إبراهيم اصلان - الابتسام الذي لا يشيخ..

كان الصوت لمحمد الباسطي‏,‏ أحد أقدم أصدقاء العمر وأغلاهم‏,‏ والكاتب الذي شعرت بالحرج من حصولي علي جائزة الدولة التقديرية في الآداب قبل أن يحصل عليها هو‏.‏
كنت أجلس إلي الطاولة الممتدة في مقهي الجريون, بينما كان هو علي لقاء بكاتب أجنبي أعد عنه شيئا وجلسا هناك في الركن البعيد, ثم رآني عند انصرافه, لم نكن التقينا منذ سنوات قليلة, إلا أن وجهه حمل نفس الابتسامة القديمة, تحدثنا وقوفا قلت إنني آت الي هنا أحيانا وقال إنه يراعي أحفاده بينما يذهبون الي أعمالهم ( لم يمنعه ذلك أن يمنحنا كل عام رواية جديدة) ثم أننا قلنا كلاما آخر حول أحوال أخري وافترقنا والابتسامة علي وجهه.
عدت الي مقعدي ورحت أفكر: الابتسامة الحقيقية تظل من سماتك النادرة التي تظل معك طيلة العمر, لا تقدر عليها ولا تبدلها الايام.
نعم الابتسامة لا تشيخ أبدا.
قبل أقل من نصف قرن أخذني صديقنا الكاتب الراحل ضياء الشرقاوي الي منزله في شبرا. لم أكن كتبت بعد, وكان البساطي شابا نحيلا يرعي أشقاءه الصغار كما يرعي أحفاده الآن. أيامها كان صاحب تجربة بارزة بين التجارب الاولي لهذا الجيل, كان يجلس علي الكنبة يلم ساقيه تحته ويتطلع الي دون كلل, وقال:
ـ هو انت سايب شعرك طويل, علشان يقولوا انك فنان
غمزت له بعيني ان يخفض صوته كنت أعلم انه وافد علينا من المنزلة, بينما قضيت أنا ما انصرم من ايامي سارحا ليلا بين أزقة امبابة ومقاهيها وعندما انشغل ضياء ملت عليه وهمست له انني تركت شعري طويلا من اجل هذا السبب بالضبط, وطلبت منه ان يجعل الامر بيننا سرا, وألا يخبر ضياء بذلك تحت أي من الظروف, وهو نظرني بعينيه الماكرتين ثم انفرجت ملامحه نفس الابتسامة التي رأيتها اليوم.
وعدت أفكر نعم الابتسامة لا تشيخ أبدا.
عدت الي البيت وقد انتصف الليل قبل ساعتين أو ثلاث. أم هشام نائمة وأنا أتجول في الشقة حائرا لم أكن راغبا في مشاهدة شيء رغم انني تركت الجهاز مفتوحا بدلت ثيابي وعملت الشاي وأنا أفكر كيف ان فرحة البساطي بالثورة كانت هائلة. منذ قيامها عزت القراءة كلما سألت أحدا ممن جعلوا الكتاب ملاذا وجدته هو الاخر لا يقرأ. رحت اقلب الكتب التي تراكمت ووجدتني غير قادر علي الشروع في شيء كان الحل هو اللجوء الي كتاب سبقت تجربته يعينني علي المواصلة.
عثرت بغيتي في كتاب للأمريكي الأشهر هنري ميللر(1981 ـ0891) صاحب( مدار السرطان4391) وربيع( اسود6391) و(مدار الجدي9391) وغيرها من اعمال اخترق بها ما هو مرعي وراح يربت بعصاه علي ماهو مستور من اجساد الناس. وهو كان قد هاجر الي فرنسا في العام8291 ثم عاد الي امريكا عام44, وظلت اعماله محظورة هناك لم يفرج عن نشر( مداريه) الا عام16, أي عندما بلغ السبعين من عمره, و,الكتاب الذي نلجأ اليه الآن( منعطف الثمانين) الذي وضعه بعدما هدأت روحه اللجوجة الثائرة. وانا كنت أشرت مرة الي ما تضمنه من خبرة حياة بالغة العمق والغني, واكتفي منه الآن بشذرات قد تتلاءم ومقتضي الحال يقول:
اذا بلغت الثمانين وكنت غير مقعد أو ذي علة وإن كان المسير الطويل لايزال يمتعك, وكذلك الوجبة الطيبة وما يلازمها وان كنت قادرا علي النوم دون ان تتناول عقارا, وان كانت الطيور والازهار والجبل والبحر مستمرأ بالايحاء إليك فأنت, علي هذا أسعد الناس وعليك ان تركع علي ركبتيك صباح مساء وتحمد الله القدير علي رعيتك وحمايتك بعنايته.
اذا استطاعت رؤية جسد جميل ان تؤججك وان استطعت ان تقع في الحب باطراد وان تغفر لذويك جريمة وجودك في هذا الكون, وان كان لا يهمك ان تعرف الي اين تجري الحياة, وإن يكفيك استقبال كل يوم كما يحل وان كنت قادرا علي العفو, وكذلك النسيان وأن تردع نفسك عن التحول الي التسرع, او الشراسة.. الي الكآبة او الصف حينئذ تكسب يا سيدي نصف حياتك.
خذ الحياة كما هي, وادفع نفسك فيها, وانشر البهجة والفوضي, نحن لا نغني لاننا نأمل بالظهور ذات يوم في الاوبرا وانما نغني لاننا نملك رئتين مليئتين بالفرح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى