الثانية عشرة بعد منتصفِ الليل:
تقدّمَت بخطواتٍ متوجّسة، وهي تَجر حقيبتَها وحيدةً خارج محطة مترو (باراخاس) المحاذية لمطار مدريد، هنالك مشكلةٌ ما في إشارةِ تحديد المواقع GPS بهاتفِها، لذا عليها أن تتّبع الطّرقَ القديمةَ لكي تصل إلى تافندق بشارعِ (أفييندا خنرال) والّذي يقعُ بالقربِ من محطة المترو بحسب موقع Boiking .. حسنًا إذًا، لا مناص من أن تسأل أحد كائنات الليلِ المشبوهة في هذه الطّرق الخالية والمظلمة.
تقدّمت بخطواتٍ أخرى و عبرت الشّارع المواجه للمحطّة ثم رأته يمشي متّجهًا ناحيتها، كان يبدو بحالةٍ يُرثَى لها ولكنّه لا يبدو لها مخمورًا، يقود خلفَه كلبًا في حين وضع يديه بداخلِ معطفه، استجمعت شجاعتَها و مشت بثقةٍ مُصطَنعة نحوه قائلة: “بورفافور”، حين التفت إليها متسائلًا نطقت باسم الشارع “أفييندا خنرال” وهي تريه ورقة حجز الفندق، فأجاب بالإسبانية مشيرًا إلى الخلف واستمرّ في الكلامِ الذي لم تفقه منه شيئًا، حين رأى حيرتها أشار إليها أن تتبعه و هو يستديرُ إلى الخلفِ و يمشي أمامَها.
بعد لحظةٍ من الخوف و التّردّدِ، لم تجد حلًّا آخر سوى أن تُخاطِر و تتبعه وهي تلعنُ اللحظة التي قادتها إلى هنا، لم يكن عليها أن تلقي تلك النّظرة المشؤومة على قصاصةِ الملاحظات الملصقة بباب الخزانة؛ خزانةُ ملابسِ زميلتها في سكن الطّالبات بالشقة رقم ٢٠٤ تحديدًا، زميلة السّكن تلك التي عادت إلى قريتها في إجازةِ نهاية الإسبوع حاملةً حقيبة أكبر من المعتاد، لم يكن عليها أن تلقي نظرة على الملاحظة المدوّنة بالقصاصة غير أنّه الفضول!
الفضولُ الذي لم يكن يومًا في محلّه، و ها هي الآن على بعد آلاف الأميال من بلادِها في أرضٍ غريبة تسعى خلف مصير مجهول، مصيرٌ يكمن لها بين ثنايا الذّاكرة المنسية.
******
إعلان
قبل أربع وعشرين ساعة:
استعاد وعيه مُستيقظًا من نومٍ ما، مرّت ثانيةٌ ونصف الثانية دون أيّ تحديث يذكر، الثانية و النّصف التي تأتي عادة بعد الاستفاقةِ من النّوم مباشرةً؛ حيث يقوم فيها الدّماغ بتحديثِ بياناتك عن نفسك وتعود إليك ذاكرتُك بخصوص هويّتك و من أنت، ثم تبعًا لذلك يرسلُ الدّماغُ إليك التّعليمات بشأنِ ما يتوجب عليك فعله بعد هذا، متفاجئًا من غرابة الموقف عاد إلى إغماضِ عينيه واسترخى في مقعده بالحافلةِ الكبيرة الّتي تمضي مخترقةً أستارَ الليل الحالِك، وانتظرَ لحظةَ التذكُّر الموعودةِ التي يبدو أنّها قد تأخرت أكثر ممّا ينبغي، لا بدّ أن سبب ذلك هو إرهاقٌ سابقٌ لم يتِمَ تعويضُه بما يكفي من النوم، مرّت نصف دقيقة وهو مغمض العينين ثمّ تلتها نصف دقيقةٍ أخرى بلا فائدة، في هذه المرحلة انتقل رسميًّا من مرحلةِ القلق ليدخل في طور الرعب، “لقد فقدت الذّاكرة، لستُ أدري من أكون! ”
قرّر أن يتمالك نفسه ويصفّي ذهنه، سوف تعود ذاكرته إليه سريعًا بلا شك، وحتّى ذلك الوقت عليه أن يقوم ببذل بعضِ الجهد لاستنتاج سبب وجوده في هذه الحافلة، إنّها حافلة المواصلات العامّة وقد خلت إلّا منه ومن السّائق، خطر له أن يسألَه عن المكان الذي جاء منه ولكنّه تراجع عن ذلك، آخر ما يرغب فيه الآن هو لفت الأنظار أو إثارة الشكوك في نفس السائق، الشارعُ يبدو خاويًا من السّيارات إلا واحدة أو اثنتين، هذا دليل على أنّها ساعة متأخرة من الليل، ما الذي اضطرّه إلى الخروج في مثل هذه الساعة من منتصف الليل؟
من بعيدٍ لاحت محطّة توقف للحافلة، لاشعوريًا وجد يده ترتفعُ لتضغطَ على زرّ إيقاف الحافلة، لماذا فعل ذلك؟ لا شكّ أن غرائزه ما زالت يقظة وقد نبهته إلى اقترابه من المأوى الذي ينتمي إليه، ارتاح لهذه الفكرة فاستوى قائمًا بينما توقفت الحافلة ليترجل منها، غريب أمر هذه الذاكر، أهذا هو شعور فقدانها الذي لطالما شاهده في الأفلام و الدراما؟ هذه هي النّقطة المحيّرة أكثر، كيف ما زالت ذاكرته تحتفظُ بمثل هذا الانطباع عن الأفلام؟ و لماذا منطقة الذّاكرة التي احتفظت بهذا الشعور لم تتعرّض للعطب مثل باقي ذاكرته؟ كما أن هنالك أشياء أخرى لا تزال بعيدةً عن متناول فقدان الذاكرة؛ كاللغةِ وقراءة لوائح المحلات وكذلك الخبرة و التّجارب البشرية، صحيحٌ أنّه لا يتذكّر أيّ تفصيلٍ بخصوص حياته ولكّنه يشعر بأنّ خلاصة تجاربه في الحياة حاضرة معه تلهمه كيف يجب أن يتصرّف.
تحركت الحافلةُ والّتي أصبحت الآن خالية من الرّكاب مغادرة محطّة الحافلات، حينها فقط انتبه إلى الأحرفِ المضيئة بنافذتها الخلفية، “المطار – روي” هل هو قادمٌ من المطارِ إذن؟ أين كان مسافرًا؟ بل أين حقائبُ السفر؟ خطر له فجأةً أن يبحثَ عن جوازِه أو بطاقته الشخصيّة، “ياهٍ لغبائي…كيف لم أفعل ذلك من قبل؟ لقد شلّ الذّعرُ قدرتي على التّفكير،” أسرعَ بتفتيش جيوبه ليصاب بخيبةِ أمل، أين ذهيت أوراقُه الثبوتيّة؟ أخذ نفسًا وكتفاه يسقطان بيأسٍ ثمّ مشى بين البنايات السكنيّة ذات النّوافذ المُظلِمة، إنّه لأمر غريب حقًّا؛ ذاكرتُه تعلم بوجود اشياء كالمطار والسّفر و الجواز وحقائب السّفر، إلّا أنّها لا تحتفظ بالخبرات والأحداث التي صاحبت معرفته بهذه الأشياء لأوّل مرة، أحسّ بغتةً بشيء عنيفٍ يهاجم عقله ويجبره على الانحناءِ، وضع رأسه بين ركبتيه، إنّه مشهدٌ من الذّاكرة، مشهدٌ ضبابي مشوّش، بنايةٌ كبيرة من أربع طوابق بنوافذِ صفراء ذات شكلٍ هلالي، ذلك كل ما مرّ بذاكرته، ما معنى ذلك؟ أحسّ وكأنها رسالةٌ ما من أعماقِ ذاكرته، أو لعلّها بوادر أمل لاستعادتِها.
استأنفَ المشي هائمًا في الممرّات المظلمة دون هُدًى أو كتابٍ منير، “أتيت لا أعلمُ من أين ولكنّي أتيت، ثم أبصرت قدامي طريقًا فمشيتُ، وسأمضي ماشيًا شئتُ هذا أم أبيت” مقطعٌ شعريٌّ اختارته ذاكرتُه دونما سبب، كما تحتفظ الذّاكرة باللغة ومُفرداتِها يبدو أنّها تحتفظُ كذلك بخبرات اكتساب تلك اللغة ونصوصِها كالشّعر و الأمثال، لا يزالُ يضعُ الفرضيّات وهو يتعاملُ بدهشةٍ مع حالتِه العجيبةِ من فقدان الذّاكرة، و فجأةً حدث ذلك كما يحدث كلّ شيء معه، رآها! البنايةُ نفسها التي تجلّت له قبل دقائق في لمحةٍ خاطفة، لا مجال للخطأ فهي نفسها بطوابقها الأربعة ونوافذِها الصّفراء الهلالية، اتّجه نحوها ليُصدِم بما كتب على مدخلِها؛ “سكن الهلال للطالبات”، لم يستفِق من دهشته حتّى أصابه هجومٌ مباغت آخر في ذاكرته، هذه المرّة رأى بوضوح باب شقة يحمل رقمًا مميّزًا: ٢٠٤، و بشكلٍ تلقائيّ مجدّدًا صعد درجات البنايةِ إلى الطّابق الثّاني ثمّ إلى الشّقة التي تحمل الرّقم ٢٠٤، و حينها عرف ما عليه أن يقوم به رغمَ أن ذاكرته كانت لا تزال مظلمة، انحنى ليرفعَ نهاية بنطاله و يكشف عن ساقه التي ربط حولها مغلّفًا أبيض صغير تناوله وأدخلَه من أسفلِ الباب ثمّ طرق بقوّة ثلاث طرقاتٍ عنيفة، و بعدها التفت معطيًا ظهره للشّقة وغادر في هدوء.
*******
في الفندقِ كانت تنتظرها، لقد ألقت الطّعم وهي واثقةٌ من أنّ زميلة السكن سوف تلتقطه، ملاحظةٌ صفراء علقتها على دولاب ملابسِهما المُشترَك بعد أن دونت عليها عنوان الفندق، و حقيبةٌكبيرة أكثر مما ينبغي لطالبة ستغيب ليومين فقط في نهايةِ الإسبوع، و مغلّف أبيض يحمل عنوان الفندق نفسه أوصله الرّاكب وبداخلِه تذكرة سفر إلى العاصمة الإسبانيّة مع العودة بعد يومين، كانت تعلم حجمَ الفضولِ الذي تتمتع به زميلتُها في الغرفة وكانت مُتيقّنةً من أنّها لن تقاومه، ليست المرّة الأولى التي تراهن فيها على قوة الفضول داخل زميلتها فقد سبقَ وأن تأكّدت من ذلك في عدّة مواقف، قامت من مجلسِها لتقترب من نافذة الفندق وتطلّ على الشّارع الّذي تُشرِف عليه في تلك الضّاحية المدريدية، ألقت نظرةً على محل البيتزا و المحلّات المجاورة له وهي تترقّب وصول زميلتها في أية لحظة، زميلتُها في الغرفة هي الكبرى بين إخوانها الخمسة، نشأت يتيمةً منذ سنّ العاشرة، أمّها مريضة لا تقوى على شيء و لا يقيم وأدهم إلا راتب التّقاعد المتواضع لربّ الأسرة المتوفى، تعودت مرارًا على عدم العودةِ إلى البيت في كثير من الإجازات الأسبوعيّة حتّى لا يكون وجودها سببًا في مصاريف إضافيّة للعائلة، لذلك فلن يفتقدها أحد في هذين اليومين أو يشكّ بأنّها خارج البلاد، استرجعت كلّ تلك المعلومات وهي تلمحها تقترب من بعيد خلف الرجل صاحب الكلب، و بعد خمس دقائق كانت تفتح باب الغرفة.
– ماذا يعني هذا كلّه؟
هكذا قالت و هي تراها، لم يكن لقاءً بالأحضانِ، صحيحٌ أنها قطعت آلاف الأميال بعيدًا عن الوطن ولكنّهما كانتا مع بعض قبل يومٍ واحد، لا ننسى أن الفضول هو الذي جاء بها إلى هنا و ليس الشوق، أجابت على سؤالها بسؤال آخر:
-“النّسيان نعمةٌ” هل سمعتِ بهذه المقولة؟ كثيرٌ من الناس يتمنّون لو تُمحى ذاكرتهم ليتخلصوا من آلام الماضي.
بعد لحظة صمتٍ أجابت القادمة:
– الذّكريات الأليمة ربما، و لكن هنالك ذكرياتٌ لا يمكننا العيش دونها فهي جزء مهمٌّ من هويتنا ومن ذواتنا.
قالت زميلتها:
– أحيانًا يبلغُ استعدادنا للتضحيةِ في سبيل من نحب درجة أنّنا نتخلّى عن ذواتنا… و عن ذكرياتنا.
رأتها تنظر إليها بعيون تبحث عن إجابة، فأضافت:
-هل أنتِ مستعدة للتخلي عن ذكرياتك و بيعها مقابل ١٠ آلاف دولار شهريًّا تذهب إلى حساب عائلتك؟
الفضول الذي كان بداخلها بدأ يخالطه تعجّبٌ شديد، تبدو لها زميلتها مختلفة عن تلك الهادئة الرزينة التي اعتادت عليها، لاحظت فتاةُ الفندق حيرتها فأضافت موضحة:
– جميعُ الناس عندهم أسرارٌ خاصة لا أحد يعلم بها، و أحيانًا تضطرّهم الظروفُ إلى القيامِ بما يهدد انكشاف هذه الأسرار، و قد يدفعون أي مبلغ لمن يقوم بتلك المهمّة عنهم، شرطَ أن تختفي جميع التّفاصيل من ذاكرة منفّذ المهمة بعد ذلك.
ضحكت وهي تقول:
– يبدو أنّك تشاهدين الكثير من أفلام الإثارة.
استقبلتها نظرةٌ جادة من زميلتها التي تجاهلت سخريتَها مضيفة:
– فكّري بالأمر جيّدًا، ستضمنين الحياة السّعيدة لعائلتك ولمستقبلِ إخوانك، مقابلَ أن تكوني بعيدة عنهم ومقابلَ أن تتلاشى ذكرياتك عنهم مع الوقتِ.
كانت تبدو جادّة لأبعد الحدود، ولكن ما الذي تتكلم عنه؟ إذا كانت صادقةً فيما تقول فلا شك أنّ لها شركاء، فمن هم يا ترى؟ ألا يمكن أن يكون كل هذا مجرد مزحة؟ ستكون مزحة مكلِفة حقًّا مع تذاكر الطيران، قرّرت أن تمضي معها بالحديث حتّى نهايته، إنّها حقًّا تطلب منها أن تمحو ذكرياتها وكامل تفاصيل حياتها في مقابل سعادة عائلهتا، قالت لها:
– و ماذا عنّي أنا؟ ماذا عن حياتي ومستقبلي؟ هل سأعيش على هامشِ الحياة إلى أن أموت؟
أجابتها قائلة:
– كثيرٌ من الهوامش هي التي تعطي للكتابِ قيمتَه، و من دونها تصبح النّصوص خاليةً من المعاني، ربّما ستعيشين حياة على الهامش ولكنّ النتيجة هي أنّك ستعطين معنى لحياة الاخرين، حياة من تحبين.
زادت الاسئلةُ حدةً في داخلها و هي تنظر للأسفل، إن الجهل قاسٍ حقًّا وهي تريدُ أن تعرف، و كلّما عرفت إجابة لسؤالٍ ظهرت ألغازٌ وأسئلة جديدة، هي تريد أن تعرف تفاصيلَ هذا العرض في حالِ لم يكن ضربًا من المُزاح، و تريد معرفة كيف وصل الأمر بصاحبتِها إلى هذا الموضع، و من أخبرها بقصة حصولها على تأشيرة لزيارة إيطاليا قبل عدة أشهر، هذا الفضول الذي لا يرتوي، لطالما كان نقطة ضعفها، ثم إن العرض مغرٍ فعلًا، لطالما رفعت يديها بالدعاء في كل صلاة بأن تتاح لها فرصة التضحية بكلّ ما يمكنها في سبيل أمّها المريضة وإخوانِها الصّغار الذين يحلمون بأن يكون لهم مثل ما لدى أقرانهم، رفعت نظرها وخاطبت صاحبتها بسؤال:
– و إذا رفضت؟
ابتسمت زميلتها و ردت:
– سوف تعودين إلى الوطنِ طبعًا دون أن يلحقك أيّ ضررٍ، و لكنّكِ تدركين أنّه لا بد من محو تفاصيل هذين اليومين من ذاكرتك.
الحياةُ ليست سوى خيط متواصل من الأسئلة التي لا تنتهي، و بالنّسبة لشخص مثلها فإنّه ليس من الوارد إطلاقاً إرواء فضولها الذي لا ينتهي أبدًا، و بسخرية مريرةٍ قالت:
– أظن أنّها ستمحى في كلتا الحالتين، أليس كذلك؟
الصّمتُ كان إجابةً كافية.
نقلا عن:
ذاكرة الأسئلة: قصّة قصيرة من ثلاث فصول. - المحطة / تأخذك إلى أعماق الفكر
تقدّمَت بخطواتٍ متوجّسة، وهي تَجر حقيبتَها وحيدةً خارج محطة مترو (باراخاس) المحاذية لمطار مدريد، هنالك مشكلةٌ ما في إشارةِ تحديد المواقع GPS بهاتفِها، لذا عليها أن تتّبع الطّرقَ القديمةَ لكي تصل إلى تافندق بشارعِ (أفييندا خنرال) والّذي يقعُ بالقربِ من محطة المترو بحسب موقع Boiking .. حسنًا إذًا، لا مناص من أن تسأل أحد كائنات الليلِ المشبوهة في هذه الطّرق الخالية والمظلمة.
تقدّمت بخطواتٍ أخرى و عبرت الشّارع المواجه للمحطّة ثم رأته يمشي متّجهًا ناحيتها، كان يبدو بحالةٍ يُرثَى لها ولكنّه لا يبدو لها مخمورًا، يقود خلفَه كلبًا في حين وضع يديه بداخلِ معطفه، استجمعت شجاعتَها و مشت بثقةٍ مُصطَنعة نحوه قائلة: “بورفافور”، حين التفت إليها متسائلًا نطقت باسم الشارع “أفييندا خنرال” وهي تريه ورقة حجز الفندق، فأجاب بالإسبانية مشيرًا إلى الخلف واستمرّ في الكلامِ الذي لم تفقه منه شيئًا، حين رأى حيرتها أشار إليها أن تتبعه و هو يستديرُ إلى الخلفِ و يمشي أمامَها.
بعد لحظةٍ من الخوف و التّردّدِ، لم تجد حلًّا آخر سوى أن تُخاطِر و تتبعه وهي تلعنُ اللحظة التي قادتها إلى هنا، لم يكن عليها أن تلقي تلك النّظرة المشؤومة على قصاصةِ الملاحظات الملصقة بباب الخزانة؛ خزانةُ ملابسِ زميلتها في سكن الطّالبات بالشقة رقم ٢٠٤ تحديدًا، زميلة السّكن تلك التي عادت إلى قريتها في إجازةِ نهاية الإسبوع حاملةً حقيبة أكبر من المعتاد، لم يكن عليها أن تلقي نظرة على الملاحظة المدوّنة بالقصاصة غير أنّه الفضول!
الفضولُ الذي لم يكن يومًا في محلّه، و ها هي الآن على بعد آلاف الأميال من بلادِها في أرضٍ غريبة تسعى خلف مصير مجهول، مصيرٌ يكمن لها بين ثنايا الذّاكرة المنسية.
******
إعلان
قبل أربع وعشرين ساعة:
استعاد وعيه مُستيقظًا من نومٍ ما، مرّت ثانيةٌ ونصف الثانية دون أيّ تحديث يذكر، الثانية و النّصف التي تأتي عادة بعد الاستفاقةِ من النّوم مباشرةً؛ حيث يقوم فيها الدّماغ بتحديثِ بياناتك عن نفسك وتعود إليك ذاكرتُك بخصوص هويّتك و من أنت، ثم تبعًا لذلك يرسلُ الدّماغُ إليك التّعليمات بشأنِ ما يتوجب عليك فعله بعد هذا، متفاجئًا من غرابة الموقف عاد إلى إغماضِ عينيه واسترخى في مقعده بالحافلةِ الكبيرة الّتي تمضي مخترقةً أستارَ الليل الحالِك، وانتظرَ لحظةَ التذكُّر الموعودةِ التي يبدو أنّها قد تأخرت أكثر ممّا ينبغي، لا بدّ أن سبب ذلك هو إرهاقٌ سابقٌ لم يتِمَ تعويضُه بما يكفي من النوم، مرّت نصف دقيقة وهو مغمض العينين ثمّ تلتها نصف دقيقةٍ أخرى بلا فائدة، في هذه المرحلة انتقل رسميًّا من مرحلةِ القلق ليدخل في طور الرعب، “لقد فقدت الذّاكرة، لستُ أدري من أكون! ”
قرّر أن يتمالك نفسه ويصفّي ذهنه، سوف تعود ذاكرته إليه سريعًا بلا شك، وحتّى ذلك الوقت عليه أن يقوم ببذل بعضِ الجهد لاستنتاج سبب وجوده في هذه الحافلة، إنّها حافلة المواصلات العامّة وقد خلت إلّا منه ومن السّائق، خطر له أن يسألَه عن المكان الذي جاء منه ولكنّه تراجع عن ذلك، آخر ما يرغب فيه الآن هو لفت الأنظار أو إثارة الشكوك في نفس السائق، الشارعُ يبدو خاويًا من السّيارات إلا واحدة أو اثنتين، هذا دليل على أنّها ساعة متأخرة من الليل، ما الذي اضطرّه إلى الخروج في مثل هذه الساعة من منتصف الليل؟
من بعيدٍ لاحت محطّة توقف للحافلة، لاشعوريًا وجد يده ترتفعُ لتضغطَ على زرّ إيقاف الحافلة، لماذا فعل ذلك؟ لا شكّ أن غرائزه ما زالت يقظة وقد نبهته إلى اقترابه من المأوى الذي ينتمي إليه، ارتاح لهذه الفكرة فاستوى قائمًا بينما توقفت الحافلة ليترجل منها، غريب أمر هذه الذاكر، أهذا هو شعور فقدانها الذي لطالما شاهده في الأفلام و الدراما؟ هذه هي النّقطة المحيّرة أكثر، كيف ما زالت ذاكرته تحتفظُ بمثل هذا الانطباع عن الأفلام؟ و لماذا منطقة الذّاكرة التي احتفظت بهذا الشعور لم تتعرّض للعطب مثل باقي ذاكرته؟ كما أن هنالك أشياء أخرى لا تزال بعيدةً عن متناول فقدان الذاكرة؛ كاللغةِ وقراءة لوائح المحلات وكذلك الخبرة و التّجارب البشرية، صحيحٌ أنّه لا يتذكّر أيّ تفصيلٍ بخصوص حياته ولكّنه يشعر بأنّ خلاصة تجاربه في الحياة حاضرة معه تلهمه كيف يجب أن يتصرّف.
تحركت الحافلةُ والّتي أصبحت الآن خالية من الرّكاب مغادرة محطّة الحافلات، حينها فقط انتبه إلى الأحرفِ المضيئة بنافذتها الخلفية، “المطار – روي” هل هو قادمٌ من المطارِ إذن؟ أين كان مسافرًا؟ بل أين حقائبُ السفر؟ خطر له فجأةً أن يبحثَ عن جوازِه أو بطاقته الشخصيّة، “ياهٍ لغبائي…كيف لم أفعل ذلك من قبل؟ لقد شلّ الذّعرُ قدرتي على التّفكير،” أسرعَ بتفتيش جيوبه ليصاب بخيبةِ أمل، أين ذهيت أوراقُه الثبوتيّة؟ أخذ نفسًا وكتفاه يسقطان بيأسٍ ثمّ مشى بين البنايات السكنيّة ذات النّوافذ المُظلِمة، إنّه لأمر غريب حقًّا؛ ذاكرتُه تعلم بوجود اشياء كالمطار والسّفر و الجواز وحقائب السّفر، إلّا أنّها لا تحتفظ بالخبرات والأحداث التي صاحبت معرفته بهذه الأشياء لأوّل مرة، أحسّ بغتةً بشيء عنيفٍ يهاجم عقله ويجبره على الانحناءِ، وضع رأسه بين ركبتيه، إنّه مشهدٌ من الذّاكرة، مشهدٌ ضبابي مشوّش، بنايةٌ كبيرة من أربع طوابق بنوافذِ صفراء ذات شكلٍ هلالي، ذلك كل ما مرّ بذاكرته، ما معنى ذلك؟ أحسّ وكأنها رسالةٌ ما من أعماقِ ذاكرته، أو لعلّها بوادر أمل لاستعادتِها.
استأنفَ المشي هائمًا في الممرّات المظلمة دون هُدًى أو كتابٍ منير، “أتيت لا أعلمُ من أين ولكنّي أتيت، ثم أبصرت قدامي طريقًا فمشيتُ، وسأمضي ماشيًا شئتُ هذا أم أبيت” مقطعٌ شعريٌّ اختارته ذاكرتُه دونما سبب، كما تحتفظ الذّاكرة باللغة ومُفرداتِها يبدو أنّها تحتفظُ كذلك بخبرات اكتساب تلك اللغة ونصوصِها كالشّعر و الأمثال، لا يزالُ يضعُ الفرضيّات وهو يتعاملُ بدهشةٍ مع حالتِه العجيبةِ من فقدان الذّاكرة، و فجأةً حدث ذلك كما يحدث كلّ شيء معه، رآها! البنايةُ نفسها التي تجلّت له قبل دقائق في لمحةٍ خاطفة، لا مجال للخطأ فهي نفسها بطوابقها الأربعة ونوافذِها الصّفراء الهلالية، اتّجه نحوها ليُصدِم بما كتب على مدخلِها؛ “سكن الهلال للطالبات”، لم يستفِق من دهشته حتّى أصابه هجومٌ مباغت آخر في ذاكرته، هذه المرّة رأى بوضوح باب شقة يحمل رقمًا مميّزًا: ٢٠٤، و بشكلٍ تلقائيّ مجدّدًا صعد درجات البنايةِ إلى الطّابق الثّاني ثمّ إلى الشّقة التي تحمل الرّقم ٢٠٤، و حينها عرف ما عليه أن يقوم به رغمَ أن ذاكرته كانت لا تزال مظلمة، انحنى ليرفعَ نهاية بنطاله و يكشف عن ساقه التي ربط حولها مغلّفًا أبيض صغير تناوله وأدخلَه من أسفلِ الباب ثمّ طرق بقوّة ثلاث طرقاتٍ عنيفة، و بعدها التفت معطيًا ظهره للشّقة وغادر في هدوء.
*******
في الفندقِ كانت تنتظرها، لقد ألقت الطّعم وهي واثقةٌ من أنّ زميلة السكن سوف تلتقطه، ملاحظةٌ صفراء علقتها على دولاب ملابسِهما المُشترَك بعد أن دونت عليها عنوان الفندق، و حقيبةٌكبيرة أكثر مما ينبغي لطالبة ستغيب ليومين فقط في نهايةِ الإسبوع، و مغلّف أبيض يحمل عنوان الفندق نفسه أوصله الرّاكب وبداخلِه تذكرة سفر إلى العاصمة الإسبانيّة مع العودة بعد يومين، كانت تعلم حجمَ الفضولِ الذي تتمتع به زميلتُها في الغرفة وكانت مُتيقّنةً من أنّها لن تقاومه، ليست المرّة الأولى التي تراهن فيها على قوة الفضول داخل زميلتها فقد سبقَ وأن تأكّدت من ذلك في عدّة مواقف، قامت من مجلسِها لتقترب من نافذة الفندق وتطلّ على الشّارع الّذي تُشرِف عليه في تلك الضّاحية المدريدية، ألقت نظرةً على محل البيتزا و المحلّات المجاورة له وهي تترقّب وصول زميلتها في أية لحظة، زميلتُها في الغرفة هي الكبرى بين إخوانها الخمسة، نشأت يتيمةً منذ سنّ العاشرة، أمّها مريضة لا تقوى على شيء و لا يقيم وأدهم إلا راتب التّقاعد المتواضع لربّ الأسرة المتوفى، تعودت مرارًا على عدم العودةِ إلى البيت في كثير من الإجازات الأسبوعيّة حتّى لا يكون وجودها سببًا في مصاريف إضافيّة للعائلة، لذلك فلن يفتقدها أحد في هذين اليومين أو يشكّ بأنّها خارج البلاد، استرجعت كلّ تلك المعلومات وهي تلمحها تقترب من بعيد خلف الرجل صاحب الكلب، و بعد خمس دقائق كانت تفتح باب الغرفة.
– ماذا يعني هذا كلّه؟
هكذا قالت و هي تراها، لم يكن لقاءً بالأحضانِ، صحيحٌ أنها قطعت آلاف الأميال بعيدًا عن الوطن ولكنّهما كانتا مع بعض قبل يومٍ واحد، لا ننسى أن الفضول هو الذي جاء بها إلى هنا و ليس الشوق، أجابت على سؤالها بسؤال آخر:
-“النّسيان نعمةٌ” هل سمعتِ بهذه المقولة؟ كثيرٌ من الناس يتمنّون لو تُمحى ذاكرتهم ليتخلصوا من آلام الماضي.
بعد لحظة صمتٍ أجابت القادمة:
– الذّكريات الأليمة ربما، و لكن هنالك ذكرياتٌ لا يمكننا العيش دونها فهي جزء مهمٌّ من هويتنا ومن ذواتنا.
قالت زميلتها:
– أحيانًا يبلغُ استعدادنا للتضحيةِ في سبيل من نحب درجة أنّنا نتخلّى عن ذواتنا… و عن ذكرياتنا.
رأتها تنظر إليها بعيون تبحث عن إجابة، فأضافت:
-هل أنتِ مستعدة للتخلي عن ذكرياتك و بيعها مقابل ١٠ آلاف دولار شهريًّا تذهب إلى حساب عائلتك؟
الفضول الذي كان بداخلها بدأ يخالطه تعجّبٌ شديد، تبدو لها زميلتها مختلفة عن تلك الهادئة الرزينة التي اعتادت عليها، لاحظت فتاةُ الفندق حيرتها فأضافت موضحة:
– جميعُ الناس عندهم أسرارٌ خاصة لا أحد يعلم بها، و أحيانًا تضطرّهم الظروفُ إلى القيامِ بما يهدد انكشاف هذه الأسرار، و قد يدفعون أي مبلغ لمن يقوم بتلك المهمّة عنهم، شرطَ أن تختفي جميع التّفاصيل من ذاكرة منفّذ المهمة بعد ذلك.
ضحكت وهي تقول:
– يبدو أنّك تشاهدين الكثير من أفلام الإثارة.
استقبلتها نظرةٌ جادة من زميلتها التي تجاهلت سخريتَها مضيفة:
– فكّري بالأمر جيّدًا، ستضمنين الحياة السّعيدة لعائلتك ولمستقبلِ إخوانك، مقابلَ أن تكوني بعيدة عنهم ومقابلَ أن تتلاشى ذكرياتك عنهم مع الوقتِ.
كانت تبدو جادّة لأبعد الحدود، ولكن ما الذي تتكلم عنه؟ إذا كانت صادقةً فيما تقول فلا شك أنّ لها شركاء، فمن هم يا ترى؟ ألا يمكن أن يكون كل هذا مجرد مزحة؟ ستكون مزحة مكلِفة حقًّا مع تذاكر الطيران، قرّرت أن تمضي معها بالحديث حتّى نهايته، إنّها حقًّا تطلب منها أن تمحو ذكرياتها وكامل تفاصيل حياتها في مقابل سعادة عائلهتا، قالت لها:
– و ماذا عنّي أنا؟ ماذا عن حياتي ومستقبلي؟ هل سأعيش على هامشِ الحياة إلى أن أموت؟
أجابتها قائلة:
– كثيرٌ من الهوامش هي التي تعطي للكتابِ قيمتَه، و من دونها تصبح النّصوص خاليةً من المعاني، ربّما ستعيشين حياة على الهامش ولكنّ النتيجة هي أنّك ستعطين معنى لحياة الاخرين، حياة من تحبين.
زادت الاسئلةُ حدةً في داخلها و هي تنظر للأسفل، إن الجهل قاسٍ حقًّا وهي تريدُ أن تعرف، و كلّما عرفت إجابة لسؤالٍ ظهرت ألغازٌ وأسئلة جديدة، هي تريد أن تعرف تفاصيلَ هذا العرض في حالِ لم يكن ضربًا من المُزاح، و تريد معرفة كيف وصل الأمر بصاحبتِها إلى هذا الموضع، و من أخبرها بقصة حصولها على تأشيرة لزيارة إيطاليا قبل عدة أشهر، هذا الفضول الذي لا يرتوي، لطالما كان نقطة ضعفها، ثم إن العرض مغرٍ فعلًا، لطالما رفعت يديها بالدعاء في كل صلاة بأن تتاح لها فرصة التضحية بكلّ ما يمكنها في سبيل أمّها المريضة وإخوانِها الصّغار الذين يحلمون بأن يكون لهم مثل ما لدى أقرانهم، رفعت نظرها وخاطبت صاحبتها بسؤال:
– و إذا رفضت؟
ابتسمت زميلتها و ردت:
– سوف تعودين إلى الوطنِ طبعًا دون أن يلحقك أيّ ضررٍ، و لكنّكِ تدركين أنّه لا بد من محو تفاصيل هذين اليومين من ذاكرتك.
الحياةُ ليست سوى خيط متواصل من الأسئلة التي لا تنتهي، و بالنّسبة لشخص مثلها فإنّه ليس من الوارد إطلاقاً إرواء فضولها الذي لا ينتهي أبدًا، و بسخرية مريرةٍ قالت:
– أظن أنّها ستمحى في كلتا الحالتين، أليس كذلك؟
الصّمتُ كان إجابةً كافية.
نقلا عن:
ذاكرة الأسئلة: قصّة قصيرة من ثلاث فصول. - المحطة / تأخذك إلى أعماق الفكر