أدب السجون حيدر الكعبي - الإعتقال..

لدى فتح باب البيت اخترق الظلَّ الذي كان يقبع تحت فتحة الباب مثلثٌ من أشعة الشمس سرعان ما قطعتْه خطى شرطيين مدنيين. كان أولُهما نحيفاً ببزة خضراء داكنة. الآخرُ بثياب بنيّة بلون القِرْفة. ســمع ناجي مزلاجَ باب الغرفة يُسحب فيُصْدر صليلاً كصليل عجلات القطار لحظة وقوفه. ما إنْ فُتِح البابُ حتى انقضَّ أخوه عليه كسَبَّاحٍ يقذف بجسمه من جرف نهر، مطوقاً إياه بذراعيه كمن يعانقه، وقد حجب بجسده للحظاتٍ وجْهَيِ الرجلين الغريبين اللذين سدا بجسميهما الباب. ثم، بوثبة أخرى، غيّر موضعه وأمسكه من الخلف. والرجل ذو البدلة الخضراء يمط إحدى زاويتي شفتيه بنصف ابتسامة، ووجهه يتفصَّد عَرَقَاً دون سبب واضح. الآخر يدس يده اليمنى وراء خاصرته دافعاً ذيل سترته بذراعه مستعداً لسحب مسدس. ذو البدلة الخضراء تفحصه طويلاً قبل ان يدمدم من بين أسنانه بنغمة منتصرة: "لازم فاجأناك،" فيما راح أخوه يحكم طوق ذراعيه حوله بعنف لم يعد ضرورياً، فهو حتى لم يقاوم. ذو البدلة البنية خطا باتجاهه وتحسس ثيابه من الحزام حتى الجوربين، قبل أن ينهضَ ويواجهَه محدقاً في عينيه مباشرة، ويحشرجَ بصوتٍ أجش: " شاعر الحزب، هه،" وقد فاحت أنفاسه تبغاً. كان شارباه كثَّين وبدا كأنه يعضُّهما حين يتكلم. كان في طوله تقريباً، وهو يواجهه الآن، ويكاد يلتصق به. "نتشرف،" عقـّب ذو البدلة الخضراء، وكشَّر كاشفاً عن سِنِّ بلاتين في مقدمة الفك العلوي. "نحب نعزمك ع العشا الليلة، شنو رأيك؟" أضاف الرجل الآخر بصوته المحشرج، وأمسكه من ذراعه اليسرى حالّاً محلَّ الأخ الأكبر، اليدُ اليسرى على المرفق واليمنى على الرسغ. لكنَّ أخاه لم يُخْلِ سبيلَه تماماً بل أمسك بذراعه اليمنى، قبل أن يَحِلَّ محلَّه في هذه المهمة أيضاً الرجل ذو البدلة الخضراء. ثم شَبَكَ الرجلان أصابعهما بأصابعه بقوة، كُلّاً من جهته، واتجها الى باب الغرفة. "وين حذاءه؟" قال ذو البدلة البنية، فجلب أخوهُ الحذاءَ وألقاه قرب قدميه، وإحدى الفردتين مقلوبة وفي مقدمتها الى الجانب خَرْقٌ كبصمة الإبهام. حاولَ هو أن يُدْخلَ قدميه في الحذاء دون معونة من يديه. قال ذو البدلة الخضراء: "ساعده." فجثا أخوه يساعده في إقحام القدمين في فردتي الحذاء بحماس وبصورة خرقاء، فقد بقي السَّـيْر الخلفي لحافة الفردة اليمنى مطوياً تحت كعب القدم. وراح يشدُّ قيطاني الحذاء بسرعة وارتباك، وكأنه بسرعته يقطع السبيل على المفاجآت. حين انتهى ألقى نظرة راضية على نتيجة عمله، قبل أن ينهض. وهكذا خرج الرجلان وناجي في منتصفهما، وسُمع البابُ المعدنيُّ يُغْلق خلفهم.

ساروا معاً، هو في الوسط، أصابع قدمه اليمنى متوفزة، تحاول التشبث بالحذاء القلق كلما رفعها عن الأرض، ونصفُ قميصه خارجَ البنطلون. صحبة غريبة، فأناقة الرجلين اللذين يَشْبِكان يديهما بيديه تتناقض مع مظهره المزري. "كيف لم ينتبه أحد لذلك؟" تساءل ناجي في سره. لا شكَّ أن الرجلين لم يكونا وحيدين. "ولكن أين الآخرون؟" كانت معرفةُ هؤلاء ستسهِّل عليه الهرب، ستمكِّنه من اختيار الإتجاه الذي يهرب فيه. فكيف يمكنه أن يحزر مَن مِن أولئك الناس المحيطين به عليه ان يحذر؟ ولكن لماذا يحذر؟ وماذا يحذر؟ وهل المحذور أسوأ مما ينتظره هناك في أقبيتهم؟ وقدَّمَ خطوة أخرى، وضرب بوزَ حذائه القلق بالأرض، دافعاً جَنْبَي الرجلين بكوعيه، مرتدّاً بجذعه بحركة انتفاضية، وجاذباً يديه. ومع أنه أفلح للحظة بتخليص يده اليمنى، إلا أن الجوع كان قد أنهك قواه، والخمر أجهزتْ على ماتبقى، وسرعان ما أحكم الرجلان قبضتيهما عليه ثانية. ولَعَنَ الحذاءَ ومن ألْبَسَهُ إياه، ولعن نفسه لأنه أصر على الإحتفاظ بالحذاء اللعين. وفي تلك اللحظة ذاتها، رأى رجلاً ينزل وثباً من الباب الخلفي لسيارة (جيب) كانت تسد الطريق، ويَشْهَرُ مسدساً. كان بديناً، يرتدي بدلة بنية ذات ردنين قصيرين. حين أصبحوا على بعد بضع خطوات منه، سمعه ناجي يزمجر فيتطاير الرذاذ من شَدْقيه: "والله أفرغه براسك، تريد تلم الناس علينا؟" وبحركة نافدة الصبر رسم بيده الأخرى شبه دائرة في الهواء، فأدار الآخران ظهر ناجي ليمكـّنا السمين من تكبيله. ولم يدر ناجي من أين أخرج السمين الحبل، أمن جيبٍ من الجيوب الواسعة المزررة التي حَفَلَتْ بها بدلتُه، أم من مكان ما داخل السيارة التي ما زال بابها مفتوحاً. لكنه شعر بألياف الحبل الخشنة تلتف حول معصميه وتمنع جريان الدم في عروق يديه.

جلس السمين في صدر السيارة جنب السائق، وأجلس الإثنان الآخران ناجي بينهما في الخلف. ذو البدلة الخضراء الى يمينه، والآخر الى يساره. أحس بذراعي الرجلين تتقاطعان فوق كتفيه، وبأنفاسهما ورائحة ثيابهما تحاصره—رائحة ... أعقاب سجائر مطفأة في مبولة، رائحة لحوم متعفنة، رائحة ضمادات قذرة. إلتفتَ السائقُ نصفَ التفاتة ليلقي عليه نظرة من زاوية عينه، وليتلقى إشارة من السمين، عارضاً لعيني ناجي ثؤلولاً كحبة الزبيب يربض بين زاوية عينه وأعلى وجنته. إتجهتْ السيارة أولاً صوب منطقة (الروّاسة) يحف بها من اليمين حائط مدرسة (المربد) فيما امتدت من الجهة الأخرى سلسلة دكاكين (التنكجية) وبضعة بيوت ومخبز. توقفوا عند المنعطف، لدى مدخل شارع (الداكير)، وأحسَّ بكف الرجل الذي الى يساره تحط على رأسه وتدفعه الى الأسفل. سمع الرجل يقول: "إنزل، إنزل." وحين لم تصدر عن ناجي استجابة، وجّه الرجل الآخر لظهره دفعة مفاجئة ألقت به على ظهر المقاعد الأمامية. ثم وضع الرجلان ثقلهما كله على كتفيه، وراحا يدفعانه نحو أرضية السيارة، وهما يرددان: "إنزل، إنزل." والتفتَ السمين ورمقه بنظرة، ثم عاد ينظر الى الطريق، مريحاً ذراعه على حافة المقعد، وكفه تكاد تلمس كتف السائق. وسمعه ناجي يقول دون أن يلتفت: "إسمح لنا نشد عيونك." وأخرج الذي على يساره خرقة سوداء عصب بها عينيه محكماً عقد طرفيها عند نقرة مؤخرة الرأس، قبل أن تنعطف السيارة يميناً فيشعر بجسمه كله ينقذف الى اليسار.




* من جدار حيدر الكعبي على اليسبوك

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
1,074
آخر تحديث
أعلى