فاتحة :
عزرائيل
ها هو جالس على كرسيّ عتيق من خشب الأرز أمام شاشة الكترونيّة عملاقة عرضها كما بين السّماء والأرض، تلمع داخلها مليارات من فوانيس عجيبة. داخل كلّ فانوس صورة إنسان.
كان يكرّر بحركة روتينيّة الضّغط على زرّ بين يديه النّحيلتين، فينطفئ فانوس في جهة ما من على الشّاشة الالكترونية العملاقة.
*****
البارحة وصلني الخبر.
قال لي هاتفي الدّاخلي بشكل برقيّ: عند الفجر، ستغادر إلى كوكب "ق" فتجهّز للأمر. انتهى!
ساعتها كنت على وشك الدّخول في بداية سباتي الّليلي، أيْ ذلك البرزخ الذي يتوسّط حالتيّ النّوم واليقظة فتظلّ لحظات وأنت هائم في ملكوت الإدراك قبل أن تسقط في بئر اللّاشعور.
كنت يومها قد أمضيت نهارا حافلا بالنشاط: زيارة إلى معملي الخاص بتصدير الملابس الجاهزة في الحي الصّناعي بالمدينة، ووقوف على أطراف الملعب الرّياضيّ للحديث مع مسيّري النّادي الذي أرأسه لحثّ اللّاعبين على الخروج بنتيجة مشرّفة في مقابلة يوم الأحد القادم حتّى نبتعد عن شبح النّزول إلى القسم الأسفل الذي لو حصل سيحوّلنا إلى مسخرة أمام جماهيرنا الغفيرة التي سنعوّل عليها في المحطّات المقبلة، ولقاء بمقابل مع دهاقنة الصّحافة المكتوبة لدحض الشّائعات التي تروّج حولي، وحديث مع مذيع لراديو خاص لتلميع صورتي أمام الرّأي العام في انتظار الانتخابات التّشريعية القادمة التي أنوي خوض غمارها للفوز بمقعد في مجلس الشّعب للدّفاع عن المحرومين في الجهات الدّاخلية من البلاد، ومكالمات هاتفيّة عديدة لا تكاد تنتهي حتّى تتجدّد: طلبات لإعانات، عشق وحكايات، شتائم وبذاءات، تهديد ووعيد، تملّق، قوادة، وشيء واحد أحزنني لثوان، وقدمي تزلّ بي داخل تلك الهوّة السّوداء، سأتكتّم عليه داخل هذه الجمجمة التي بدأت خلاياها الدّماغية في الانفجار بشكل رهيب وسيموت معي إلى أبد الآبدين.
***
عند الفجر، عاد ذاك الهاتف يأمر:
- الق نظرتك الأخيرة على جسدك وتوكّل على الله فالجميع في انتظارك!
ولم أدري كيف سألته، وقد تبدّد صوتي في شكل هباءات تتصادى فيما بينها:
- من هم الذين في انتظاري؟ وعن أي جميع تحكي؟
فجاء رده قاطعا كحد السيّف اليماني:
- سيكون هذا السؤال الأخير الذي نسمح لكِ به وأنتِ في حضرتي! فلا تعودي أبدا إلى مثل هذه الأسئلة أيّتها الرّوح الغبيّة!
وسكت الهاتف لحظات ثمّ أضاف:
(كنتُ لحظة سكوته أتساءل بيني وبين نفسي عن أيّة روح غبيّة يحكي هذا الهاتف الّذي يتصادى مع الفراغ حتّى أنّني كنت أحسّ مرّات أنّه خارج من داخلي ومرّات أخرى أحسّ كأنّه قادم من فضاءات بعيدة جدّا؟)
- كان المحصول وفيرا من الأرواح هذه الّليلة! فقولي وداعا لهذه الأرض العجوز.
(وعاد الصّمت يطبق بعنف على أعناق المكان والزمان).
ساعتها أحسست بجسدي يتضاءل شيئا فشيئا إلى أن عاد إلى أصله الأول: خليّة في رحم أمّي داخلها حيوان مجهري كان قد تحرّر منذ لحظات من صلب أبي وسبق البقيّة إليها فولجها ولوج الفاتحين واستقرّ فيها إلى حين.
وكنت أعجب لحالي وقد صرت نطفة أمشاجا عندما عاد الهاتف ينادي:
- هو حال جميع من سيرافقكم في هذه الرّحلة! فلا تعجب يا أنت من حالك واعرف أنّ هذه بصمتك في العالم الآخر فحافظ عليها حتّى لا تخسر نفسك عندما لا ينفع النّدم!
***
قال الهاتف وهو يحدّثنا من خلال أصوات مختلفة تتمايز فيما بينها ثمّ تنهمر على المكان فيفهمها كلّ واحد من الحاضرين من خلال لغة أمّه:
- بعد قليل سنطير إلى كوكب الأرواح! ولتعلموا أنّ المكان بعيد جدّا فهو في أقاصي الكون ويبعد عن الأرض ملايين السّنوات الضوئية!
وأعطانا فرصة لنستوعب ما وصلنا من أصداء كأنها قادمة من مكان بعيد، ثم أضاف:
- ولكن لا تبتئسوا يا أبناء الطّين! ستكون سرعتنا فائقة، وستفوت سرعة الضّوء، التي طالما تفاخر بها علماء أرضكم، عشرات المرّات!
ولم يكد ينهي حديثه حتّى أضاء الكون بنور خاطف ثمّ نزل برق من السّماء تخطّفنا من جميع الجهات وغاب كما ظهر في أقلّ من رمشة جفن.
***
كم دامت تلك الرّحلة؟
هذا ما لا أقدر على تخمينه ولا أدري إن كانت ثوان أم ساعات أم أيّاما معدودات أم سنين أم دهورا، فكلّ ما أحسست به وأنا وسط الخلية الأمّ أنّ خدرا لذيذا تمكّن منّي وأنّ جليدا أحاط بي من كلّ الجهات إلى أن عاد الهاتف ينادي من جديد:
- أفيقوا أيها السّيّدات والسّادة! لقد انتهت رحلتنا ووصلنا بسلام آمين إلى البرزخ!
فبدأ الجليد في الذّوبان من حول الخليّة التي كنت نائما داخلها فتمطّيت كقطّ هَرِمٍ أفاق من نوم ثقيل، وبدأت في استعادة ذاكرتي شيئا فشيئا: طفولتي البائسة في أحواز المدينة الكبيرة، وشبابي الذي أهدرته وأنا أتعاطى كلّ المهن الحقيرة التي لا يقبلها حتّى أبناء أفقر الخلق.. إلى أن التقيتها ذات صدفة عجيبة (كالصّدف التي تعترضنا ونحن نستمع إلى خرافات الجدّات) فأورثتني مال أبيها وجدّها وحوّلتني تلك التي أعجبتها فتوّة ذاك الولد الأسمر من حال إلى حال بعدما جُنّت بي وتزوّجتني رغم أنف أبيها الجرماني المتعجرف الذي يمقت فصيلة الكلاب بين الحيوانات الأهليّة والبريّة والعرب بين فصيلة المخلوقات الإنسيّة.
و(مات الأب حسرة لأن ابنته الوحيدة نكحها لكع بن لكع، ثمّ لحقت به الأم بعد بضعة أيّام في حادث مرور فما كان من البنت الألمانية إلا أن انتحرت بعدما فتحت في وجهي أبواب البنوك التي خبّأ فيها والدها أمواله الوفيرة).
وتواصلت ذكرياتي حتّى اكتملت من ألفها إلى يائها وأنا أستعيد حواراتي الأخيرة بالحرف مع مذيع الرّاديو والصّحفي ورجال الجمعيّة الرّياضيّة التي تبنّيتها خلال هذه السّنة.
ولكنّ الفرحة لا تكتمل، فدائما تأتي أمور تنغّصها.
كان أول من قابلني من الجماعة التي رافقتني في رحلة الأرواح ونحن ننتشر على هذه الأرض الغريبة غريمي في دنيا النّاس، الرّئيس السّابق للنّادي الرّياضي الذي أطحت به ومرّغت أنفه في التّراب وانتزعت منه شارة الرّئاسة غصبا عنه دون الرّضا، فبدأت أضحك بشكل جنونيّ أوّل ما وقع عليه بصري. كان الرّجل قد تحوّل حال هبوطه على هذه الأرض الجديدة إلى قرد من فصيلة البابوان بلبدته الكثيفة ومؤخّرته الحمراء وذيله القصير، إلّا أنّ وجهه ظلّ كما هو! وجه انتشرت على صفحته بقايا جذريّ قديم، وتلمع على بشرته السّمراء الدّاكنة عينان صغيرتان، خبيثتان كعيني ثعلب ويتوسّطه أنف أفطس وفم أوسع من بحر الظّلمات. وكان يبتسم وهو يراقب ضحكاتي الهستيريّة إلى أن هدأت قليلا فدعاني إلى أن أنظر أوسع من الشّبر الذي أقعى عليه هو، وأشار برأسه إلى الفضاء الواسع.
عندما انتهيت من النّظر في وجهه الذي شدّني إليه شدّا عنيفا والتفت حيث أشار رأيت عجبا.
كان السّهل قد امتلأ على مدّ البصر بحيوانات غريبة، برّيّة وأهليّة، وكبيرة وصغيرة، وبألوان لا تخطر على البال، وكلّها تحمل الوجوه الآدمية القديمة لأصحابها، فتحوّلت الضّحكات الصّاخبة التي أطلقتها قبل قليل إلى عويل أشبه بنواح العجائز في منادب كبار القوم في قرى صحاري الجنوب. وكنت كلّما أعدت النّظر في هذه الوجوه ازداد عويلي ونواحي إلى أن طلب منّي غريمي الكفّ عن هذه المسخرة والنّظر إلى نفسي حتّى أعرف حالي قبل الاهتمام بالآخرين والضحك منهم أو البكاء عليهم، وهمس في أذني ساخرا:
- أمّا الآن فابك نفسك قبل أن تبكي الآخرين أيها الخنزير النّتن!
وأدار وجهه وانصرف عنّي يقتفي آثار بقيّة الوجوه الرّاكبة على هذه الحيوانات الغريبة التي كانت تسير في صفّ طويل بلا بداية ولا نهاية، بينما كانت رائحة نتنة، رائحة زريبة خنازير تفوح منّي وصوت يصرخ في المدى البعيد:
- ليدخل في الصّفّ من لايزال خارجه قبل أن يتخطّفكم الطّير الأبابيل وتركبكم بهائم هذه البرّية!
فتدافعت هذه المخلوقات بالصّدور والسّيقان والأعناق، وكلّ واحد منها يبحث له عن مكان داخل الصّفّ وهي ترفس وتركل بعضها بعضا. وكنت كلّما اقتربت منها تأفّفت ودفعتني بعيدا إلى أن نادتني بقرة كانت تنشّ بذنبها حشرات غريبة لم أعرف لها مثيلا في دنيا النّاس وهي تصرخ:
- أما عرفتني أيّها الخنزير!هي ذي أنا بقرتك البافاريّة التي حوّلتك من حال إلى حال! أنا أيّها الخنزير النّتن تلك الشّابّة الألمانية التي عشقتك حدّ الجنون ثم انتحرت حزنا على والديها اللذين يمقتان العرب والكلاب فماتا حسرة عندما نكح ابنتهما لكع بن لكع؟)
ثم زادت بعد قليل وأنا أندسّ وراء ذيلها الذي كانت تنش به تلك الحشرات الغريبة:
- اللّعنة! لم يتغيّر فيك شيء! ستظلّ رائحة الخنازير تفوح منك في كل زمان ومكان! تفوووووه!
وملأت بصقتها وجهي ثمّ انزلقت حتّى سقط رذاذها على الأرض الجديدة، فطشّ طشيشا منكرا!
*****
وكانت السّاحة العامّة قد اكتظّت بهذه الخلائق التي كانت تفد عليها من كلّ الجهات لتصطفّ داخلها صفوفا طويلة بلا بداية ولا نهاية. وكانت سماء بلون الدّم مشحونة ببروق تلمع في الأقاصي فتتلألأ الأنوار على الأرض ثم تسّاقط عليها الصواعق فيُسمع لها دوي كدويّ الرّعد وتشتعل فيها النّيران شرقا وغربا حتّى تحرق ما بين السّماء والأرض ثمّ يخفت اللّهب ويتحوّل إلى رماد سخن تخرج منه هذه الوجوه الآدميّة التي رُكّبت تركيبا عجيبا على أجسام حيوانات، تبدو صغيرة عند ظهورها كحبة السمسم ثمّ تكبر شيئا فشيئا إلى أن تستوي على حالتها الطّبيعيّة في صورة: بغل أو كلب أو ذئب أو بقرة أو غزال أو فيل أو غوريلّا أو ديناصور أو ثعبان أو سمكة أو نعجة أو أسد (ولكم أن تتخيّلوا بقيّة الحيوانات التي عرفتها الأرض منذ ملايين السّنين وتكملوا القائمة) فيعلو ضجيجها وينتشر لغطها بكلّ لغات العالم في هذه السّاحة التي ما عادت قادرة على احتمال شحيج بغل أو صهيل جواد أو عواء ذئب إلى أن يعلو على كلّ هذه الأصوات نداء الهاتف:
- ألآن ستعودون إلى حالاتكم كما في خلقها الأوّل، أيّتها السّيّدات أيّها السّادة!
وانتظر حتى عمّ صمت رهيب كصمت المقابر في ليالي الشّتاء الباردة ثم عاد يقول:
- قد تكون هذه الولادة صعبة على بعضكم ولكن عليكم أن تحتملوا هذه المحنة الأولى لأن المحن القادمة أمرّ وأدهى وقد لا يخرج الكثير منكم منها بسلام!
وسكت الهاتف فعاد الّلغط والهرج والمرج إلى السّاحة من جديد. والكلّ يتساءل إن كان في مقدوره أن يمحو ما خُط على جدار جبينه أو يتنصّل ممّا اقترفت يمينه مما يشينه ثم ّينظر في وجه صاحبه ومن والاه في هذه السّاحة التي أشرقت بأنوار عجيبة، وغريبة تجعل الوجوه والقلوب كصفحة سوداء خط عليها بالأبيض مصيرها. ساعتها وأنا أتفرّس في هذه الوجوه التي كانت تعبر أمامي، عرفت من بينهم الكثير ممّن كنت معهم في مودّة وصفاء أو في خصومات لا تنتهي، ورأيت من رجالات السّياسة والمال والأعمال والسّارقين الكبار والصّغار والمشعوذين وضاربي الدّفّ والحواة والرّاقصين على الحبال ومن يعجز الّلسان على ذكر أفعالهم وأقوالهم، فقلت بيني وبين نفسي:
- ها قد أزفت ساعة الحقيقة يا رجل، ولا أظن أن الهاتف سيرحمهم عندما يمرّون من المحن البسيطة إلى المحن المركّبة!
وعاد البرق يومض في السماء فاشتعلت السّاحة من جديد بالأنوار القاتمة. ورأيت الجماعة وهم يركبون بعضهم بعضا ركوب الجراد، كحالهم القديم دون أن يرحم قوّيهم ضعيفهم وكبيرهم صغيرهم، مع فارق بسيط أن من ينهزم في هذه المنازلة الجديدة تخسف به الأرض فينزلق إلى أسفل سافلين ويصبح نسيا منسيا بعدما تُقرأ صحيفته على الملأ.
وما أكثر من زلّت بهم القدم من هذا الجمع الكبير. وقد ظننت وبعض الظّنّ غباء، أنّهم من أحباب السّماء حتى بقيت وجها لوجه مع خصوم دار الفناء فتنادينا إلى المحاورة والمداورة ثمّ إلى المنازلة الكبرى لكنهم أحجموا على ذلك وكلّ واحد منهم يجد لنفسه عذرا في العلن بينما هو يحفر لخصمه بأظافره جبّا تحت قدميه.
ونادى المنادي أن سنمرّ الآن إلى المنازلة الأخيرة، وأخرج من جيبه إبرة وقال:
- من يمرّ من سُمّ هذه الإبرة سيعود قلبه يتنصّت لصرير الحياة ولنبض الأرض ولشدو العصافير ولخرير مياه السواقي..
خاتمة :
أبديّة
إلى داروين الحكيم
هذا الجسم الذي يتحلّل الآن داخل القبر تتصارع بين جنباته ملايين الخلايا.
يفني بعضها البعض
وحدها، خليّة كالهباء تنجو من الهلاك
تظلّ متيقظة في عزلتها تتنصت لصرير الحياة
من خلال الظّلام!
* نشر بمجلة الحياة الثقافية / تونس - شهر مارس 2019 عدد 298
* نقلا عن:
Darghouthi Brahim
عزرائيل
ها هو جالس على كرسيّ عتيق من خشب الأرز أمام شاشة الكترونيّة عملاقة عرضها كما بين السّماء والأرض، تلمع داخلها مليارات من فوانيس عجيبة. داخل كلّ فانوس صورة إنسان.
كان يكرّر بحركة روتينيّة الضّغط على زرّ بين يديه النّحيلتين، فينطفئ فانوس في جهة ما من على الشّاشة الالكترونية العملاقة.
*****
البارحة وصلني الخبر.
قال لي هاتفي الدّاخلي بشكل برقيّ: عند الفجر، ستغادر إلى كوكب "ق" فتجهّز للأمر. انتهى!
ساعتها كنت على وشك الدّخول في بداية سباتي الّليلي، أيْ ذلك البرزخ الذي يتوسّط حالتيّ النّوم واليقظة فتظلّ لحظات وأنت هائم في ملكوت الإدراك قبل أن تسقط في بئر اللّاشعور.
كنت يومها قد أمضيت نهارا حافلا بالنشاط: زيارة إلى معملي الخاص بتصدير الملابس الجاهزة في الحي الصّناعي بالمدينة، ووقوف على أطراف الملعب الرّياضيّ للحديث مع مسيّري النّادي الذي أرأسه لحثّ اللّاعبين على الخروج بنتيجة مشرّفة في مقابلة يوم الأحد القادم حتّى نبتعد عن شبح النّزول إلى القسم الأسفل الذي لو حصل سيحوّلنا إلى مسخرة أمام جماهيرنا الغفيرة التي سنعوّل عليها في المحطّات المقبلة، ولقاء بمقابل مع دهاقنة الصّحافة المكتوبة لدحض الشّائعات التي تروّج حولي، وحديث مع مذيع لراديو خاص لتلميع صورتي أمام الرّأي العام في انتظار الانتخابات التّشريعية القادمة التي أنوي خوض غمارها للفوز بمقعد في مجلس الشّعب للدّفاع عن المحرومين في الجهات الدّاخلية من البلاد، ومكالمات هاتفيّة عديدة لا تكاد تنتهي حتّى تتجدّد: طلبات لإعانات، عشق وحكايات، شتائم وبذاءات، تهديد ووعيد، تملّق، قوادة، وشيء واحد أحزنني لثوان، وقدمي تزلّ بي داخل تلك الهوّة السّوداء، سأتكتّم عليه داخل هذه الجمجمة التي بدأت خلاياها الدّماغية في الانفجار بشكل رهيب وسيموت معي إلى أبد الآبدين.
***
عند الفجر، عاد ذاك الهاتف يأمر:
- الق نظرتك الأخيرة على جسدك وتوكّل على الله فالجميع في انتظارك!
ولم أدري كيف سألته، وقد تبدّد صوتي في شكل هباءات تتصادى فيما بينها:
- من هم الذين في انتظاري؟ وعن أي جميع تحكي؟
فجاء رده قاطعا كحد السيّف اليماني:
- سيكون هذا السؤال الأخير الذي نسمح لكِ به وأنتِ في حضرتي! فلا تعودي أبدا إلى مثل هذه الأسئلة أيّتها الرّوح الغبيّة!
وسكت الهاتف لحظات ثمّ أضاف:
(كنتُ لحظة سكوته أتساءل بيني وبين نفسي عن أيّة روح غبيّة يحكي هذا الهاتف الّذي يتصادى مع الفراغ حتّى أنّني كنت أحسّ مرّات أنّه خارج من داخلي ومرّات أخرى أحسّ كأنّه قادم من فضاءات بعيدة جدّا؟)
- كان المحصول وفيرا من الأرواح هذه الّليلة! فقولي وداعا لهذه الأرض العجوز.
(وعاد الصّمت يطبق بعنف على أعناق المكان والزمان).
ساعتها أحسست بجسدي يتضاءل شيئا فشيئا إلى أن عاد إلى أصله الأول: خليّة في رحم أمّي داخلها حيوان مجهري كان قد تحرّر منذ لحظات من صلب أبي وسبق البقيّة إليها فولجها ولوج الفاتحين واستقرّ فيها إلى حين.
وكنت أعجب لحالي وقد صرت نطفة أمشاجا عندما عاد الهاتف ينادي:
- هو حال جميع من سيرافقكم في هذه الرّحلة! فلا تعجب يا أنت من حالك واعرف أنّ هذه بصمتك في العالم الآخر فحافظ عليها حتّى لا تخسر نفسك عندما لا ينفع النّدم!
***
قال الهاتف وهو يحدّثنا من خلال أصوات مختلفة تتمايز فيما بينها ثمّ تنهمر على المكان فيفهمها كلّ واحد من الحاضرين من خلال لغة أمّه:
- بعد قليل سنطير إلى كوكب الأرواح! ولتعلموا أنّ المكان بعيد جدّا فهو في أقاصي الكون ويبعد عن الأرض ملايين السّنوات الضوئية!
وأعطانا فرصة لنستوعب ما وصلنا من أصداء كأنها قادمة من مكان بعيد، ثم أضاف:
- ولكن لا تبتئسوا يا أبناء الطّين! ستكون سرعتنا فائقة، وستفوت سرعة الضّوء، التي طالما تفاخر بها علماء أرضكم، عشرات المرّات!
ولم يكد ينهي حديثه حتّى أضاء الكون بنور خاطف ثمّ نزل برق من السّماء تخطّفنا من جميع الجهات وغاب كما ظهر في أقلّ من رمشة جفن.
***
كم دامت تلك الرّحلة؟
هذا ما لا أقدر على تخمينه ولا أدري إن كانت ثوان أم ساعات أم أيّاما معدودات أم سنين أم دهورا، فكلّ ما أحسست به وأنا وسط الخلية الأمّ أنّ خدرا لذيذا تمكّن منّي وأنّ جليدا أحاط بي من كلّ الجهات إلى أن عاد الهاتف ينادي من جديد:
- أفيقوا أيها السّيّدات والسّادة! لقد انتهت رحلتنا ووصلنا بسلام آمين إلى البرزخ!
فبدأ الجليد في الذّوبان من حول الخليّة التي كنت نائما داخلها فتمطّيت كقطّ هَرِمٍ أفاق من نوم ثقيل، وبدأت في استعادة ذاكرتي شيئا فشيئا: طفولتي البائسة في أحواز المدينة الكبيرة، وشبابي الذي أهدرته وأنا أتعاطى كلّ المهن الحقيرة التي لا يقبلها حتّى أبناء أفقر الخلق.. إلى أن التقيتها ذات صدفة عجيبة (كالصّدف التي تعترضنا ونحن نستمع إلى خرافات الجدّات) فأورثتني مال أبيها وجدّها وحوّلتني تلك التي أعجبتها فتوّة ذاك الولد الأسمر من حال إلى حال بعدما جُنّت بي وتزوّجتني رغم أنف أبيها الجرماني المتعجرف الذي يمقت فصيلة الكلاب بين الحيوانات الأهليّة والبريّة والعرب بين فصيلة المخلوقات الإنسيّة.
و(مات الأب حسرة لأن ابنته الوحيدة نكحها لكع بن لكع، ثمّ لحقت به الأم بعد بضعة أيّام في حادث مرور فما كان من البنت الألمانية إلا أن انتحرت بعدما فتحت في وجهي أبواب البنوك التي خبّأ فيها والدها أمواله الوفيرة).
وتواصلت ذكرياتي حتّى اكتملت من ألفها إلى يائها وأنا أستعيد حواراتي الأخيرة بالحرف مع مذيع الرّاديو والصّحفي ورجال الجمعيّة الرّياضيّة التي تبنّيتها خلال هذه السّنة.
ولكنّ الفرحة لا تكتمل، فدائما تأتي أمور تنغّصها.
كان أول من قابلني من الجماعة التي رافقتني في رحلة الأرواح ونحن ننتشر على هذه الأرض الغريبة غريمي في دنيا النّاس، الرّئيس السّابق للنّادي الرّياضي الذي أطحت به ومرّغت أنفه في التّراب وانتزعت منه شارة الرّئاسة غصبا عنه دون الرّضا، فبدأت أضحك بشكل جنونيّ أوّل ما وقع عليه بصري. كان الرّجل قد تحوّل حال هبوطه على هذه الأرض الجديدة إلى قرد من فصيلة البابوان بلبدته الكثيفة ومؤخّرته الحمراء وذيله القصير، إلّا أنّ وجهه ظلّ كما هو! وجه انتشرت على صفحته بقايا جذريّ قديم، وتلمع على بشرته السّمراء الدّاكنة عينان صغيرتان، خبيثتان كعيني ثعلب ويتوسّطه أنف أفطس وفم أوسع من بحر الظّلمات. وكان يبتسم وهو يراقب ضحكاتي الهستيريّة إلى أن هدأت قليلا فدعاني إلى أن أنظر أوسع من الشّبر الذي أقعى عليه هو، وأشار برأسه إلى الفضاء الواسع.
عندما انتهيت من النّظر في وجهه الذي شدّني إليه شدّا عنيفا والتفت حيث أشار رأيت عجبا.
كان السّهل قد امتلأ على مدّ البصر بحيوانات غريبة، برّيّة وأهليّة، وكبيرة وصغيرة، وبألوان لا تخطر على البال، وكلّها تحمل الوجوه الآدمية القديمة لأصحابها، فتحوّلت الضّحكات الصّاخبة التي أطلقتها قبل قليل إلى عويل أشبه بنواح العجائز في منادب كبار القوم في قرى صحاري الجنوب. وكنت كلّما أعدت النّظر في هذه الوجوه ازداد عويلي ونواحي إلى أن طلب منّي غريمي الكفّ عن هذه المسخرة والنّظر إلى نفسي حتّى أعرف حالي قبل الاهتمام بالآخرين والضحك منهم أو البكاء عليهم، وهمس في أذني ساخرا:
- أمّا الآن فابك نفسك قبل أن تبكي الآخرين أيها الخنزير النّتن!
وأدار وجهه وانصرف عنّي يقتفي آثار بقيّة الوجوه الرّاكبة على هذه الحيوانات الغريبة التي كانت تسير في صفّ طويل بلا بداية ولا نهاية، بينما كانت رائحة نتنة، رائحة زريبة خنازير تفوح منّي وصوت يصرخ في المدى البعيد:
- ليدخل في الصّفّ من لايزال خارجه قبل أن يتخطّفكم الطّير الأبابيل وتركبكم بهائم هذه البرّية!
فتدافعت هذه المخلوقات بالصّدور والسّيقان والأعناق، وكلّ واحد منها يبحث له عن مكان داخل الصّفّ وهي ترفس وتركل بعضها بعضا. وكنت كلّما اقتربت منها تأفّفت ودفعتني بعيدا إلى أن نادتني بقرة كانت تنشّ بذنبها حشرات غريبة لم أعرف لها مثيلا في دنيا النّاس وهي تصرخ:
- أما عرفتني أيّها الخنزير!هي ذي أنا بقرتك البافاريّة التي حوّلتك من حال إلى حال! أنا أيّها الخنزير النّتن تلك الشّابّة الألمانية التي عشقتك حدّ الجنون ثم انتحرت حزنا على والديها اللذين يمقتان العرب والكلاب فماتا حسرة عندما نكح ابنتهما لكع بن لكع؟)
ثم زادت بعد قليل وأنا أندسّ وراء ذيلها الذي كانت تنش به تلك الحشرات الغريبة:
- اللّعنة! لم يتغيّر فيك شيء! ستظلّ رائحة الخنازير تفوح منك في كل زمان ومكان! تفوووووه!
وملأت بصقتها وجهي ثمّ انزلقت حتّى سقط رذاذها على الأرض الجديدة، فطشّ طشيشا منكرا!
*****
وكانت السّاحة العامّة قد اكتظّت بهذه الخلائق التي كانت تفد عليها من كلّ الجهات لتصطفّ داخلها صفوفا طويلة بلا بداية ولا نهاية. وكانت سماء بلون الدّم مشحونة ببروق تلمع في الأقاصي فتتلألأ الأنوار على الأرض ثم تسّاقط عليها الصواعق فيُسمع لها دوي كدويّ الرّعد وتشتعل فيها النّيران شرقا وغربا حتّى تحرق ما بين السّماء والأرض ثمّ يخفت اللّهب ويتحوّل إلى رماد سخن تخرج منه هذه الوجوه الآدميّة التي رُكّبت تركيبا عجيبا على أجسام حيوانات، تبدو صغيرة عند ظهورها كحبة السمسم ثمّ تكبر شيئا فشيئا إلى أن تستوي على حالتها الطّبيعيّة في صورة: بغل أو كلب أو ذئب أو بقرة أو غزال أو فيل أو غوريلّا أو ديناصور أو ثعبان أو سمكة أو نعجة أو أسد (ولكم أن تتخيّلوا بقيّة الحيوانات التي عرفتها الأرض منذ ملايين السّنين وتكملوا القائمة) فيعلو ضجيجها وينتشر لغطها بكلّ لغات العالم في هذه السّاحة التي ما عادت قادرة على احتمال شحيج بغل أو صهيل جواد أو عواء ذئب إلى أن يعلو على كلّ هذه الأصوات نداء الهاتف:
- ألآن ستعودون إلى حالاتكم كما في خلقها الأوّل، أيّتها السّيّدات أيّها السّادة!
وانتظر حتى عمّ صمت رهيب كصمت المقابر في ليالي الشّتاء الباردة ثم عاد يقول:
- قد تكون هذه الولادة صعبة على بعضكم ولكن عليكم أن تحتملوا هذه المحنة الأولى لأن المحن القادمة أمرّ وأدهى وقد لا يخرج الكثير منكم منها بسلام!
وسكت الهاتف فعاد الّلغط والهرج والمرج إلى السّاحة من جديد. والكلّ يتساءل إن كان في مقدوره أن يمحو ما خُط على جدار جبينه أو يتنصّل ممّا اقترفت يمينه مما يشينه ثم ّينظر في وجه صاحبه ومن والاه في هذه السّاحة التي أشرقت بأنوار عجيبة، وغريبة تجعل الوجوه والقلوب كصفحة سوداء خط عليها بالأبيض مصيرها. ساعتها وأنا أتفرّس في هذه الوجوه التي كانت تعبر أمامي، عرفت من بينهم الكثير ممّن كنت معهم في مودّة وصفاء أو في خصومات لا تنتهي، ورأيت من رجالات السّياسة والمال والأعمال والسّارقين الكبار والصّغار والمشعوذين وضاربي الدّفّ والحواة والرّاقصين على الحبال ومن يعجز الّلسان على ذكر أفعالهم وأقوالهم، فقلت بيني وبين نفسي:
- ها قد أزفت ساعة الحقيقة يا رجل، ولا أظن أن الهاتف سيرحمهم عندما يمرّون من المحن البسيطة إلى المحن المركّبة!
وعاد البرق يومض في السماء فاشتعلت السّاحة من جديد بالأنوار القاتمة. ورأيت الجماعة وهم يركبون بعضهم بعضا ركوب الجراد، كحالهم القديم دون أن يرحم قوّيهم ضعيفهم وكبيرهم صغيرهم، مع فارق بسيط أن من ينهزم في هذه المنازلة الجديدة تخسف به الأرض فينزلق إلى أسفل سافلين ويصبح نسيا منسيا بعدما تُقرأ صحيفته على الملأ.
وما أكثر من زلّت بهم القدم من هذا الجمع الكبير. وقد ظننت وبعض الظّنّ غباء، أنّهم من أحباب السّماء حتى بقيت وجها لوجه مع خصوم دار الفناء فتنادينا إلى المحاورة والمداورة ثمّ إلى المنازلة الكبرى لكنهم أحجموا على ذلك وكلّ واحد منهم يجد لنفسه عذرا في العلن بينما هو يحفر لخصمه بأظافره جبّا تحت قدميه.
ونادى المنادي أن سنمرّ الآن إلى المنازلة الأخيرة، وأخرج من جيبه إبرة وقال:
- من يمرّ من سُمّ هذه الإبرة سيعود قلبه يتنصّت لصرير الحياة ولنبض الأرض ولشدو العصافير ولخرير مياه السواقي..
خاتمة :
أبديّة
إلى داروين الحكيم
هذا الجسم الذي يتحلّل الآن داخل القبر تتصارع بين جنباته ملايين الخلايا.
يفني بعضها البعض
وحدها، خليّة كالهباء تنجو من الهلاك
تظلّ متيقظة في عزلتها تتنصت لصرير الحياة
من خلال الظّلام!
* نشر بمجلة الحياة الثقافية / تونس - شهر مارس 2019 عدد 298
* نقلا عن:
Darghouthi Brahim
