أكثر خشونة. هاله، وعكر مزاجه أن جدار تلك الفقاعة أخذ يزداد سمكاً، والوانها القزحية في طريقها إلى التضاؤل، مما ذهب ببعض مرحة ،فقطب قليلاً، وحرك راسه ليطرد ذلك الخاطر الشيطاني، ويخرج من مأزق طاريء، غير أن ضربة خفيفة على كتفه أحدثت له رعدة فزادت من امتعاضه ، وبدأ يتوارد اليه زعيق بشر وسيارات وأصوات باعة، وأدرك أن كل احتكاك مع كتفه أو صوت يتخلل أذنية يساهم في مضاعفة سمك جدار صومعته التي تزخر بعبق قدسي، فيتحرك رأسه حركة أشد، وتتقلص عضلات وجهه، حاول أن يصم اذنيه وأن يدور حول نفسه، ركض في اتجاهات لا يرغبها وهو يتلفت هلعا، لكن الأصوات وضربات الأكتاف تضاعفت بل اخذت تلاحقه، اعترضته في وسط الطريق كنبة متسخة، اختبأ خلفها لكن عيون كثيرة شامتة ،وابتسامات ساخرة، وأياد تهتز بعبثية وتشير باتجاهه، أهتز جسده ،أمسك بالملعقة ثانية وقرر أن يفجر جدار تلك الفقاعة ليرى ما خلفها ،ضربها ضربة حفيفة فالتصقت بالملعقة، قرب سبابته منها ثم سحبها فلم يجد لها أثراً، مد بصره اٍلى الشارع الذي كان يعج بالمارة والأصوات والعجلات التي تدور بلا توقف ، وقد خبا شفق المساء، وراحت بعض المصابيح ترسل أضويتها الواهنة، وقد سجى ليل كئيب
د. حميد نعمة عبد
د. حميد نعمة عبد : فقاعة