ـ 1 ـ
مراكشُ يظهرُ فيها العَمَى و يَختفي ...
كومضة ضوء تضيء وَتـْغ العتمات ...
عيناي مائيتان و حسيرتان .
كنت أنظر بهما إلي وجع مقيم . من الشرفة المطلة على شارع مسْجُور بحركة دأوب ، يؤوب صداها ؛ و هديرُها مركون في جزء من الذاكرة .
في الطريق ، إلى مكان الإقامة المؤقت ، كان الوفدُ كخلية نحل ، يكتشفُ مَبانيَ و دورا قديمة. ترتفع فيها الأيادي البيض و تنخفض إيقاعاتها بإشارات إلى أمكنة خربة ، عشش فيها الإهمالُ عقودا من الزمن . تطل منها عيون وَجلة من العمى في فـَتـَرة .
انتشرت على شفير الطريق ، إلى درج الإقامة ، بائعات الهَوَى ، وبائعات الدجاج البلدي ، كن ينظرن إلي الخلية ، وقد دمغن على أسحال وجوههن ابتسامة ، خطـَّها الزمان بحبر غير قابل للمحو و الإمحاء . في وسط هذه الخلية ، بالكادِّ يظهر رجل رَبْعة ، قصير القامة ، يزنـِّر قـُنَّة رأسه بكوفية زرقاءَ سماويةٍ ، بدون شك ولا خذلان ولا حتى مخاتلة ؛ يشنـِّف أسماع الخلية بما قيل و ما سوف يقال في الكتب القديمة . الصفراء . الباليات.
ـ هنا ... كان الباشا التهامي الكلاوي يدفن موتاه ؛ يصبح السور قبرا ، داخل أقبية الموت ، حيث تتلاشى فيها الأجسادُ الضامرة . فيخرج بها إلى ساحة الشهداء ، ويسحلهم بالأدهم القاسي ذي القوائم المحجلة ، يطوف بها ليلتين أو ثلاث ليال مقمرات ، يحتفي بموت الجسد ؛ فالجسد فان ٍ ، مادامت الحياة فانية .
ـ في هذا المكان كانت النساء يخبئن شهادات حب على مطر الملائكة ، يُردْن الفرارَ من قبضة الباشا الحديدية ، ويبدأن حياة جديدة ، بل ولادة حديثة .
ـ 2 ـ
من الدِّمن المهجورة اقترب الرجل الرَّبْعة ، ويشير قائلا :
ـ إن ها هنا عاش المرابطون ... خلفاء الأندلس .
ـ ومن هنا ، اُقتـِيد المعتمدُ بن عبَّاد صاغرا ... إلى سجن أغمات ...
ـ هنا كانت بناته يغزلن الصوف ، أقدامهن حافية بعدما كن أميرات في أشبيلية . يتمتعن بنسائم النـَّيـْلوفر و الياسمين .
بينما كان الرَّبْعَة ذو الأنشوطة ، قصير القامة ، منهمكا في تصحح مجرى تاريخ الملائكة ، قالتِ الشمطاءُ ،من وسط الخلية ، بشعرها السَّابغ المندلق على كتفين غزاهما النَّمَش :
ـ وما حال هؤلاء النـِّسوة قطَّعن أيديهن ، بعدما استقر مُقامُنا بالقرب من هن ؟
فأجاب الرَّبعة :
ـ بائعات الهَوَى يقطعن أيديهن ، كلما رأين شعر نسوة غجريات . حسناوات . جميلات يلمعُ بالبريانطين .
عـَقـِبها ، انتشرت قهقهات ملأت الجو فكاهة .
ـ 3 ـ
في منعطف مدار ابن زيدون ، وفي قلب المدينة ، رُكـِّنت الحافلة السياحية . نزل منها السائق ؛ كعريس القيامة ببدلته الأنيقة ووجه حليق . حيّا الشرطي و بيَّاه . شرَّع أبواب الحافلة السفلية صاعدة الهوينى ، كأجنحة طائر حديث العهد بالطيران ؛ فامتدت أياد بيضاءُ نحو آلات تصوير مجهزة ، على ما يظهر ، بأحدث الوسائل التقنية . بعدها ، خرجت امرأة عجوز بتؤدة ، بعدما ساعدها عريس القيامة ، على أن تتخطى دُرج الحافلة ، ماسكا بأطراف أناملها المكدودة ؛ ليستقبلها ، في حبور ، ترابُ الوطن . توجهت مباشرة نحو الشرطي الواقف في قلب المدار ، وهو سَاهمٌ ، كأنما حط على رأسه طيرٌ . ابتسمت في وجهه بفمها الأثرم . بعدها تميَّزت ملامحُها من الغيظ ...
ـ 4 ـ
من مقهى الكونتننطال ، التي تطل على مدار ابن زيدون ، كانت العيون ، ببصرها الحسير ، تنظر إلى المرأة العجوز ، وهي تنهال على رجل الشرطة بوابل من كلام مهين ، تعاتبه على ما اقترفه .
ـ قد أخطأت حافلتنا الرَّكـْن في قلب المدار ، وأنت غير مكترث ، وغير مبال . فأجابها الشرطي بابتسامة عريضة ... وبلهاء ، عِرْضة مدار ابن زيدون . وقال :
ـ إن طائر الحوم قد عشش فوق رأسي ... سيدتي .
مراكشُ يظهرُ فيها العَمَى و يَختفي ...
كومضة ضوء تضيء وَتـْغ العتمات ...
عيناي مائيتان و حسيرتان .
كنت أنظر بهما إلي وجع مقيم . من الشرفة المطلة على شارع مسْجُور بحركة دأوب ، يؤوب صداها ؛ و هديرُها مركون في جزء من الذاكرة .
في الطريق ، إلى مكان الإقامة المؤقت ، كان الوفدُ كخلية نحل ، يكتشفُ مَبانيَ و دورا قديمة. ترتفع فيها الأيادي البيض و تنخفض إيقاعاتها بإشارات إلى أمكنة خربة ، عشش فيها الإهمالُ عقودا من الزمن . تطل منها عيون وَجلة من العمى في فـَتـَرة .
انتشرت على شفير الطريق ، إلى درج الإقامة ، بائعات الهَوَى ، وبائعات الدجاج البلدي ، كن ينظرن إلي الخلية ، وقد دمغن على أسحال وجوههن ابتسامة ، خطـَّها الزمان بحبر غير قابل للمحو و الإمحاء . في وسط هذه الخلية ، بالكادِّ يظهر رجل رَبْعة ، قصير القامة ، يزنـِّر قـُنَّة رأسه بكوفية زرقاءَ سماويةٍ ، بدون شك ولا خذلان ولا حتى مخاتلة ؛ يشنـِّف أسماع الخلية بما قيل و ما سوف يقال في الكتب القديمة . الصفراء . الباليات.
ـ هنا ... كان الباشا التهامي الكلاوي يدفن موتاه ؛ يصبح السور قبرا ، داخل أقبية الموت ، حيث تتلاشى فيها الأجسادُ الضامرة . فيخرج بها إلى ساحة الشهداء ، ويسحلهم بالأدهم القاسي ذي القوائم المحجلة ، يطوف بها ليلتين أو ثلاث ليال مقمرات ، يحتفي بموت الجسد ؛ فالجسد فان ٍ ، مادامت الحياة فانية .
ـ في هذا المكان كانت النساء يخبئن شهادات حب على مطر الملائكة ، يُردْن الفرارَ من قبضة الباشا الحديدية ، ويبدأن حياة جديدة ، بل ولادة حديثة .
ـ 2 ـ
من الدِّمن المهجورة اقترب الرجل الرَّبْعة ، ويشير قائلا :
ـ إن ها هنا عاش المرابطون ... خلفاء الأندلس .
ـ ومن هنا ، اُقتـِيد المعتمدُ بن عبَّاد صاغرا ... إلى سجن أغمات ...
ـ هنا كانت بناته يغزلن الصوف ، أقدامهن حافية بعدما كن أميرات في أشبيلية . يتمتعن بنسائم النـَّيـْلوفر و الياسمين .
بينما كان الرَّبْعَة ذو الأنشوطة ، قصير القامة ، منهمكا في تصحح مجرى تاريخ الملائكة ، قالتِ الشمطاءُ ،من وسط الخلية ، بشعرها السَّابغ المندلق على كتفين غزاهما النَّمَش :
ـ وما حال هؤلاء النـِّسوة قطَّعن أيديهن ، بعدما استقر مُقامُنا بالقرب من هن ؟
فأجاب الرَّبعة :
ـ بائعات الهَوَى يقطعن أيديهن ، كلما رأين شعر نسوة غجريات . حسناوات . جميلات يلمعُ بالبريانطين .
عـَقـِبها ، انتشرت قهقهات ملأت الجو فكاهة .
ـ 3 ـ
في منعطف مدار ابن زيدون ، وفي قلب المدينة ، رُكـِّنت الحافلة السياحية . نزل منها السائق ؛ كعريس القيامة ببدلته الأنيقة ووجه حليق . حيّا الشرطي و بيَّاه . شرَّع أبواب الحافلة السفلية صاعدة الهوينى ، كأجنحة طائر حديث العهد بالطيران ؛ فامتدت أياد بيضاءُ نحو آلات تصوير مجهزة ، على ما يظهر ، بأحدث الوسائل التقنية . بعدها ، خرجت امرأة عجوز بتؤدة ، بعدما ساعدها عريس القيامة ، على أن تتخطى دُرج الحافلة ، ماسكا بأطراف أناملها المكدودة ؛ ليستقبلها ، في حبور ، ترابُ الوطن . توجهت مباشرة نحو الشرطي الواقف في قلب المدار ، وهو سَاهمٌ ، كأنما حط على رأسه طيرٌ . ابتسمت في وجهه بفمها الأثرم . بعدها تميَّزت ملامحُها من الغيظ ...
ـ 4 ـ
من مقهى الكونتننطال ، التي تطل على مدار ابن زيدون ، كانت العيون ، ببصرها الحسير ، تنظر إلى المرأة العجوز ، وهي تنهال على رجل الشرطة بوابل من كلام مهين ، تعاتبه على ما اقترفه .
ـ قد أخطأت حافلتنا الرَّكـْن في قلب المدار ، وأنت غير مكترث ، وغير مبال . فأجابها الشرطي بابتسامة عريضة ... وبلهاء ، عِرْضة مدار ابن زيدون . وقال :
ـ إن طائر الحوم قد عشش فوق رأسي ... سيدتي .