خورخي لويس بورخيس - الشعر وفنّ حكاية القصص.. ترجمة: صالح علماني

لا بد من أخذ التمايزات اللفظية في الاعتبار، لأنها تمثل تمايزات ذهنية، وثقافية. ولكن المؤسف أن كلمة "شاعر" قد انقسمت إلى اثنين. فعندما نتكلم اليوم عن شاعر ما، لا نفكر إلا في شخص ينطق بنغمات غنائية ومحكمة التناسق من نوع "بسفنٍ، كان البحر ملطخاً هنا وهناك، كأنها نجوم في السماء"؛ ووردزورث. أو "لماذا، وأنت موسيقى، تُحزنك الموسيقى؟ فالمسرة تسعى إلى المسرات، والسعادة ترغب في سعادة أخرى"، (شكسبير). بينما كان القدماء، عندما يتكلمون عن شاعر ـ "خالق" ـ لا يعتبرونه مجرد مُطلِق لهذه النغمات الغنائية السامية وحسب، وإنما يرون فيه كذلك راوية حكايات. حكايات يمكننا أن نجد فيها كل أصوات البشرية: ليس أصوات الغنائية، والتأمل، والكآبة فقط، وإنما كذلك أصوات الشجاعة والأمل. هذا يعني أنني سأتحدث عما أفترض أنه أقدم أشكال الشعر: الملحمة. فلنشغل أنفسنا بها لبعض الوقت.
ربما كان أول مثال يرد إلى ذهننا هو قصة طروادة، مثلما أسماها أندرو لانغ Andrew Lang، وترجمها بصورة بالغة الصواب. فلنتفحص فيها طريقة السرد المغرقة في القدم لقصة. منذ البيت الأول نجد شيئاً كهذا: "ربة الشعر، حدثيني عن غضبة آخيل". أو كما ترجمها البروفسور روس Rouse على ما أظن: "رجل غاضب: هذا هو موضوعي". ربما أن هوميروس، أو الرجل الذي نسميه هوميروس (وهذه قضية قديمة)، قد فكر في كتابة قصيدة عن رجل غاضب، وهذا يشوشنا، لأننا نفكر في الغضب على طريقة اللاتينيين: (ira furor brevis) الغضب هو ضرب آني وعابر من الجنون، إنه نوبة جنون. صحيح أن حبكة الإلياذة، بحد ذاتها، ليست ممتعة تماماً: فهذه الفكرة عن بطل معكر المزاج في خيمته، يشعر بأن الملك قد عامله بصورة جائرة، فيخوض الحرب كما لو أنها نزاع شخصي، لأنهم قتلوا صديقه، ويبيع للأب في النهاية، جثة الرجل الذي قتله.
ولكن، (وقد أكون قلت ذلك من قبل؛ بل أنا واثق من أنني قلته)، ربما تفتقر نوايا الشاعر إلى الأهمية. فما يهم اليوم ـ وإن كان هوميروس يعتقد حقاً أنه يروي هذه القصة (قصة الرجل الغاضب) ـ هو أنه يروي في الواقع شيئاً أكثر نبلاً: إنه يروي قصة رجل، بطل، يهاجم مدينة يعرف أنه لن يقتحمها أبداً، رجل يعرف أنه سيموت قبل أن تسقط المدينة. ولكن القصة الأشد تأثيراً هي قصة الرجال المدافعين عن مدينةٍ يعرفون مصيرها مسبقاً، مدينة آخذة بالاحتراق. أنا أظن أن هذا هو موضوع الإلياذة الحقيقي. وقد فكر البشر على الدوام، في الواقع، بأن الطرواديين هم الأبطال الحقيقيون. ونفكر في فرجيل Virgilio، ولكننا نستطيع أن نفكر أيضاً في سنوري ستورلاسون Snorri Sturluson، الذي كتب في أولى سنوات شبابه، أن "أودين" Odin ـ وأعني أودين، إله السكسونيين ـ هو ابن بريامو Priamo وأخ هكتور. لقد بحث البشر دوماً عن التضامن والتآلف مع الطرواديين المهزومين، وليس مع الإغريق المنتصرين. ربما لأن هناك في الهزيمة كرامة يصعب عليها أن تتوافق مع النصر.
فلنتناول قصيدة ملحمية ثانية: الأوديسة. يمكننا أن نقرأ الأوديسة بطريقتين. افترض أن الرجل (أو المرأة، مثلما كان يرى صمويل بتلر Samuel Butler الذي كتبها)، لم يكن يجهل أنها تتضمن في الواقع قصتين: عودة أوليسيس إلى بيته، وعجائب البحر ومخاطره. إذا ما تناولنا الأوديسة بالمعنى الأول، فستكون لدينا فكرة العودة، فكرة أننا نعيش في الصحراء، وأن بيتنا الحقيقي هو في الماضي، أو في السماء، أو في أي مكان آخر، وأننا لسنا في بيتنا مطلقاً.
ولكن، لا شك في أنه لا بد لحياة البحارة والرجوع من أن تتحول إلى شيء مشوق. وهكذا، شيئاً فشيئاً، راحت تُضاف عجائب كثيرة. وعندما نلجأ إلى ألف ليلة وليلة، نجد أن النسخة العربية من الأوديسة، أي رحلات سندباد السبع، ليست قصة عودة، وإنما قصة مغامرات؛ وأظن أننا نقرؤها على أنها كذلك. عندما نقرأ الأوديسة، أظن أن ما نشعر به هو الافتتان بالبحر، سحر البحر. ما نشعر به هو ما يكشف لنا عنه الملاح. فمثلاً: ليست لديه حماسة للقيثارة، ولا لتوزيع الخواتم، ولا لمتعة المرأة، ولا لعظمة العالم. إنه يبحث عن أعالي التيارات المالحة وحسب. وهكذا تكون لدينا القصتان في قصة واحدة: يمكننا أن نقرأها على أنها عودة إلى البيت، وباعتبارها قصة مغامرات، ربما هي أروع قصة مغامرات كُتبت أو غُنيت.
فلننتقل الآن إلى "قصيدة" ثالثة، تبرز أعلى بكثير من الأخريين، وأعني: الأناجيل الأربعة. فالأناجيل يمكن أن تُقرأ أيضاً بطريقتين. المؤمن يقرؤها على أنها القصة الغريبة لرجل، لإله، يُكَفِّر عن خطايا البشرية. إله يتقبل العذاب، يتقبل الموت على "الصليب المرّ" (الـ(bittre cross)، مثلما يقول شكسبير). هناك قراءة أكثر غرابة، أجدها لدى لانغلاندLangland : فكرة أن الرب أراد أن يعرف العذاب البشري بكليته، وأنه لم يكتف بمعرفته ذهنياً، مثلما هو متاح له إلوهياً؛ أراد أن يعاني كإنسان وبمحدودية إنسان. أما من هو (مثل كثيرين منا) غير مؤمن، فيمكنه أن يقرأ القصة بطريقة أخرى. يمكننا أن نفكر برجل نزق، رجل يعتقد أنه إله، ثم يكتشف في النهاية أنه ليس سوى بشر وأن الرب ـ ربه ـ قد تخلى عنه.
فلنقل إن هذه القصص الثلاث ـ قصة طروادة، وقصة أوليسيس، وقصة يسوع ـ كانت كافية للبشرية طوال قرون طويلة. رواها الناس، وأعادوا روايتها مرة بعد أخرى؛ وضعوا لها موسيقى، رسموها. رُويت مرات كثيرة، لكن القصص تبقى حية، بلا حدود. ويمكن لنا أن نفكر في أن أحداً، بعد ألف سنة، أو عشرة آلاف سنة، قد يعود مرة أخرى إلى كتابتها. ولكن، هناك فرق في حالة الأناجيل: فأنا أظن أنه لا يمكن لقصة المسيح أن تُروى بصورة أفضل. لقد رُويت مرات كثيرة، ولكنني أعتقد أن الآيات القليلة التي نقرأ فيها، على سبيل المثال، كيف أغوى الشيطان المسيح، تتضمن قوة أكبر من كتب "الفردوس المستعاد" الأربعة. فأحدنا يستشف بأن الشك ربما لم يكن يراود ميلتون حول نوع الإنسان الذي كأنه المسيح.
حسن، لدينا هذه القصص، ولدينا واقع أن البشر لا يحتاجون إلى كثير من القصص. يخيل إليَّ أن تشاوسر Chaucer لم يفكر قط في ابتكار قصة. لا أظن أن الناس كانوا أقل قدرة على الابتكار في تلك الأيام منهم اليوم. أعتقد أنهم كانوا يكتفون بالتنويعات الجديدة التي تضاف إلى القصة... التنويعات الحاذقة التي يضيفونها إلى القصة. وهذا يسهّل، فوق ذلك، مهمة الشاعر. فمستمعوه وقراؤه يعرفون مسبقاً ما الذي سيقوله، ويمكن لهم أن يقوّموا بمقياسهم العادل ما طرأ من اختلافات.
حسناً، الملحمة ـ ويمكننا اعتبار الأناجيل نوعاً من الملحمة الإلهية ـ تقبل كل شيء. لكن الشعر، مثلما قلت، عانى انقساماً؛ أو بعبارة أدق، صارت لدينا القصيدة الغنائية والمرثية من جهة، ولدينا من جهة أخرى رواية القصص: لدينا الرواية. ويكاد أحدنا أن يشعر بإغواء اعتبار الرواية موتاً للملحمة، على الرغم من وجود روائيين من أمثال جوزيف كونراد أو هيرمان ميلفيل، حيث تستعيد الرواية كرامة الملحمة وجدارتها.
إذا ما فكرنا في الرواية والملحمة، فإننا نجد أنفسنا منقادين إلى إغواء التفكير في أن الفرق الأساسي بينهما يقوم على الفرق بين الشعر والنثر، بين غناء الشيء أو عرضه. لكنني أفكر في أن هناك فرقاً أكبر. فالفرق يستند في الواقع إلى أن المهم في الملحمة هو البطل: إنسان هو نمط لكل البشر. بينما جوهر معظم الروايات، كما يشير مينكين Mencken، يستند إلى إخفاق إنسان، إلى انحطاط الشخصية وترديها.
هذا يقودنا إلى قضية أخرى: ما الذي نفكر فيه عن السعادة؟ ما الذي نفكر فيه بشأن الهزيمة، والنصر؟ عندما يتحدث الناس اليوم عن نهاية سعيدة، يعتبرونها محض تنازل للجمهور أو وسيلة ترويج تجارية؛ يعتبرونها مصطنعة. ولكن البشر، طوال قرون، كانوا قادرين، بصدق، على الإيمان بالسعادة والنصر، وإن كانوا يشعرون بما للهزيمة من جدارة وكرامة محتمتين. فعندما يكتب الناس، على سبيل المثال، عن "الفرو الذهبي" (إحدى أقدم قصص البشرية)، فإن المستمعين والقراء يعرفون منذ البدء أن الكنز سيُعثر عليه في النهاية.
حسن، إذا ما بدأت مغامرةٌ اليوم، فإننا نعرف أنها ستنتهي إلى الإخفاق. وعندما نقرأ ـ ويخطر لي مثال أقدره ـ أوراق أسبرن The Aspern Papers، نعرف أن الأوراق لن يُعثر عليها أبداً. وعندما نقرأ القلعة لفرانز كافكا، نعرف أن الرجل لن يدخل أبداً إلى القلعة. هذا يعني، لا يمكننا أن نؤمن حقاً بالسعادة والفوز. وربما كانت هذه واحدة من مبائس عصرنا. يخيل إليّ أن كافكا كان يشعر عملياً بالشيء نفسه عندما رغب في أن تُتلف كتبه: كان يرغب في الواقع في كتابة كتاب سعيد وانتصاري، وأدرك أن ذلك لم يكن مستحيلاً عليه. لقد كان بإمكانه أن يكتبه، دون شك، لكن الجمهور كان سيرى أنه لا يعبر عن حقيقة أحلامه.
فلنقل إن الإنسان، في أواخر القرن الثامن عشر أو بدايات القرن التاسع عشر (ولماذا نزعج أنفسنا في مناقشة التواريخ الدقيقة)، بدأ بابتكار الحبكات. ربما يمكننا القول إن العملية بدأت مع هاوثورن وإدغار ألن بو، وإن يكن هناك، دون شك، رواد على الدوام. ومثلما يشير روبن داريو، ليس ثمة من هو آدم أدبي. ولكن إدغار ألن بو هو الذي كتب أن القصة يجب أن تُكتب وعينها على الجملة الأخيرة، وأن تُكتب القصيدة وعينها على البيت الأخير. فانحدر هذا بالقصة إلى حيلة،وفي القرنين التاسع عشر والعشرين اخترع الناس كل أنواع الحبكات. وكانت هذه الحبكات أحياناً بالغة الحذق والإتقان؛ وهي، إذا ما اقتصرنا على حكايتها، أكثر حذقاً من حبكة الملحمة. ولكننا، لسبب ما، نلحظ فيها شيئاً مصطنعاً؛ أو بكلمة أدق، شيئاً مبتذلاً. وإذا ما تناولنا حالتين محددتين ـ ولتكونا قصة الدكتور جايكل والمستر هايد، وروايةً أو فيلماً مثل Psicosis ـ يمكن لحبكة الثانية أن تكون أكثر براعة، ولكننا نستشف أن هناك شيئاً أكثر وراء حبكة ستيفنسون.
بالنسبة إلى الفكرة التي صغتها في البداية، عن أنه لا وجود إلا لعدد ضئيل من الحبكات، ربما علينا أن نذكر تلك الكتب التي لا ينصب فيها الاهتمام على الحبكة، وإنما على تنوع الحبكات وتبدلها. إنني أفكر في ألف ليلة وليلة، في أورلاند الغضوب وكتب أخرى من هذا النوع. يمكننا أن نضيف كذلك فكرة الكنز المشؤوم. وهذه نجدها في V?lsunga Saga، وربما في نهاية بيوولفBeowulf : فكرة كنز يجلب الشرور للناس الذين يجدونه. وهنا يمكننا الوصول إلى الفكرة التي حاولتُ تطويرها في محاضرتي الأخيرة، حول الاستعارة: فكرة أنه ربما كانت كل الحبكات تستجيب فقط لعدد محدود من الأنماط. إن الناس اليوم، بالطبع، يخترعون الكثير من الحبكات التي تصيبنا بالانبهار. ولكن هجمة الحبكات الحاذقة هذه قد تضعف وتنهار، ونكتشف عندئذ أن كل هذه الحبكات ما هي إلا تنويعات ظاهرية لعدد محدود من الحبكات الجوهرية. وهذا، بالنسبة لي، خارج النقاش الآن.
لا بد من الإشارة إلى واقع آخر: يبدو أن الشعراء ينسون أن حكاية الحكايات كانت أساسية، ذات مرة؛ وأنه لم يكن يُنظر إلى حكاية قصة وإلقاء بعض أبيات الشعر على أنهما شيئان مختلفان. فالرجل الذي يحكي قصة، ويغنيها؛ لم يكن مستمعوه يعتبرونه رجلاً يمارس مهمة ذات مظهرين. أو ربما لم يكن يتشكل لديهم، أصلاً، الانطباع بأن هناك مظهرين مختلفين، بل ينظرون إلى ذلك كله باعتباره شيئاً أساسياً.
نصل الآن إلى زمننا، حيث نجد هذا الوضع الغريب فعلاً: لقد عشنا حربين عالميتين، ولكن، لسبب ما، لم تنبثق عنهما ملحمة؛ ربما باستثناء أعمدة الحكمة السبعة. ففي أعمدة الحكمة السبعة نجد الكثير من السمات الملحمية. ولكن الكتاب مثقل بواقع أن البطل هو الراوي نفسه؛ مما يفرض عليه أحياناً أن يتصاغر، يتأنسن، ويبالغ في جعل نفسه قريباً من المعقول وقابلاً للتصديق. ويجد نفسه مضطراً، عملياً، إلى اللجوء إلى حيل الروائي.
هناك كتاب آخر، منسي إلى حد بعيد، قرأته على ما أعتقد، سنة 1915: رواية تدعى "النار" Le Feu، لهنري باربوس. كان المؤلف داعية سلام؛ وكان كتاباً ضد الحرب. ولكن الملحمة تخترق الكتاب إلى حدّ ما (إنني أتذكر هجوماً مهولاً بالحراب). وكاتب آخر كان يمتلك الحس الملحمي هو كيبلنغ. نتبين ذلك في قصة بالغة الروعة مثل "حرب الصاحب" A Sahib`s War. ولكن، بالطريقة نفسها التي لم يمارس بها كيبلنغ كتابة السوناتا قط، لأنه يعتقد أنها قد تبعده عن قرائه، لم يكتب الملحمة قط، مع أنه كان قادراً على فعل ذلك. وأتذكر أيضاً تشيسترتون Chesterton الذي كتب "أغنية الحصان الأبيض"، قصيدة عن حرب الملك الفريد ضد الدنماركيين. ونجد فيها استعارات بالغة الغرابة (أتساءل كيف أمكن لي أن أنسى ذكرها في المحاضرة السابقة!): على سبيل المثال، "رخام مثل ضوء قمر متصلب"، "ذهبٌ مثل نار متجمدة"، حيث يقارن الرخام والذهب بشيئين أكثر منهما أولية، إنهما يقارنان بضوء القمر وبالنار؛ وليس بالنار تحديداً، وإنما بنار سحرية متجمدة.
الناس يتلهفون، بطريقة ما، إلى الملحمة. أظن أن الملحمة هي من الأشياء التي يحتاج البشر إليها. وبين كل الأمكنة (ويمكن لهذا أن يؤدي إلى نوع من الانحدار، ولكنه أمر واقع)، كانت هوليود هي التي أمدت العالم بأكبر قدر من الملحمية. فعندما يرى الناس، في كافة أنحاء الكوكب، فيلم ويسترن western ـ عند رؤيتهم ميثولوجيا الفارس، الصحراء، العدالة، الشريف، طلقات الرصاص، وكل هذه الأشياء ـ أظن أنهم يلتقطون الانفعال الملحمي، سواء أعرفوا ذلك أم لم يعرفوه. ومعرفته ليست مهمة في نهاية المطاف.
حسناً، لا أريد أن أقدم نبوءات، لأن مثل هذه الأشياء تنطوي على مجازفة (مع أنها قد تتحول، على المدى البعيد، إلى حقائق)، ولكنني أظن أنه، إذا ما قيض لرواية القصص وغناء الأشعار أن يعودا إلى الاندماج معاً، فإن شيئاً بالغ الأهمية سيحدث. ربما يبدأ ذلك في الولايات المتحدة، لأن لدى الولايات المتحدة، كما تعلمون، حساً أخلاقياً لما هو خيّر ولما هو شرير. وربما كان هذا الحس موجوداً أيضاً لدى بعض البلدان، ولكنني لا أظن أنه يظهر بصورة جلية مثلما أكتشفه هنا. فإذا ما تحقق ذلك، إذا ما استطعنا العودة إلى الملحمة، سيكون قد تم التوصل إلى شيء عظيم جداً. عندما كتب تشيسترتون: "أغنية الحصان الأبيض" نال عليها نقداً طيباً وأشياء من هذا القبيل، ولكنه لم يجد تجاوباً من القراء. عملياً، عندما نفكر في تشيسترتون، فإننا نفكر في سلالة الأب براون وليس في هذه القصيدة.
لم أفكر في القضية إلا في عمر متقدم إلى حد لا بأس به؛ وفوق ذلك، لا أظن أنني جربت كتابة الملحمة (وإن أكن، ربما، قد خلّفت سطرين أو ثلاثة أسطر ملحمية). هذه مهمة رجال أكثر شباباً. وأحتفظ بالأمل في أنهم سيحققونها، لأن لدينا جميعنا، بكل تأكيد، الإحساس بأن الرواية آخذة بالإخفاق إلى حدّ ما. فكروا في الروايات الأساسية في زمننا، بـ"أوليسيس جويس"، على سبيل المثال، لقد قيل لنا آلاف الأشياء عن الشخصيتين، ولكننا لا نعرفهما. إننا نعرف، بصورة أفضل، شخصيات دانتي أو شكسبير، التي تُقدم لنا ـ والتي تعيش وتموت ـ في بضع جمل قليلة. لا نعرف الكثير عن أوضاعهم، ولكننا نعرفهم بصورة حميمة. وهذا، بكل تأكيد، أكثر أهمية بكثير.
أظن أن الرواية آخذة بالإخفاق. أظن أن كل هذه التجارب في الرواية، وهي شديدة الجرأة والأهمية ـ فكرة تبدلات الزمن مثلاً، وفكرة أن تكون الرواية محكية من قبل شخصيات مختلفة ـ كلها تتوجه نحو اللحظة التي نشعر فيها بأن الرواية لم تعد ترافقنا.
ولكن هناك شيء مرتبط بالحكاية والقصة، شيء يبقى ويستمر على الدوام. لا أظن أن البشر يتعبون أبداً من سماع وحكاية القصص. وإذا ما رافق متعة سماع القصص، احتفاظنا بمتعة إضافية من كرامة الشعر وجدارته، فإن شيئاً عظيماً لا بد أن يحدث عندئذ.
ربما كنتُ رجلاً عتيقاً من القرن التاسع عشر، لكنني متفائل ولدي أمل: وبما أن المستقبل يتضمن أشياء كثيرة ـ ربما ينطوي المستقبل على كل الأشياء ـ فإنني أفكر في أن الملحمة ستعود إلينا. وأظن أن الشاعر سيعود ليكون خالقاً من جديد. أعني أنه سيروي قصة وسيغنيها أيضاً. ولن نعتبر هذين الأمرين مختلفين، مثلما لا نعتبرهما مختلفين عند هوميروس وفيرجيل.

في العام 1967 دعي خورخي لويس بورخيس إلى الولايات المتحدة لإلقاء سلسلة محاضرات في جامعة هارفرد، حول فن الشعر ووظيفته. وكانت عناوين المحاضرات كما يلي: "لغز الشعر"، و"الاستعارة"، و"فن حكاية القصص في الشعر: الملحمة"، و"موسيقى الكلمات وترجمة الشعر" و"الفكر والشعر" وأخيراً "معتقد الشاعر". وقد ظلت هذه المحاضرات الست منسية طوال عقود، إلى أن وجدها أحد أساتذة الجامعة، وقد غطاها غبار السنين، فأعاد تحقيقها وطباعتها، لتصدر مجموعة في كتيب صغير بعنوان "فن الشعر"، عن جامعة هارفرد نفسها.

هنا الثالثة، وهي الأصغر بين المحاضرات، وتحمل عنوان "فن حكاية القصص".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى