كانت الأيام الأخيرة من هذه الصائفة أشد حرارة على الجبهة الاجتماعية والاقتصادية لم يشهد لها مثيل.تخللتها اضطرابات وتوترات هنا وهناك فعمال مصنع العربات الصناعية لا يزالون في إضراب مفتوح منذ أسبوع ولم تستطع النقابة تلبية مطالبهم أو افتكاك بعض منها حتى المفاوضات مع الإدارة تعطلت بسبب المواقف المتباينة.
الحياة لم تعد تطاق،يد الأزمة طالت الكل،أحوال الغالبية العظمى ازدادت سوءا وعم التذمر من الغلاء الفاحش والندرة الشبه كلية بالمحلات والأسواق وظهرت طوابير لا نهاية لها أمام أسواق الفلاح والأروقة وبرزت معها للوجود حرف طفيلية كان لا بد لها أن تكون،وقفت عائقا بين التاجر والمستهلك تخصص فيها بمهارة شباب عاطل عن العمل أو من لفظتهم مقاعد الدراسة.
يعتبر محمود واحد منهم.فهو شاب في مقتبل العمر اضطرته الظروف الاجتماعية أن يتوقف عن الدراسة ليكون سندا
لوالده العجوز المقعد على فراش المرض منذ سنوات.أنهكه مرض الصدر المزمن الذي أصابه منذ أكثر من عقدين بمناجم الفحم بفرنسا ،لم تعد منحته تفي لا لشراء الدواء ولا لمستلزمات العائلة خاصة مع تدهور القدرة الشرائية بشكلها الفظيع.
ها قد حل الخريف وها نحن في بدايته وها هي تباشيره الأولى تطل علينا لكنها ليست كالتي عهدناها والتي وأنا صغير كنت أستمع لجدي وهو يتحدث عنها وكان دائما يردد في كل بداية موسم فلاحي جيد (( العام يبان من خريفه)).
تباشير هذه السنة الفلاحية كانت مغايرة لكل سنين عمري.إنها من نوع أخر.نوع جديد لم تأت به السماء بل أتى به الرصيف ينذر بأشياء غير معهودة قد تحدث لا محالة.المدينة بأكملها علمت بذلك لكن دون تحديد طبيعتها أو زمانها،قيل بأنه زلزال عنيف سيحدث كذلك الذي شهدته مدينة الأصنام منذ سنوات والذي لا تزال آثاره عالقة بالأذهان وقيل بأنه إعصار مدمر كإعصار ّ ميتش ّ الذي ضرب جزر هاواي منذ شهرين ،برغم موقعنا الجغرافي وخاصية طبيعة مناخ مدينتنا المعتدل إلا أن الناس صدقوا الإشاعة وهناك فئة ثالثة اعتمدت على تكهناتها التي تعتبر نوعا ما منطقية واعتقدت بأنها ستنشب حرب مع طرف ثالث بسبب مشروع وحدوي مع طرف ثان.
انتشرت حمى الدعاية كالبرق وكثرت التأويلات حتى أضحت هواجس تسيطر على تفكير الناس وسكن الخوف قلوبهم من المجهول مما دفع بالخالة سكينة(إلى) تحذير محمود قبل مغادرته البيت،فاقتربت منه وبصوت خفيض تترجاه .همست في أذنه بحزن عميق ممزوج بحنان فياض وقالت بصوت مرتجف:
- محمود يا أبنى كن حذرا،لا داعي أن تتصل بجارنا رابح اليوم، فلولا نفاد دواء والدك، لما تركتك تغادر البيت لو كان بمقدورنا شراء عدة علب مرة واحدة ما اضطررت اليوم للخروج،أرجوك ألا تتأخر.
لم يفهم محمود لماذا اليوم بالذات تصر الخالة سكينة إن لا يتعطل بالشارع،لم تفعل ذلك من قبل،كان يغيب عن البيت أسبوعا بحاله وقتها كان يشتغل كجندي أو بالأحرى حامل حقائب الشيفون من اسطنبول،مرسيليا أو برشلونة لفائدة تجار الخفاء مقابل الفتات الذي يسد الرمق ويجنب الموت جوعا فتساءل في قرارة نفسه،هل دعاية الرصيف دخلت البيت وعشعشت في عقل العجوز أم انه مجرد إحساس نابع من عاطفة أم؟
رد محمود بانقباض مبتسما في وجهها بابتسامة ذابلة لعله يهدئ من روعها قبل خروجه وأردف قائلا:
ستقسم القهوة والزيت وربما حتى صابون القطعة أو السميد.هذا ما أنبأني به رابح،أيرضيك أن لا أذهب لسوق الفلاح؟
لقد اتفق معي كالمعتاد أن يجنبني جحيم الطابور مقابل الشراكة في اقتسام الفائدة عند إعادة البيع.أتريدينه أن يستبدلني بآخر؟ ألا تعلمين أنه لولا هذه الدنانير الإضافية لساءت أحوالنا من جديد.
بالطبع لا،منحة الوالد لم تعد تكفي،الدواء ارتفعت أسعاره،التعويضات طال أمدها والمعيشة التهبت نارها.إني جد قلقة عليك يا ابني من المجهول،انك عيني الوحيدة التي أرى من خلالها الدنيا.
لا تقلقي يا أماه،حقيقة أن المجهول نخشاه ولا يعلمه إلا ربنا،فحياتنا كلها مبنية على المجهول لكن لو وضعنا المجهول نصب أعيننا وخشيناه لما خطونا خطوة واحدة خلف هذا الباب لأن من ورائه يكمن المجهول وكما قد يكون شرا قد يكون خيرا،ألم يكن كوكب القمر مجهولا قبل عقدين؟وها هم اليوم يفكرون في تعميره واقتسامه فيما بينهم.
خرج محمود مودعا العجوز واضعا نصب عينيه دواء والده في المقام الأول،وبينما هو ينزل السلالم يلتقي بنورا،نورا جارتهم بالطابق السابع وبعد التحية تبتسم ولن تترك له فرصة الكلام وتباغته بقولها :
عيد ميلاد سعيد يا محمود..
شكرا لك ،يا صاحبة الذوق الرفيع،لولاك لأظلمت الدنيا في عيني،أنتظرك هذا المساء بالبيت بل أنت من ستشرفين على الحفل رفقة العجوز وبالمناسبة سأطلعك على مفاجأة.
بالله عليك لا تترك القلق يسيطر علي.قل لي الآن لم أعد أحتمل،إني أخشى المفاجآت .
اتركيها للمساء أثناء الاحتفال كي تبقى فعلا مفاجأة،هيا إلى اللقاء.
رافقتك السلامة.
أخيرا قرر محمود الإعلان عن خطوبته لنورا ليلة عيد ميلاده السادس والعشرين ويضع حدا لحياة لم يعد يتحملها ووحدة قاتلة يود التخلص منها ، في رأيه نورا ملاك..تفيض عطفا وحنانا،مخلصة وعطوفة حتى البكاء.
أحبها وتحبه منذ سنين منذ أن جمعتهم العمارة وهي تكبر رأى فيها كل مواصفات المرأة المثالية التي يمكنها أن تجسد
كل أحلامه وآماله وبما أنه وحيد أمه حتما ستكون لها بمثابة البنت.
وهو في طريقه يبحث عن صيدلية رأى جموعا من الشباب أمثاله تفوق أعمارهم الخامسة عشر وأكثر متجمهرين بالشوارع،كانت جل المحلات مغلقة،صمت رهيب يخيم على المدينة.بعد بحث مضنٍ وقلق متزايد وجد صيدلية مفتوحة وكم كانت فرحته كبيرة فاقت كل وصف،حين عثر بها على ما كان يبحث عنه فدفع ثمنه وانصرف.
كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحا عندما انزلق الوضع الأمني ومن كانوا متجمهرين بالشوارع في تجمعات محتشمة وضاحكة والتي أطلق عليها فيما بعد ّشغب عيال ّ تحولت إلى مظاهرات عارمة ومشادان عنيفة مع قوات حفظ الأمن.