حياك الله أيها المبنى العتيق ... يا وجه أمي بين الخرائب الحزينة
الرواية هي المكان بامتياز، فيه تنبت الشخصيات وتتشابك العلاقات وتتوالد الأحداث. والأدب بشكل عام مرتبط بالمكان، حتّى في انسلاخه عنه أحياناً. ففي وجدان كل أديب يعرّش مكان محدّد، مـدينة بأحـيائها وروائحها وضجيجها، بأحداثها وأحاسيسها وناسـها. حاولـنا أن نغـوص فـي تلك الذاكرة الثقافية والحميمة، داعين عدداً من أبرز الكتاب العرب إلى كشف الخيوط الخفيّة التي تشدّهم إلى مدينة ما، هي مكانهم الأصيل أو أحــد أمكنـتهم الأثـيرة. طلبنا إليهم أن يرفعوا الحجاب عن زاوية في لاوعيهم، يتقاطع عندها الذاتي بالثقافي، والخاص بالعام. وأعطيناهم الحرية في اختيار الأسلوب واللغة والشكل، وفي اختيار المكـان. إستجــاب بعضــهم وتـردد آخرون. بعد غادة السمّان، وإبراهيم عبد المجيد، وعبد الرحمن منيف ومحمد شكري، ننشر نصّ الكاتب العراقي فؤاد التكرلي.
حين سُئلت، مساء السابع عشر المظلم من شهر كانون الاول ديسمبر 1998، ان اكتب عن مدينتي بغداد، كانت هذه تئن تحت ضربات الصواريخ والقنابل الاميركية/ البريطانية، وتستصرخ العالم لنجدتها. ولا من مجيب. تلك هي بغداد، مدينة الطفولة، حيث وُلد، من قبلي، أجدادي وآبائي. كنتُ أكاد أسمع أنينها وتوجعها تحت لسعات السياط المجانية، وأنا على بُعد آلاف الأميال منها.
آنذاك فقط، وخلال الايام التي أعقبت عملية سلخ الجلد هذه، استحوذت عليّ افكار شتى عن بغداد، عن مدينتي العتيقة المتألمة، ورحت أتساءل بيني وبين نفسي: ما طبيعة هذه المشاعر التي تمتلكني تجاه مجموعة من البنايات والمساحات الفارغة والبيوت والمشاهد الاخرى؟ وما هي علاقة الدم هذه التي تربط بين شريان قلب الانسان وموقع مخصوص يميزه التألق والاندساس بين الضلوع؟ أهي معايشة الأفراح البريئة وتفتحات العواطف الاولى ضمن مسرح معلوم، يمنح هذا الاخير معزّة تلك المشاعر الغالية على الدوام؟ أم ان هنالك سراً مغلقاً، يحكي عن رباط سري بين الانسان والارض، يدوم ما دام هذا حياً واعياً بذاته؟
في ظني، ان هذه الفكرة تحيل الى رابطة الام والابن، اكثر مما تحيل الى اية رابطة اخرى. ولقد جهلتُ جمال أمي بغداد، مثل كل الاطفال، طوال سنوات وسنوات. احببتُ اولاً، منزلنا العتيق الذي وُلدت فيه، وازداد حبي له وانا اشهده يتهدم رويداً رويداً تحت نظري الجازع، ثم بلغ حبي له مداه حين انهار اخيراً وتحول الى انقاض. ورجعتُ مــرات، اليه، اتجوّل بين الاطلال… بين بقايا جسد بيتي.
لم تكن بغداد موجودة في عالمي آنذك، كانت هي هذه الخرائب الحزينة وذلك الزقاق الضيّق الذي ينبع من "شارع الكيلاني" ويتلوى متلاشياً في الطرف الآخر حيث اسطبلات الخيل والحمير. طريق أليف، مستكين، لا اسم له.
كنا نسكن في محلة "باب الشيخ"، احدى المحلات الرئيسية القديمة في بغداد، حالها حال محلة "سوق الغزل" و"رأس القرية" و"سيد سلطان علي" و"الحيدرخانة" و"الفضل" و"باب الآغا" و"العاقولية" و"باب المعظم" و"الميدان" وغيرها.
ومن بعض هذه المحلات لم اكن اعرف الا اسمها، اذ لم تكن تعني لي شيئاً خاصاً كبيراً. ومع ذلك، فقد بدأ تلمسي الروحي لبغداد حالما دخلتُ مدرستي الابتدائية، مدرسة باب الشيخ الابتدائية للبنين. قبل ذلك بسنة اجتزتُ، وانا في الخامسة، تجربة عسيرة ومضحكة في الآن نفسه. كنتُ سعيداً وانا اداوم في الصف الاول في مدرسة "العوينة" الابتدائية، تلك المدرسة الغاطسة في بحر من النفايات ومياه المجاري الآتية من محلة "الصدرية".
كنا نقصدها صباحاً، اخي نهاد وانا، ونجتاز الطرق الموحلة بصبر عجيب. أتذكر صورة واحدة من تلك المرحلة، حين ينغرز حذائي في الطين فأحاول ان اسحبه فتخرج قدمي منه ويبقى الحذاء ملتصقاً بموقعه الطيني! وفي صباح، فوجئت ورفيقي كريم فليح - الشقيق الاصغر لعاصم فليح - بنقلنا الى مدرسة "التسابيل" من دون انذار سابق. كنا زائدين عن العدد المطلوب كما يبدو، فأخذونا الى تلك المدرسة. باشرنا، بغير اتفاق مسبق، واحتجاجاً طفولياً مضاداً لهذا التصرف الظالم. صرنا نبكي صارخين بحرقة ومن دون انقطاع. عياط وعويل ودموع ومخاط، حتى ضجّت المدرسة بمن فيها، وخرج المدير من غرفته طالباً التخلص من هذه البلوى وإرجاعنا من حيث جئنا. تلك حادثة لم أنسها، فهي التي كشفت ميلي النفسي إلى بعض الاماكن دون غيرها. ومن دارنا القديمة ومحلة "باب الشيخ" الاقدم، اخذت أتعرّف على ملامح بغداد... مدينتي التي لم اكن قد رأيتها حقاً.
أسس الخليفة المنصور سنة 145هـ 762 م مدينة بغداد الدائرية في صوب الكرخ، غير ان الاكتشافات الاثرية اثبتت ان بشراً استوطنوا هذا الموقع في زمن نبوخذ نصر الثاني 605 - 688 ق.م، ومن مراجعة سريعة لما فعلته الاعوام الطويلة بهذه المدينة واهلها، تظهر مدى الاهوال التي لحقت بها وبهم. فالغزوات تتلاحق والمذابح والحصارات وكوارث الطبيعة والمجاعات والاوبئة، حتى ليتساءل المرء، رغماً عنه، عما فعله هذا الموقع من الارض واهلوه، فاستحقوا وما زالوا، كل هذه الكوارث المنصبّة على رؤوسهم من دون انقطاع؟
مرّت على بغداد مراحل تاريخية كثيرة، حكم فيها البلد أناس مختلفون، فبعد الحكم العباسي جاء الحكم البويهي ثم الحكم السلجوقي، اعقبته مرحلة الحكم العباسي الاخيرة وتبعته المرحلة الألخانية ثم المرحلة الجلائرية.
بعد ذلك خيمت على بغداد فترة سوداء قاتمة امتدت اكثر من مائتي عام، تلاها الحكم العثماني المظلم الذي استطال ما يقارب القرون الاربعة. ومن اقوال المؤرخين يبدو ان هذه المدينة بلغت اقصى اهمية لها على المستوى السياسي والفكري والاقتصادي في زمن العباسيين 762 - 1258م، ثم اخذت هذه الاهمية تتضاءل بسبب تغير الحكام وتجدد الغزوات الهمجية واستمرت في التضاؤل زمن السيطرة العثمانية الطويلة المظلمة على العراق. هذه السيطرة التي لم تنته الا بانتهاء الحرب العالمية الاولى سنة 1918م وهزيمة الاتراك العثمانيين فيها. الا ان بغداد، بعد تأسيس الحكم الوطني في العراق 1922م واكتشاف النفط فيه وتطور التكنولوجيا ووسائل النقل العالمية، عاد اليها موقعها القديم واهميتها رويداً رويداً.
قبل ان نهجر دربنا الذي لا اسم له، كنتُ طفلاً في السادسة، احب التجوال في ساحة جامع الشيخ عبدالقادر الكيلاني 1077 - 1165م. أتمشى هنا وهناك، وادور حول الحوض المغطى، وأقف على الدرجات لأتطلع الى الماء داخله وأراقب المتوضّين منشغلين بغسل أذرعهم وأرجلهم. أمرُّ بعدئذ قريباً من العريشة الجميلة الملاصقة للمقبرة الكيلانية، حيث يقيم احد المتدينين الهنود. كان الجو غامضاً لغير سبب، وكنت مُنتشياً باستمرار وانا اعود، متجولاً، الى الساحة الحجرية، تحت الساعة العالية المربعة البناء والمنارة الرشيقة الزرقاء المزركشة.
واذ ابتعدنا عن بيتنا حين صار تراباً وتساوى مع الارض، رحت اجوب الازقة في الجوار. كنت مفتوناً بهذه الأزقة، ويزداد افتتاني بها كلما زاد ضيقها وتقاربت حيطانها كأنها تهمّ بتبادل القبل، و كنتُ في الواقع، احشد الصور في ذاكرتي لمرحلة الكتابة المقبلة.
كان الذهاب الى "الباب الشرقي" في الثلاثينات من هذا القرن، والتنزّه في "بستان الخس" ومحلة "البتاويين" يُعدّ مغامرة سحرية لا حدّ لجمالها لمن كان طفلاً ذا خيال مثلي. كنا، والدي وأخي نهاد وأنا، نستقل العربة ذات الحصانين من شارع "الكيلاني" فتدرج بنا مخترقة شارع "غازي" مارين بسينما "غازي" ذات الواجهة الفخمة المزيّنة بصور الممثلين، ثم بتمثال "عبدالمحسن السعدون" رئيس الوزراء العراقي الوحيد الذي انتحر اشفاقاً على مركزه السامي من عبث الانكليز.
وبعد ان نخترق الشارع المسمى باسمه، نستدير يساراً لنتوغل في محلة "الرواف" الجديدة حتى نصل دار أخوتي الكبار. كانت بغداد آنذاك مدينة محدودة الاطراف، تعزلها عن ضواحيها بساتين كثيفة وطرق غير معبّدة، فبينها وبين "الأعظمية" مساحات شاسعة من البساتين يتلوى بينها طريق ضيق وعر. كما تفصلها عن "الكرادة الشرقية" مثل هذه البساتين. اما "الكاظمية" فيفصلها عن بغداد نهر دجلة وبساتين اكثر كثافة.
العام 1954 كنت اسكن في شارع "الحريري" وهو في جهة من "الأعظمية"، وكان عليَّ ان اقصد "الكاظمية" صباح كل يوم حيث كنت موظفاً في محكمتها المدنية، وكان الجسر الذي يربط بين "الأعظمية" و"الكاظمية" قديماً ومقاماً على طوافات متصلة بعضها ببعض، تهتزّ مع اهتزاز سيارة الأجرة في مسيرها، وترتفع مع ارتفاع منسوب المياه في النهر او تنخفض بانخفاضه. وكنا نعبر على الجسر حين يكون في مكانه، اما حين "يهرب"، كما يقولون، فلا مجال للعبور. ذلك ان مياه النهر تستقوي احياناً على الطوافات فتجرفها وتجرف الجسر معها، فيبدأ مسؤولو الري بالركض وراءه للامساك به واعادته الى مكانه الاول.
لم تبق الحال هكذا بالطبع، فقد كانت بغداد، تلك الايام تتمطى بخفاء مستيقظة من نومها الطويل الذي دام قروناً وقروناً. وخلال سنوات قليلة غيّرت هذه المدينة من وجوهها ولبست من الاقنعة ما يجعل المرء عاجزاً عن التعرف على حقيقة هذا الكيان المتقلّب واللامستقر، فبسبب طبيعة مواد البناء المستعملة في عمارة البيوت في "وادي الرافدين" والمتكوّنة اساساً من الطين ومنتجاته، اختفت الغالبية العظمى من هذه البيوت المبنية قبل القرن التاسع عشر الميلادي، ومن جملتها بيتنا العتيق الذي شاهدته طفلاً.
وهكذا، لا يمكن لنا ان نتعرّف، الا بالخيال، على وجه بغداد الحقيقي خلال الأزمنة التي سبقت القرن التاسع عشر.
بدأت بغداد تنهض اذن قبيل الحرب العالمية الثانية، وازداد نشاطها وتفتحها خلال الخمسينات. كنتُ اجتاز مشياً على الاقدام شارع "الرشيد"، الذي افتتح في بداية هذا القرن، في ذهابي الى الاعدادية المركزية صباح كل يوم، خلال السنين الاولى من الاربعينات، وكنت اراقب، من دون اهتمام كبير، ما يفتتح فيه من محال ومقاه ومخازن. ولم تنته الخمسينات حتى انتقل الزخم الكبير من شارع "الرشيد" الى"الباب الشرقي"، وصار يمتد بثبات حتى وصل وارتبط "بالكرادة الشرقية". من جهة اخرى، انفتحت "باب المعظم" على جوانبها واتصلت خلال سنوات قليلة "بالأعظمية". ثم قفز العمران على نهر دجلة الى صوب الكرخ من عدة نقاط، بعد ان شُيدت الجسور الحديدية الضخمة التي لا مجال لافتراض هروبها مع التيار.
ضمن هذا الفوران البنائي المتوسع بشراهة، انزوت بقايا بغداد العتيقة في نقاط قليلة. مكث "سوق السراي" وما جاوره متشبثاً بردائه المهترئ القديم، وبقي محبو الكتب مداومين على زيارته، يمتعون أبصارهم بمنظر الكتب المصفوفة ويشمّون، ملء صدورهم، رائحتها وشذاها. ثم كان، بعد حصار لا إنساني دام أعواماً، ان زحف سوق الكتب هذا الى الشارع المجاور، شارع المتنبي... فاتخذ المثقفون الجائعون من رصيفه معرضاً لبيع كتبهم العزيزة مقابل الخبز لأطفالهم. تلك وصمة عار ستبقى لصيقة بجبين الحضارة الغربية، وهي أشد وقعاً على النفس من كـل غزوات هولاكو وجنكيزخان ومذابحهما. في يـوم ما، وظناً مني أن زاويتي القديمة في "باب الشيخ" قد تكون سلمت من هذا الطوفان العصري المتعاظم، وانسياقاً مع رغبة طفولية غير مفهومة صحبتُ زوجتي لأريها خرائب دارنا تلك التي تهدمت. لم أجد الا فراغاً لا نهاية له وشوارع عريضة تتقاطع وبنايات حديثة لم تكتمل، كنتُ، في الواقع، أبحث عن أثر تاريخي محبب الى القلب، وسط عالم حديث فوّار، يجهل ـ بكثير من الغرور ـ ماضيه وتعاقب الأزمنة قبله. فخلال عقدي السبعينات والثمانينات من هذا القرن تعالت في بغداد النصب والتماثيل وانفتحت الساحات الواسعة وزُينت الحدائق والشوارع بالأضواء والمقاعد، غير اني، في كل ذلك، لم اكتشف جمال هذه المدينة الخفي إلا مرة واحدة وعن طريق الصدفة المحض. في احدى الليالي أوصلت بسيارتي الصديق العزيز الأديب موسى كريدي الى داره في حي "الشعب"، احد الأحياء المتطرفة البعيدة، ولما عدت ضيّعت طريقي ورحتُ أجول على غير هدى في شوارع بغداد.
كانت قد أمطرت قبل ساعات فتبللت الأرض وتلامعت تحت أضواء "النيون"، غير ان بقع الظلام المنتشرة على الجهات أحاطتني بشعور غريب لم آلفه قبلاً. بدا لي كأني في مدينة اخرى لم أرها أبداً ولم أعش فيها. مدينة غامضة الجمال، يحيط بها السحر من كل جانب. كانت الشوارع تترامى مستقيمة بلا انحراف، والبيوت بحدائقها، منسقة بشكل جميل، والسماء تبسط جناحي الجنان على هذه الصورة العجيبة.
لِمَ لم أرَ هذا الجمال هنا من قبل؟ ألأني ألفتُ كل شيء في بغدادي هذه، مثلما يألف الانسان جسده. فلا يجد فيه ميزة او حسناً، الا ان تستدعي نظره حادثة او رأي من اجنبي، فينتبه حينذاك وتدهشه روعة ما يكتشف؟
اخذتُ أرى بغداد بعين اخرى. أزحت غشاوة الاعتياد والألفة لأنظر الى ما خلفها. "ساحة التحرير" متحف حقيقي لا ينقصه الا المكان المريح الذي يمكنك ان تجلس فيه لتتأمل، على هواك، روعة ما شيدته أنامل النحات العراقي العظيم جواد سليم. وكذا الأمر مع "نصب الشهيد" لاسماعيل فتاح الترك و"نصب الجندي المجهول" لخالد الرحال. تلك اعمال فنية متميزة أقامها عراقيون معاصرون هم، من دون شك، أحفاد اولئك الفنانين العظام الذين انبثقوا من حضارات الانسانية الاولى في هذا الوادي السعيد قبل آلاف السنين فنقلوا لعالمنا الحديث أعمالاً مذهلة: الثور المجنح. مسلة حمورابي. مدينة الحضر. الجنائن المعلقة وغيرها وغيرها.
وبقدر حساسية هؤلاء الفنانين الرفيعة، تلعب الطبيعة البغدادية لعبتها المناخية بمهارة وإتقان وأحياناً بتناقض شديد، فالصيف وحرّه في بغداد، باتفاق الجميع، تجربة مريرة ومهلكة في بعض الأوقات، غير ان البغداديين وحدهم يعرفون عذوبة النسائم البليلة التي تمر على وجوههم وهم راقدون على أسرّتهم في السطح، تحت قبة السماء الصافية المليئة بالنجوم. تلك اوقات هنية لا تنسى. اما حين يرتفع القمر ويغدو بدراً وينشر نوره الفضي على جزيرة "الخنازير" وسط دجلة والهواء العليل المشبع برائحة السمك يهب بين آن وآخر، والساهرون هناك يستلقون على الرمل الدافئ، يصغون الى همهمة المياه المتواصلة ويتمنون في سرهم ألا تعاود الشمسُ الشروق مرة اخرى.
في الثلاثينات اعتاد البغداديون ان يخرجوا للنزهة والترويح عن النفس الى "بستان الخس" على مبعدة من "الباب الشرقي"، فيفترشوا الأرض وسط الخضرة، تحت شمس الشتاء الرائعة ويأكلوا أوراق الخس اللذيذة. لكن بغداد توسعت في كل الاتجاهات وتغيرت مراكزها القديمة وانتقلت بؤر التجارة فيها الى اماكن جديدة، فمع بقاء "الشورجة" سوقاً مهمة، تضاءلت اهمية شارع "الرشيد" الاقتصادية وانتقلت الحركة التجارية الى اسواق اخرى في "الكرادة الشرقية" و"المنصور" و"الأعظمية". لم تعد بغداد، في الثمانينات، ذات صبغة محددة او ملامح معينة لها اصول قديمة. فـپ"السوق العربي" في شارع "الرشيد" قرب "الشورجة" هو سوق عربي جديد وعصري تم تشييده على الطراز القديم، الا انه لا يتصل بأي قديم قديم.
لقد وجدتُ القديم الحقيقي، أنا وبعض اصدقائي الأدباء، في الانحشار بمقهى "حسن عجمي" الذي يرجع افتتاحه الى بداية تأسيس الدولة العراقية. هنالك، في ذلك المكان الخاص، نجلس متقاربين على "القنفات" الخشبية الصلدة المفروشة بالبُسط وأمامنا الطاولات الحديدية الصدئة، نشرب الشاي السنكين ونتحدث بما يحلو لنا، تحت السقف العالي لهذا المقهى البغدادي الأليف.
هذه مواقع ذات خصوصية رفيعة. انها تملك رائحة الأصالة والتواضع وهي غير قابلة للاستبدال او التجديد. لن أنسى تلك الساعات الحلوة روحياً في مقهى "حسن عجمي"، حين كنا نجتمع من غير ميعاد ظهر الجمعة، صيفاً وشتاءً، فنجلس نتبادل الأحاديث والأخبار والآمال والتوقعات. حيّاك الله، أيها المبنى العتيق البالي، لأنّك منحتَ حياتنا، بعض الوقت، ألواناً وآفاقاً شاسعة كنا بأشد الحاجة اليها.
الحديث عن مقهى "حسن عجمي" يعود بي الى نهاية الأربعينات وبداية سنوات الخمسين المشرقة في بغداد. كان شارع "الرشيد" يزهو آنذاك بكل ما في هذه الكلمة من معنى: دور السينما، اوروزدي باك والمخازن الأنيقة الاخرى. المطاعم الصغيرة ومنها محل "عمو الياس" للأكلات الخفيفة، ثم المقاهي... الزهاوي، حسن عجمي، البلدية، المربعة، البرازيلية ثم المقهى السويسري، حيث كنا نلتقي انا وعبدالملك نوري والبياتي وآخرون. كان "المقهى السويسري" قد افتتح نهاية الأربعينات بمشاركة - كما قيل - فنانين بولونيين وبعض العراقيين. كان مقهى نظيفاً أنيقاً، تزين جدرانه كلها رسوم تمثل الفولكلور السويسري، قيل ان جواد سليم شارك في رسمها، وكانت الخدمة فيه راقية جداً. اما المقهى البرازيلي فكان مشهوراً بتقديمه القهوة المصنوعة من البن البرازيلي المستورد، وكانت رائحة هذه القهوة تفوح في الشارع لمسافة امتار عدّة.
كانت هنالك المكتبات ايضاً: الرابطة. مكنزي. كورنيت. النصر. ثم القسم المخصص للكتب في اوروزدي باك. في هذه المكتبات يمكنك، عدا شراء الكتب والمجلات المتنوعة، ان توصي بجلب اي كتاب او مجلة تريد من أي مكان في العالم! ويمكنك ايضاً ان تتأكد من أن طلبيتك ستصل اليك في الموعد الذي يقدره صاحب المكتبة. لا تزال في قلبي غصة لبغداد الخمسينات التي ذوبتها حرارة التغيرات المتنوعة، ولن أنسى في العام 1981 اني تنسمت هبة معطرة خفيفة من روح بغداد هذه، حين كنت أتجول في العاصمة الأردنية.. عمان. بقيتُ واقفاً بذهول في احد الشوارع، أتطلع حولي مثل طفل يتيم لمح من يشبه أباه ثم ضيّعه.
الآن، بالرغم من اعتقادي بأن من ليس في قلبه مدينة ما، فهو انسان ضائع، فأنا، بعد كل ما رأيت وجربت، أجد ذلك امراً يحمل معه الكثير من الهموم والأوجاع، إذ يبدو ان العالم الحديث المثقل بستة مليارات انسان، لم يعد يتحمل لهفة البشر الى مكان معلوم ولا التصاقهم روحياً به. انه عالم النمل الذي لا يملك هوية ما، ويعيش أينما كان، دون خرائط او خرائب عزيزة او أصول تراثية لا تغني ولا تشبع.
ولست دارياً لماذا سألني الصديق الطيب ان اكتب له عن مدينتي بغداد فنكأ الجروح من دون علمه. لقد عادت اليَّ، مع الصواريخ والقنابل النازلة على مدينتي، صورة بيتنا الأمين وشارع "الرشيد" الزاهي ونسمات ليالي الصيف المنعشة ووجوه الأعزاء الغائبة والحدائق وضوء القمر والجسور الهاربة وكل الجهالات الجميلة وسنوات الطفولة ووجه أبي ووجه أمي بغداد.
تونس ـ شباط 1999
الرواية هي المكان بامتياز، فيه تنبت الشخصيات وتتشابك العلاقات وتتوالد الأحداث. والأدب بشكل عام مرتبط بالمكان، حتّى في انسلاخه عنه أحياناً. ففي وجدان كل أديب يعرّش مكان محدّد، مـدينة بأحـيائها وروائحها وضجيجها، بأحداثها وأحاسيسها وناسـها. حاولـنا أن نغـوص فـي تلك الذاكرة الثقافية والحميمة، داعين عدداً من أبرز الكتاب العرب إلى كشف الخيوط الخفيّة التي تشدّهم إلى مدينة ما، هي مكانهم الأصيل أو أحــد أمكنـتهم الأثـيرة. طلبنا إليهم أن يرفعوا الحجاب عن زاوية في لاوعيهم، يتقاطع عندها الذاتي بالثقافي، والخاص بالعام. وأعطيناهم الحرية في اختيار الأسلوب واللغة والشكل، وفي اختيار المكـان. إستجــاب بعضــهم وتـردد آخرون. بعد غادة السمّان، وإبراهيم عبد المجيد، وعبد الرحمن منيف ومحمد شكري، ننشر نصّ الكاتب العراقي فؤاد التكرلي.
حين سُئلت، مساء السابع عشر المظلم من شهر كانون الاول ديسمبر 1998، ان اكتب عن مدينتي بغداد، كانت هذه تئن تحت ضربات الصواريخ والقنابل الاميركية/ البريطانية، وتستصرخ العالم لنجدتها. ولا من مجيب. تلك هي بغداد، مدينة الطفولة، حيث وُلد، من قبلي، أجدادي وآبائي. كنتُ أكاد أسمع أنينها وتوجعها تحت لسعات السياط المجانية، وأنا على بُعد آلاف الأميال منها.
آنذاك فقط، وخلال الايام التي أعقبت عملية سلخ الجلد هذه، استحوذت عليّ افكار شتى عن بغداد، عن مدينتي العتيقة المتألمة، ورحت أتساءل بيني وبين نفسي: ما طبيعة هذه المشاعر التي تمتلكني تجاه مجموعة من البنايات والمساحات الفارغة والبيوت والمشاهد الاخرى؟ وما هي علاقة الدم هذه التي تربط بين شريان قلب الانسان وموقع مخصوص يميزه التألق والاندساس بين الضلوع؟ أهي معايشة الأفراح البريئة وتفتحات العواطف الاولى ضمن مسرح معلوم، يمنح هذا الاخير معزّة تلك المشاعر الغالية على الدوام؟ أم ان هنالك سراً مغلقاً، يحكي عن رباط سري بين الانسان والارض، يدوم ما دام هذا حياً واعياً بذاته؟
في ظني، ان هذه الفكرة تحيل الى رابطة الام والابن، اكثر مما تحيل الى اية رابطة اخرى. ولقد جهلتُ جمال أمي بغداد، مثل كل الاطفال، طوال سنوات وسنوات. احببتُ اولاً، منزلنا العتيق الذي وُلدت فيه، وازداد حبي له وانا اشهده يتهدم رويداً رويداً تحت نظري الجازع، ثم بلغ حبي له مداه حين انهار اخيراً وتحول الى انقاض. ورجعتُ مــرات، اليه، اتجوّل بين الاطلال… بين بقايا جسد بيتي.
لم تكن بغداد موجودة في عالمي آنذك، كانت هي هذه الخرائب الحزينة وذلك الزقاق الضيّق الذي ينبع من "شارع الكيلاني" ويتلوى متلاشياً في الطرف الآخر حيث اسطبلات الخيل والحمير. طريق أليف، مستكين، لا اسم له.
كنا نسكن في محلة "باب الشيخ"، احدى المحلات الرئيسية القديمة في بغداد، حالها حال محلة "سوق الغزل" و"رأس القرية" و"سيد سلطان علي" و"الحيدرخانة" و"الفضل" و"باب الآغا" و"العاقولية" و"باب المعظم" و"الميدان" وغيرها.
ومن بعض هذه المحلات لم اكن اعرف الا اسمها، اذ لم تكن تعني لي شيئاً خاصاً كبيراً. ومع ذلك، فقد بدأ تلمسي الروحي لبغداد حالما دخلتُ مدرستي الابتدائية، مدرسة باب الشيخ الابتدائية للبنين. قبل ذلك بسنة اجتزتُ، وانا في الخامسة، تجربة عسيرة ومضحكة في الآن نفسه. كنتُ سعيداً وانا اداوم في الصف الاول في مدرسة "العوينة" الابتدائية، تلك المدرسة الغاطسة في بحر من النفايات ومياه المجاري الآتية من محلة "الصدرية".
كنا نقصدها صباحاً، اخي نهاد وانا، ونجتاز الطرق الموحلة بصبر عجيب. أتذكر صورة واحدة من تلك المرحلة، حين ينغرز حذائي في الطين فأحاول ان اسحبه فتخرج قدمي منه ويبقى الحذاء ملتصقاً بموقعه الطيني! وفي صباح، فوجئت ورفيقي كريم فليح - الشقيق الاصغر لعاصم فليح - بنقلنا الى مدرسة "التسابيل" من دون انذار سابق. كنا زائدين عن العدد المطلوب كما يبدو، فأخذونا الى تلك المدرسة. باشرنا، بغير اتفاق مسبق، واحتجاجاً طفولياً مضاداً لهذا التصرف الظالم. صرنا نبكي صارخين بحرقة ومن دون انقطاع. عياط وعويل ودموع ومخاط، حتى ضجّت المدرسة بمن فيها، وخرج المدير من غرفته طالباً التخلص من هذه البلوى وإرجاعنا من حيث جئنا. تلك حادثة لم أنسها، فهي التي كشفت ميلي النفسي إلى بعض الاماكن دون غيرها. ومن دارنا القديمة ومحلة "باب الشيخ" الاقدم، اخذت أتعرّف على ملامح بغداد... مدينتي التي لم اكن قد رأيتها حقاً.
أسس الخليفة المنصور سنة 145هـ 762 م مدينة بغداد الدائرية في صوب الكرخ، غير ان الاكتشافات الاثرية اثبتت ان بشراً استوطنوا هذا الموقع في زمن نبوخذ نصر الثاني 605 - 688 ق.م، ومن مراجعة سريعة لما فعلته الاعوام الطويلة بهذه المدينة واهلها، تظهر مدى الاهوال التي لحقت بها وبهم. فالغزوات تتلاحق والمذابح والحصارات وكوارث الطبيعة والمجاعات والاوبئة، حتى ليتساءل المرء، رغماً عنه، عما فعله هذا الموقع من الارض واهلوه، فاستحقوا وما زالوا، كل هذه الكوارث المنصبّة على رؤوسهم من دون انقطاع؟
مرّت على بغداد مراحل تاريخية كثيرة، حكم فيها البلد أناس مختلفون، فبعد الحكم العباسي جاء الحكم البويهي ثم الحكم السلجوقي، اعقبته مرحلة الحكم العباسي الاخيرة وتبعته المرحلة الألخانية ثم المرحلة الجلائرية.
بعد ذلك خيمت على بغداد فترة سوداء قاتمة امتدت اكثر من مائتي عام، تلاها الحكم العثماني المظلم الذي استطال ما يقارب القرون الاربعة. ومن اقوال المؤرخين يبدو ان هذه المدينة بلغت اقصى اهمية لها على المستوى السياسي والفكري والاقتصادي في زمن العباسيين 762 - 1258م، ثم اخذت هذه الاهمية تتضاءل بسبب تغير الحكام وتجدد الغزوات الهمجية واستمرت في التضاؤل زمن السيطرة العثمانية الطويلة المظلمة على العراق. هذه السيطرة التي لم تنته الا بانتهاء الحرب العالمية الاولى سنة 1918م وهزيمة الاتراك العثمانيين فيها. الا ان بغداد، بعد تأسيس الحكم الوطني في العراق 1922م واكتشاف النفط فيه وتطور التكنولوجيا ووسائل النقل العالمية، عاد اليها موقعها القديم واهميتها رويداً رويداً.
قبل ان نهجر دربنا الذي لا اسم له، كنتُ طفلاً في السادسة، احب التجوال في ساحة جامع الشيخ عبدالقادر الكيلاني 1077 - 1165م. أتمشى هنا وهناك، وادور حول الحوض المغطى، وأقف على الدرجات لأتطلع الى الماء داخله وأراقب المتوضّين منشغلين بغسل أذرعهم وأرجلهم. أمرُّ بعدئذ قريباً من العريشة الجميلة الملاصقة للمقبرة الكيلانية، حيث يقيم احد المتدينين الهنود. كان الجو غامضاً لغير سبب، وكنت مُنتشياً باستمرار وانا اعود، متجولاً، الى الساحة الحجرية، تحت الساعة العالية المربعة البناء والمنارة الرشيقة الزرقاء المزركشة.
واذ ابتعدنا عن بيتنا حين صار تراباً وتساوى مع الارض، رحت اجوب الازقة في الجوار. كنت مفتوناً بهذه الأزقة، ويزداد افتتاني بها كلما زاد ضيقها وتقاربت حيطانها كأنها تهمّ بتبادل القبل، و كنتُ في الواقع، احشد الصور في ذاكرتي لمرحلة الكتابة المقبلة.
كان الذهاب الى "الباب الشرقي" في الثلاثينات من هذا القرن، والتنزّه في "بستان الخس" ومحلة "البتاويين" يُعدّ مغامرة سحرية لا حدّ لجمالها لمن كان طفلاً ذا خيال مثلي. كنا، والدي وأخي نهاد وأنا، نستقل العربة ذات الحصانين من شارع "الكيلاني" فتدرج بنا مخترقة شارع "غازي" مارين بسينما "غازي" ذات الواجهة الفخمة المزيّنة بصور الممثلين، ثم بتمثال "عبدالمحسن السعدون" رئيس الوزراء العراقي الوحيد الذي انتحر اشفاقاً على مركزه السامي من عبث الانكليز.
وبعد ان نخترق الشارع المسمى باسمه، نستدير يساراً لنتوغل في محلة "الرواف" الجديدة حتى نصل دار أخوتي الكبار. كانت بغداد آنذاك مدينة محدودة الاطراف، تعزلها عن ضواحيها بساتين كثيفة وطرق غير معبّدة، فبينها وبين "الأعظمية" مساحات شاسعة من البساتين يتلوى بينها طريق ضيق وعر. كما تفصلها عن "الكرادة الشرقية" مثل هذه البساتين. اما "الكاظمية" فيفصلها عن بغداد نهر دجلة وبساتين اكثر كثافة.
العام 1954 كنت اسكن في شارع "الحريري" وهو في جهة من "الأعظمية"، وكان عليَّ ان اقصد "الكاظمية" صباح كل يوم حيث كنت موظفاً في محكمتها المدنية، وكان الجسر الذي يربط بين "الأعظمية" و"الكاظمية" قديماً ومقاماً على طوافات متصلة بعضها ببعض، تهتزّ مع اهتزاز سيارة الأجرة في مسيرها، وترتفع مع ارتفاع منسوب المياه في النهر او تنخفض بانخفاضه. وكنا نعبر على الجسر حين يكون في مكانه، اما حين "يهرب"، كما يقولون، فلا مجال للعبور. ذلك ان مياه النهر تستقوي احياناً على الطوافات فتجرفها وتجرف الجسر معها، فيبدأ مسؤولو الري بالركض وراءه للامساك به واعادته الى مكانه الاول.
لم تبق الحال هكذا بالطبع، فقد كانت بغداد، تلك الايام تتمطى بخفاء مستيقظة من نومها الطويل الذي دام قروناً وقروناً. وخلال سنوات قليلة غيّرت هذه المدينة من وجوهها ولبست من الاقنعة ما يجعل المرء عاجزاً عن التعرف على حقيقة هذا الكيان المتقلّب واللامستقر، فبسبب طبيعة مواد البناء المستعملة في عمارة البيوت في "وادي الرافدين" والمتكوّنة اساساً من الطين ومنتجاته، اختفت الغالبية العظمى من هذه البيوت المبنية قبل القرن التاسع عشر الميلادي، ومن جملتها بيتنا العتيق الذي شاهدته طفلاً.
وهكذا، لا يمكن لنا ان نتعرّف، الا بالخيال، على وجه بغداد الحقيقي خلال الأزمنة التي سبقت القرن التاسع عشر.
بدأت بغداد تنهض اذن قبيل الحرب العالمية الثانية، وازداد نشاطها وتفتحها خلال الخمسينات. كنتُ اجتاز مشياً على الاقدام شارع "الرشيد"، الذي افتتح في بداية هذا القرن، في ذهابي الى الاعدادية المركزية صباح كل يوم، خلال السنين الاولى من الاربعينات، وكنت اراقب، من دون اهتمام كبير، ما يفتتح فيه من محال ومقاه ومخازن. ولم تنته الخمسينات حتى انتقل الزخم الكبير من شارع "الرشيد" الى"الباب الشرقي"، وصار يمتد بثبات حتى وصل وارتبط "بالكرادة الشرقية". من جهة اخرى، انفتحت "باب المعظم" على جوانبها واتصلت خلال سنوات قليلة "بالأعظمية". ثم قفز العمران على نهر دجلة الى صوب الكرخ من عدة نقاط، بعد ان شُيدت الجسور الحديدية الضخمة التي لا مجال لافتراض هروبها مع التيار.
ضمن هذا الفوران البنائي المتوسع بشراهة، انزوت بقايا بغداد العتيقة في نقاط قليلة. مكث "سوق السراي" وما جاوره متشبثاً بردائه المهترئ القديم، وبقي محبو الكتب مداومين على زيارته، يمتعون أبصارهم بمنظر الكتب المصفوفة ويشمّون، ملء صدورهم، رائحتها وشذاها. ثم كان، بعد حصار لا إنساني دام أعواماً، ان زحف سوق الكتب هذا الى الشارع المجاور، شارع المتنبي... فاتخذ المثقفون الجائعون من رصيفه معرضاً لبيع كتبهم العزيزة مقابل الخبز لأطفالهم. تلك وصمة عار ستبقى لصيقة بجبين الحضارة الغربية، وهي أشد وقعاً على النفس من كـل غزوات هولاكو وجنكيزخان ومذابحهما. في يـوم ما، وظناً مني أن زاويتي القديمة في "باب الشيخ" قد تكون سلمت من هذا الطوفان العصري المتعاظم، وانسياقاً مع رغبة طفولية غير مفهومة صحبتُ زوجتي لأريها خرائب دارنا تلك التي تهدمت. لم أجد الا فراغاً لا نهاية له وشوارع عريضة تتقاطع وبنايات حديثة لم تكتمل، كنتُ، في الواقع، أبحث عن أثر تاريخي محبب الى القلب، وسط عالم حديث فوّار، يجهل ـ بكثير من الغرور ـ ماضيه وتعاقب الأزمنة قبله. فخلال عقدي السبعينات والثمانينات من هذا القرن تعالت في بغداد النصب والتماثيل وانفتحت الساحات الواسعة وزُينت الحدائق والشوارع بالأضواء والمقاعد، غير اني، في كل ذلك، لم اكتشف جمال هذه المدينة الخفي إلا مرة واحدة وعن طريق الصدفة المحض. في احدى الليالي أوصلت بسيارتي الصديق العزيز الأديب موسى كريدي الى داره في حي "الشعب"، احد الأحياء المتطرفة البعيدة، ولما عدت ضيّعت طريقي ورحتُ أجول على غير هدى في شوارع بغداد.
كانت قد أمطرت قبل ساعات فتبللت الأرض وتلامعت تحت أضواء "النيون"، غير ان بقع الظلام المنتشرة على الجهات أحاطتني بشعور غريب لم آلفه قبلاً. بدا لي كأني في مدينة اخرى لم أرها أبداً ولم أعش فيها. مدينة غامضة الجمال، يحيط بها السحر من كل جانب. كانت الشوارع تترامى مستقيمة بلا انحراف، والبيوت بحدائقها، منسقة بشكل جميل، والسماء تبسط جناحي الجنان على هذه الصورة العجيبة.
لِمَ لم أرَ هذا الجمال هنا من قبل؟ ألأني ألفتُ كل شيء في بغدادي هذه، مثلما يألف الانسان جسده. فلا يجد فيه ميزة او حسناً، الا ان تستدعي نظره حادثة او رأي من اجنبي، فينتبه حينذاك وتدهشه روعة ما يكتشف؟
اخذتُ أرى بغداد بعين اخرى. أزحت غشاوة الاعتياد والألفة لأنظر الى ما خلفها. "ساحة التحرير" متحف حقيقي لا ينقصه الا المكان المريح الذي يمكنك ان تجلس فيه لتتأمل، على هواك، روعة ما شيدته أنامل النحات العراقي العظيم جواد سليم. وكذا الأمر مع "نصب الشهيد" لاسماعيل فتاح الترك و"نصب الجندي المجهول" لخالد الرحال. تلك اعمال فنية متميزة أقامها عراقيون معاصرون هم، من دون شك، أحفاد اولئك الفنانين العظام الذين انبثقوا من حضارات الانسانية الاولى في هذا الوادي السعيد قبل آلاف السنين فنقلوا لعالمنا الحديث أعمالاً مذهلة: الثور المجنح. مسلة حمورابي. مدينة الحضر. الجنائن المعلقة وغيرها وغيرها.
وبقدر حساسية هؤلاء الفنانين الرفيعة، تلعب الطبيعة البغدادية لعبتها المناخية بمهارة وإتقان وأحياناً بتناقض شديد، فالصيف وحرّه في بغداد، باتفاق الجميع، تجربة مريرة ومهلكة في بعض الأوقات، غير ان البغداديين وحدهم يعرفون عذوبة النسائم البليلة التي تمر على وجوههم وهم راقدون على أسرّتهم في السطح، تحت قبة السماء الصافية المليئة بالنجوم. تلك اوقات هنية لا تنسى. اما حين يرتفع القمر ويغدو بدراً وينشر نوره الفضي على جزيرة "الخنازير" وسط دجلة والهواء العليل المشبع برائحة السمك يهب بين آن وآخر، والساهرون هناك يستلقون على الرمل الدافئ، يصغون الى همهمة المياه المتواصلة ويتمنون في سرهم ألا تعاود الشمسُ الشروق مرة اخرى.
في الثلاثينات اعتاد البغداديون ان يخرجوا للنزهة والترويح عن النفس الى "بستان الخس" على مبعدة من "الباب الشرقي"، فيفترشوا الأرض وسط الخضرة، تحت شمس الشتاء الرائعة ويأكلوا أوراق الخس اللذيذة. لكن بغداد توسعت في كل الاتجاهات وتغيرت مراكزها القديمة وانتقلت بؤر التجارة فيها الى اماكن جديدة، فمع بقاء "الشورجة" سوقاً مهمة، تضاءلت اهمية شارع "الرشيد" الاقتصادية وانتقلت الحركة التجارية الى اسواق اخرى في "الكرادة الشرقية" و"المنصور" و"الأعظمية". لم تعد بغداد، في الثمانينات، ذات صبغة محددة او ملامح معينة لها اصول قديمة. فـپ"السوق العربي" في شارع "الرشيد" قرب "الشورجة" هو سوق عربي جديد وعصري تم تشييده على الطراز القديم، الا انه لا يتصل بأي قديم قديم.
لقد وجدتُ القديم الحقيقي، أنا وبعض اصدقائي الأدباء، في الانحشار بمقهى "حسن عجمي" الذي يرجع افتتاحه الى بداية تأسيس الدولة العراقية. هنالك، في ذلك المكان الخاص، نجلس متقاربين على "القنفات" الخشبية الصلدة المفروشة بالبُسط وأمامنا الطاولات الحديدية الصدئة، نشرب الشاي السنكين ونتحدث بما يحلو لنا، تحت السقف العالي لهذا المقهى البغدادي الأليف.
هذه مواقع ذات خصوصية رفيعة. انها تملك رائحة الأصالة والتواضع وهي غير قابلة للاستبدال او التجديد. لن أنسى تلك الساعات الحلوة روحياً في مقهى "حسن عجمي"، حين كنا نجتمع من غير ميعاد ظهر الجمعة، صيفاً وشتاءً، فنجلس نتبادل الأحاديث والأخبار والآمال والتوقعات. حيّاك الله، أيها المبنى العتيق البالي، لأنّك منحتَ حياتنا، بعض الوقت، ألواناً وآفاقاً شاسعة كنا بأشد الحاجة اليها.
الحديث عن مقهى "حسن عجمي" يعود بي الى نهاية الأربعينات وبداية سنوات الخمسين المشرقة في بغداد. كان شارع "الرشيد" يزهو آنذاك بكل ما في هذه الكلمة من معنى: دور السينما، اوروزدي باك والمخازن الأنيقة الاخرى. المطاعم الصغيرة ومنها محل "عمو الياس" للأكلات الخفيفة، ثم المقاهي... الزهاوي، حسن عجمي، البلدية، المربعة، البرازيلية ثم المقهى السويسري، حيث كنا نلتقي انا وعبدالملك نوري والبياتي وآخرون. كان "المقهى السويسري" قد افتتح نهاية الأربعينات بمشاركة - كما قيل - فنانين بولونيين وبعض العراقيين. كان مقهى نظيفاً أنيقاً، تزين جدرانه كلها رسوم تمثل الفولكلور السويسري، قيل ان جواد سليم شارك في رسمها، وكانت الخدمة فيه راقية جداً. اما المقهى البرازيلي فكان مشهوراً بتقديمه القهوة المصنوعة من البن البرازيلي المستورد، وكانت رائحة هذه القهوة تفوح في الشارع لمسافة امتار عدّة.
كانت هنالك المكتبات ايضاً: الرابطة. مكنزي. كورنيت. النصر. ثم القسم المخصص للكتب في اوروزدي باك. في هذه المكتبات يمكنك، عدا شراء الكتب والمجلات المتنوعة، ان توصي بجلب اي كتاب او مجلة تريد من أي مكان في العالم! ويمكنك ايضاً ان تتأكد من أن طلبيتك ستصل اليك في الموعد الذي يقدره صاحب المكتبة. لا تزال في قلبي غصة لبغداد الخمسينات التي ذوبتها حرارة التغيرات المتنوعة، ولن أنسى في العام 1981 اني تنسمت هبة معطرة خفيفة من روح بغداد هذه، حين كنت أتجول في العاصمة الأردنية.. عمان. بقيتُ واقفاً بذهول في احد الشوارع، أتطلع حولي مثل طفل يتيم لمح من يشبه أباه ثم ضيّعه.
الآن، بالرغم من اعتقادي بأن من ليس في قلبه مدينة ما، فهو انسان ضائع، فأنا، بعد كل ما رأيت وجربت، أجد ذلك امراً يحمل معه الكثير من الهموم والأوجاع، إذ يبدو ان العالم الحديث المثقل بستة مليارات انسان، لم يعد يتحمل لهفة البشر الى مكان معلوم ولا التصاقهم روحياً به. انه عالم النمل الذي لا يملك هوية ما، ويعيش أينما كان، دون خرائط او خرائب عزيزة او أصول تراثية لا تغني ولا تشبع.
ولست دارياً لماذا سألني الصديق الطيب ان اكتب له عن مدينتي بغداد فنكأ الجروح من دون علمه. لقد عادت اليَّ، مع الصواريخ والقنابل النازلة على مدينتي، صورة بيتنا الأمين وشارع "الرشيد" الزاهي ونسمات ليالي الصيف المنعشة ووجوه الأعزاء الغائبة والحدائق وضوء القمر والجسور الهاربة وكل الجهالات الجميلة وسنوات الطفولة ووجه أبي ووجه أمي بغداد.
تونس ـ شباط 1999