عندما فتحتُ عينيّ لأول مرة قرأتُ صفحات وجهه المحبرة بالشدة، وربما بالحزن، وحفظتها عن ظهر حب، رغم قساوتها، يومها بذرَ حبه في أعماقي، فنما وترعرع، لقد أحببته منذ الوهلة الأولى، وأظنني قد أحببته قبلها، ربما عندما سمعتُ صوته لأول مرة، لحظة كان يداعب حبيبته، وكنتُ أصغي لهمسهما وهمهمتهما ومرحهما وحوارهما، حينئذ لم يكن قد رآني أو رأيته، لم يسمعني لكني سمعته، " فالأذن تعشق قبل العين أحيانا".
رغم إحساسي العميق به وبكل ما يعانيه، إلا أن شعوري الأعمق بأن أشد ورطاته هي خطيئة وجودي في حياته، وكأنني أُقحمتُ فيها رغماً عنه، وحُشرتُ بين أعبائه بلا إرادته، كان مجيئي إلى بيته أشبه بغلطة بل نقمة، إلا أن حبه كبر معي لحظة بلحظة ويوماً بعد آخر، بينما ترعرعتُ في كنفه الرافض لي، ترعرع حبه فِي كنف قلبي الشغوف به، رغم أنه لا يناديني باسمي بتاتاً- ربما لا يعرفه وقد يكرهه ولا يطيقه- لا اسم لي في هذا البيت الذي يجمعني به، والدته تناديني (بنيتي) وهو يناديني يا (أنتِ).
هذا البيت يبدو قارساً جداً، ويزدادُ صقيعاً عندما يتركه ويرحل، لا أحد فيه سواي، وحضوره النادر، ووالدته الشبه عاجزة، الدامعة كثيراً، والصامتة دوماً، ولكن وجودها كان بلسماً يطبب جروحي التي تدميها مخالبه، تظل تحميني منه، وتُهدئ تنمره عليّ، وافتراسه لي.
رغم كل ما أعاني منه، إلاّ أنني اعتدتُ على كل شيء ممزوج بنكهته، شروده الغارق، قسوته الظاهرة، عبوسه الدائم، قراراته الصارمة، نفوره المستمر، وحيرته الصامتة، امتلأتُ به حد التخمة، لا أرى أحداً غيره في محيطي، لقد توغل إلى أعماقي بانسياب وعقل وثاقي بشخصيته وحضوره وامتلائه! بينما هو لا يراني في قاموسه اليومي، لا ينتبه لي ولا يعيرني أي اهتمام، ولا يشعرني بوجودي، وكأني كيان منبوذ في هذا البيت، وربما أثاث قديم رمى به في ركنٍ قصي من هذا البيت، نسيه وتجاهله، ولم يعد يثير اهتمامه، ولا يعني له أي قيمة.
كان اعتيادي اليومي هو ممارسة دهشتي به، وحبه دون الاقترب منه حتى لا أثير مخالبه؛ فتتنمر علي وتنهشني، أو يدمي نفوره قلبي، وتخدش كلماته الجارحة روحي، هذا الرجل من نار ووهج كلما اقتربتُ منه احرقني؛ لذلك اكتفيت أن أتدفأ بوهجه عن بعد، تكفيني جمراته التي اكتوي بها، وندبه صاخبة في قلبي ضاجة بالأجيج.
كانت لحظات تواجده في محيطي هي أسعد أوقاتي، أظلُ أتأملُ كل تفاصيله، أتفحصه من أخمصيه حتى ناصيته: إطلالته البهية، هيبته الآسرة، سكناته وحركاته، شروده الطويل، ابتسامته المفاجئة، ثم عبوسه المباغت، ودمعاً يحاصره في حدقتيه، لا أعرف له سبباً، فأشكُ أنني سببه، تواجدي في حياته برمتها هو سبب حزنه وعبوسه وتجهمهُ الدائم والطويل، كم تمنيت أن أراه مبتسماً كما ألفته في ألبوم صوره مع سهاد التي استرقت النظر إليها ذات غفلة؟
هذا الرجل رغم قسوته ونفوره وكرهه لي إلا أنه كبلنيّ بجميع تفاصيله، التي تلتقطها حدقتيَّ بمهارة فائقة، ثم توحي لي تقليدها بإتقان، حتى أفعاله التي يذم نفسه على فعلها تستهوني كثيراً، ريثما يرحل أبحثُ لشغفي عن مخبأ وأقوم بتقليده. يستهويني تقليده في لحظات غيابه؛ لأعيش إحساسه، وانتشي بنشوته، التي أقرأها كل يوم في محياه، وهو يتلذذ بإشعال سيجارته، ونفخ رذاذها على اندهاشي به، يغمض إحدى عينيه ويشزرني بالأخرى، بينما أتكوم في ركن يرتجف كارتجاف قلبي من نظراته الناقمة، لكن إيماني العميق به وبكل ما يقوم به- وبأنه لا يقوم بأي فعل محض عبث أو تجريب- كان أقوى من قسوته وشدته وغلظته وفظاظته، كان شغفي به وحبي له أقوى من ارتعابي، وارتجافي، وخوفي، وترقبي، ونفوره واحتجاجه الصامت لوجودي في حياته. وزرعتُ في يقيني أن كل ما يفعله أو يقوم به لائق وحسن مهما كانت مساوئه. احساسي به كان متفرداً.
كنت أمني نفسي وأخدعها بأنه يبادلني الحب نفسه، لكنه لم يعترف لي بذلك البتة، ولم أتلق منه يوماً ما تصريحاً بذلك، ربما يعتقد أن حبه لي سيُفسدني، هكذا كنت أخدع نفسي وأواسيها وأرمم شرخ نفوره في قلبي المتعلقة به. لطالما صمتَ عني كمداً وكرهاً ونفوراً، وصمتُ عنه رهبة وهيبة ومحبة، نسكن البيت نفسه كغريبين جمعهما قدر عاثر لا حظ له، حتى حل ذلك اليوم الذي غير مجرى حياتي وحياته، فكانت المواجهة الكبرى بيني وبينه، ومواجهة القدر الذي جمعني به، ولم يكن لي ذنب فيه ولا جريرة ، ولكنه اتخذ مني خصيمة وشماعة علق عليها جميع خيباته وآلامه ونكباته.
وصل إلى المنزل في ظهيرة ذلك اليوم الصيفي الحارق، وهو يتصببُ عرقاً، توجه إلى غرفته مهرولاً مرتجفاً، تخلص من ملابسه وأسرع نحو دورة المياه ليطفئ جمر جسده الملتهب، خرج بعد أن أطفأ لهيب جسده، وأنا أرقب تحركاته بصمت، ألصقتُ جسدي بالجدار متوارية في مخبئي السري حتى لا يراني، حتى أوشكتُ أن أغوص فيه، كان يلفُ منشفة حول خاصرته، بينما جسده يتصببُ قطراً وارتجافاً، رجَّ شعره يمنة ويسرة، فتطايرت قطرات في الأفق، لتحط على حدقتي التي تلتقط -ككاميرا سرية ذات أبعاد ثلاثة -كل حركة يقوم بها.
تكفلت ضربة الشمس التي تلقاها بإذابة جليد وجهه المتصلب، فردت جبينه المتجهم وأرخت تشنجات عصبيته. توجه نحو غرفته، كان يبدو مسالماً وهو يرتعش ويتأوه، لذا تجاسرتُ وتبعتُ آثار قطراته بجدارة، حسمتُ أمري، وقررتُ أن اقتحم عليه خلوته، تحركتْ خطواتي بهدوء، علنيِّ اجتاز الباب الموارب دون أي ضجة، تلصصتُ من شقٍ مفتوح، فرأيتهُ أمام ناظري متكوماً على سريره، بدا لي مرتعشاً يرتعدُ ويضمُ ارتجافه بذراعيه، مرتدياً بجامته الزرقاء التي ترتجف معه أيضاً، تلك البجامة كم أحببتها وكرهتها في الوقت نفسه؟! ولطالما حاولت مراراً في غيابه أن أسدلها على جسدي بعد أن أشتم رائحتهُ الساكنة على امتدادها، لكن لا حظ يحالفني!
حشرتُ جسدي من شق الباب بحذرٍ شديد؛ حتى لا أحدث أي جلبة فيتيقظُ لوجودي، ظللتُ أرقبه عن بعد بأنفاس حذرة، سنحت لي فرصة حاتمية بكرمها الفائض أن أمثل بين يديه، اقتربتُ منه، فتسللتْ رائحة بزته العسكرية المنتصبة بشموخ قائد محنك عبر شهيقي، دنوت منها، دسستُ أنفي بين أطرافها المتدلية، وعبأت رئتيّ برائحته، قبلتها بعمق.
لم يعرني - الأسد الذي طالما خشيتُ من انقضاضه لو علم بدخولي غرفته - هذه اللحظة أي اهتمام. وتوجست بيني وبين نفسي، وجالت مخاوف بمخيلتي، ماذا لو كانت عيناه ترقبان تحركاتي وترصدان كل خطواتي بحسه الأمني الدقيق؟ يا إلهي مجرد التفكير خيالاً بهذا الموضوع يوقف نبضي!
بقدر إحجامه عني ورفضه التحدث معي والبوح لي، ازددتُ تصميماً على أن أصارحهُ بمكنونات نفسي، شددتُ أزر قلبي، واستجمعتُ شجاعتي، اقتربتُ منه وهو متكوم على جنبه، يضع معصمه فوق عينيه، وقد تعالى أنينه وربما شخيره، لم أميز أيهما احتال عليّ به؛ ليوهمني بغرقه في سبات عميق؟
بدا نصف وجهه السفلي ظاهراً، شاربه الممتد بفخامة متكئا على ذقنه قي استمالة رائقة، أما جسده فكان يرتعدُ بين شهيق وزفير. اقتربتُ منه بحذر، بينما قلبي يهدرُ كانهيارٍ جليدي في يوم ٍصيفي حار، وضعتُ كفي على جبينه الملتهب؛ فتيقظ وارتعد وهو يهذي بأطلال حبه البائد، وينادي على سهاد، أنا لستُ سهاد، ولم ألتقي بها أبداً، لم تكن سهاد موجودة، لكنه كان يهذي باسمها، أيظنني هي؟ ربما..!
والدته أيضاً لم تكن موجودة حينها، لم يكن قربه أحد سواي، وهذيانه المستمر، وحمى تقتاد جسده، وفرصة كليلة قدر مُنحتها لأقترب منه وأشتمُ رائحتهُ وألمسه دون أن يخدش نفوره وتنمره قلبي، ريثما وضعتُ كفي الباردة على جبينه المستعر، استرخى وظهرت ملامح الراحة والرضا على وجهه. وضع يده المستعرة فوق كفي المسترخية على جبينه محاولة إطفاء الحرائق التي تلتهمه، شدَّ على كفي بقوة فضجَ قلبي نابضاً. كان يرتجفُ حمى وذكرى فهمس لي بصوتٍ خفوت:
- سهاد يا نبض القلب أطفئيني فإني أستعر..!
ظللتُ بجواره، أعطيته مسكناً للألم، وخافضاً للحرارة، مرت ساعات خلالها تناوبت بين يديَّ كمادات باردة أضع إحداها وأرفع أخرى حتى هدأ رجيفه، وسكن أجيجه، وخلد لنوم عميق. طويت كل محتويات هذه الغرفة بنظرات فاحصة، هذه الغرفة غير مسموح لي ولوجها البتة في وجوده أو حتى في غيابه، لكنني كنتُ أتلصصُ عليها أحياناً من شقٍ مواربٍ عندما يكون غائباً، وها أنا الآن اقتحمها بجراءة، أخيراً تجرأتُ على كل شراسته واقتحمت عرينه.
في غياب والدته تبدو غرفته مبعثرة كغرف الأطفال، هو أيضاً يبدو لي في حالته الآنية كطفلٍ فطيم ألمتْ به عللٌ فهدمته، هذا الماثل أمامي مازال فطيم الحب منذُ سنوات، ولم يبرأ وجعه بعد، تنقلتْ نظراتي بينه وبين متعلقاته المتناثر في أركان الغرفة، هناك في ركن قصي من سريره مكتبه اليتيم وعليه أوراقه المبعثرة، على يمين سريره طاولة خشبية تتربع على مساحتها إطار صورته وهو يحتضن حبيبته سهاد، لعلهُ يغمضُ عينيه عليها كل مساء ويفتحها كل صباح، لقد كان يعشق سهاد حد الثمالة، هذا ما اخبرتني به والدته، ولكنها لم تخبرني أنه يكرهني بقدر حبه لها وأكثر.
وعلى مقربة منه طاولة زجاجية تحتضن بعض متعلقاته: قداحته وعلبة سجائره ومفاتيح سيارته، وبعض أشياء متناثرة لا أعلم سبباً لاحتفاظه بها، لعلها متعلقات تذكرهُ بحبيبته. وأمام كل هذا التناثر تقبعُ خزانة على يسار سريره، تسللت نظراتي من بابها الموارب فرأيتُ ملابساً أنثوية بألوان زاهية، تخصُ حبيبته سهاد، كل شيء هنا يخصُ سهاد حتى هو يعد ملكها الخاص.
التقطتُ قداحته وعلبة سيجارته، فتحتها، أمعنتُ النظر فيها، في حين أسترجعتْ ذاكرتي مراسيم تعاطيه خطوة بخطوة قررتُ أن أتبعها، وأخوض التجربة التي ستجعلني حتماً أشبههُ وأنتمي إليه، هو لا يحبني البتة، ولا يعترف بي، ولا يحبُ شيئاً في هذه الحياة سوى سهاد وسجائره، ماذا لو أتقنتُ استجلاب هذا السم اللذيذ كما يفعل وشهقته إلى جوف رئتي؟ لعله حينها يعترف بي ويدنيني منه. أدنيتُ السيجارة من فمي، ألصقتها بأنفي، شممتها، تناولت إحداها، تفحصتها، وقبل أن اجتاز خطوة إشعال القداحة، امتدت يداه نحوي، وأمسك ذراعي بقوة.
التفتُ نحوه والرعبُ يخوضُ في قلبي اعصاراً لا هوادة فيه، ظل يتمعنُ وجهي وكأنه يراه لأول مرة ، انبسطتْ ملامح وجهه المتشنجة، وهمس لي بحنان لم يتفوه به من قبل بتاتاً:
- أأنتِ إرثُ سهاد الذي تركتهُ لي ورحلت؟ أم أنك شبيهتها يا معذبتي؟ لماذا تشبهينها وتقلدين أفعالها؟
صمت قلبي برهة ولم أعرف بماذا أجيبهُ؟ وبدون سابق إنذار تغيرتْ ملامحه وهاجتْ موجات غضب على وجهه فصرخ في وجهي محتجاً، مستنكراً، محققاً، ساكباً على رأسي كل اتهاماته:
- أنت التي قتلتها لتنعمي بالحياة بدلاً عنها. ماذا فعلتِ بي وبحبيبتي ؟ لماذا كان مجيئكِ سبباً في رحيلها وعذابي؟ لماذا تشبهينها كل هذا الشبه؟ كيف للقاتل أن يشبه ضحيته؟ أنت أيتها الرَمَس أين سهادي؟ أعيديها لي!
تجاسرتُ بكل ما أوتيت من قهر وحب ودفاع، تجرأتُ وتفجرتُ كبركان ظل خاملاً لسنوات، باكية، محتجة، مستنكرة، متوددة، مدافعة، مترافعة عن ذنبٍ لم ارتكبه:
- لماذا أسميتني رَمَس؟ هل تظنني قاتلة سهاد لذلك تكرهني بكل طاقات الكره ؟ لماذا تحمل لي كل هذا الكره والحقد والنفور؟ لكنني لا أستطيع أن أبادلك هذا الشعور، لا أستطيع فعل شيء سوى ان أحبك ملء روحي، أحبك كثيراً وكثيراً جداً، أحبك بابا. أنا لست قاتلة، كيف لي أن أقتل سهاد وأنا التي جئت منها، ومنها ومنك صرت ابنتك الوحيدة، لستُ أنا من ارتكب خطيئة سهاد، لستُ من قتلها وحرمك منها، إنه القدر الذي أخذها منكَ وأَعْطَانِيكَ..!
رغم إحساسي العميق به وبكل ما يعانيه، إلا أن شعوري الأعمق بأن أشد ورطاته هي خطيئة وجودي في حياته، وكأنني أُقحمتُ فيها رغماً عنه، وحُشرتُ بين أعبائه بلا إرادته، كان مجيئي إلى بيته أشبه بغلطة بل نقمة، إلا أن حبه كبر معي لحظة بلحظة ويوماً بعد آخر، بينما ترعرعتُ في كنفه الرافض لي، ترعرع حبه فِي كنف قلبي الشغوف به، رغم أنه لا يناديني باسمي بتاتاً- ربما لا يعرفه وقد يكرهه ولا يطيقه- لا اسم لي في هذا البيت الذي يجمعني به، والدته تناديني (بنيتي) وهو يناديني يا (أنتِ).
هذا البيت يبدو قارساً جداً، ويزدادُ صقيعاً عندما يتركه ويرحل، لا أحد فيه سواي، وحضوره النادر، ووالدته الشبه عاجزة، الدامعة كثيراً، والصامتة دوماً، ولكن وجودها كان بلسماً يطبب جروحي التي تدميها مخالبه، تظل تحميني منه، وتُهدئ تنمره عليّ، وافتراسه لي.
رغم كل ما أعاني منه، إلاّ أنني اعتدتُ على كل شيء ممزوج بنكهته، شروده الغارق، قسوته الظاهرة، عبوسه الدائم، قراراته الصارمة، نفوره المستمر، وحيرته الصامتة، امتلأتُ به حد التخمة، لا أرى أحداً غيره في محيطي، لقد توغل إلى أعماقي بانسياب وعقل وثاقي بشخصيته وحضوره وامتلائه! بينما هو لا يراني في قاموسه اليومي، لا ينتبه لي ولا يعيرني أي اهتمام، ولا يشعرني بوجودي، وكأني كيان منبوذ في هذا البيت، وربما أثاث قديم رمى به في ركنٍ قصي من هذا البيت، نسيه وتجاهله، ولم يعد يثير اهتمامه، ولا يعني له أي قيمة.
كان اعتيادي اليومي هو ممارسة دهشتي به، وحبه دون الاقترب منه حتى لا أثير مخالبه؛ فتتنمر علي وتنهشني، أو يدمي نفوره قلبي، وتخدش كلماته الجارحة روحي، هذا الرجل من نار ووهج كلما اقتربتُ منه احرقني؛ لذلك اكتفيت أن أتدفأ بوهجه عن بعد، تكفيني جمراته التي اكتوي بها، وندبه صاخبة في قلبي ضاجة بالأجيج.
كانت لحظات تواجده في محيطي هي أسعد أوقاتي، أظلُ أتأملُ كل تفاصيله، أتفحصه من أخمصيه حتى ناصيته: إطلالته البهية، هيبته الآسرة، سكناته وحركاته، شروده الطويل، ابتسامته المفاجئة، ثم عبوسه المباغت، ودمعاً يحاصره في حدقتيه، لا أعرف له سبباً، فأشكُ أنني سببه، تواجدي في حياته برمتها هو سبب حزنه وعبوسه وتجهمهُ الدائم والطويل، كم تمنيت أن أراه مبتسماً كما ألفته في ألبوم صوره مع سهاد التي استرقت النظر إليها ذات غفلة؟
هذا الرجل رغم قسوته ونفوره وكرهه لي إلا أنه كبلنيّ بجميع تفاصيله، التي تلتقطها حدقتيَّ بمهارة فائقة، ثم توحي لي تقليدها بإتقان، حتى أفعاله التي يذم نفسه على فعلها تستهوني كثيراً، ريثما يرحل أبحثُ لشغفي عن مخبأ وأقوم بتقليده. يستهويني تقليده في لحظات غيابه؛ لأعيش إحساسه، وانتشي بنشوته، التي أقرأها كل يوم في محياه، وهو يتلذذ بإشعال سيجارته، ونفخ رذاذها على اندهاشي به، يغمض إحدى عينيه ويشزرني بالأخرى، بينما أتكوم في ركن يرتجف كارتجاف قلبي من نظراته الناقمة، لكن إيماني العميق به وبكل ما يقوم به- وبأنه لا يقوم بأي فعل محض عبث أو تجريب- كان أقوى من قسوته وشدته وغلظته وفظاظته، كان شغفي به وحبي له أقوى من ارتعابي، وارتجافي، وخوفي، وترقبي، ونفوره واحتجاجه الصامت لوجودي في حياته. وزرعتُ في يقيني أن كل ما يفعله أو يقوم به لائق وحسن مهما كانت مساوئه. احساسي به كان متفرداً.
كنت أمني نفسي وأخدعها بأنه يبادلني الحب نفسه، لكنه لم يعترف لي بذلك البتة، ولم أتلق منه يوماً ما تصريحاً بذلك، ربما يعتقد أن حبه لي سيُفسدني، هكذا كنت أخدع نفسي وأواسيها وأرمم شرخ نفوره في قلبي المتعلقة به. لطالما صمتَ عني كمداً وكرهاً ونفوراً، وصمتُ عنه رهبة وهيبة ومحبة، نسكن البيت نفسه كغريبين جمعهما قدر عاثر لا حظ له، حتى حل ذلك اليوم الذي غير مجرى حياتي وحياته، فكانت المواجهة الكبرى بيني وبينه، ومواجهة القدر الذي جمعني به، ولم يكن لي ذنب فيه ولا جريرة ، ولكنه اتخذ مني خصيمة وشماعة علق عليها جميع خيباته وآلامه ونكباته.
وصل إلى المنزل في ظهيرة ذلك اليوم الصيفي الحارق، وهو يتصببُ عرقاً، توجه إلى غرفته مهرولاً مرتجفاً، تخلص من ملابسه وأسرع نحو دورة المياه ليطفئ جمر جسده الملتهب، خرج بعد أن أطفأ لهيب جسده، وأنا أرقب تحركاته بصمت، ألصقتُ جسدي بالجدار متوارية في مخبئي السري حتى لا يراني، حتى أوشكتُ أن أغوص فيه، كان يلفُ منشفة حول خاصرته، بينما جسده يتصببُ قطراً وارتجافاً، رجَّ شعره يمنة ويسرة، فتطايرت قطرات في الأفق، لتحط على حدقتي التي تلتقط -ككاميرا سرية ذات أبعاد ثلاثة -كل حركة يقوم بها.
تكفلت ضربة الشمس التي تلقاها بإذابة جليد وجهه المتصلب، فردت جبينه المتجهم وأرخت تشنجات عصبيته. توجه نحو غرفته، كان يبدو مسالماً وهو يرتعش ويتأوه، لذا تجاسرتُ وتبعتُ آثار قطراته بجدارة، حسمتُ أمري، وقررتُ أن اقتحم عليه خلوته، تحركتْ خطواتي بهدوء، علنيِّ اجتاز الباب الموارب دون أي ضجة، تلصصتُ من شقٍ مفتوح، فرأيتهُ أمام ناظري متكوماً على سريره، بدا لي مرتعشاً يرتعدُ ويضمُ ارتجافه بذراعيه، مرتدياً بجامته الزرقاء التي ترتجف معه أيضاً، تلك البجامة كم أحببتها وكرهتها في الوقت نفسه؟! ولطالما حاولت مراراً في غيابه أن أسدلها على جسدي بعد أن أشتم رائحتهُ الساكنة على امتدادها، لكن لا حظ يحالفني!
حشرتُ جسدي من شق الباب بحذرٍ شديد؛ حتى لا أحدث أي جلبة فيتيقظُ لوجودي، ظللتُ أرقبه عن بعد بأنفاس حذرة، سنحت لي فرصة حاتمية بكرمها الفائض أن أمثل بين يديه، اقتربتُ منه، فتسللتْ رائحة بزته العسكرية المنتصبة بشموخ قائد محنك عبر شهيقي، دنوت منها، دسستُ أنفي بين أطرافها المتدلية، وعبأت رئتيّ برائحته، قبلتها بعمق.
لم يعرني - الأسد الذي طالما خشيتُ من انقضاضه لو علم بدخولي غرفته - هذه اللحظة أي اهتمام. وتوجست بيني وبين نفسي، وجالت مخاوف بمخيلتي، ماذا لو كانت عيناه ترقبان تحركاتي وترصدان كل خطواتي بحسه الأمني الدقيق؟ يا إلهي مجرد التفكير خيالاً بهذا الموضوع يوقف نبضي!
بقدر إحجامه عني ورفضه التحدث معي والبوح لي، ازددتُ تصميماً على أن أصارحهُ بمكنونات نفسي، شددتُ أزر قلبي، واستجمعتُ شجاعتي، اقتربتُ منه وهو متكوم على جنبه، يضع معصمه فوق عينيه، وقد تعالى أنينه وربما شخيره، لم أميز أيهما احتال عليّ به؛ ليوهمني بغرقه في سبات عميق؟
بدا نصف وجهه السفلي ظاهراً، شاربه الممتد بفخامة متكئا على ذقنه قي استمالة رائقة، أما جسده فكان يرتعدُ بين شهيق وزفير. اقتربتُ منه بحذر، بينما قلبي يهدرُ كانهيارٍ جليدي في يوم ٍصيفي حار، وضعتُ كفي على جبينه الملتهب؛ فتيقظ وارتعد وهو يهذي بأطلال حبه البائد، وينادي على سهاد، أنا لستُ سهاد، ولم ألتقي بها أبداً، لم تكن سهاد موجودة، لكنه كان يهذي باسمها، أيظنني هي؟ ربما..!
والدته أيضاً لم تكن موجودة حينها، لم يكن قربه أحد سواي، وهذيانه المستمر، وحمى تقتاد جسده، وفرصة كليلة قدر مُنحتها لأقترب منه وأشتمُ رائحتهُ وألمسه دون أن يخدش نفوره وتنمره قلبي، ريثما وضعتُ كفي الباردة على جبينه المستعر، استرخى وظهرت ملامح الراحة والرضا على وجهه. وضع يده المستعرة فوق كفي المسترخية على جبينه محاولة إطفاء الحرائق التي تلتهمه، شدَّ على كفي بقوة فضجَ قلبي نابضاً. كان يرتجفُ حمى وذكرى فهمس لي بصوتٍ خفوت:
- سهاد يا نبض القلب أطفئيني فإني أستعر..!
ظللتُ بجواره، أعطيته مسكناً للألم، وخافضاً للحرارة، مرت ساعات خلالها تناوبت بين يديَّ كمادات باردة أضع إحداها وأرفع أخرى حتى هدأ رجيفه، وسكن أجيجه، وخلد لنوم عميق. طويت كل محتويات هذه الغرفة بنظرات فاحصة، هذه الغرفة غير مسموح لي ولوجها البتة في وجوده أو حتى في غيابه، لكنني كنتُ أتلصصُ عليها أحياناً من شقٍ مواربٍ عندما يكون غائباً، وها أنا الآن اقتحمها بجراءة، أخيراً تجرأتُ على كل شراسته واقتحمت عرينه.
في غياب والدته تبدو غرفته مبعثرة كغرف الأطفال، هو أيضاً يبدو لي في حالته الآنية كطفلٍ فطيم ألمتْ به عللٌ فهدمته، هذا الماثل أمامي مازال فطيم الحب منذُ سنوات، ولم يبرأ وجعه بعد، تنقلتْ نظراتي بينه وبين متعلقاته المتناثر في أركان الغرفة، هناك في ركن قصي من سريره مكتبه اليتيم وعليه أوراقه المبعثرة، على يمين سريره طاولة خشبية تتربع على مساحتها إطار صورته وهو يحتضن حبيبته سهاد، لعلهُ يغمضُ عينيه عليها كل مساء ويفتحها كل صباح، لقد كان يعشق سهاد حد الثمالة، هذا ما اخبرتني به والدته، ولكنها لم تخبرني أنه يكرهني بقدر حبه لها وأكثر.
وعلى مقربة منه طاولة زجاجية تحتضن بعض متعلقاته: قداحته وعلبة سجائره ومفاتيح سيارته، وبعض أشياء متناثرة لا أعلم سبباً لاحتفاظه بها، لعلها متعلقات تذكرهُ بحبيبته. وأمام كل هذا التناثر تقبعُ خزانة على يسار سريره، تسللت نظراتي من بابها الموارب فرأيتُ ملابساً أنثوية بألوان زاهية، تخصُ حبيبته سهاد، كل شيء هنا يخصُ سهاد حتى هو يعد ملكها الخاص.
التقطتُ قداحته وعلبة سيجارته، فتحتها، أمعنتُ النظر فيها، في حين أسترجعتْ ذاكرتي مراسيم تعاطيه خطوة بخطوة قررتُ أن أتبعها، وأخوض التجربة التي ستجعلني حتماً أشبههُ وأنتمي إليه، هو لا يحبني البتة، ولا يعترف بي، ولا يحبُ شيئاً في هذه الحياة سوى سهاد وسجائره، ماذا لو أتقنتُ استجلاب هذا السم اللذيذ كما يفعل وشهقته إلى جوف رئتي؟ لعله حينها يعترف بي ويدنيني منه. أدنيتُ السيجارة من فمي، ألصقتها بأنفي، شممتها، تناولت إحداها، تفحصتها، وقبل أن اجتاز خطوة إشعال القداحة، امتدت يداه نحوي، وأمسك ذراعي بقوة.
التفتُ نحوه والرعبُ يخوضُ في قلبي اعصاراً لا هوادة فيه، ظل يتمعنُ وجهي وكأنه يراه لأول مرة ، انبسطتْ ملامح وجهه المتشنجة، وهمس لي بحنان لم يتفوه به من قبل بتاتاً:
- أأنتِ إرثُ سهاد الذي تركتهُ لي ورحلت؟ أم أنك شبيهتها يا معذبتي؟ لماذا تشبهينها وتقلدين أفعالها؟
صمت قلبي برهة ولم أعرف بماذا أجيبهُ؟ وبدون سابق إنذار تغيرتْ ملامحه وهاجتْ موجات غضب على وجهه فصرخ في وجهي محتجاً، مستنكراً، محققاً، ساكباً على رأسي كل اتهاماته:
- أنت التي قتلتها لتنعمي بالحياة بدلاً عنها. ماذا فعلتِ بي وبحبيبتي ؟ لماذا كان مجيئكِ سبباً في رحيلها وعذابي؟ لماذا تشبهينها كل هذا الشبه؟ كيف للقاتل أن يشبه ضحيته؟ أنت أيتها الرَمَس أين سهادي؟ أعيديها لي!
تجاسرتُ بكل ما أوتيت من قهر وحب ودفاع، تجرأتُ وتفجرتُ كبركان ظل خاملاً لسنوات، باكية، محتجة، مستنكرة، متوددة، مدافعة، مترافعة عن ذنبٍ لم ارتكبه:
- لماذا أسميتني رَمَس؟ هل تظنني قاتلة سهاد لذلك تكرهني بكل طاقات الكره ؟ لماذا تحمل لي كل هذا الكره والحقد والنفور؟ لكنني لا أستطيع أن أبادلك هذا الشعور، لا أستطيع فعل شيء سوى ان أحبك ملء روحي، أحبك كثيراً وكثيراً جداً، أحبك بابا. أنا لست قاتلة، كيف لي أن أقتل سهاد وأنا التي جئت منها، ومنها ومنك صرت ابنتك الوحيدة، لستُ أنا من ارتكب خطيئة سهاد، لستُ من قتلها وحرمك منها، إنه القدر الذي أخذها منكَ وأَعْطَانِيكَ..!