نعود عصر كل يوم أدراجنا على الدرب الذي يتلوى بأشكاله الترابية بين تلال ومجاري سيول جافة متشققة وبين سماء استنفدت الظهيرة غبرتها وقلقها فبدت جديدة وناصعة غسلتها الشمس بنور مفاجيء. لم نكن مستعدين لتأمل أي شيء مرئي، نحن الثمانية المرهقون من الحفر والدم وعريفنا المرهق من حثنا عليهما طوال النهار، مكررا نصائح لا تخفف من عنائنا، وتوبيخات لا تدفعنا الى كرهه رغم ما نبذله من كدح.
نسير خلفه على مسافة أمتار ثابتة، لا يفكر هو أن يبطيء قليلا ليجعلها أقصر، ولا أن يدعونا للإسراع لنلغيها. ننقسم بعد استدارتين أو ثلاث أزواجا ونشرع بتجاذب أطراف الحديث عن أي موضوع يخطر على بال جندي يتنكب مجرفة، فيما يسير هو أمامنا غير متعجل كالمسافة التي بيننا وبينه، لا يعير الينا إلتفاتا إلا بين الحين والآخر ليتأكد من أننا نحافظ على الحد الأدنى من الإلتزام وأنه ليس بحاجة الى أن يصدر أمرا. كان حصيفا ويفضل بعد كل حزمه القاسي أن نترك على هوانا حاملين عدتنا من مجارف ومعاول وأكياس في طريق عودتنا الى مواضع سريتنا عند الطريق الذي يوصل البجيلة بالزبيدات.
سرنا ذلك العصر بارتخاء يوتره صوت قذيفة ثقيلة تمرق عابرة فوقنا فتسبقنا الى حيث نتجه أو آتية من مدفعيتنا فتذهب الى حيث كنا، وكل خوفنا أن تسقط علينا، لكننا نتناسى ونتغافل، فيقلق تناسينا صوت طائر نخمن، متفقين، صغره وجماله، خلف كثيب ما، ومختلفين على اسمه:
-هو زرزور.
-بل هو عصفور.
-بل بلبل بري.
-كلكم مخطئون... إنه قبرة.
كنا نجهل اسمه، ولكننا نسمعه ونسمع القنابل ونتابع خطواتنا دون أن نحاول التأكد.
لم أكن أميل الى ان أنحرف باتجاه طائر أجهل مكانه، متوهما أن سنة من سنوات طفولتي بانتظاري عنده، وفضلت أن ألازم جماعتي على المجازفة بالسير في هذه النواحي وحيدا ولم يمض على وصولي الى الجبهة وقت طويل، فضلت أن أتبع العريف في طريقنا المألوف على أن أكون فضوليا لماحا أو مرهف الحس مع هذه الطبيعة الوعرة التي قد تتحفني بصدفة من صدف الحرب غير السارة.
زئير القذيفة الخارق يهز مرايا هدوء تعكس تواضعنا البشري، ويذكرنا، إن نسينا، بأننا في حرب فنقطع أحاديثنا لنصغي الى تحذيره. غير أن وصوصة الطائر المغلق عنا وعن مرايانا المتقلبة مع الدرب تمدنا بأحلام مستقيمة مستترة تفضي الى حياة أخرى لا يرافقنا اليها عريفنا المتفهم لمتاعبنا وآلامنا. لا يتقدمنا في مسيرنا كثيرا ويغض الطرف عن فوضانا البسيطة الفتية على مسافة لا تقل ولا تزيد.
تلهينا الأرض بأوهامنا، بين قذيفة وقذيفة، لتنصرف الى يقينها الذي لا تطاله أعمارنا ولا يغيره مسيرنا عليها، ندرك هذا في لحظة فنكتئب....
-أليس سخيفا أن نظل متبعين طريق السيارات ونحن نسير على الأقدام؟
-حقا... باتجاهنا في خط مستقيم نصل جماعتنا خلال ربع ساعة ونكسب وقتا للراحة والاغتسال.
-فلنذهب من هنا!
هكذا اخترنا اختراق وعورتها من حيث أشار إصبع أحدنا.
حين إرتقينا أول تل صار العريف الى يميننا. نظر الينا بعينين على وشك الاستنكار، وانقبضت ملامح وجه شديد السمرة. قلنا له:
-عريفي.... من هنا أقصر!
رمشت عيناه وهو يأخذ نفسا عميقا من سيجارته اللف وألقى أول خطوة باتجاهنا. كنا ذلك اليوم أكثر تعبا مما سبقه فقد توجب علينا كحضيرة أشغال أن نقوي قنطرة تعبر مجرى سيل بأن نملأ عشرات الأكياس بالتراب والأحجار ونصفّها على جانبي المجرى ثم نضع فوقها طبقة من الأحجار الكبيرة تحسبا لهطول أمطار آذار الصاخبة الجارفة التي قد تضعف القنطرة ، ولم نجلس للراحة سوى نصف ساعة حول القصعة التي جلبتها لنا سيارة الأرزاق واجتمعنا لإلتهام ما فيها داخل أحد الأنبوبين الواسعين تحت القنطرة، تحوطا وأمانا من القنابل. كان عريفنا متعبا مثلنا ولذلك وافقنا ولكنه لم يكن مرتاحا لقرارنا، لأنه لم يستسغ تركنا الجادة وعدّه مخالفة صريحة ومجازفة قد يفقد الجندي بسببها حقوقه، إذ ربما تسقط قذيفة قريبة وتقتل أو تصيب واحدا أو أكثر من حضيرته فبماذا سيفسر وجودهم بعيدا داخل التلال؟ بدا له أن عذر الطريق المختصر غير قانوني، وبعد تفكير عميق قال بصوت عال:
-منذ الغد سأجعلهم يأمرون سيارة الأرزاق أن تأتي الينا عصرا لتعيدنا الى السرية!
هززنا رؤوسنا مؤيدين نية العريف.
رغم ما أشاعه فينا تغيير طريقنا المعتاد الممهد، والطويل الممل، من إثارة مريحة إلا أننا لزمنا حذرنا من القذائف. كنا نصعد ببطء واستمتاع ولكننا ما أن نصير على القمة حتى ننزل هرولة الى الجانب الآخر، ونتخلى عن طيب خاطر عن نعمة كوننا أقرب الى السماء وأكثر تعرضا لهوائها المنعش.
بعد صعود ونزول لمرات عديدة توقف العريف في منحدر وتفحص الأرض من حوله وفاجأنا بالقول:
-أرض مثل هذه عادة ما ينمو فيها الكمأ... قد نعثر في هذه النواحي على شيء منه.
لا أدري إن كنت الوحيد من بين رفاقي الذي لم يفهم لماذا قد ينمو الكمأ في هذه الأرض فقد بدت لي أرضا كغيرها ولكني بادرت الى تأييده قائلا:
-أجل... هذا فصل الربيع.
فقد سرني أن أراه مهتما بغير الأوامر العسكرية وأن يوجهنا الى شيء آخر غير ملء الأكياس بالتراب، وأن نبحث في الأرض عن بعض مما يخبئه الربيع. تباعدنا دون أن نغير إتجاهنا متفحصين الأرض، وكنت بين الحين والاخر أنظر الى العريف الذي جعل الإنحناء الى المنحدرات المعشبة جسمه يبدو أكثر امتلاء. كنت تواقا، وأنا على ثقة من فراسته الريفية، الى أن أكون أول من يعرف أنه اكتشف بقعة يعمرها الكمأ وأن أرى كيف يمكن أن يكون العثور على الكمأ واستخراجه. سمعته يقول:
-يوجد هنا حصى كثير... الى الأمام ربما.
ومرة اخرى لم أفهم لماذا لا يمكن أن ينمو الكمأ في أرض كثيرة الحصى ولكني لم أرغب في أن أسأله إيضاحا فأفضح جهلي المديني.
لم ينس أن ينبهنا أيضا:
-إذا سمعتم صفير القذيفة وانقطع بغتة فخذوا وضع الإنبطاح رأسا لأن القذيفة في هذه الحالة ستسقط علينا أو قريبا منا.
ولم تذهب ملاحظته عبثا فبين نظرة الى طير بارق وانتباه الى سفح سهل كان لنا إصغاء وعر الى ما يمكن أن تحمله السماء الينا من أفقها غير المسرات.
التلة التي كانت تفصلنا عن آخر انحدار نحو مقرنا التمعت عن بُعد بخضرة مثلثة. قلت لنفسي بعدها منبسط تكثر فيه أشكال أرضية متحجرة كأنها بقايا حرب خرافية أو تركة حضارة غامضة. لقد تمشيت ذات جمعة بين المستطيلات الضخمة والمربعات المشوهة التي يقف بعضها على عرق يرفعها عن الارض قدما أو قدمين كالسحر. تأملت جزيئاتها... عراء يوحي اليك بوميض ما حين تحرك رأسك يمينا ويسارا وأنت تنظر اليه، ذرات زجاجية، وجذور ترابية مبتورة وواضحة المقطع وسط الالتمام الذي لا يقاوم سطحه يدك حين تمرر راحتك عليه فيسقط نثار من حبيبات ملحية رمادية اللون. لكني لم أحاول دفع إحدى تلك الكتل القائمة على عروق لأسقطها. تملكني احترام هو مزيج من مخاوفي الروحية وإشفاقي على مخلفات كائنات جنية أو إنسية ربما إستقرت هنا في زمن محقته حرب أو أنهاه سأم سرمدي. أحيانا أكاد أجزم بأن خطوطا فيها ذات معنى مفقود.... نحت أو ركن هيكل ناقص، عمل لم يتسن إكماله أو إستغاثة تحجرت مع الرمال التي إبتلعتها. تذكرت أن تلك البقعة كأنها كان موضع حريق هائل... حريق شاسع لم يكن لعشب أن يطلع بعده أو تبقى بذور حية، وظلت الأرض بين التواريخ بلا فصول خارجة بشكلها الأرمد من قلق التحولات، واستقرت على مثال ميت أبدي واحد. قلت لنفسي سنمر بها بعد قليل.
بين مواضع سرية الصولة والتلال التي تنتشر فيها سلسلة نقاط الأفواج ومقراتها فسحة لا تلبي حاجات الأحياء ولا تجتذب من عابرهم إلا نظرة لا تكرار لها، ولكن قبلها هذه التلة الترابية قد تكون حبلى بالكمأ. أسرعنا بفلتة مرح طفولي لرؤية الأرض الخضراء، وقبل أن ترتفع أقدامنا هب صفير صاعق وانقطع فانبطحنا انبطاحا قاسيا متشبثين بالأرض. حالت بيننا وبين زرقة السماء هبة دخان ترابي طالع من العدم. إرتجت الأرض بعشبها ومخابئها الودودة وكمأها وفطرها وأسرارها. حشرجت لنفسي "لا يمكن.... أبعد أن وصلنا تقريبا؟".
رفعنا أبصارنا بعد قليل الى غيمة بيضاء تتصاعد نحو غيوم بيض وطيور تحركت بعد توقف ذاهل. أحسست بألم في عظامي كلها وأنا أرفع نفسي ببطء. لم نفقد أحدا ولم نصب بغير كدمات احتضان الأرض. جلس كل منا في مكانه وتحسس جسمه ثم تلفتنا لننظر الى مكان سقوط القنبلة على قمة التل. نظرت الى العريف فرأيته يخرج كيس التبغ وهو يدير فيما حوله نظرا متمعنا. اكمل لف سيجارته وأشعلها وأخذ منها نفسا عميقا ثم إنفجر ضاحكا. فقدنا الرغبة في أكل الكمأ وتابعنا سيرنا مسرورين لأن رئاتنا دخلها الهواء النقي من جديد. بعد مسيرة دقائق نزلنا نحو الأرض المنبسطة التي تفصلنا عن السرية، إجتزنا الأرض التي نجت من قلق التحولات، بعدها حدثني هاجس بأنه لن تسقط قذيفة أبدا.
1988
نشرت بعنوان (التقاطعات) في جريدة القادسية سنة 1988، أعيد نشرها في مجموعة (ما رواه العجوز حكمان عن الفتى الجميل جوهر) 2018
نسير خلفه على مسافة أمتار ثابتة، لا يفكر هو أن يبطيء قليلا ليجعلها أقصر، ولا أن يدعونا للإسراع لنلغيها. ننقسم بعد استدارتين أو ثلاث أزواجا ونشرع بتجاذب أطراف الحديث عن أي موضوع يخطر على بال جندي يتنكب مجرفة، فيما يسير هو أمامنا غير متعجل كالمسافة التي بيننا وبينه، لا يعير الينا إلتفاتا إلا بين الحين والآخر ليتأكد من أننا نحافظ على الحد الأدنى من الإلتزام وأنه ليس بحاجة الى أن يصدر أمرا. كان حصيفا ويفضل بعد كل حزمه القاسي أن نترك على هوانا حاملين عدتنا من مجارف ومعاول وأكياس في طريق عودتنا الى مواضع سريتنا عند الطريق الذي يوصل البجيلة بالزبيدات.
سرنا ذلك العصر بارتخاء يوتره صوت قذيفة ثقيلة تمرق عابرة فوقنا فتسبقنا الى حيث نتجه أو آتية من مدفعيتنا فتذهب الى حيث كنا، وكل خوفنا أن تسقط علينا، لكننا نتناسى ونتغافل، فيقلق تناسينا صوت طائر نخمن، متفقين، صغره وجماله، خلف كثيب ما، ومختلفين على اسمه:
-هو زرزور.
-بل هو عصفور.
-بل بلبل بري.
-كلكم مخطئون... إنه قبرة.
كنا نجهل اسمه، ولكننا نسمعه ونسمع القنابل ونتابع خطواتنا دون أن نحاول التأكد.
لم أكن أميل الى ان أنحرف باتجاه طائر أجهل مكانه، متوهما أن سنة من سنوات طفولتي بانتظاري عنده، وفضلت أن ألازم جماعتي على المجازفة بالسير في هذه النواحي وحيدا ولم يمض على وصولي الى الجبهة وقت طويل، فضلت أن أتبع العريف في طريقنا المألوف على أن أكون فضوليا لماحا أو مرهف الحس مع هذه الطبيعة الوعرة التي قد تتحفني بصدفة من صدف الحرب غير السارة.
زئير القذيفة الخارق يهز مرايا هدوء تعكس تواضعنا البشري، ويذكرنا، إن نسينا، بأننا في حرب فنقطع أحاديثنا لنصغي الى تحذيره. غير أن وصوصة الطائر المغلق عنا وعن مرايانا المتقلبة مع الدرب تمدنا بأحلام مستقيمة مستترة تفضي الى حياة أخرى لا يرافقنا اليها عريفنا المتفهم لمتاعبنا وآلامنا. لا يتقدمنا في مسيرنا كثيرا ويغض الطرف عن فوضانا البسيطة الفتية على مسافة لا تقل ولا تزيد.
تلهينا الأرض بأوهامنا، بين قذيفة وقذيفة، لتنصرف الى يقينها الذي لا تطاله أعمارنا ولا يغيره مسيرنا عليها، ندرك هذا في لحظة فنكتئب....
-أليس سخيفا أن نظل متبعين طريق السيارات ونحن نسير على الأقدام؟
-حقا... باتجاهنا في خط مستقيم نصل جماعتنا خلال ربع ساعة ونكسب وقتا للراحة والاغتسال.
-فلنذهب من هنا!
هكذا اخترنا اختراق وعورتها من حيث أشار إصبع أحدنا.
حين إرتقينا أول تل صار العريف الى يميننا. نظر الينا بعينين على وشك الاستنكار، وانقبضت ملامح وجه شديد السمرة. قلنا له:
-عريفي.... من هنا أقصر!
رمشت عيناه وهو يأخذ نفسا عميقا من سيجارته اللف وألقى أول خطوة باتجاهنا. كنا ذلك اليوم أكثر تعبا مما سبقه فقد توجب علينا كحضيرة أشغال أن نقوي قنطرة تعبر مجرى سيل بأن نملأ عشرات الأكياس بالتراب والأحجار ونصفّها على جانبي المجرى ثم نضع فوقها طبقة من الأحجار الكبيرة تحسبا لهطول أمطار آذار الصاخبة الجارفة التي قد تضعف القنطرة ، ولم نجلس للراحة سوى نصف ساعة حول القصعة التي جلبتها لنا سيارة الأرزاق واجتمعنا لإلتهام ما فيها داخل أحد الأنبوبين الواسعين تحت القنطرة، تحوطا وأمانا من القنابل. كان عريفنا متعبا مثلنا ولذلك وافقنا ولكنه لم يكن مرتاحا لقرارنا، لأنه لم يستسغ تركنا الجادة وعدّه مخالفة صريحة ومجازفة قد يفقد الجندي بسببها حقوقه، إذ ربما تسقط قذيفة قريبة وتقتل أو تصيب واحدا أو أكثر من حضيرته فبماذا سيفسر وجودهم بعيدا داخل التلال؟ بدا له أن عذر الطريق المختصر غير قانوني، وبعد تفكير عميق قال بصوت عال:
-منذ الغد سأجعلهم يأمرون سيارة الأرزاق أن تأتي الينا عصرا لتعيدنا الى السرية!
هززنا رؤوسنا مؤيدين نية العريف.
رغم ما أشاعه فينا تغيير طريقنا المعتاد الممهد، والطويل الممل، من إثارة مريحة إلا أننا لزمنا حذرنا من القذائف. كنا نصعد ببطء واستمتاع ولكننا ما أن نصير على القمة حتى ننزل هرولة الى الجانب الآخر، ونتخلى عن طيب خاطر عن نعمة كوننا أقرب الى السماء وأكثر تعرضا لهوائها المنعش.
بعد صعود ونزول لمرات عديدة توقف العريف في منحدر وتفحص الأرض من حوله وفاجأنا بالقول:
-أرض مثل هذه عادة ما ينمو فيها الكمأ... قد نعثر في هذه النواحي على شيء منه.
لا أدري إن كنت الوحيد من بين رفاقي الذي لم يفهم لماذا قد ينمو الكمأ في هذه الأرض فقد بدت لي أرضا كغيرها ولكني بادرت الى تأييده قائلا:
-أجل... هذا فصل الربيع.
فقد سرني أن أراه مهتما بغير الأوامر العسكرية وأن يوجهنا الى شيء آخر غير ملء الأكياس بالتراب، وأن نبحث في الأرض عن بعض مما يخبئه الربيع. تباعدنا دون أن نغير إتجاهنا متفحصين الأرض، وكنت بين الحين والاخر أنظر الى العريف الذي جعل الإنحناء الى المنحدرات المعشبة جسمه يبدو أكثر امتلاء. كنت تواقا، وأنا على ثقة من فراسته الريفية، الى أن أكون أول من يعرف أنه اكتشف بقعة يعمرها الكمأ وأن أرى كيف يمكن أن يكون العثور على الكمأ واستخراجه. سمعته يقول:
-يوجد هنا حصى كثير... الى الأمام ربما.
ومرة اخرى لم أفهم لماذا لا يمكن أن ينمو الكمأ في أرض كثيرة الحصى ولكني لم أرغب في أن أسأله إيضاحا فأفضح جهلي المديني.
لم ينس أن ينبهنا أيضا:
-إذا سمعتم صفير القذيفة وانقطع بغتة فخذوا وضع الإنبطاح رأسا لأن القذيفة في هذه الحالة ستسقط علينا أو قريبا منا.
ولم تذهب ملاحظته عبثا فبين نظرة الى طير بارق وانتباه الى سفح سهل كان لنا إصغاء وعر الى ما يمكن أن تحمله السماء الينا من أفقها غير المسرات.
التلة التي كانت تفصلنا عن آخر انحدار نحو مقرنا التمعت عن بُعد بخضرة مثلثة. قلت لنفسي بعدها منبسط تكثر فيه أشكال أرضية متحجرة كأنها بقايا حرب خرافية أو تركة حضارة غامضة. لقد تمشيت ذات جمعة بين المستطيلات الضخمة والمربعات المشوهة التي يقف بعضها على عرق يرفعها عن الارض قدما أو قدمين كالسحر. تأملت جزيئاتها... عراء يوحي اليك بوميض ما حين تحرك رأسك يمينا ويسارا وأنت تنظر اليه، ذرات زجاجية، وجذور ترابية مبتورة وواضحة المقطع وسط الالتمام الذي لا يقاوم سطحه يدك حين تمرر راحتك عليه فيسقط نثار من حبيبات ملحية رمادية اللون. لكني لم أحاول دفع إحدى تلك الكتل القائمة على عروق لأسقطها. تملكني احترام هو مزيج من مخاوفي الروحية وإشفاقي على مخلفات كائنات جنية أو إنسية ربما إستقرت هنا في زمن محقته حرب أو أنهاه سأم سرمدي. أحيانا أكاد أجزم بأن خطوطا فيها ذات معنى مفقود.... نحت أو ركن هيكل ناقص، عمل لم يتسن إكماله أو إستغاثة تحجرت مع الرمال التي إبتلعتها. تذكرت أن تلك البقعة كأنها كان موضع حريق هائل... حريق شاسع لم يكن لعشب أن يطلع بعده أو تبقى بذور حية، وظلت الأرض بين التواريخ بلا فصول خارجة بشكلها الأرمد من قلق التحولات، واستقرت على مثال ميت أبدي واحد. قلت لنفسي سنمر بها بعد قليل.
بين مواضع سرية الصولة والتلال التي تنتشر فيها سلسلة نقاط الأفواج ومقراتها فسحة لا تلبي حاجات الأحياء ولا تجتذب من عابرهم إلا نظرة لا تكرار لها، ولكن قبلها هذه التلة الترابية قد تكون حبلى بالكمأ. أسرعنا بفلتة مرح طفولي لرؤية الأرض الخضراء، وقبل أن ترتفع أقدامنا هب صفير صاعق وانقطع فانبطحنا انبطاحا قاسيا متشبثين بالأرض. حالت بيننا وبين زرقة السماء هبة دخان ترابي طالع من العدم. إرتجت الأرض بعشبها ومخابئها الودودة وكمأها وفطرها وأسرارها. حشرجت لنفسي "لا يمكن.... أبعد أن وصلنا تقريبا؟".
رفعنا أبصارنا بعد قليل الى غيمة بيضاء تتصاعد نحو غيوم بيض وطيور تحركت بعد توقف ذاهل. أحسست بألم في عظامي كلها وأنا أرفع نفسي ببطء. لم نفقد أحدا ولم نصب بغير كدمات احتضان الأرض. جلس كل منا في مكانه وتحسس جسمه ثم تلفتنا لننظر الى مكان سقوط القنبلة على قمة التل. نظرت الى العريف فرأيته يخرج كيس التبغ وهو يدير فيما حوله نظرا متمعنا. اكمل لف سيجارته وأشعلها وأخذ منها نفسا عميقا ثم إنفجر ضاحكا. فقدنا الرغبة في أكل الكمأ وتابعنا سيرنا مسرورين لأن رئاتنا دخلها الهواء النقي من جديد. بعد مسيرة دقائق نزلنا نحو الأرض المنبسطة التي تفصلنا عن السرية، إجتزنا الأرض التي نجت من قلق التحولات، بعدها حدثني هاجس بأنه لن تسقط قذيفة أبدا.
1988
نشرت بعنوان (التقاطعات) في جريدة القادسية سنة 1988، أعيد نشرها في مجموعة (ما رواه العجوز حكمان عن الفتى الجميل جوهر) 2018