حجارة ألقيتها بالتتابع .. ثم ألقيت بعدها حجر يتيم .. استقرت جميعها بأعمق درك من هذه البركة . البركة التي يلهو على سطحها البط البري بوسط الحديقة العامة هنا في "ايبسويتش" . أبي أوصاني بأن أفعل ذلك حين أبلغ العاشرة . ألححت عليه بالأسئلة حين كنت في الخامسة : متي أصبح رجلاً بشارب و لحية مثلك ؟ قالها لي بذهن غائب حينها : لو بلغت العاشرة ، اقذف هذه البركة بعدد من الحجارة يماثل سنوات عمرك . عندها سيجتمع حولك البط و سينبت الشعر في وجهك لتبلغ مبالغ الرجال . يؤسفني أن أخبركم بأن شيئا من ذلك لم يحدث ! أما أبي فلم أعد بوسعي أن أكلمه لمرة ثانية . هو الآن مع الله في سمائه السابعة . هكذا أخبرتني أمي حين رجعت من المدرسة قبل سنوات ثلاث . كان مريضاً بالسرطان. تدهورت حالته بأسرع مما تصور الأطباء . بكل أسف ، انتهى كل شيء حين كنت غائباً وأنا أتسكع مع صديقي كويلام في طريقة الأوبة من المدرسة . رحل أبي بلا إستئذان . و تركني وحيداً ها هنا أنا و أمي .. وقد احترق كلانا.. شوقاً إليه !
"٢"
كويلام جاري وصديقي . أحبه لأنه يودني بصدق . إعتدنا على فعل كل شيء سوياً . نمتطي لوح التزلج معاً فلا ينحرف بنا مساره . نصطاد السناجب من حديقة بيتهم الخلفية . نضعها في قفص واحد . نطلق سراحها بعد حين ، فتبهرنا بعشقها للحرية. . نضحك حتى نستلقي على ظهورنا. حينما نلعب الكريكت ، ننتصر دوماً لفريق المدرسة . عندما سحقنا مدرسة "سويندون" في نهائي كأس "إيست أنجليا" بالعام الفائت ، زينت " ذا صن" غلافها بصورة جمعت ثلاتنا : كويالام ، انا و كأس البطولة . وجاء العنوان عريضاً : حين يمتزج الأسود بالأبيض ، سيخسأ "البريكزيت" . قرأتها وأنا أداعب شعري المجعد دون أن أدرك كل شيء بوضوح . أمي قالت أن "سويندون" بأكملها صوتت لصالح خروج إنجلترا من الاتحاد الأوربي . أنا لا أفهم كثيراً في السياسة . ولكن الذي أعلمه أنه ليس من حقها أن تدلي برأيها في شأن كهذا . جاءت إلى هنا من ليتوانيا قبل سنوات عشر . تركت جدي وجدتي هناك في قرية صغيرة بضواحي "فيلنيوس" . هناك يزرعون البطاطس و يعتاشون من الفتات . وجوههم تعبة وأجسادهم ناحلة لا تكاد تحملهم على الأرض . هذا ما فهمته من صورهم التي تدلت من جدران الحائط في بيتنا ها هنا . أمي شقراء فارعة القوام بيد أن لكنتها الإنجليزية غريبة و مضحكة في أحيان كثيرة . جاءتني مرة في المدرسة ، حين انعقد اجتماع الآباء . كانت المرأة الوحيدة بين الرجال . أظنها لم تحسن تخير ملابسها في يوم كهذا . تنورتها كانت قصيرة وضيقة . رأيت مارتن ديلي والد كويلام يغرس نظراته فيما بين فخذيها بصفاقة . إرتجف كل جزء من جسدي بغضب وهممت بالإقدام على ما قد لا تحمد عقباه . كاد كل شيء أن يتحول إلى كارثة لولا كويالام . سحبني من يدي وأخذني بعيداً . ثم همس في أذني : " دعك من هذا المعتوه ، لو كان رجلاً لما طلق أمي " . واتفقنا على تأجيل الرد لحين اجتراءه على العدوان . وافقت على مضض و أنا أحترق من الغيظ . في نهاية اليوم اقتربت مني "كيتي" أجمل الفتيات بفصلنا . " الآن فهمت مغزى وسامتك ، لا غرو ان تلك الجميلة هي أمك. ما أجمل هذه الأرض حين تخالطها أنفاس الغرباء " . قالتها بعجلة ثم طبعت قبلة على خدي الأيمن وانصرفت لا تلوي على شيء .
بدد حيرتي كويلام بضحكة خبيثة حين قال : كن شجاعاً وقبّلها كما يفعل الرجال وليكن ذلك غداً ..
"٣"
أتكلم الإنجليزية وقليلاً من الليتوانية . أبي لم يكن حريصاً على تعلمي للعربية . كان طبيباً قذفت به الأقدار من السودان ليعمل هنا بشرق إنجلترا. أمي قالت أنها التقته حين كانت تعمل ممرضة بمستشفى "نوريتش" . كان يتيم الأبوين ، منقطع الصلة بكل من حوله فيما عدا أنا و أمي . أحسنت أمي إذابته في مزيجها برغم ما كان يبديه من عناد . في يوم ما اشتجر مع أمي فلما تعلقت بذراعي في رقبته كعادتي ، حملني لغرفة الإستقبال . أشار بيده لشيء مدبب الرأس تدلي من صورة على الحائط . قال لي: " هذا ضريح جدك الشيخ العجيمي . اعرف أصلك جيداً و افتخر به ما حييت" . ما معني شيخ ؟ لا أظنها كلمة انجليزية . لم يجبني كعادته ، ثم ذهب إلى الجامع وتركني مصفداً بأغلال الحيرة . حقاً ، كان ابي غامضاً في كل شيء . ولكن أمي تكفلت قبل يومين بتوضيح كل ملتبس لدي . الشيخ هو شخص مهيب يعلم الناس أمور دينهم . تماماً كالأب ماكليروي أسقف الكنيسة الانجليكانية في ايبسويتش . إنتابني إحساس ملح بالأهمية . وغمرتني لذة فاقت في سطوتها قُبلة موعودة خبأتها لي "كيتي" في غياهب المجهول .. وعندما قصصت الحكاية كلها لكويلام ، هز كتفيه بلا مبالاة قائلاً : ما يهمني هو أنك صديقي ، أما الشيخ والأسقف والبابا فهؤلاء لا أعرف عنهم شيئاً !
"٤"
في ليلة شاتية ، تعمدت التسكع وحيداً في أزقة " إيبسويتش" . ثمة وحشة ما تمددت في أعماق قلبي ببطء . هائنذا أسير وحيداً لأبعثر أنفاسي على الأرض لعلها ببعض دفقها تتجمل . أنفاس "كيتي" ما زالت تلثم خدي الأيمن بتحدٍ و إصرار . صوتها يؤزني بعنف ، يحرضني على المقاومة : تقدم ، دق هذه الأرض بحافريك كفرسٍ عنيد . انتزع منها حق البنوة بزندك الفتي . لا تحسبن الحق منحة تتعطفك بها خزائنها المُثقلة بالصلف . خذ كل ما تستطيع ثم انصرف بهدوء . وعندما خفت صوتها قليلاً ، إنعطفت بساقاي لمدخل ال " هاي ستريت "بحلكته الموحشة . بدا لي ذلك الشارع كنهر ضيق إرتمت على احدى ضفتيه ضواحي فيلنيوس المعبأة بالمسغبة والبساطة. وقابلتها من الناحية الأخرى ، قرى رومي البكري التي يتوسطها ضريح الشيخ العجيمي و ما حوله من وجوه مطمئنة كللتها هدأةٌ من البال . وعندما ضربت بقدمي اليمنى على نقطة المنتصف من الهاي ستريت ، اجتمعت كل تلك الأمكنة وهي جاثية تحت قدمي تطلب مني الصفح والقبول ، وجأتني أرصفة الهاي ستريت و قد أخرجت ما إعتمل بجوفها من أثقال وهي تعرض الصلح والولاء وبعضاً من المحبة .. هممت بالتمنع دون أن أوغل فيه . عاجلني صوت مزلزل تقادم صداه من الضريح . شق أذنيّ ببأس قتّال : صالح وعش بسلام .. عش كما ينبغى لك أن تحيا .. كفاك تمزقاً يا ولدي .. ثم خفتت المشاهد وانزوت الأصداء .. وانتهى كل شيء في لمح البصر.. ورجعت في تلك الليلة إلى البيت .. وصدري يموج بإرتياح عاصف..
محمد المصطفى موسى - السودان
"٢"
كويلام جاري وصديقي . أحبه لأنه يودني بصدق . إعتدنا على فعل كل شيء سوياً . نمتطي لوح التزلج معاً فلا ينحرف بنا مساره . نصطاد السناجب من حديقة بيتهم الخلفية . نضعها في قفص واحد . نطلق سراحها بعد حين ، فتبهرنا بعشقها للحرية. . نضحك حتى نستلقي على ظهورنا. حينما نلعب الكريكت ، ننتصر دوماً لفريق المدرسة . عندما سحقنا مدرسة "سويندون" في نهائي كأس "إيست أنجليا" بالعام الفائت ، زينت " ذا صن" غلافها بصورة جمعت ثلاتنا : كويالام ، انا و كأس البطولة . وجاء العنوان عريضاً : حين يمتزج الأسود بالأبيض ، سيخسأ "البريكزيت" . قرأتها وأنا أداعب شعري المجعد دون أن أدرك كل شيء بوضوح . أمي قالت أن "سويندون" بأكملها صوتت لصالح خروج إنجلترا من الاتحاد الأوربي . أنا لا أفهم كثيراً في السياسة . ولكن الذي أعلمه أنه ليس من حقها أن تدلي برأيها في شأن كهذا . جاءت إلى هنا من ليتوانيا قبل سنوات عشر . تركت جدي وجدتي هناك في قرية صغيرة بضواحي "فيلنيوس" . هناك يزرعون البطاطس و يعتاشون من الفتات . وجوههم تعبة وأجسادهم ناحلة لا تكاد تحملهم على الأرض . هذا ما فهمته من صورهم التي تدلت من جدران الحائط في بيتنا ها هنا . أمي شقراء فارعة القوام بيد أن لكنتها الإنجليزية غريبة و مضحكة في أحيان كثيرة . جاءتني مرة في المدرسة ، حين انعقد اجتماع الآباء . كانت المرأة الوحيدة بين الرجال . أظنها لم تحسن تخير ملابسها في يوم كهذا . تنورتها كانت قصيرة وضيقة . رأيت مارتن ديلي والد كويلام يغرس نظراته فيما بين فخذيها بصفاقة . إرتجف كل جزء من جسدي بغضب وهممت بالإقدام على ما قد لا تحمد عقباه . كاد كل شيء أن يتحول إلى كارثة لولا كويالام . سحبني من يدي وأخذني بعيداً . ثم همس في أذني : " دعك من هذا المعتوه ، لو كان رجلاً لما طلق أمي " . واتفقنا على تأجيل الرد لحين اجتراءه على العدوان . وافقت على مضض و أنا أحترق من الغيظ . في نهاية اليوم اقتربت مني "كيتي" أجمل الفتيات بفصلنا . " الآن فهمت مغزى وسامتك ، لا غرو ان تلك الجميلة هي أمك. ما أجمل هذه الأرض حين تخالطها أنفاس الغرباء " . قالتها بعجلة ثم طبعت قبلة على خدي الأيمن وانصرفت لا تلوي على شيء .
بدد حيرتي كويلام بضحكة خبيثة حين قال : كن شجاعاً وقبّلها كما يفعل الرجال وليكن ذلك غداً ..
"٣"
أتكلم الإنجليزية وقليلاً من الليتوانية . أبي لم يكن حريصاً على تعلمي للعربية . كان طبيباً قذفت به الأقدار من السودان ليعمل هنا بشرق إنجلترا. أمي قالت أنها التقته حين كانت تعمل ممرضة بمستشفى "نوريتش" . كان يتيم الأبوين ، منقطع الصلة بكل من حوله فيما عدا أنا و أمي . أحسنت أمي إذابته في مزيجها برغم ما كان يبديه من عناد . في يوم ما اشتجر مع أمي فلما تعلقت بذراعي في رقبته كعادتي ، حملني لغرفة الإستقبال . أشار بيده لشيء مدبب الرأس تدلي من صورة على الحائط . قال لي: " هذا ضريح جدك الشيخ العجيمي . اعرف أصلك جيداً و افتخر به ما حييت" . ما معني شيخ ؟ لا أظنها كلمة انجليزية . لم يجبني كعادته ، ثم ذهب إلى الجامع وتركني مصفداً بأغلال الحيرة . حقاً ، كان ابي غامضاً في كل شيء . ولكن أمي تكفلت قبل يومين بتوضيح كل ملتبس لدي . الشيخ هو شخص مهيب يعلم الناس أمور دينهم . تماماً كالأب ماكليروي أسقف الكنيسة الانجليكانية في ايبسويتش . إنتابني إحساس ملح بالأهمية . وغمرتني لذة فاقت في سطوتها قُبلة موعودة خبأتها لي "كيتي" في غياهب المجهول .. وعندما قصصت الحكاية كلها لكويلام ، هز كتفيه بلا مبالاة قائلاً : ما يهمني هو أنك صديقي ، أما الشيخ والأسقف والبابا فهؤلاء لا أعرف عنهم شيئاً !
"٤"
في ليلة شاتية ، تعمدت التسكع وحيداً في أزقة " إيبسويتش" . ثمة وحشة ما تمددت في أعماق قلبي ببطء . هائنذا أسير وحيداً لأبعثر أنفاسي على الأرض لعلها ببعض دفقها تتجمل . أنفاس "كيتي" ما زالت تلثم خدي الأيمن بتحدٍ و إصرار . صوتها يؤزني بعنف ، يحرضني على المقاومة : تقدم ، دق هذه الأرض بحافريك كفرسٍ عنيد . انتزع منها حق البنوة بزندك الفتي . لا تحسبن الحق منحة تتعطفك بها خزائنها المُثقلة بالصلف . خذ كل ما تستطيع ثم انصرف بهدوء . وعندما خفت صوتها قليلاً ، إنعطفت بساقاي لمدخل ال " هاي ستريت "بحلكته الموحشة . بدا لي ذلك الشارع كنهر ضيق إرتمت على احدى ضفتيه ضواحي فيلنيوس المعبأة بالمسغبة والبساطة. وقابلتها من الناحية الأخرى ، قرى رومي البكري التي يتوسطها ضريح الشيخ العجيمي و ما حوله من وجوه مطمئنة كللتها هدأةٌ من البال . وعندما ضربت بقدمي اليمنى على نقطة المنتصف من الهاي ستريت ، اجتمعت كل تلك الأمكنة وهي جاثية تحت قدمي تطلب مني الصفح والقبول ، وجأتني أرصفة الهاي ستريت و قد أخرجت ما إعتمل بجوفها من أثقال وهي تعرض الصلح والولاء وبعضاً من المحبة .. هممت بالتمنع دون أن أوغل فيه . عاجلني صوت مزلزل تقادم صداه من الضريح . شق أذنيّ ببأس قتّال : صالح وعش بسلام .. عش كما ينبغى لك أن تحيا .. كفاك تمزقاً يا ولدي .. ثم خفتت المشاهد وانزوت الأصداء .. وانتهى كل شيء في لمح البصر.. ورجعت في تلك الليلة إلى البيت .. وصدري يموج بإرتياح عاصف..
محمد المصطفى موسى - السودان