علجية عيش - ذكرى العاقل و تنبيه الغافل.. للأمير عبد القادر الجزائري

ما قيل أن الإنسان مدنيٌّ بالطبع، و لو وُجِدَ وحده في هذا الكون لهلك، فهو في حاجة إلى أمور أخرى غير التي توجد في الطبيعة التي يصنع منها غذاءه و ملبسه و يشكل منها مأواه، و هو وحده لا يستطيع فعل شيئ، و لذا فهو(أي الإنسان) في حاجة إلى من يشاركه الحياة الإجتماعية، أي إلى من يتواصل معه و يخاطبه ، و كلاهما في حاجة إلى أن يصل النسيم إلى قلبيهما ساعة بعد ساعة ، إلا أنه في عصرنا هذا أضحى الإنسان عدو لأخيه في ظل الحروب و الثورات، و انتشار الأعمال الإرهابية فحدثت الإنقسامية، ووقع الصراع بين الأنا و الآخر و هي ظاهرة حبست فيها المجتمعات العربية نفسها بفعل الإنسداد الذي آلت إليه اليوم، انسداد عالم تطبعه المادية، عالم يفتقر للإنطلاقة الروحية الموحدة.

تقودنا هذه المقدمة القصيرة إلى أن نسترجع آثار الأمير عبد القادر الجزائري التي تركها أثناء إقامته ببروسا - تركيا- و هي عبارة عن رسالة تحت عنوان: "ذكرى العاقل و تنبيه الغافل" ألفها في يوم الإثنين من رمضان سنة 1271 هجرية الموافق لسنة 1855 ميلادية، و ترجمت إلى الفرنسية على لسان غسطاف ديغا قنصل فرنسا بدمشق سنة 1858، ثم ترجمها رونيه خوام سنة 1977 و غير عنوانها لتصبح: من "ذكرى العاقل و تنبيه الغافل" إلى "رسالة إلى الفرنسيين"، و توجد مخطوطة من هذه الرسالة بمكتبة الشيخ عبد القادر المجاوي، كما حصل على نسخة منها الدكتور عمار طالبي ، الذي اشار أنه تحصل عليها بدوره من الدكتور عبد الرزاق قسوم ، و هو الذي صورها له من المكتبة الوطنية بباريس، كما طبعت نسخة منها من طرف الدكتور ممدوح حقي سنة 1966، أما النسخة التي بين أيدينا و هي في شكل كتاب من الحجم الصغير بعنوان رسالة إلى الفرنسيينن فقد كانت بتصدير من الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.

لقد وضع الأمير عبد القادر بالتلميح و بصفة ضمنية المعالم الأساسية لحداثة إنسية قادرة على اطراد تكوير ملكات التجديد و الإبداع، و هو بهذا يعدُّ واحدًا من رواد نهضة الحضارة الإسلامية التي لا تزال في أولى بداياتها، تعتريها غالبا الإختلاجات، و التي تعتزم الجزائر أن تكون حلقة من حلقاتها الفعالة في الحوار الجاد و السخي مع سائر الحضارات، فقد تحدث الأمير عبد القادر الجزائري في هذه الرسالة عن فضل العلم و العلماء، و أسهب في الحديث عن العقل و دوره في حياة الإنسان، فهو كما قال منبع العلم و أساسه ، و إذا حصلت هذه القوة يسمى صاحبها عاقلا، و لما كانت معرفة النفوس مركوزة في النفوس بالخلقة، انقسم الناس إلى من أعرض فنسي، و هم " الجُهَّالُ "، و إلى من أجال خاطره فتذكّر، وهم " العلماء " فكان هذا القسم كمن حمل شهادة فنسيها بسبب الغفلة، ثم تذكرها، ثم قال إن العقول متفاوتة بحسب خلقة الله تعالى، فعقول الأنبياء ليست كعقول سائر الناس.

و مما جاء في الرسالة أن الإنسان مدني بطبعه فهو محتاج إلى التمدن و الإجتماع مع ابناء جنسه، و لكن مهما اجتمع الناس في المنازل و البلاد، و تواصلوا و تعاملوا، تولدت بينهم خصومات، و لذا جاءت صناعة الحُكْمِ لفصل الخصومات و غيرها من العلوم لاسيما علم القانون وعلم الجندية لحراسة البلد بالسيف، و هذه أمور مخصوصة، لا يقوم بها إلا مخصوصون بالعلم و التمييز، و قال الأمير عبد القادر الجزائري أن العقلاء في حاجة إلى علوم الأنبياء ، و تحدث في فصل عن إثبات النبوة ، عندما أشار إلى أن بعض العقلاء استبعدوا مدركات النبوة و لم يعملوا بها، و أثبت أن وراء كمال العقل كمال آخر أعلى من كمال العقل، و أراد الأمير عبد القادر بالنبوة " النوم"، لأن النائم يدرك أمورا تكون في المستقبل، إما صريحا، و إمّا بإشارة يعرفها المعبرون للرؤيا.

و في فصل آخر تحدث الأمير عبد القادر عن الكتابة و اعتبرها عين العيون بها يبصر الشاهد الغائب، و في الكتابة تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان، و لذا قيل القلم أحد اللسانين، بل الكتابة ابلغ من اللسان، و قد خصّ صاحب الرسالة فصلا كاملا عن عدد كتابات الأمم من سكان المشرق و المغرب و قال أن عددها 12 كتابة و هي: (الفارسية و العربية و اليونانية و السريانية و العبرانية و الرومية و القبطية و البربرية ( التيفيناغ) و الأندلسية و الهندية و الصينية، و أضاف أن 05 منها بطل استعمالها و هي: الحميرية و اليونانية و القبطية و البربرية و الأندلسية، و ركز على الكتابة الفارسية، حيث قال: و إن كان جنسها واحد ففيها ستة (06 ) أنواع من الخطوط، و حروفها مركبة من أبجد هوزكلمن سفارش تخذغ فالثاء المثلثة و الحاء المهملة و الصاد و الضاد و الطاء و الظاء و العين المهملة أيضا و القاف سواقط عندهم، و قال أن أول من وضع الكتابة الفارسية كهمورث أو كيمورث بن أميم ثالث ملوك الفرس الأولى، و يقال أنه أول من تكلم بالفارسية.

و حول انقسام الناس تكلم الأمير عبد القادر الجزائري عن الفرنج و العرب و يقول أن جدهم واحد، إذ يقول: و أما الفرنج فهم من ولد يافث بن نوح ( كما في التوراة) و يقال لهم فرنسوس و قاعدة بلادهم أَفْرَنْسْ ( سين مهملة)، و أما العرب فهم من ولد سام بن نوح، و هم الأمّة الرحالة، يسكنون الخيام، و يركبون الخيل و يكسبون الأنعام و يقومون عليها و يقتاتوت بألبانها و يصنعون اللباس و الأثاث من أوبارها و اشعارها، و يبتغون الرزق من الصيد و قطع الطرق و الغارات على من جاورهم من الأمم، و ذكر طبيعة عيشهم و الألهة التي كانوا يعبدونها ايام الجاهلية و منهم من كان يميل إلى اليهودية، و ما يتميزون به من علوم و تعبير الرؤيا و نظم الأشعار و الخطب.

علجية عيش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى