في زمن الطفولة حين كنا نلعب على أطراف قريتنا لم يكن يوجد بيننا فرق في الفهم، فإن وجد لم نشعر به، وإنما إختلفت الأفهام فيما بعد. لم نكن نعرف عنه في الطفولة غير رعونة نخشاها وسرعة رضا نستغلها. إختلفنا في النشأة بمرور الزمن، ففي حين تدرجنا في الصفوف الدراسية لم يفلح عبود في اجتياز الصف الأول، بل لم يجتز حتى شبه الخرس الذي لازمه منذ نعومة أظفاره، وبخلافنا نشأ قوي الجسم كالثور بالغ البلادة وسخا رث الملبس. بعد مدة إنتقل عدد من عوائلنا بضمنها عائلة عبود الى منطقة مجاورة صار فيها حمّالاً يرافق النسوة الى بيوتهن وهو يدفع عربته الخشبية الصغيرة واضعا عليها ما إشترينه ويبتسم ابتسامته البلهاء. كان باقي الشبان يذهبون أيضا الى السوق في ساعة الذروة عصرا ولكن لمراقبة الفتيات اللواتي لم يكن يفوتن هذه الساعة لعرض جمالهن وزينتهن فإذا سنحت الفرصة لأحدهم ورأى من إحداهن، أو ظن، قبولا تبعها حتى البيت لتنتهي عند بابه آماله المتلذذة.
لكن عبود كان حظه أبعد مدى إذ يرافق ربة البيت، أو الفتاة ربما، فيدخل ما إشترته الى البيت ويقبض الأجرة دون أن تشكل مرافقته لها ودخوله معها غضاضة إجتماعية أو عيبا أخلاقيا فهو معروف والكل يشفق عليه.
بدأنا شيئا فشيئا نسمع أقاويل. قال أحدهم أنه شاهده يقرص امرأة من زندها وهو يسير الى جوارها فضربته على يده ضاحكة، وروى آخر أنه لمحه يختطف قبلة من خد فتاة فدفعته لتلقيه أرضا ولكنه نهض وإستمر يسير معها بعربته دون أن تعترض فيما أقسم ثالث بأن الأمر وصل الى أكثر من هذا وذاك مع امرأة متزوجة. كنا ننكر مثل هذه الروايات على راويها وربما سخرنا منه، إلا أني أكاد أجزم أني لست الوحيد الذي كان يتلوى في داخله شيء مرّ لا هو بالحسد لعبود ولا هو بالحقد عليه بل هو مزيج منهما، وتقت، إذا صحت الأخبار، أن أرى عبودا يقع في شر حماقته يوما.
كانت (سمر) أمنية بيضاء ممتلئة سوداء العينين كل ما فيها يتوهج رقة وحيوية مع مكر أنثوي، إذا رأت أحدا يلح في متابعتها قد تظهر له ما يشبه الإستلطاف فيجدّ في إثرها مطلقا عنان التمني حتى إذا أوصلته الى موضع في طريقها الى البيت التفتت نحوه موبخة وطردته شر طردة فيعود محمر الوجه يقطر عرقا، وأصدقكم القول أنها كانت بحكم رومانسيتي من النوع الذي أفضله، فتاة لا تمنح نفسها بسهولة وجميلة جمالا سينمائيا وتمنيت أن تكون من هواة القراءة أيضا لتكتمل الوصفة، غير أني، علاوة على نفوري من تتبع الفتيات بالطريقة الصبيانية المخجلة، بقيت متهيبا بعيدا لما أعرفه عنها من جسارة. لم أكن أراها في السوق إلا نادرا ولم تكن هي التي تتبضع لأهلها عادة ولكني شاهدتها ذلك اليوم وعبودا الى جوارها يضع الخضار وأشياء أخرى على عربته فقلت في نفسي متمثلا بقول الشاعر "ويأتيك بالأخبار من لم تزود" حلت نهايتك يا عبود!
تبعتهما عن بعد. سارا وكأنهما يسيران كل بمفرده لا علاقة لأحدهما بالآخر. لم يلتفت اليها ولم تلتفت اليه. وصلا البيت ففتحت له الباب ليدخل بالعربة وأغلقته. غلب على ظني، وقد صدق، أنها لوحدها في البيت. جلست بعيدا في ساحة على كومة تراب أعد الدقائق.. خمس.. ربع ساعة.. نصف ساعة. ماذا يفعل هذا المجنون كل هذا الوقت؟ بعد أن مضى أكثر من ساعة إنفتح الباب وخرج عبود بعربته. تلفتت الفتاة يمنة ويسرة، ولا أدري إن كانت رأتني ولكنها أغلقت الباب على عجل. مر عبود من أمامي وقد إزدادت ابتسامته إتساعا كاشفة عن أسنانه الصفر المسودة وبدا من نظرة عينيه السارحة الدائخة أنه كان غارقا في العسل لدرجة أنه لم يرني. عندها أدركت أن عبودا قد تغلغل في المدينة الى أبعد مما كنت أتصور.
2005
من مجموعة (فك الحزن) 2017
لكن عبود كان حظه أبعد مدى إذ يرافق ربة البيت، أو الفتاة ربما، فيدخل ما إشترته الى البيت ويقبض الأجرة دون أن تشكل مرافقته لها ودخوله معها غضاضة إجتماعية أو عيبا أخلاقيا فهو معروف والكل يشفق عليه.
بدأنا شيئا فشيئا نسمع أقاويل. قال أحدهم أنه شاهده يقرص امرأة من زندها وهو يسير الى جوارها فضربته على يده ضاحكة، وروى آخر أنه لمحه يختطف قبلة من خد فتاة فدفعته لتلقيه أرضا ولكنه نهض وإستمر يسير معها بعربته دون أن تعترض فيما أقسم ثالث بأن الأمر وصل الى أكثر من هذا وذاك مع امرأة متزوجة. كنا ننكر مثل هذه الروايات على راويها وربما سخرنا منه، إلا أني أكاد أجزم أني لست الوحيد الذي كان يتلوى في داخله شيء مرّ لا هو بالحسد لعبود ولا هو بالحقد عليه بل هو مزيج منهما، وتقت، إذا صحت الأخبار، أن أرى عبودا يقع في شر حماقته يوما.
كانت (سمر) أمنية بيضاء ممتلئة سوداء العينين كل ما فيها يتوهج رقة وحيوية مع مكر أنثوي، إذا رأت أحدا يلح في متابعتها قد تظهر له ما يشبه الإستلطاف فيجدّ في إثرها مطلقا عنان التمني حتى إذا أوصلته الى موضع في طريقها الى البيت التفتت نحوه موبخة وطردته شر طردة فيعود محمر الوجه يقطر عرقا، وأصدقكم القول أنها كانت بحكم رومانسيتي من النوع الذي أفضله، فتاة لا تمنح نفسها بسهولة وجميلة جمالا سينمائيا وتمنيت أن تكون من هواة القراءة أيضا لتكتمل الوصفة، غير أني، علاوة على نفوري من تتبع الفتيات بالطريقة الصبيانية المخجلة، بقيت متهيبا بعيدا لما أعرفه عنها من جسارة. لم أكن أراها في السوق إلا نادرا ولم تكن هي التي تتبضع لأهلها عادة ولكني شاهدتها ذلك اليوم وعبودا الى جوارها يضع الخضار وأشياء أخرى على عربته فقلت في نفسي متمثلا بقول الشاعر "ويأتيك بالأخبار من لم تزود" حلت نهايتك يا عبود!
تبعتهما عن بعد. سارا وكأنهما يسيران كل بمفرده لا علاقة لأحدهما بالآخر. لم يلتفت اليها ولم تلتفت اليه. وصلا البيت ففتحت له الباب ليدخل بالعربة وأغلقته. غلب على ظني، وقد صدق، أنها لوحدها في البيت. جلست بعيدا في ساحة على كومة تراب أعد الدقائق.. خمس.. ربع ساعة.. نصف ساعة. ماذا يفعل هذا المجنون كل هذا الوقت؟ بعد أن مضى أكثر من ساعة إنفتح الباب وخرج عبود بعربته. تلفتت الفتاة يمنة ويسرة، ولا أدري إن كانت رأتني ولكنها أغلقت الباب على عجل. مر عبود من أمامي وقد إزدادت ابتسامته إتساعا كاشفة عن أسنانه الصفر المسودة وبدا من نظرة عينيه السارحة الدائخة أنه كان غارقا في العسل لدرجة أنه لم يرني. عندها أدركت أن عبودا قد تغلغل في المدينة الى أبعد مما كنت أتصور.
2005
من مجموعة (فك الحزن) 2017