تبتعد سيارة الأجرة مخلفة غباراً يتصاعد ببطء متلاشياً بين أوراق الصفصاف. صوت المحرك ينسحب تدريجياً أمام السقسقة المنبعثة من الأشجار المتطاولة. (خذ المفاتيح. أريدك أن تراه. نظّم له كشفاً شاملاً. الأشياء التالفة بدلّها: الأبواب، الكهربائيات، غيّر دون الرجوع إليّ. تذّكر المحافظة على طابع القصر. تدري أنه، بحالته هذه، ليس سوى خربة، لكن عندما أرممه سيصبح له شأن آخر. هذا ما أظنه).
المسافة بين المكان الذي تركت فيه السيارة وبوابة القصر الرئيسة تتجاوز الخمسين متراً مرصوفة ببلاطات كونكريت يخفي التراب أجزاءها المهشمة، ومن المفاصل بين بلاطة وأخرى تقسّم الحشائش النابتة الممر بخطوط خضر إلى مربعات تبدو متساوية، ولكني، وأنا أخطو فوقها باتجاه البوابة الكبيرة، أرى الاختلاف الواضح بين أبعادها. على جانبي الممر في الساقية اليابسة حشائش أخرى يبلغ ارتفاعها نصف المتر متيبّسة تماماً تتخللها، بارتفاع أعلى، هياكل أشجار متخشبة.
من الخارج يبدو القصر كقلعة. تتوزع واجهته الأمامية أعمدة رخام تحمل شرفات محاطة بأسيجة خشب منخورة. سلسلة حديد تربط مصراعي الباب يتدلى منها قفل كبير صدئ. أمسكت شريط القياس تحت أبطي لأستخرج كومة المفاتيح.
ظهر، وأنا أجرّب المفاتيح، من الكوخ القريب من البوابة. (سيضايقك. ماذا أفعل. يرفض مغادرة القصر. سنين وهو يعيش هناك دون أن يدفع له أحد فلساً واحداً. رافقني في كل خطوة. فتح الأبواب واحداً واحداً وكأنه يطلعني على شيء يمتلكه. المفاتيح بيد ويقودني من غرفة لأخرى باليد الثانية. المفاتيح التي تسلّمتها بعد دفع المبلغ لم تفتح باباً. لم آخذ منه المفاتيح إلا بصعوبة، حتى أنني توسّلتُ إليه).
– لا تتعب نفسك. المفتاح معي.
وقف أمامي إلى جانب البوابة الآخر رجل جاوز الستين. يبدو، وهو يمسك قضبان البوابة الحديد بكلتا يديه، كسجين أخرج تواً من نفقٍ تحت الأرض ليمثُل أمام محكمة: وجه مليء بأخاديد سود بفعل الوسخ المتراكم، عيون غائرة يفتحها بصعوبة، شعر نابت على الوجه في فوضى، فم أشبه بكهف مهجور تحرسه خفافيش سود تقف متأهبة على فكيه، وله أنف كمنقار ببغاء. (وقت المزايدة كان موجوداً بجانب المنصة بحالته التي ستراه عليها شابكاً ذراعيه على صدره. قلت: أن المزايدة ليست على القصر وحده. دنوت من المنصة. قال له رجل كان يدوّن بعض المعلومات: اشترى القصر، هل رأيته؟ هات المفاتيح. كان ينظر إليّ ثمّ حوّل بصره إليه، أخرج مفاتيح مربوطة بخيط قذر، ضربها بقوة على المنصة واستدار ذاهباً).
نخطو، وهو يقودني إلى الباب الرئيس للقصر، فوق بلاطات كونكريتية ملونة تبدو في حال لا بأس بها، ومع ذلك فهي بحاجة إلى قلع وإعادة رصف، سأرصفه ببلاطات مطعّمة بالمرمر، وعلى الجانبين سأضع أسيجة حديد مزخرفة بأشكال سداسية وسأترك فتحات يمكن من خلالها الدخول إلى الحديقة الواسعة أمام القصر، و…
– الله.. الله.
كدتُ أسقط. ارتطمت قدمي بشيء صلب. احتضنني بيديه:
– انتبه!
فتح يديه بهدوء وحذر وكأنه يخشى سقوطي بمجرد أن تتركني يداه. ينظر إليّ لحظات، جسده منحنٍ وذراعاه متأهبتان لاستقبالي. عاد وأمسك برسغي الأيمن:
– انتبه لقدميك.
ثلاث درجات تفصل الممر الخارجي عن المساحة المسقفة أمام الباب الخشب الرئيس الصاج، فوقها إطار نصف دائري من الصاج تقسمه قطع خشب صغيرة إلى أشكال خماسية وسداسية تحفظ بينها زجاج ملوّن على جانبي شكل نجمي كبير في الوسط كان زجاجه مكسوراً. تركني واتجه إلى الباب وكومة المفاتيح بيده.
عرض الباب حوالي متر ونصف وارتفاعها عن الأرض إلى القاعدة نصف الدائرية يقارب ثلاثة أمتار. النقشة تتكرر على الباب. لا ينقصها شيء، فقط تنعّم وتصبغ (بالدملوك).
– أدخل، أمسكَ بيدي،
– هذا هو القصر. تريد أن تراه؟ أعرف ذلك. أعرفه. كثيرون قبلك جاءوا ليرونه. قدتهم إلى غرفه، ممراته. حتى القبو سأجعلك تراه، سنبدأ به أولاً. اتبعني. هرول. ما بك؟ أنا أعرف هذا القصر أكثر من أي أحدٍ آخر، عُمر.. عمر بأكمله قضيته فيه، سنين طويلة، فصول تتعاقب وأنا هنا، معهم وبعيداً عنهم، طفلاً ألعب مع أطفالهم، وخادمهم لمّا كبروا، أنا أيضاً كبرت، هذا باب القبو، مثلهم تماماً. حاذر وأنت تنزل، بعض الدرجات متآكلة، أمسك بالدرابزين، عندما تزوجوا، مثبتٌ على الجانب، وأنجبوا حملتُ أطفالهم، مثل أبي. الظلمة؟ الكهرباء هنا عاطلة. أعرف أين أجد السراج. وضعته هناك: في الزاوية، على السرير الخشب حيث كانت تستلقي وقت الظهر، أراها من النافذة، هناك، أتراها؟ أعرف أنّ الضوء قليل. كنت أراها بوضوح. سأشعل السراج. انتظر هنا. لا تتحرك. قد توقظها. ربما لا زالت نائمة. حسن. وجدته. ها.. أرأيت؟ هذا هو القبو: جدران تسلّقتها الرطوبة، نخرتها الأرضة، والماء.. الماء ينزّ من هنا، تعال لأريك، من زمان ينزّ من هذا المكان، عندما كانت تنزل وتراه تصرخ فيّ من الشباك، أطلّ، أراها مستلقية: انزح الماء. حاضر. أسرع بالسطل وقطعة القماش، أجدها على السرير: الهواء مشبع بالرطوبة. نعم سيدتي. أٌقلّب قطعة القماش بالماء وعيني تفترس كرشة ساقها البضّة. رفضوا أن يصدّقوا أني كبرت. أعصر القطعة بشدة. ترفع رأسها إليّ: هل انتهيت؟ أنت لا ترى الماء الآن، نشفّته قبل قليل، بإمكانك تحسس الرطوبة بيديك، هاتها، بعد ساعات سيتجمع، وسأنشفه من جديد. أرأيته؟ الآن اتبعني. نضع السراج على السرير، نطفئه ونخرج. أمسك بي وإلا ضللتَ طريقك. حاذر، وأنت تصعد، الدرجات مثلومة الحافات. حسن. تنفّس. تنفّس بعمق. الهواء في الداخل مشبع بالرطوبة، هي كانت تقول ذلك. نحن الآن في الصالة. تعال. تعال لنقف في المنتصف تحت ثرية الكريستال، أتعرف كيف علّقوها؟ جاءوا بسلّم، سلّم طويل كالذي يستخدمه رجال الإطفاء، ربطوه، لا أدري كيف، مع سلّمٍ آخر، وعندما أوقفوهما شكلا الرقم (8) كما رسمه المعلم ذلك الصباح، صعد رجل ضخم الجثة، ألقى على كتفيه السلسلة الغليظة، أتراها، كانت تتدلى على بطنه، تلامس ركبتيه، صعد أحد السلالم، علّقها هناك، ثمّ رفعوا الثرية وعلّقوها فوق المائدة، كانت هنا، وهم ينتشرون حولها، رجال، نساء، ملابس فاخرة، أذرع عارية، صدور مرمر، سلاسل ذهب تتدلى من الجيوب، أكفّ تضيء، معاصم تبرق، وأبي.. أبي كان يقف هناك، أمام الباب المؤدي إلى المطبخ، ببذلته السوداء وقميصه الأبيض، قطعة قماش مطوية بعناية على ذراعه اليسرى، كنت في الخارج ألصق وجهي بزجاج النافذة، أراه، يأخذ إلى هذا كأساً، آخذ من تلك قدحاً فارغاً، أحمل الشالات والمعاطف وهو في الخارج يلتحف بمعطف عسكري قديم بعد أن ترك لي بذلته، لا زالت معي، سأريكها عندما تخرج. هنا كانت المائدة وحولها عدد من الكراسي كنّا نحملها، أنا وأبي، في الليالي الضاجة إلى تلك الغرفة، ثم أصبحتُ أحملها وحدي.
كان يلهث. حبّات العرق تتلامع على جبهته ورقبته. الثرية الكريستال كبيرة حقاً معلّقة في قبة السقف العالية بسلسلة غليظة. الصالة حولي واسعة وخالية إلا منّا، كان يمسح وجهه بذيل (الدشداشة) المتسخ ويتمخّط بصوت عال. باب القبو أصبح خلفي، أمامي ثلاثة شبابيك على شكل أقواس بارتفاعات مختلفة تطل على الأشجار المتخشبة، إنها تتكرر على الجدار الجانبي. الأبواب، كالشبابيك، مصممة على الطراز الإسلامي . تحت الثرية المعلقة نجمة سداسية من مرمر أسود وسط دائرة من مرمر أحمر بحجم قاعدة القبة، ومنها تمتد ممرات سود إلى الأبواب المحيطة بالصالة، في الركن البعيد سلم نصف دائري.
اتجهت إليه وهو يخطو إلى جانبي:
– الغرف، ألا تريد رؤيتها؟
– سأراها عندما أنزل.
– أرجوك، سيدي، انتظره هنا، لا تصعد إليه، اجلس هنا وسأذهب لأوقظه، إنه يرفض دخول أحد غيري غرفة نومه، أنا فقط من يدخلها، إنه يثق بي، يثق بي كثيراً، أوقظه كل صباح ليغتسل ثم أحمل له الفطور، دخلت دون أن أطرق الباب، كان في الحمام، سمعته يغني، وهو، بمنامتها، تتحرك في الغرفة: ضعه.. ضعه هنا، أشارت بذراعها العارية إلى منضدة قريبة. اقتربت، تسللتْ إلى أنفي بقايا عطر. ومن خلف الباب كنت أسمعه يغني، وكنت أراها بوضوح.
تركني وهرول إلى غرفة في أقصى الممر، انحنى إلى ثقب الباب ثم أشار إليّ هامسًا:
– إنهما في الحمام. هه.. هه.. هه.. يغني كعادته. هذه غرفتهما.
– غرفة من؟
– هس. قد يسمعك. قلت لك أنه لا يريد أحدًا غيري دخول غرفته.
– كان هنا غيرك؟
– أبي، وعندما ذهب بقيت وحدي. لا يسمح للطباخ الاقتراب من السلم، عندما رآه يوما فوق طرده. كثيرون.. كثيرون عملوا هنا، رجال ونساء، بعضهم كان يطرد بضجة بينما يختفي الآخرون فجأة، ننتظرهم يومين، ثلاثة، ثم نبحث عن بديل.
– الغرفة نظيفة!
– نعم سيدي، نظيفة. أنظفها يوميا. بعد أن يخرج تظهر في الممر، تشير إليّ، لا يمكنها مناداتي بصوت عال كي لا يستيقظ أبوه، إنه يشغل الغرفة البعيدة، هناك، يكاد لا يخرج، أحيانا ينام النهار بأكمله، تشير إلي، أصعد بحذر، أدخل، تغلق الباب بهدوء ونبدأ التنظيف، كانت تساعدني، تساعدني كثيرا، إلا أني هذا الصباح نظفتها وحدي.
مرمر أبيض بحمرة خفيفة، في الوسط نجمة سوداء، وعلى الجوانب الأربع حزام من مرمر أسود يؤطر أرضية الغرفة. ذيول مسامير ناتئة، أسفلها آثار إطارات مربعة ومستطيلة للوحات كانت معلقة. الشباك مسدود والستائر مسدلة.
– هيا أخرج. أخرج قبل أن يخرج من الحمام ويراك. أقفلَ الباب بعد أن دفعني إلى الممر الممتد على طول الصالة المفتوحة. أبواب كثيرة موصدة على الجانبين.
– كل هذه غرف!
– نعم سيدي. غرف. غرف ممتلئة: سجاد فاخر، أوان فضة، نحاس، مناضد من الصاج، أرائك، كراسي، زجاجيات، أشياء صغيرة يحضرونها معهم من الخارج، وصناديق، صناديق كثيرة وثقيلة كنا نجد، أنا وأبي، صعوبة في تحريكها أثناء تنظيف الغرف، صناديق بأقفال كبيرة، وعندما بدأوا يسافرون بدأت الأقفال تختفي، الصناديق تخف أوزانها، أعدادها تقل، الأشياء الأخرى أيضا اختفت معهم، بعض الليالي كنت أسمع صراخا ولغطا وسبابا، وفي الصباح أحمل الحقائب إلى السيارة المنتظرة، حتى الذين يأتون انقطعوا، غرف عديدة أوصدت، لم تبق إلا هذه الغرفة وغرفة العجوز، إنه نائم الآن، أيقظه أبي، كان يحمل إبريق الماء الساخن بيده، وكنت أحمل الطست بيدي، استيقظ، أنزل قدميه إلى الطست أسفل حافة السرير، ساقاه بيضاوان كالشحم تخططهما عروق زرق تتكاثف عند مشط القدم:
– أصابعي.. أفرك أصابعي.
– نعم عمو.
– عندما تكبر ماذا ستكون؟ طبيبا أم مهندسا؟
أجفف قدميه وأحمل الطست معي. تريد أن تراه؟ اذهب وحدك. المفتاح.. خذه، افتح الباب وادخل، سأبقى بعيدا، ستجده نائما، ولماذا يستيقظ؟ بقي وحده. آخر الحقائب حملتها هذا الصباح ثم نظفت الغرفة وحدي. لم تعد تساعدني كما كانت. وجدته وسط الصالة، يطوف في القصر الذي رأيت أبي يمسح بلاطه، يدهن أخشابه، يقدم الشراب إلى أناس تغص بهم قاعاته وغرفه. أمس قالت لي: قدم له الكثير من الشراب. غاب عن الوعي. ذهبت إليها. وجدته مضطجعا على الأرض، لم أحمله إلى فراشه، ضجرت منه، كل ليلة أجده في مكان وأحمله بصعوبة، لم تكن موجودة لتساعدني، تصور.. حتى عندما حملوه لم ينتبه، بقي نائما كعادته، لا أظنه سيستيقظ عندما تدخل، غرفته هناك: في نهاية الممر على اليمين.
دخلت. العفونة تنبعث بشكل يصعب تحملها. أخرجت منديلي، وضعته على أنفي وفمي. الغرفة زريبة. أكوام البراز على كل بلاطة تقريبا وحولها بقع البول المصفرة. في الركن، بقع بول على أغطية ممزقة تتكوم على أحد طرفي فراش متهرئ على طرفه الآخر بقعتان سوداوان فوق وسادة متسخة. ومن ذلك الركن تمتد خطوط الأرضة في كل مكان.
كانون أول / 1991 م
** إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.
عن وبإذن من:
محمد عبد حسن : القصر (ملف/14)
المسافة بين المكان الذي تركت فيه السيارة وبوابة القصر الرئيسة تتجاوز الخمسين متراً مرصوفة ببلاطات كونكريت يخفي التراب أجزاءها المهشمة، ومن المفاصل بين بلاطة وأخرى تقسّم الحشائش النابتة الممر بخطوط خضر إلى مربعات تبدو متساوية، ولكني، وأنا أخطو فوقها باتجاه البوابة الكبيرة، أرى الاختلاف الواضح بين أبعادها. على جانبي الممر في الساقية اليابسة حشائش أخرى يبلغ ارتفاعها نصف المتر متيبّسة تماماً تتخللها، بارتفاع أعلى، هياكل أشجار متخشبة.
من الخارج يبدو القصر كقلعة. تتوزع واجهته الأمامية أعمدة رخام تحمل شرفات محاطة بأسيجة خشب منخورة. سلسلة حديد تربط مصراعي الباب يتدلى منها قفل كبير صدئ. أمسكت شريط القياس تحت أبطي لأستخرج كومة المفاتيح.
ظهر، وأنا أجرّب المفاتيح، من الكوخ القريب من البوابة. (سيضايقك. ماذا أفعل. يرفض مغادرة القصر. سنين وهو يعيش هناك دون أن يدفع له أحد فلساً واحداً. رافقني في كل خطوة. فتح الأبواب واحداً واحداً وكأنه يطلعني على شيء يمتلكه. المفاتيح بيد ويقودني من غرفة لأخرى باليد الثانية. المفاتيح التي تسلّمتها بعد دفع المبلغ لم تفتح باباً. لم آخذ منه المفاتيح إلا بصعوبة، حتى أنني توسّلتُ إليه).
– لا تتعب نفسك. المفتاح معي.
وقف أمامي إلى جانب البوابة الآخر رجل جاوز الستين. يبدو، وهو يمسك قضبان البوابة الحديد بكلتا يديه، كسجين أخرج تواً من نفقٍ تحت الأرض ليمثُل أمام محكمة: وجه مليء بأخاديد سود بفعل الوسخ المتراكم، عيون غائرة يفتحها بصعوبة، شعر نابت على الوجه في فوضى، فم أشبه بكهف مهجور تحرسه خفافيش سود تقف متأهبة على فكيه، وله أنف كمنقار ببغاء. (وقت المزايدة كان موجوداً بجانب المنصة بحالته التي ستراه عليها شابكاً ذراعيه على صدره. قلت: أن المزايدة ليست على القصر وحده. دنوت من المنصة. قال له رجل كان يدوّن بعض المعلومات: اشترى القصر، هل رأيته؟ هات المفاتيح. كان ينظر إليّ ثمّ حوّل بصره إليه، أخرج مفاتيح مربوطة بخيط قذر، ضربها بقوة على المنصة واستدار ذاهباً).
نخطو، وهو يقودني إلى الباب الرئيس للقصر، فوق بلاطات كونكريتية ملونة تبدو في حال لا بأس بها، ومع ذلك فهي بحاجة إلى قلع وإعادة رصف، سأرصفه ببلاطات مطعّمة بالمرمر، وعلى الجانبين سأضع أسيجة حديد مزخرفة بأشكال سداسية وسأترك فتحات يمكن من خلالها الدخول إلى الحديقة الواسعة أمام القصر، و…
– الله.. الله.
كدتُ أسقط. ارتطمت قدمي بشيء صلب. احتضنني بيديه:
– انتبه!
فتح يديه بهدوء وحذر وكأنه يخشى سقوطي بمجرد أن تتركني يداه. ينظر إليّ لحظات، جسده منحنٍ وذراعاه متأهبتان لاستقبالي. عاد وأمسك برسغي الأيمن:
– انتبه لقدميك.
ثلاث درجات تفصل الممر الخارجي عن المساحة المسقفة أمام الباب الخشب الرئيس الصاج، فوقها إطار نصف دائري من الصاج تقسمه قطع خشب صغيرة إلى أشكال خماسية وسداسية تحفظ بينها زجاج ملوّن على جانبي شكل نجمي كبير في الوسط كان زجاجه مكسوراً. تركني واتجه إلى الباب وكومة المفاتيح بيده.
عرض الباب حوالي متر ونصف وارتفاعها عن الأرض إلى القاعدة نصف الدائرية يقارب ثلاثة أمتار. النقشة تتكرر على الباب. لا ينقصها شيء، فقط تنعّم وتصبغ (بالدملوك).
– أدخل، أمسكَ بيدي،
– هذا هو القصر. تريد أن تراه؟ أعرف ذلك. أعرفه. كثيرون قبلك جاءوا ليرونه. قدتهم إلى غرفه، ممراته. حتى القبو سأجعلك تراه، سنبدأ به أولاً. اتبعني. هرول. ما بك؟ أنا أعرف هذا القصر أكثر من أي أحدٍ آخر، عُمر.. عمر بأكمله قضيته فيه، سنين طويلة، فصول تتعاقب وأنا هنا، معهم وبعيداً عنهم، طفلاً ألعب مع أطفالهم، وخادمهم لمّا كبروا، أنا أيضاً كبرت، هذا باب القبو، مثلهم تماماً. حاذر وأنت تنزل، بعض الدرجات متآكلة، أمسك بالدرابزين، عندما تزوجوا، مثبتٌ على الجانب، وأنجبوا حملتُ أطفالهم، مثل أبي. الظلمة؟ الكهرباء هنا عاطلة. أعرف أين أجد السراج. وضعته هناك: في الزاوية، على السرير الخشب حيث كانت تستلقي وقت الظهر، أراها من النافذة، هناك، أتراها؟ أعرف أنّ الضوء قليل. كنت أراها بوضوح. سأشعل السراج. انتظر هنا. لا تتحرك. قد توقظها. ربما لا زالت نائمة. حسن. وجدته. ها.. أرأيت؟ هذا هو القبو: جدران تسلّقتها الرطوبة، نخرتها الأرضة، والماء.. الماء ينزّ من هنا، تعال لأريك، من زمان ينزّ من هذا المكان، عندما كانت تنزل وتراه تصرخ فيّ من الشباك، أطلّ، أراها مستلقية: انزح الماء. حاضر. أسرع بالسطل وقطعة القماش، أجدها على السرير: الهواء مشبع بالرطوبة. نعم سيدتي. أٌقلّب قطعة القماش بالماء وعيني تفترس كرشة ساقها البضّة. رفضوا أن يصدّقوا أني كبرت. أعصر القطعة بشدة. ترفع رأسها إليّ: هل انتهيت؟ أنت لا ترى الماء الآن، نشفّته قبل قليل، بإمكانك تحسس الرطوبة بيديك، هاتها، بعد ساعات سيتجمع، وسأنشفه من جديد. أرأيته؟ الآن اتبعني. نضع السراج على السرير، نطفئه ونخرج. أمسك بي وإلا ضللتَ طريقك. حاذر، وأنت تصعد، الدرجات مثلومة الحافات. حسن. تنفّس. تنفّس بعمق. الهواء في الداخل مشبع بالرطوبة، هي كانت تقول ذلك. نحن الآن في الصالة. تعال. تعال لنقف في المنتصف تحت ثرية الكريستال، أتعرف كيف علّقوها؟ جاءوا بسلّم، سلّم طويل كالذي يستخدمه رجال الإطفاء، ربطوه، لا أدري كيف، مع سلّمٍ آخر، وعندما أوقفوهما شكلا الرقم (8) كما رسمه المعلم ذلك الصباح، صعد رجل ضخم الجثة، ألقى على كتفيه السلسلة الغليظة، أتراها، كانت تتدلى على بطنه، تلامس ركبتيه، صعد أحد السلالم، علّقها هناك، ثمّ رفعوا الثرية وعلّقوها فوق المائدة، كانت هنا، وهم ينتشرون حولها، رجال، نساء، ملابس فاخرة، أذرع عارية، صدور مرمر، سلاسل ذهب تتدلى من الجيوب، أكفّ تضيء، معاصم تبرق، وأبي.. أبي كان يقف هناك، أمام الباب المؤدي إلى المطبخ، ببذلته السوداء وقميصه الأبيض، قطعة قماش مطوية بعناية على ذراعه اليسرى، كنت في الخارج ألصق وجهي بزجاج النافذة، أراه، يأخذ إلى هذا كأساً، آخذ من تلك قدحاً فارغاً، أحمل الشالات والمعاطف وهو في الخارج يلتحف بمعطف عسكري قديم بعد أن ترك لي بذلته، لا زالت معي، سأريكها عندما تخرج. هنا كانت المائدة وحولها عدد من الكراسي كنّا نحملها، أنا وأبي، في الليالي الضاجة إلى تلك الغرفة، ثم أصبحتُ أحملها وحدي.
كان يلهث. حبّات العرق تتلامع على جبهته ورقبته. الثرية الكريستال كبيرة حقاً معلّقة في قبة السقف العالية بسلسلة غليظة. الصالة حولي واسعة وخالية إلا منّا، كان يمسح وجهه بذيل (الدشداشة) المتسخ ويتمخّط بصوت عال. باب القبو أصبح خلفي، أمامي ثلاثة شبابيك على شكل أقواس بارتفاعات مختلفة تطل على الأشجار المتخشبة، إنها تتكرر على الجدار الجانبي. الأبواب، كالشبابيك، مصممة على الطراز الإسلامي . تحت الثرية المعلقة نجمة سداسية من مرمر أسود وسط دائرة من مرمر أحمر بحجم قاعدة القبة، ومنها تمتد ممرات سود إلى الأبواب المحيطة بالصالة، في الركن البعيد سلم نصف دائري.
اتجهت إليه وهو يخطو إلى جانبي:
– الغرف، ألا تريد رؤيتها؟
– سأراها عندما أنزل.
– أرجوك، سيدي، انتظره هنا، لا تصعد إليه، اجلس هنا وسأذهب لأوقظه، إنه يرفض دخول أحد غيري غرفة نومه، أنا فقط من يدخلها، إنه يثق بي، يثق بي كثيراً، أوقظه كل صباح ليغتسل ثم أحمل له الفطور، دخلت دون أن أطرق الباب، كان في الحمام، سمعته يغني، وهو، بمنامتها، تتحرك في الغرفة: ضعه.. ضعه هنا، أشارت بذراعها العارية إلى منضدة قريبة. اقتربت، تسللتْ إلى أنفي بقايا عطر. ومن خلف الباب كنت أسمعه يغني، وكنت أراها بوضوح.
تركني وهرول إلى غرفة في أقصى الممر، انحنى إلى ثقب الباب ثم أشار إليّ هامسًا:
– إنهما في الحمام. هه.. هه.. هه.. يغني كعادته. هذه غرفتهما.
– غرفة من؟
– هس. قد يسمعك. قلت لك أنه لا يريد أحدًا غيري دخول غرفته.
– كان هنا غيرك؟
– أبي، وعندما ذهب بقيت وحدي. لا يسمح للطباخ الاقتراب من السلم، عندما رآه يوما فوق طرده. كثيرون.. كثيرون عملوا هنا، رجال ونساء، بعضهم كان يطرد بضجة بينما يختفي الآخرون فجأة، ننتظرهم يومين، ثلاثة، ثم نبحث عن بديل.
– الغرفة نظيفة!
– نعم سيدي، نظيفة. أنظفها يوميا. بعد أن يخرج تظهر في الممر، تشير إليّ، لا يمكنها مناداتي بصوت عال كي لا يستيقظ أبوه، إنه يشغل الغرفة البعيدة، هناك، يكاد لا يخرج، أحيانا ينام النهار بأكمله، تشير إلي، أصعد بحذر، أدخل، تغلق الباب بهدوء ونبدأ التنظيف، كانت تساعدني، تساعدني كثيرا، إلا أني هذا الصباح نظفتها وحدي.
مرمر أبيض بحمرة خفيفة، في الوسط نجمة سوداء، وعلى الجوانب الأربع حزام من مرمر أسود يؤطر أرضية الغرفة. ذيول مسامير ناتئة، أسفلها آثار إطارات مربعة ومستطيلة للوحات كانت معلقة. الشباك مسدود والستائر مسدلة.
– هيا أخرج. أخرج قبل أن يخرج من الحمام ويراك. أقفلَ الباب بعد أن دفعني إلى الممر الممتد على طول الصالة المفتوحة. أبواب كثيرة موصدة على الجانبين.
– كل هذه غرف!
– نعم سيدي. غرف. غرف ممتلئة: سجاد فاخر، أوان فضة، نحاس، مناضد من الصاج، أرائك، كراسي، زجاجيات، أشياء صغيرة يحضرونها معهم من الخارج، وصناديق، صناديق كثيرة وثقيلة كنا نجد، أنا وأبي، صعوبة في تحريكها أثناء تنظيف الغرف، صناديق بأقفال كبيرة، وعندما بدأوا يسافرون بدأت الأقفال تختفي، الصناديق تخف أوزانها، أعدادها تقل، الأشياء الأخرى أيضا اختفت معهم، بعض الليالي كنت أسمع صراخا ولغطا وسبابا، وفي الصباح أحمل الحقائب إلى السيارة المنتظرة، حتى الذين يأتون انقطعوا، غرف عديدة أوصدت، لم تبق إلا هذه الغرفة وغرفة العجوز، إنه نائم الآن، أيقظه أبي، كان يحمل إبريق الماء الساخن بيده، وكنت أحمل الطست بيدي، استيقظ، أنزل قدميه إلى الطست أسفل حافة السرير، ساقاه بيضاوان كالشحم تخططهما عروق زرق تتكاثف عند مشط القدم:
– أصابعي.. أفرك أصابعي.
– نعم عمو.
– عندما تكبر ماذا ستكون؟ طبيبا أم مهندسا؟
أجفف قدميه وأحمل الطست معي. تريد أن تراه؟ اذهب وحدك. المفتاح.. خذه، افتح الباب وادخل، سأبقى بعيدا، ستجده نائما، ولماذا يستيقظ؟ بقي وحده. آخر الحقائب حملتها هذا الصباح ثم نظفت الغرفة وحدي. لم تعد تساعدني كما كانت. وجدته وسط الصالة، يطوف في القصر الذي رأيت أبي يمسح بلاطه، يدهن أخشابه، يقدم الشراب إلى أناس تغص بهم قاعاته وغرفه. أمس قالت لي: قدم له الكثير من الشراب. غاب عن الوعي. ذهبت إليها. وجدته مضطجعا على الأرض، لم أحمله إلى فراشه، ضجرت منه، كل ليلة أجده في مكان وأحمله بصعوبة، لم تكن موجودة لتساعدني، تصور.. حتى عندما حملوه لم ينتبه، بقي نائما كعادته، لا أظنه سيستيقظ عندما تدخل، غرفته هناك: في نهاية الممر على اليمين.
دخلت. العفونة تنبعث بشكل يصعب تحملها. أخرجت منديلي، وضعته على أنفي وفمي. الغرفة زريبة. أكوام البراز على كل بلاطة تقريبا وحولها بقع البول المصفرة. في الركن، بقع بول على أغطية ممزقة تتكوم على أحد طرفي فراش متهرئ على طرفه الآخر بقعتان سوداوان فوق وسادة متسخة. ومن ذلك الركن تمتد خطوط الأرضة في كل مكان.
كانون أول / 1991 م
** إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.
عن وبإذن من:
محمد عبد حسن : القصر (ملف/14)